خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
٦١
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
٦٢
تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٦٤
وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٦٥
-النحل

البحر المحيط

لما حكى الله تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التولد له، بيَّن تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً لفضله ورحمته. ويؤاخذ: مضارع آخذ، والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذه. وقال ابن عطية: كان أحد المؤاخذين يأخذ من الآخر، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى، أو بإذاية في جهة المخلوقين، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء انتهى. والظاهر: عموم الناس. وقيل: أهل مكة، والباء في بظلمهم للسبب. وظلمهم كفرهم ومعاصيهم. والضمير في عليها عائد على غير مذكور، ودل على أنه الأرض قوله: من دابة، لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض، فهو كقوله: { فأثرن به نقعاً } [العاديات: 4] أي بالمكان لأن { والعاديات } [العاديات: 1] معلوم أنها لا تعدو إلا في مكان، وكذلك الإثارة والنقع. والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح، فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها قاله: ابن مسعود. قال قتادة: وقد فعل تعالى في زمن نوح عليه السلام. وقال السدي ومقاتل: إذا قحط المطر لم تبق دابة إلا هلكت. وسمع أبو هريرة رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلى والله حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وهذا نظير: { واتقوا فتنة } [الأنفال: 25] الآية والحديث «أنهلك وفينا الصالحون» وقال ابن السائب، واختاره الزجاج: من دابة من الإنس والجن. وقال ابن جريج: من الناس خاصة. وقالت فرقة منهم ابن عباس: من دابة من مشرك يدب عليها، ولكن يؤخرهم إلى أجل الآية، تقدّم تفسير ما يشبهه في الأعراف. وما في ما يكرهون لمن يعقل، أريد بها النوع كقوله: { { فانكحوا ما طاب لكم } [النساء: 3] ومعنى: ويجعلون، يصفونه بذلك ويحكمون به. وقال الزمخشري: ما يكرهون لأنفسهم من البنات، ومن شركاء في رئاستهم، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم، ويجعلون له أرذل أموالهم، ولأصنامهم أكرمها، وتصف ألسنتهم مع ذلك أنّ لهم الحسنى عند الله كقوله: { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [فصلت: 50] انتهى.

وقال مجاهد: الحسنى قول قريش لنا البنون، يعني قالوا: لله البنات ولنا البنون. وقيل: الحسنى الجنة، ويؤيده: لا جرم أن لهم النار، والمعنى على هذا: يجعلون لله المكروه، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة كما تقول: أنت تعصي الله وتقول مع ذلك: أنك تنجو، أي هذا بعيد مع هذا. وهذا القول لا يتأتى إلا ممن يقول بالبعث، وكان فيهم من يقول به. أو على تقدير أنْ كان ما يقول من البعث صحيحاً، وأنّ لهم الحسنى بدل من الكذب، أو على إسقاط الحرف أي: بأن لهم. وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم: بإسكان التاء، وهي لغة تميم جمع لساناً المذكر نحو: حمار وأحمرة، وفي التأنيث: ألسن كذراع وأذرع. وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام: الكذب بضم الكاف والذال والباء صفة للألسن، جمع كذوب كصبور وصبر، وهو مقيس، أو جمع كاذب كشارف وشرف ولا ينقاس، وعلى هذه القراءة أنّ لهم مفعول تصف، وتقدم الكلام في لا جرم أن.

وقرأ الحسن وعيسى بن عمران: لهم بكسر الهمزة، وأن جواب قسم أغنت عنه لا جرم. وقرأ ابن عباس، وابن مسعود وأبو رجاء، وشيبة، ونافع، وأكثر أهل المدينة: مفرطون بكسر الراء من أفرط حقيقة أي: متجاوزون الحد في معاصي الله. وباقي السبعة، والحسن، والأعرج، وأصحاب ابن عباس، ونافع في رواية، بفتح الراء من أفرطته إلى كذا قدمته، معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه. قال القطامي:

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تعجل فراط لوراد

ومنه «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم. وقال ابن جبير، ومجاهد، وابن أبي هند: مفرطون مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلاناً خلفى إذا خلفته ونسيته. قال أبو البقاء: تقول العرب أفرطت منهم ناساً أي خلفتهم ونسيتهم. وقرأ أبو جعفر: مفرطون مشدداً من فرط أي: مقصرون مضيعون. وعنه أيضاً: فتح الراء وشدها أي، مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى: تقدم. ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك، مقسماً على ذلك ومؤكداً بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر، فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي: لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة. وأل في اليوم للعهد، وهو اليوم المشهود، فهو وليهم في ذلك اليوم أي: قرينهم وبئس القرين. والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي: فهو ولي أمثالهم اليوم انتهى. وهذا فيه بعد، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا إلى حذف المضاف. واللام في لتبين لام التعليل، والكتاب القرآن، والذي اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه، وغير ذلك مما يعتقدون من الأحكام: كتحريم البحيرة، وتحليل الميتة والدم، وغير ذلك من الأحكام. وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله، وانتصبا لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم. ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل، لأن المنزل هو الله، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقول الزمخشري: معطوف محل لتبين ليس بصحيح، لأنّ محله ليس نصباً فيعطف منصوب عليه. ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل؟.

والله أنزل من السماء ماء قال أبو عبد الله الرازي: المقصود من القرآن أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، والقدر، والأعظم منها الإلهيات فابتدأ في ذكر دلائلها بالأجرام الفلكية، ثم بالإنسان ثم بالحيوان، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض، ثم عاد إلى تقدير الإلهيات فبدأ بذكر الفلكيات انتهى ملخصاً. وقال ابن عطية: لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، ولا يختلف فيها عاقل انتهى. ونقول: لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله: لقوم يؤمنون أي: يصدقون. والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها. ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن، كما قال تعالى: { أو من كان ميتاً فأحييناه } [الأنعام: 122] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل. وكذلك ختم بقوله: يسمعون هذا التشبيه المشار إليه، والمعنى: سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى ـ والله أعلم ـ لم يختم بلقوم يبصرون، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد. وقال ابن عطية: وقوله يسمعون، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر، وإنما يحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط.