خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ
١
وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً
٢
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
٣
-الإسراء

البحر المحيط

سبب نزول { سبحان الذي أسرى بعبده } ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذبيهم له، فأنزل الله ذلك تصديقاً له، وهذه السورة مكية قال صاحب الغنيان بإجماع وقيل: إلا آيتين { وإن كادوا ليفتنونك } { وإن كادوا ليستفزونك } وقيل: إلا أربع هاتان وقوله: { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } وقوله { وقل رب أدخلني مدخل صدق }، وزاد مقاتل قوله تعالى: { إن الذين أوتوا العلم من قبله } الآية وقال قتادة إلا ثماني آيات أنزلت بالمدينة وهي من قوله: { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخرهن. ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه به، أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده، وتقدّم الكلام على سبحان في البقرة. وزعم الزمخشري أنه علم للتسبيح كعثمان للرجل. وقال ابن عطية: ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين وهو معرفة بالعلمية وإضافته لا تزيده تعريفاً انتهى. ويعنيان والله أعلم أنه إذا لم يضف كقوله:

سبحان من علقمة الفاخر

وأما إذا أضيف فلو فرضنا أنه علم لنوي تنكيره ثم يضاف وصار إذ ذاك تعريفه بالإضافة لا بالعلمية.

و{ أسرى } بمعنى سرى وليست الهمزة فيه للتعدية وعدّيا بالباء ولا يلزم من تعديته بالباء المشاركة في الفعل، بل المعنى جعله يسرى لأن السرى يدل على الانتقال كمشى وجرى وهو مستحيل على الله تعالى، فهو كقوله: { { لذهب بسمعهم } [البقرة: 20] أي لأذهب سمعهم، فأسرى وسرى على هذا كسقى وأسقى إذا كانا بمعنى واحد، ولذلك قال المفسرون معناه سرى بعبده. وقال ابن عطية: ويظهر أن { أسرى } معداة بالهمزة إلى مفعول محذوف تقديره أسرى الملائكة بعبده لأنه يقلق أن يسند أسرى وهو بمعنى سرى إلى الله تعالى إذ هو فعل يعطي النقلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل، فلا يحسن إسناد شيء من هذا ونحن نجد مندوحة فإذا صرحت الشريعة بشيء من هذا النحو كقوله في الحديث: "أتيته سعياً وأتيته هرولة" حمل ذلك بالتأويل على الوجه المخلص من نفي الحوادث، و{ أسرى } في هذه الآية تخرج فصيحة كما ذكرنا ولا يحتاج إلى تجوز قلق في مثل هذه اللفظة فإنه ألزم للنقلة من أتيته وأتى الله بنيانهم انتهى. وإنما احتاج ابن عطية إلى هذه الدعوى اعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد، فإذا قلت: قمت بزيد لزم منه قيامك وقيام زيد عنده وهذا ليس كذلك، التبست عنده باء التعدية بباء الحال، فباء الحال يلزم فيه المشاركة إذ المعنى قمت ملتبساً بزيد وباء التعدية مرادفة للهمزة، فقمت بزيد والباء للتعدية كقولك أقمت زيداً ولا يلزم من إقامتكه أن تقوم أنت.

قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف كنحو قوله تعالى: { { ذهب الله بنورهم } [البقرة: 18] يعني أن يكون التقدير لسرت ملائكته بعبده، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا مبني على اعتقاد أنه يلزم المشاركة والباء للتعدية وأيضاً فموارد القرآن في فأسر بقطع الهمزة ووصلها يقتضي أنهما بمعنى واحد، ألا ترى أن قوله: { فأسر بأهلك } [هود: 18، الحجر: 65] { أن أسْرِ بعبادي } [طه: 77، الشعراء: 52] قرىء بالقطع والوصل، ويبعد مع القطع تقدير مفعول محذوف إذ لم يصرح به في موضع، فيستدل بالمصرح على المحذوف. والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه ولذلك كذبت قريش به وشنعت عليه، وحين قص ذلك على أم هانىء قالت: لا تحدث الناس بها فيكذبوك ولو كان مناماً استنكر ذلك وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الذي ينبغي أن يعتقد. وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة. قيل وما روي عن عائشة ومعاوية أنه كان مناماً فلعله لا يصح عنهما، ولو صح لم يكن في ذلك حجة لأنهما لم يشاهدا ذلك لصغر عائشة وكفر معاوية إذ ذاك، ولأنهما لم يسندا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا حدّثا به عنه. وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها وقوله: { بعبده } هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبو القاسم سليمان الأنصاري: لما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج أوحى الله إليه: يا محمد بمَ أشرِّفك؟ قال: يا رب بنسبتي إليك بالعبودية، فأنزل فيه { سبحان الذي أسرى بعبده }الآية انتهى. وعنه قالوا: عبد الله ورسوله، وعنه إنما أنا عبد وهذه إضافة تشريف واختصاص. وقال الشاعر:

لا تدعني إلا بيا عبدها لأنه أشرف أسمائي

وقال العلماء: لو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة.

وانتصب { ليلاً } على الظرف، ومعلوم أن السُّرَى لا يكون في اللغة إلا بالليل، ولكنه ذكر على سبيل التوكيد. وقيل: يعني في جوف الليل فلم يكن إدلاجاً ولا ادّلاجاً. وقال الزمخشري: أراد بقوله: { ليلاً } بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي بعض الليل كقوله: { { ومن الليل فتهجّدْ به } [الإسراء: 79] على الأمر بالقيام في بعض الليل انتهى. والظاهر أن قوله: { من المسجد الحرام } هو المسجد المحيط بالكعبة بعينه، وهو قول أنس. وقيل من الحجر. وقيل من بين زمزم والمقام. وقيل من شعب أبي طالب. وقيل من بيت أم هانىء. وقيل من سقف بيته عليه السلام، وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون أطلق المسجد الحرام على مكة. وقال قتادة ومقاتل: قبل الهجرة بعام. وقالت عائشة بعام ونصف في رجب. وقيل في سبع عشرة من ربيع الأول والرسول عليه السلام ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً. وعن ابن شهاب بعد المبعث بسبعة أعوام. وعن الحربي ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة وقبل بيعة العقبة، ووقع لشريك بن أبي نمر في الصحيح أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه، ولا خلاف بين المحدثين أن ذلك وهم من شريك. وحكى الزمخشري عن أنس والحسن أنه كان قبل المبعث.

وقال أبو بكر محمد بن عليّ بن القاسم الرعيني في تاريخه: أسري به من مكة إلى بيت المقدس وعُرِّج به إلى السماء قبل مبعثه بثمانية عشر شهراً، "ويروى أنه كان نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء، فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم. وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال: ما لك؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: وإن كذبوني فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً، وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي الصدِّيق رضي الله تعالى عنه. ومنهم من سافر إلى المسجد الأقصى فاستنعتوه، فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق فخرجوا يشتدّون ذلك اليوم نحو الثنية. فقال قائل منهم: والله هذه الشمس قد شرقت. وقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلاّ سحر بيِّن" ، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة وكان العروج به من بيت المقدس، وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب، وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى. وهذا على قول من قال: أن هذه الليلة هي ليلة المعراج وهو قول ابن مسعود وجماعة. وذهب بعضهم إلى أن ليلة المعراج هي غير ليلة الإسراء.

و{ المسجد الأقصى } مسجد بيت المقدس وسمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة انتهى. ولفظه: { إِلى } تقتضي أنه انتهى الإسراء به إلى حدّ ذلك المسجد ولا يدل من حيث الوضع على دخوله.

و{ الذي باركنا حوله } صفة مدح لإزالة اشتراط عارض وبركته بما خص به من الخيرات الدينية كالنبوّة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر ونواحيه ونواديه، والدنياوية من كثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض. وفي الحديث "أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس" .

وقرأ الجمهور { لنريه } بالنون وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وقراءة الحسن ليريه بالياء فيكون الالتفات في آياتنا وهذه رؤيا عين والآيات التي أريها هي العجائب التي أخبر بها الناس وإسراؤه من مكة وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحداً واحداً حسبما ثبت في الصحيح. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد ليرى محمداً للناس آية، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع فتكون الرؤية على هذا رؤية القلب.

قال الزمخشري: { إنه هو السميع } لأقوال محمد { البصير } بأفعاله العالم بتهذيبها وخلوصها فيكرمه ويقربه على حسب ذلك. وقال ابن عطية: وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي هو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم انتهى.

ولما ذكر تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراء وإراءته الآيات ذكر تشريف موسى بإيتائه التوراة { وآتينا } معطوف على الجملة السابقة من تنزيه الله تعالى وبراءته من السوء، ولا يلزم من عطف الجمل المشاركة في الخبر أو غيره. وقال ابن عطية: عطف قوله وآتينا على ما في قوله أسرى بعبده من تقدير الخبر كأنه قال: أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا وآتينا. وقال العكبري وآتينا معطوف على أسرى انتهى. وفيه بعد و{ الكتاب } هنا التوراة، والظاهر عود الضمير من وجعلناه على الكتاب، ويحتمل أن يعود على موسى، ويجوز أن تكون أن تفسيرية ولا نهي وأن تكون مصدرية تعليلاً أي لأن لا يتخذوا ولا نفي، ولا يجوز أن تكون أن زائدة ويكون لا تتخذوا معمولاً لقول محذوف خلافاً لمجوز ذلك إذ ليس من مواضع زيادة أن.

وقرأ ابن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة: يتخذوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بتاء الخطاب، والوكيل فعيل من التوكل أي متوكلاً عليه. وقال الزمخشري رباً تكلون إليه أموركم. وقال ابن جرير: حفيظاً لكم سواي. وقال أبو الفرج بن الجوزي: قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل انتهى. وانتصب { ذرية } على النداء أي يا ذرّية أو على البدل من وكيلاً، أو على المفعول الثاني ليتخذوا ووكيلاً وفي معنى الجمع أي لا يتخذوا وكلاء ذرية، أو على إضمار أعني. وقرأت فرقة ذرية بالرفع وخرج على أن يكون بدلاً من الضمير في يتخذوا على قراءة من قرأ بياء الغيبة. وقال ابن عطية: ولا يجوز في القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت ضربتك زيداً على البدل لم يجز انتهى. وما ذكره من إطلاق إنك لا تبدل من ضمير مخاطب يحتاج إلى تفصيل، وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف، وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة وإن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف، نحو: مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد، فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في كلام العرب، وقد استدللنا على صحة ذلك في شرح كتاب التسهيل، وذكر من حملنا مع نوح تنبيهاً على النعمة التي نجاهم بها من الغرق. وقرأ زيد بن ثابت وأبان بن عثمان وزيد بن عليّ ومجاهد في رواية بكسر ذال ذرية. وقرأ مجاهد أيضاً بفتحها. وعن زيد بن ثابت ذرية بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعليه كمطيه. والظاهر أن الضمير في أنه عائد على نوح. قال سلمان الفارسي: كان يحمد الله على طعامه. وقال إبراهيم شكره إذا أكلَّ قال: بسم الله، فإذا فرغ قال: الحمد لله. وقال قتادة: كان إذا لبس ثوباً قال: بسم الله، وإذا نزعه قال: الحمد لله. وقيل: الضمير في أنه عائد إلى موسى انتهى. ونبه على الشكر لأنه يستلزم التوحيد إذ النعم التي يجب الشكر عليها هي من عنده تعالى، فكأنه قيل كونوا موحدين شاكرين لنعم الله مقتدين بنوح الذي أنتم ذرية من حمل معه.