خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٤٢
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
١٤٤
وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٤٥
ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٤٦
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
١٤٧
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٤٨
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
١٤٩
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥٠
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
١٥١
فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
١٥٢
يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٣
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
١٥٤
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٥
ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
١٥٦
أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ
١٥٧
-البقرة

البحر المحيط

القبلة: الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة. وقال قطرب: يقولون في كلامهم ليس له قبلة، أي جهة يأوي إليها. وقال غيره: إذا تقابل رجلان، فكل واحد منهما قبلة الآخر. وجاءت القبلة، وإن أريد بها الجهة، على وزن الهيئات، كالقعدة والجلسة. الوسط: اسم لما بين الطرفين وصف به، فأطلق على الخيار من الشيء، لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، ولكونه اسماً كان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد. وقال حبيب: كانت هي الوسط المحميّ، فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً. ووسط الوادي: خير موضع فيه، وأكثره كلأً وماء. ويقال: فلان من أوسط قومه، وأنه لواسطة قومه، ووسط قومه: أي من خيارهم، وأهل الحسب فيهم. وقال زهير:

وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وقد وسط سطة ووساطة، وقال:

وكـن مـن النـاس جميعـاً وسطـاً

وأما وسط، بسكون السين، فهو طرف المكان، وله أحكام مذكورة في النحو. أضاع الرجل الشيء: أهمله ولم يحفظه، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعاً، وضاع المسك يضوع: فاح. الانقلاب: الانصراف والارتجاع، وهو للمطاوعة، قلبته فانقلب. عقب الرجل: معروف، والعقب: النسل، ويقال: عقب، بسكون القاف. الرأفة والرحمة: متقاربان في المعنى. وقيل: الرأفة أشد الرحمة، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول، كضروب، وجاء على فعل، كحذر، وجاء على فعل، كندس، وجاء على فعل، كصعب. التقلب: التردّد، وهو للمطاوعة، قلبته فتقلب. الشطر: النصف، والجزء من الشيء والجهة، قال الشاعر:

ألا من مبلغ عني رسولاً وما تغني الرسالة شطر عمرو

أي نحوه، وقال الشاعر:

أقول لأمّ زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم

وقال:

وقد أظلكم من شطر ثغركم هول له ظلم يغشاكم قطعا

وقال ابن أحمر:

تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة قد كارب العقد من إيقاده الحقبا

وقال آخر:

وأظعــن بــالقوم شطــر الملــوك

أي نحوهم، وقال:

إن العشير بها داء مخامرها وشطرها نظر العينين مسجور

ويقال: شطر عنه: بعد، وشطر إليه: أقبل، والشاطر من الشباب: البعيد من الجيران، الغائب عن منزله. يقال: شطر شطوراً، والشطير: البعيد، منزل شطير: أي بعيد. الحرام والحرم والحرم: الممتنع، وقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله: { { وهو محرم عليكم إخراجهم } [البقرة: 85] الامتراء: افتعال من المرية، وهي الشك. امترى في الشيء: شك فيه، ومنه المراء. ماريته أي جادلته وشاككته فيما يدعيه. وافتعل: بمعنى تفاعل. تقول: تمارينا وامترينا فيه، كقولك: تحاورنا واحتورنا. وجهة، قال قوم، منهم المازني والمبرد والفارسي: إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلاً، إذ هو اسم غير مصدر. قال سيبويه: ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت عدة. وذهب قوم، منهم المازني، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه. قال، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر، وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذاً، منبهة على الأصل المتروك في المصادر. والذي سوّغ عندي إقرار الواو، وإن كان مصدراً، أنه مصدر ليس بجار على فعله، إذ لا يحفظ وجه يجه، فيكون المصدر جهة. قالوا: وعد يعد عدة، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر. ولما فقد يجه، ولم يسمع، لم يحذف من وجهة، وإن كان مصدراً، لأنه ليس مصدراً ليجه، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد، لأن الفعل منه: توجه واتجه. فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول.

الاستباق: افتعال من السبق، وهو الوصول إلى الشيء أولاً، ويكون افتعل منه، إما لموافقة المجرد، فيكون معناه ومعنى سبق واحداً، أو لموافقة تفاعل، فيكون استبق وتسابق بمعنى واحد. الخيرات: جمع خيرة، ويحتمل أن يكون بناء على فعلة، أو بناء على فيعلة، فحذف منه، كالميتة واللينة. وقد تقدّم القول في هذا الحذف، قالوا: رجل خير، وامرأة خيرة، كما قالوا: رجل شر، وامرأة شرّة، ولا يكونان إذ ذاك أفعل التفضيل. الجوع: القحط، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها: الغرث. يقال: غرث يغرث غرثاً، فهو غرث وغرثان، قال:

مغرّثة زرقاً كأن عيونها من الذمر والإيحاء نوّار عضرس

وقد استعمل المحدثون في الغرث: الجوع اتساعاً.

{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها }: سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري، عن البراء بن عازب قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء }" الآية. فقال: السفهاء من الناس، وهم اليهود، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فقال الله تعالى: { قل لله المشرق والمغرب } الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أن اليهود والنصارى قالوا: إن إبراهيم، ومن ذكر معه، كانوا يهوداً ونصارى. ذكروا ذلك طعناً في الإسلام، لأن النسخ عند اليهود باطل، فقالوا: الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه، فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله: { قل لله المشرق والمغرب } الآية، فبين ما كان هداية، وما كان سفهاً. وسيقول، ظاهر في الاستقبال، وأنه إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، أنه يصدر منهم هذا القول في المستقبل، وذلك قبل أن يؤمروا باستقبال الكعبة، وتكون هذه الآية متقدمة في النزول على الآية المتضمنة الأمر باستقبال الكعبة، فتكون من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ليكون ذلك معجزاً، إذ هو إخبار بالغيب. ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعد له، فيكون أقل تأثيراً منه إذا فاجأ، ولم يتقدم به علم، وليكون الجواب مستعداً لمنكر ذلك، وهو قوله: { قل لله المشرق والمغرب }. وإلى هذا القول ذهب الزمخشري وغيره. وذهب قوم إلى أنها متقدمة في التلاوة، متأخرة في النزول، وأنه نزل قوله: { قد نرى تقلب وجهك } الآية، ثم نزل: { سيقول السفهاء من الناس }. نص على ذلك ابن عباس وغيره. ويدل على هذا ويصححه حديث البراء المتقدم، الذي خرجه البخاري. وإذا كان كذلك، فمعنى قوله: سيقول، أنهم مستمرون على هذا القول، وإن كانوا قد قالوه، فحكمة الاستقبال أنهم، كما صدر عنهم هذا القول في الماضي، فهم أيضاً يقولونه في المستقبل. وليس عندنا من وضع المستقبل موضع الماضي. وإن معنى سيقول: قال، كما زعم بعضهم، لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه. ولو كان عارياً من السين، لقرب ذلك وكان يكون حكاية حال ماضية. والسفهاء: اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وابن جبير. وأهل مكة قالوا: اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، واختاره الزجاج. أو المنافقون قالوا: ذلك استهزاء بالمسلمين، ذكره السدي، عن ابن مسعود. وقد جرى تسمية المنافقين بالسفهاء في قوله: { { ألا إنهم هم السفهاء } [البقرة: 13] أو الطوائف الثلاث الذين تقدم ذكرهم من الناس. قال ابن عطية وغيره: وخص بقوله من الناس، لأن السفه أصله الخفة، يوصف به الجماد. قالوا: ثوب سفيه، أي خفيف النسج والهلهلة، ورمح سفيه: أي خفيف سريع النفوذ. ويوصف به الحيوانات غير الناس، فلو اقتصر، لاحتمل الناس وغيرهم، لأن القول ينسب إلى الناس حقيقة، وإلى غيرهم مجازاً، فارتفع المجاز بقوله: { من الناس ما ولاهم }، أي ما صرفهم، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين عن قبلتهم. أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمناً طويلاً، فصحت الإضافة.

وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة. هكذا ذكر بعض المفسرين، وليس ذلك إجماعاً، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة، وأنه كان يصلي إليها عندما فرضت الصلاة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم. فلما توجه إلى بيت المقدس، قال أهل مكة، زارّين عليه وعائبين ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا على حذف مضاف، أي على استقبالها. والاستعلاء هنا مجاز، وحكمته أنهم لمواظبتهم على امتثال أمر الله في المحافظة على الصلوات. صارت القبلة لهم كالشيء المستعلى عليه، الملازم دائماً. وفي وصف القبلة بقوله: { التي كانوا عليها }، ما يدل على تمكن استقبالها، وديمومتهم على ذلك. والضمير في قوله: قبلتهم وكانوا، ضمير المؤمنين. وقيل: يحتمل أن يكون الضمير عائداً على السفهاء، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود، وهي إلى المغرب، وقبلة النصارى، وهي إلى المشرق، والعرب لم يكن لهم صلاة، فيتوجهون إلى شيء من الجهات. فلما توجه نحو الكعبة، استنكروا ذلك فقالوا: كيف يتوجه إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين؟ واختلفوا في استقبال بيت المقدس، أكان بوحي متلوّ؟ أو بأمر من الله غير متلو؟ أو بتخيير الله رسوله في النواحي؟ فاختار بيت المقدس، قاله الربيع؛ أو باجتهاده بغير وحي، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية. أقوال: الأول: عن ابن عباس، روي عنه أنه قال: أول ما نسخ من القرآن القبلة: وكذلك اختلفوا في المدة التي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إلى بيت المقدس، فقيل: ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً. وقيل: تسعة، أو عشرة أشهر. وقيل: ثلاثة عشر شهراً. وقيل: من وقت فرض الخمس وائتمامه بجبريل، إثر الإسراء، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، ثم هاجر في ربيع الأول، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس، إلى رجب من سنة اثنتين. وقيل: إلى جمادى. وقيل: إلى نصف شعبان. وروي أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الظهر، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة، وقد استدل بهذه الآية على جواز نسخ السنة بالقرآن، إذ صلاته إلى بيت المقدس ليس فيها قرآن، واستدل بها أيضاً على بطلان قول من يزعم أنه النسخ بداء.

{ قل لله المشرق والمغرب }: الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تعليم له صلى الله عليه وسلم كيف يبطل مقالتهم، ورد عليهم إنكارهم. والمعنى: أن الجهات كلها لله تعالى، يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها، وأن تجعل قبلة. وقد تقدم الكلام على قوله: { لله المشرق والمغرب }، فأغنى عن الإعادة هنا. وقد شرح المشرق ببيت المقدس، والمغرب بالكعبة، لأن الكعبة غربي بيت المقدس، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها. { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }: أي من يشاء هدايته. وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله: { { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6] فأغنى عن إعادته: وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه، وهنا عدى بإلى. وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها، فقيل: الصبح، وقيل: الظهر، وقيل: العصر. وكذلك أكثروا الكلام في الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع، ولا قاد نحوها العقل، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا، على عادتنا في ذلك. ومن طلب للوضعيات تعاليل، فأحرى بأن يقلّ صوابه ويكثر خطؤه. وأما ما نص الشرع على حكمته، أو أشار، أو قاد إليه النظر الصحيح، فهو الذي لا معدل عنه، ولا استفادة إلا منه. وقد فسر قوله: { صراط مستقيم } بأنه القبلة التي هي الكعبة. والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه، فالكعبة من بعض مشروعاته.

{ وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً }: الكاف: للتشبيه، وذلك: اسم إشارة، والكاف في موضع نصب، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف، وإما لكونه حالاً. والمعنى: وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك، لكن تقدم لفظ يهدي، وهو دال على المصدر، وهو الهدى، وتبين أن معنى { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }: يجعله على صراط مستقيم، كما قال تعالى: { { من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } [الأنعام: 39] قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم، إذ ذلك الجعل هو الهداية، فكذلك معنى الهدى هنا هو ذلك الجعل. وتبين أيضاً من قوله: { قل لله المشرق والمغرب } إلى آخره، أن الله جعل قبلتهم خيراً من قبلة اليهود والنصارى، أو وسطاً. فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك. فقيل: المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي، أي جعلناكم أمة خياراً مثل ما هديناكم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الحق. وقيل: المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بجعلهم على الصراط المستقيم، أي جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجعل الغريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية، لأنه قال: { يهدي من يشاء }، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل، جعلناكم خير الأمم. وقيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب، جعلناكم أمة وسطاً. وقيل: المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً، دون الأنبياء، وفوق الأمم، وأبعد من ذهب إلى أن ذلك إشارة إلى قوله تعالى: { { ولقد اصطفيناه في الدنيا } [البقرة: 130] أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً. ومعنى وسطاً: عدولاً، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تظاهرت به عبارة المفسرين. وإذا صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب المصير في تفسير الوسط إليه. وقيل: خيار، أو قيل: متوسطين في الدين بين المفرط والمقصر، لم يتخذوا واحداً من الأنبياء إلهاً، كما فعلت النصارى، ولا قتلوه، كما فعلت اليهود. واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا: أخبر الله عن عدالة هذه الأمة وعن خيرتهم، فلو أقدموا على شيء، وجب أن يكون قولهم حجة.

{ لتكونوا شهداء على الناس }: تقدم شرح الشهادة في قوله: { { وادعوا شهداءكم } [البقرة: 23] وفي شهادتهم هنا أقوال: أحدها: ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره. وقال في المنتخب: وقد طعن القاضي في الحديث من وجوه، وذكروا وجوهاً ضعيفة، وأظنه عنى بالقاضي هنا القاضي عبد الجبار المعتزلي، لأن الطعن في الحديث الثابت الصحيح لا يناسب مذاهب أهل السنة. وقيل: الشهادة تكون في الدنيا. واختلف قائلوا ذلك، فقيل: المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات، كما جاء في الحديث من "أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا، فقال الرسول: وجبت، يعني الجنة والنار، أنتم شهداء الله في الأرض" ثبت ذلك في مسلم. وقيل: الشهادة الاحتجاج، أي لتكونوا محتجين على الناس، حكاه الزّجاج. وقيل: معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتكون على بمعنى اللام، كقوله: { { وما ذبح على النصب } [المائدة: 3] أي للنصب. وقيل: معناه ليكون إجماعكم حجة، ويكون الرسول عليكم شهيداً، أي محتجاً بالتبليغ. وقيل: لتكونوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد. وقيل: شهداء على الناس في الدنيا، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار. وأسباب هذه الشهادة، أي شهادة هذه العدول أربعة: بمعاينة، كالشهادة على الزنا، وبخبر الصادق، كالشهادة على الشهادة؛ وبالاستفاضة، كالشهادة على الأنساب؛ وبالدلالة، كالشهادة على الأملاك، وكتعديل الشاهد وجرحه. وقال ابن دريد: الأشهاد أربعة: الملائكة بإثبات أعمال العباد، والأنبياء، وأمة محمد، والجوارح. انتهى. ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة، سمي إدراك البصيرة: مشاهدة وشهوداً، وسمي العارف: شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلالة على الشيء: شهادة عليه، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً. وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات. قالوا: وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة، وهو مذهب أبي حنيفة، واستدل بقوله: { أمة وسطاً }، أي عدولاً خياراً. وقال بقية العلماء: العدالة وصف عارض لا يثبت إلا ببينة، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور، لتغير أحوال الناس، ولما غلب عليهم في هذا الوقت، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص.

{ ويكون الرسول عليكم شهيداً }: لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي شهادته أقوال: أحدها: شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه. الثاني: شهادته عليهم بإيمانهم. الثالث: يكون حجة عليهم. الرابع: تزكيته لهم وتعديله إياهم، قاله عطاء، قال: هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين، والرسول شهيد معدل مزك لهم. وروي في ذلك حديث. وقد تقدم أيضاً ما روى البخاري في ذلك. واللام في قوله: لتكونوا هي، لام كي، أو لام الصيروة عن من يرى ذلك، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً، أو عدولاً ظاهراً. وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً، فظاهر أيضاً، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية، أو بأي معنى فسرت شهادته، ففي ذلك الشرف التامّ لهم، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليهم. ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له، جيء بكلمة على، وتأخر حرف الجر في قوله: على الناس، عما يتعلق به. جاء ذلك على الأصل، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول. وأما في قوله: { عليكم شهيداً } فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله: عليكم، فكان قوله: شهيداً، تمام الجملة، ومقطعها دون عليكم. وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم؛ وتأخير على: لاختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم، فهو مبني على مذهبه: أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص. وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان. وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطاً بكونهم شهداء، وتأخر التعليل بشهادة الرسول، لأنه كذلك يقع. ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم، ثم يشهد الرسول عليهم، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ، يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمّته، فيزكيهم ويشهد بصدقهم؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس. وأتى بلفظ الرسول، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند الله إلى أمّته. وأتى بجمع فعلاء، الذي هو جمع فعيل وبشهيد، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله: شاهدين، أو إشهاداً، أو شاهداً. وقد استدل بقوله: { ويكون الرسول عليكم شهيداً } على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة، فإن أكثر المفسرين قالوا: معنى شهيداً: مزكياً لكم، قالوا: وعليكم تكون بمعنى: لكم.

{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }: جعل هنا: بمعنى صير، فيتعدى لمفعولين: أحدهما القبلة، والآخر { التي كنت عليها }. والمعنى: وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم صار يصلي إلى الكعبة. وتكون القبلة: هو المفعول الثاني، والتي كنت عليها: هو المفعول الأول، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال. فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني. ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً؟ والمعنى هنا على هذا التقدير: وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس، قبلتك الآن إلا لنعلم. ووهم الزمخشري في ذلك، فزعم أن التي كنت عليها: هو المفعول الثاني لجعل، قال: التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل. تريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة، تألفاً لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة، يعني: وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً، انتهى ما ذكره.

وقد أوضحنا أن التي كنت عليها: هو المفعول الأول. وقيل: هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة. والمعنى: وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم، فيكون ذلك على معنى: أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ. وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله: التي كنت عليها، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين. وقيل: التي كنت عليها صفة للقبلة، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني، فقيل: تقديره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم. وقيل: التقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعلم. وقيل: ذلك على حذف مضاف، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله: لنعلم، كما تقول: ضرب زيد للتأديب، أي كائن وموجود للتأديب، أي بسبب التأديب. وعلى كون التي صفة، يحتمل أن يراد بالقبلة: الكعبة، ويحتمل أن يراد بيت المقدس، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه. وقال ابن عباس: القبلة في الآية: الكعبة، وكنت بمعنى: أنت، كقوله تعالى: { { كنتم خير أمة } [آل عمران: 110] بمعنى: أنتم. انتهى. وهذا من ابن عباس، إن صح تفسير معنى، لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد. وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير، ما نقله النحويون، أن كان تكون بمعنى صار، ومن صار إلى شيء واتصف به، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه. فإذا قلت: صرت عالماً، صح أن تقول: أنت عالم، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه. فتفسير ابن عباس: كنت بأنت، هو من هذا القبيل، فهو تفسير معنى، لا تفسير إعراب. وكذلك من صار خير أمّة، صح أن يقال فيه: أنتم خير أمّة.

{ إلا لنعلم }: استثناء مفرّغ من المفعول له، وفيه حصر السبب، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا. وظاهر قوله: لنعلم، ابتداء العلم، وليس المعنى على الظاهر، إذ يستحيل حدوث علم الله تعالى. فأول على حذف مضاف، أي ليعلم رسولنا والمؤمنون، وأسند علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى لديه. فيكون هذا من مجاز الحذف، أو على إطلاق العلم على معنى التمييز، لأن بالعلم يقع التمييز، أي لنميز التابع من الناكص، كما قال تعالى: { { حتى يميز الخبيث من الطيب } [آل عمران: 179] ويكون هذا من مجاز إطلاق السبب، ويراد به المسبب. وحكي هذا التأويل عن ابن عباس، أو على أنه أراد ذكر علمه وقت موافقتهم الطاعة أو المعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب. فليس المعنى لنحدث العلم، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجوداً، إذ الله قد علم في القدم من يتبع الرسول. واستمر العلم حتى وقع حدوثهم، واستمرّ في حين الاتباع والانقلاب، واستمر بعد ذلك. والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم، ويكون هذا قد كنى فيه بالعلم عن تعلق العلم، أي ليتعلق علمنا بذلك في حال وجوده. أو على أنه أراد بالعلم التثبيت، أي لنثبت التابع، ويكون من إطلاق السبب، ويراد به المسبب، لأن من علم الله أنه متبع للرسول، فهو ثابت الاتباع. أو على أنه أريد بالعلم الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيراً ما يقع التهديد في القرآن، وفي كلام العرب، بذكر العلم، كقولك: زيد عصاك، والمعنى: أنا أجازيه على ذلك، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي، التقدير: لما علمنا، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف. فهذه كلها تأويلات في قوله: لنعلم، فراراً من حدوث العلم وتجدّده، إذ ذلك على الله مستحيل. وكل ما وقع في القرآن، مما يدل على ذلك، أوّل بما يناسبه من هذه التأويلات. ونعلم هنا متعدّ إلى واحد، وهو الموصول، فهو في موضع نصب، والفعل بعده صلته. وقال بعض الناس: نعلم هنا متعلقة، كما تقول: علمت أزيد في الدر أم عمرو، حكاه الزمخشري. وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء، ويتبع في موضع الجر، والجملة في موضع المفعول بنعلم. وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم، لم يبق لقوله: { ممن ينقلب }، ما يتعلق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بقوله: { يتبع }، الذي هو خبر عن من الاستفهامية، لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما المعنى على أن يتعلق بنعلم، كقولك: علمت من أحسن إليك ممن أساء. وهذا يقوى أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن. وقرأ الزهري: ليعلم، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى، فحذف وبنى الفعل للمفعول، وعلم غير الله تعالى حادث، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث، وكان التقدير: ليعلم الرسول والمؤمنون. وأتى بلفظ الرسول، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله: { كنت عليها }، فكان يكون الكلام من يتبعك، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة. وجاء الخطاب مكتنفاً بذكر الرسول مرّتين، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة. ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة، أتى بلفظ الرسول، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض. ولما كان التوجه إلى الكعبة توجهاً إلى المكان الذي ألفه الإنسان، وله إلى ذلك نزوع، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة، فقيل: { التي كنت عليها }، فهذه، والله أعلم، حكمة الالتفات هنا. وقوله: { ينقلب على عقبيه } كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل. والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به. والمعنى: أنه كان متلبساً بالإيمان، فلما حوّلت القبلة، ارتاب فعاد إلى الكفر، فهذا انقلاب معنوي، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه. وقوله: { على عقبيه } في موضع الحال، أي ناكصاً على عقبيه، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الحالة الأولى التي كان عليها، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه، ومشى أدراجه التي تقدّمت له، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلاً. قالوا: وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها. فقيل: بالأول، لأنه كان يصلي إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، فشق ذلك على العرب من حيث أنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم. وقال الأكثرون بالقول الثاني، قالوا: لو كان محمد على يقين من أمره، لما تغير رأيه. وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا: مرة هنا ومرة هنا، وهذا أشبه، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة، وقد وصفها الله بالكبر في قوله: { وإن كانت لكبيرة }. وقرأ ابن أبي إسحاق: على عقبيه، بسكون القاف وتسكين عين فعل، اسماً كان أو فعلاً، لغة تميمية، وقد تقدّم ذكر ذلك.

{ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله }: اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله: { وما جعلنا القبلة }، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها، وهي بيت المقدس، قبل التحويل، قاله أبو العالية والأخفش. وقيل: يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس. ومعنى كبيرة: أي شاقة صعبة، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف للعادة، لأن من ألف شيئاً، ثم انتقل عنه، صعب عليه الانتقال، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه. وإن هنا هي المخففة من الثقيلة، دخلت على الجملة الناسخة. واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق، أم هي لام اجتلبت للفرق؟ في ذلك خلاف، هذا مذهب البصريين والكسائي والفراء وقطرب في إن التي يقول البصريون إنها مخففة من الثقيلة، خلاف مذكور في النحو. وقراءة الجمهور: لكبيرة بالنصب، على أن تكون خبر كانت. وقرأ اليزيدي: لكبيرة بالرفع، وخرج ذلك الزمخشري على زيادة كانت، التقدير: وإن هي لكبيرة، وهذا ضعيف، لأن كان الزائدة لا عمل لها، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه، ولذلك استكن فيها. وقد خالف أبو سعيد، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها، أي كان هو، أي الكون. وقد ردّ ذلك في علم النحو. وكذلك أيضاً نوزع من زعم أن كان زائدة في قوله:

وجيــران لنــا كــانـوا كــرام

لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون لكبيرة خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: لهي كبيرة. ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير، تلك الجملة خبر لكانت، وهذا التوجيه ضعيف أيضاً، وهو توجيه شذوذ. { إلا على الذين هدى الله }، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف، إذ التقدير: وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى الله، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ، لأنه لم يسبقه نفي أو شبهه، إنما سبقه إيجاب. ومعنى هدى الله، أي هداهم لاتباع الرسول، أو عصمهم واهتدوا بهدايته، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان. وهذه أقوال متقاربة، وفيه إسناد الهداية إلى الله، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من الله، لا من ذوات أنفسهم، فهو الذي وفقهم لهدايته.

{ وما كان الله ليضيع إيمانكم }: قيل: سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فنزلت. وقيل: السائل أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور مع جماعة، وهذا مشكل، لأنه قد روي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة. وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى بيت المقدس، وكذلك ذكره البخاري والترمذي، وقال ذلك ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه، وهي من شعبه العظيمة. ويحتمل أن يقرّ الإيمان على مدلوله، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى بيت المقدس، وفي وقت التحويل. وذكر الإيمان، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى بيت المقدس، لأنه هو العمدة، والذي تصح به الأعمال. وقد كان لهم ثابتاً في حال توجههم إلى بيت المقدس وغيره، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم، فاندرج تحته متعلقاته التي لا تصح إلا به. وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة، لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس، وأتى بلفظ الخطاب، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب، لأن المصلين إلى بيت المقدس لم يكونوا كلهم ماتوا. وقرأ الضحاك: ليضيع، بفتح الضاد وتشديد الياء، وأضاع وضيع الهمزة، والتضعيف، كلاهما للنقل، إذ أصل الكلمة ضاع. وقال في المنتخب: لولا ذكر سبب نزول هذه الآية: لما اتصل الكلام بعضه ببعض. ووجه تقرير الإشكال، أن الذين لا يجوّزون النسخ إلا مع البداء يقولون: إنه لما تغير الحكم، وجب أن يكون الحكم مفسدة، أو باطلاً، فوقع في قلوبهم، بناء على هذا السؤال، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة. فأجاب الله تعالى عن هذا الإشكال، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة، ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم. انتهى.

وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوّز البداء على الله، فكيف يليق ذلك بالصحابة؟ والجواب: أنه لا يقع إلا من منافق، فأخبر عن جواب سؤال المنافق، أو جوِوب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل. وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية، لما اتصل الكلام بعضه ببعض، ليس بصحيح، بل هو كلام متصل، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى: { لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }، كان ذلك تقسيماً للناس حالة الجعل إلى قسمين: متبع للرسول، وناكص. فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع، بل عمله وتصديقه، قبل أن تحول القبلة، وبعد أن تحوّل لا يضيعه الله، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف، فمن امتثلها، فهو لا يضيع أجره. ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين، أخبر تعال أنه لا يضيعه، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود، لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود. فقولك: ما كان زيد ليقوم، أبلغ مما: كان زيد يقوم، لأن في المثال الأول: هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام، وفي الثاني: هو نفي للقيام. ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ. وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن وكلام العرب. وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب البصريين، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف، وأن اللام بعدها إن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف، وقد صرّح بذلك الخبر في قول بعضهم:

سمـوت ولـم تكـن أهـلاً لتسمـو

ومذهب الكوفيين: أن اللام هي الناصبة، وليست أن مضمرة بعده، وأن اللام بعدها للتأكيد، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان، فلا فرق بين: ما كان زيد يقوم، وما كان زيد ليقوم، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام. والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو.

{ إن الله بالناس لرءوف رحيم }: ختم هذه الآية بهذه الجملة ظاهر، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها، أي للطف رأفته وسعة رحمته، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم، أو لا يضيع إيمان من آمن، وهذا الأخير أظهر. والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس، كما قال: { { الله لطيف بعباده } [الشورى: 19]، { { ورحمتي وسعت كل شيء } [الأعراف: 156]، { { وسعت كل شيء رحمة وعلماً } [غافر: 7] ويحتمل العهد، فيكون المراد بالناس المؤمنين. وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص: لرؤوف، مهموزاً على وزن فعول حيث وقع، قال الشاعر:

نطيع رسولنا ونطيع رباً هو الرحمن كان بنا رؤوفاً

وقرأ باقي السبعة: لرؤوف، مهموزاً على وزن ندس، قال الشاعر:

يرى للمسلمين عليه حقاً كحق الوالد الرؤوف الرحيم

وقال الوليد بن عقبة:

وشر الظالمين فلا تكنه يقابل عمه الرؤوفُ الرحيمُ

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: لروف، بغير همزٍ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله، ساكنة كانت أو متحركة. ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغاً فيها من حيث لام الجحود، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغاً فيها، فبولغ فيها بأن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة. وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة، وتقدّم المجرور اعتناء بالمرؤوف بهم. وقال القشيري: من نظر الأمر بعين التفرقة، كبر عليه أمر التحويل؛ ومن نظر بعين الحقيقة، ظهر لبصيرته وجه الصواب. { وما كان الله ليضيع إيمانكم }: أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد، فالمختلفات من الأحوال له واحدة، فسواء غير، أو قرّر، أو أثبت، أو بدل، أو حقق، أو حوّل، فهم به له في جميع الأحوال. قال قائلهم:

حيثما دارت الزجاجة درنا يحسب الجاهلون أنا جننا

{ قد نرى تقلب وجهك في السماء }: تقدّم حديث البراء، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية. وقوله: { سيقول السفهاء }: أيهما نزل قبل؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد، في بعض المواضع، ومنه: { { قد يعلم ما أنتم عليه } [النور: 64]، { { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك } [الحجر: 97]، { { قد يعلم الله المعوقين منكم } [الأحزاب: 18]. وقال الشاعر:

لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر

قال الزمخشري: قد نرى: ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية، كقوله:

قـد أتـرك القـرن مصفـراً أناملـه

انتهى. وشرحه هذا على التحقيق متضادّ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى. ورب، على مذهب المحققين من النحويين، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه، أو لتقليل نظيره. ثم قال: ومعناه كثرة الرؤية، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور. ثم هذا المعنى الذي ادّعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة. هذا التركيب، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي، ولا غير المضي، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة، لا يقال فيه: قلب بصره في السماء، وإنما يقال: قلب إذا ردّد. فالتكثير، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب، نحو: قطعته فتقطع، وكسرته فتكسر، وما طاوع التكثير ففيه التكثير. والوجه هنا قيل: أريد به مدلول ظاهره. قال قتادة والسدّي وغيرهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة. وقيل: كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء. وقال الزمخشري: كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل. انتهى كلامه، وهو كلام الناس قبله. فالأول: قول ابن عباس، وهو ليصيب قبلة إبراهيم. والثاني: قول السدّي والربيع، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة. والثالث: قول مجاهد، وهو قول اليهود: ما علم محمد دينه حتى اتبعنا، فأراد مخالفتهم. وقيل: كنى بالوجه عن البصر، لأنه أشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب. تقول: بذلت وجهي في كذا، وفعلت لوجه فلان. وقال:

رجعـت بمـا أبغـي ووجهـي بمائـه

وهو من الكناية بالكل عن الجزء، ولا يحسن أن يقال: إنه على حذف مضاف، ويكون التقدير بصر وجهك، لأن هذا لا يكاد يستعمل، إنما يقال: بصرك وعينك وأنفك؛ لا يكاد يقال: أنف وجهك، ولا خد وجهك. في السماء: متعلق بالمصدر، وهو تقلب، وهو يتعدى بفي، فهي على ظاهرها. قال تعالى: { { لا يغرّّنك تقلب الذين كفروا في البلاد } [آل عمران: 196]، أي في نواحي السماء، في هذه الجهة، وفي هذه الجهة. وقيل: في بمعنى إلى. وقيل: في السماء متعلق بنرى، وفي: بمعنى من، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان. وذكرت الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه، لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها، ويكون كما جاء: بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة، والظاهر الأول، وهو تعلق المجرور بالمصدر، وأن في على حقيقتها. واختص التقلب بالسماء، لأن السماء جهة تعود منها الرحمة، كالمطر والأنوار والوحي، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم، ولأن السماء قبلة الدعاء، ولأنه كان ينتظر جبريل، وكان ينزل من السماء.

{ فلنولينك قبلة ترضاها }: هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها. وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها. وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة، ثم بإنجاز الوعد، فيتوالى السرور مرتين، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب. ونكر القبلة، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة، فتعرف بالألف واللام. وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين، لأن متعلق الرضا هو القلب، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة، وإن كان لا يصرّح بذلك. قالوا: ورضاه لها، إما لميل السجية، أو لاشتمالها على مصالح الدين. والمعنى: لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك، ولنمكننك من ذلك.

{ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام }: أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس. قالوا: وإنما لم يذكر في الصلاة، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها. ومن قال نزلت في غير الصلاة، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك، أعني: التوجه في الصلاة. وأقول: في قوله: { فلنولينك قبلة ترضاها } ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة. وأراد بالوجه: جملة البدن، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن. وكنى بالوجه عن الجملة، لأنه أشرف الأعضاء، وبه يتميز بعض الناس عن بعض. وقد يطلق ويراد به نفس الشيء، ولأن المقابلة تقتضي ذلك، وهو أنه قابل قوله: { قد نرى تقلب وجهك } بقوله: { فولّ وجهك }. وتقدّم أن الشطر يطلق ويراد به النصف، ويطلق ويراد به النحو. وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه، وهو اختيار الشافعي. وقال الجبائي، وهو اختيار القاضي: المراد منه وسط المسجد ومنتصفه، لأن الشطر هو النصف، والكعبة بقعة في وسط المسجد. والواجب هو التوجه إلى الكعبة، وهي كانت في نصف المسجد، فحسن أن يقال: { فولّ وجهك شطر المسجد }، يعني النصف من كل جهة، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة. ويدل على صحة ما ذكرناه. أن المصلي خارج المسجد متوجهاً إلى المسجد، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة، لم تصح صلاته. وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب، لم يكن لذكره فائدة، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة. قال ابن عباس وغيره: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت كله. وقال ابن عمر: إنما وجه هو وأمّته حيال ميزاب الكعبة، والميزاب هو قبلة المدينة والشام، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق، وفي حرف عبد الله، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام. والقائلون بأن معنى الشطر: النحو، اختلفوا، فقال ابن عباس: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك. وقال آخرون: القبلة هي الكعبة، والظاهر أن المقصود بالشطر: النحو والجهة، لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً على من خرج لبعده عن مسامتتها. وفي ذكر المسجد الحرام، دون ذكر الكعبة، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة، لا مراعاة عينها. واستدل مالك من قوله: { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام }، على أن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، خلافاً للثوري والشافعي والحسن بن حيّ، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده، وخلافاً لشريك القاضي، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى موضع حجره. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: إنما قلنا ينظر أمامه، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس، وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج، { { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [الحج: 78].

{ وحيثما كنتم }: هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان، أي في أيّ موضع كنتم، وهو شرط وجزاء، والفاء جواب الشرط، وكنتم في موضع جزم. وحيث: هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية، الخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال، والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة فينا في اسم الشرط، لأن الشرط مبهم. فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط، وجوزي بها، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال. وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها، وخلاف الفراء في ذلك. { فولوا وجوهكم شطره }: وهذا أمر لأمّة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما تقدّم أمره بذلك، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد، مع مزيد عموم في الأماكن، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، فبين أنهم في أيما حصلوا من بقاع الأرض، وجب أن يستقبلوا شطر المسجد. ولما كان صلى الله عليه وسلم هو المتشوف لأمر التحويل، بدأ بأمره أولاً ثم أتبع أمر أمته ثانياً لأنهم تبع له في ذلك، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلى الله عليه وسلم. وفي حرف عبد الله: فولوا وجوهكم قبله. وقرأ ابن أبي عبلة: فولوا وجوهكم تلقاءه، وهذا كله يدل على أن المراد بالشطر: النحو..

{ وإن الذين أوتوا الكتاب }: أي رؤساء اليهود والنصارى وأحبارهم. وقال السدّي: هم اليهود. { ليعلمون أنه }: أي التوجه إلى المسجد الحرام، { الحق }: الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته. وقال قتادة والضحاك: إن القبلة هي الكعبة. وقال الكسائي: الضمير يعود على الشطر، وهو قريب من القول الثاني، لأن الشطر هو الجهة. وقيل: يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون صدقه ونبوّته، قاله قتادة أيضاً ومجاهد. ومفسر هذه الضمائر متقدم. فمفسر ضمير التحويل والتوجه قوله: { فولّ وجهك }، فيعود على المصدر المفهوم من قوله: { فولوا }، ومفسر ضمير القبلة قوله: { قبلة ترضاها }، ومفسر ضمير الشطر قوله: { شطر المسجد الحرام }، ومفسر ضمير الرسول ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا الوجه يكون التفاتان. والعلم هنا يحتمل أن يكون مما يتعدى إلى اثنين، ويحتمل أن يكون مما يتعدى إلى واحد، لأن معموله هو أن وصلتها، فيحتمل الوجهين، وعلمهم بذلك، إما لأن في كتابهم التوجه إلى الكعبة، قاله أبو العالية، وإما لأن في كتابهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي صادق، فلا يأمر إلا بالحق، وإما لجواز النسخ، وإما لأن في بشارة الأنبياء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين. { من ربهم }: جار ومجرور في موضع الحال، أي ثابتاً من ربهم. وفي ذلك دليل على أن التحول من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن باجتهاد، إنما هو بأمر من الله تعالى. وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك، كما قال تعالى: { الحق من ربك }.

{ وما الله بغافل عما يعملون }: قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب. فيحتمل أن يراد به المؤمنون لقوله: { فولوا وجوهكم شطره }، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب، فتكون من باب الالتفات. ووجهه أن في خطابهم بأن الله لا يغفل عن أعمالهم، تحريكاً لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر. ومن قرأ بالياء، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة. وعلى كلتا القراءتين، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد، ولا يغفل عنها، وهو متضمن الوعيد.

{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } هذه تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له. أعلمه أولاً أنهم يعلمون أنه الحق، وهم يكتمونه، ولا يرتبون على العلم به مقتضاه. ثم سلاه عن قبولهم الحق، بأنهم قد انتهوا في العناد وإظهار المعاداة إلى رتبة، لو جئتهم فيها بجميع المعجزات التي كل معجزة منها تقتضي قبول الحق، ما تبعوك ولا سلكوا طريقك. وإذا كانوا لا يتبعونك، مع مجيئك لهم بجميع المعجزات، فأحرى أن لا يتبعوك إذا جئتهم بمعجزة واحدة. والمعنى: بكل آية يدل على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق. واللام في: ولئن، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم. فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف، والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم وهو قوله: { ما تبعوا }، ولذلك لم تدخله الفاء. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل. المعنى: أي ما يتبعون قبلتك، لأن الشرط قيد في الجملة، والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي. ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى: { { ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون } [الروم: 51]، التقدير: ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جواباً للقسم المحذوف، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل، فهو ماضٍ من حيث اللفظ، مستقبل من حيث المعنى، لأن الشرط قيد فيه، كما ذكرنا. وجواب الشرط في الآيتين محذوف، سد مسده جواب القسم، ولذلك أتى فعل الشرط ماضياً في اللفظ، لأنه إذا كان الجواب محذوفاً، وجب مضي فعل الشرط لفظاً، إلا في ضرورة الشعر، فقد يأتي مضارعاً. وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو، ولذلك كانت ما في الجواب، فجعل ما تبعوا جواباً لإن، لأن إن بمعنى لو، فكما أن لو تجاب بما، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو، لم يكن جوابها مصدراً بما، بل لا بد من الفاء. تقول: إن تزرني فما أزورك، ولا يجوز: ما أزورك. وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة جواب إن عليه. وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط، جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم. وليس هذا مذهب البصريين، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو. واستعمال إن بمعنى لو قليل، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها. وقال ابن عطية: وجاء جواب لئن كجواب لو، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي والوقوع، وإن تطلب الاستقبال، لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم. فالجواب إنما هو للقسم، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه. انتهى كلامه.

وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد، لأن أوله يقتضي أن الجواب لإن، وقوله بعد: فالجواب إنما هو للقسم، يدل على أن الجواب ليس لإن، والتعليل بعد بقوله، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، لا يصلح أن يعلل به قوله: فالجواب إنما هو للقسم، بل يصلح أن يكون تعليلاً، لأن الجواب لإن، وأجريت في ذلك مجرى لو. وأما قوله: هذا قول سيبويه، فليس في كتاب سيبويه، إلا أن ما تبعوا جواب القسم، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل. قال سيبويه: وقالوا لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل. وقال أيضاً. وقال تعالى: { { ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } [فاطر: 41] أي ما يمسكهما. وقال بعض الناس: كل واحدة من: لئن ولو، تقوم مقام الأخرى، ويجاب بما يجاب به، ومنه: { { ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا } [الروم: 51]، لأن معناه: ولو أرسلنا ريحاً. وكذلك لو يجاب جواب لئن، كقولك: لو أحسنت إليّ أحسن إليك، هذا قول الأخفش والفرّاء والزّجاج. وقال سيبويه: لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى، لأن معناهما مختلف، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال، تقدير: لا يتبعون، وليظلن. انتهى كلامه.

وتلخص من هذا كله أن في قوله: { ما تبعوا } قولين: أحدهما: أنها جواب قسم محذوف، وهو قول سيبويه. والثاني: أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج. وظاهر قوله: { أوتوا الكتاب }: العموم، وقد قال به هنا قوم. وقال الأصم: المراد علماؤهم المخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم الذين أوتوا الكتاب، وفي الآية المتأخرة. ويدل على خصوص ذلك خصوص ما تقدم، وخصوص ما تأخر، فكذلك المتوسط والإخبار بإصرارهم، وهو شأن المعاند، وأنه قد آمن به كثير من أهل الكتاب وتبعوا قبلته. واختلفوا في قوله: { ما تبعوا قبلتك }. قال الحسن والجبائي: أراد جميعهم، كأنه قال: لا يجتمعون على اتباع قبلتك، على نحو: { { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } [الأنعام: 35]، ويكون إذ ذاك إخباراً عن المجموع، من حيث هو مجموع، لا حكم على الأفراد. وقال الأصم: بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن. وقد تقدم أن من قول الأصم: أنه أريد بأهل الكتاب الخصوص، فكأنه قال: كل فرد فرد من أولئك المختصين بالعناد، المستمرّين على جحود الحق، لا يؤمن ولا يتبع قبلتك. وقد احتج أبو مسلم بهذه الآية، على أن علم الله في عباده وفيما يفعلونه، ليس بحجة لهم فيما يرتكبون، وأنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به، ويتركوا ضده الذي نهوا عنه. قيل: واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق، وهو أنه أخبر عنهم أنهم لا يتبعون قبلته، فلو اتبعوا قبلته، لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وعلمه جهلاً، وهو محال، وما استلزم المحال فهو محال. وأضاف تعالى القبلة إليه، لأنه المتعبد بها والمقتدى به في التوجه إليها. أيأس الله نبيه من اتباعهم قبلته، لأنهم لم يتركوا اتباعه عن دليل لهم وضح، ولا عن شبهة عرضت، وإنما ذلك على سبيل العناد، ومن نازع عناداً فلا يرجى منه انتزاع.

{ وما أنت بتابع قبلتهم }: هذه جملة خبرية. قيل: ومعناها النهي، أي لا تتبع قبلتهم، ومعناها: الدوام على ما أنت عليه، وإلا فهو معصوم عن اتباع قبلتهم بعد ورود الأمر. وقيل: هي باقية على معنى الخبر، وهو أنه بين بهذا الإخبار أن هذه القبلة لا تصير منسوخة، فجاءت هذه الجملة رفعاً لتجويز النسخ، أو قطع بذلك رجاء أهل الكتاب، فإنهم قالوا: يا محمد، عد إلى قبلتنا، ونؤمن بك ونتبعك، مخادعة منهم، فأيأسهم الله من اتباعه قبلتهم، أو بين بذلك حصول عصمته، أو أخبر بذلك على سبيل التعذر لاختلاف قبلتيهم، أو جاء ذلك على سبيل المقابلة، أي ما هم بتاركي باطلهم، وما أنت بتارك حقك. وأفرد القبلة في قوله: قبلتهم، وإن كانت مثناة، إذ لليهود قبلة، وللنصارى قبلة مغايرة لتلك القبلة، لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين، فصار الإثنان واحداً من جهة البطلان، وحسن ذلك المقابلة في اللفظ، لأن قبله { ما تبعوا قبلتك }. وهذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله: { بتابع }، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها، لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم. وقرأ بعض القراء: بتابع قبلتهم على الإضافة، وكلاهما فصيح، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته، وقد تقدم في أيهما أقيس.

{ وما بعضهم بتابع قبلة بعض }: الضمير في بعضهم عائد على أهل الكتاب. والمعنى: أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، ولا النصارى تتبع قبلة اليهود، وذلك إشارة إلى أن اليهود لا تتنصّر، وإلى أن النصارى لا تتهود، وذلك لما بينهما من إفراط العداوة والتباغض. وقد رأينا اليهود والنصارى كثيراً ما يدخلون في ملة الإسلام، ولم يشاهد يهودياً تنصر، ولا نصرانياً تهوّد. والمراد بالبعضين: من هو باق على دينه من أهل الكتاب، هذا قول السدي وابن زيد، وهو الظاهر. وقيل: أحد البعضين من آمن من أهل الكتاب، والبعض الثاني من كان على دينه منهم، لأن كلاً منهما يسفه حلم الآخر ويكفره، إذ تباينت طريقتهما. ألا ترى إلى مدح اليهود عبد الله بن سلام قبل أن يعلموا بإسلامه وبهتهم له بعد ذلك؟ وتضمنت هذه الجمل: أن أهل الكتاب، وإن اتفقوا على خلافك، فهم مختلفون في القبلة، وقبلة اليهود بيت المقدس، وقبلة النصارى مطلع الشمس.

{ ولئن اتبعت أهواءهم }، اللام أيضاً مؤذنة بقسم محذوف، ولذلك جاء الجواب بقوله: إنك، وتعليق وقوع الشيء على شرط لا يقتضي إمكان ذلك الشرط. يقول الرجل لامرأته: إن صعدت إلى السماء فأنت طالق، ومعلوم امتناع صعودها إلى السماء. وقال تعالى في الملائكة الذين أخبر عنهم: أنهم { { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [التحريم: 6]، قال: { { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } [الأنبياء: 29]، وإذا اتضح ذلك سهل ما ورد من هذا النوع. وفهم من ذلك الاستحالة، لأن المعلق على المستحيل مستحيل. ويصير معنى هذه الجملة، التي ظاهرها الوقوع على تقدير امتناع الوقوع، ويصير المعنى: لا يعد ظالماً، ولا تكونه، لأنك لا تتبع أهواءهم، وكذلك لا يحبط عملك، لأن إشراكك ممتنع، وكذلك لا يجزي أحد من الملائكة جهنم، لأنه لا يدعي أنه إله. وقالوا: ما خوطب به من هو معصوم مما لا يمكن وقوعه منه، فهو محمول على إرادة أمته، ومن يمكن وقوع ذلك منه، وإنما جاء الخطاب له على سبيل التعظيم لذلك الأمر، والتفخيم لشأنه، حتى يحصل التباعد منه. ونظير ذلك قولهم: إياك أعني: واسمعي يا جارة.

قال الزمخشري: قوله: { ولئن اتبعت أهواءهم }، بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: { وما أنت بتابع قبلتهم }، كلام وارد على سبيل الفرض، والتقدير بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر، إنك إذاً لمن المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين، وزيادة تحذير واستفظاع بحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى، وإلهاب للثبات على الحق. انتهى كلامه. وقال في المنتخب: اختلفوا في هذا الخطاب. قال بعضهم: هو للرسول، وقال بعضهم: هو للرسول وغيره. وقال بعضهم: هو لغير الرسول، لأنه علم تعالى أن الرسول لا يفعل ذلك، فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب. أهواءهم: تقدّم أنه جمع هوى، ولا يجمع على أهوية، وأكثر استعمال الهوى فيما لا خير فيه، وقد يستعمل في الخير، وأصله الميل والمحبة، وجمع، وإن كان أصله المصدر، لاختلاف أغراضهم ومتعلقاتها وتباينها.

{ من بعد ما جاءك من العلم }: أي من الدلائل والآيات التي تفيد لك العلم وتحصله، فأطلق اسم الأثر على المؤثر. سمى تلك الدلائل علماً، مبالغة وتعظيماً وتنبيهاً على أن العلم من أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة. ودلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم. وقد فسر العلم هنا بالحق، يعني أن ما جاءه من تحويل القبلة هو الحق. وقال مقاتل: العلم هنا: البيان، وجاء في هذا المكان: { من بعد ما جاءك }، وقال قبل هذا: { { بعد الذي جاءك } [البقرة: 120]، وجاء في الرعد: { { بعد ما جاءك } [الرعد: 37]، فاختص موضعاً بالذي، وموضعين بما، وهذا الموضع بمن. والذي نقوله في هذا: أنه من اتساع العبارة وذكر المترادف، لأن ما والذي موصولان، فأياً منهما ذكرت، كان فصيحاً حسناً. وأما المجيء بمن، فهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء، وأما قوله: بعد، فهو على معنى من، والتبعدية مقيدة بها من حيث المعنى، وإن كان إطلاق بعد لا يقتضيها. وقال بعضهم: في الجواب عن ذلك دخول ما مكان الذي، لأن الذي أخص، وما أشد إبهاماً، فحيث خص بالذي أشير به إلى العلم بصحة الدين، الذي هو الإسلام، المانع من ملتي اليهود والنصارى، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه، لأنه علم بكل أصول الدين، وخص بلفظ ما، ما أشير به إلى العلم بركن من أركان الدين، أحدهما القبلة، والآخر الكتاب، لأنه أشار إلى قوله: { { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } [الرعد: 36]، قال: وأما دخول من، ففائدته ظاهرة، وهي بيان أول الوقت الذي وجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالف أهل الكتاب في أمر القبلة، أي ذلك الوقت الذي أمرك الله فيه بالتوجه فيه إلى نحو القبلة، إن اتبعت أهواءهم، كنت ظالماً واضعاً الباطل في موضع الحق. انتهى كلامه.

{ إنك إذاً لمن الظالمين }: قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف الذي أدنت بتقديره اللام في لئن، ودل على جواب الشرط، لا يقال: إنه يكون جواباً لهما، لامتناع ذلك لفظاً ومعنى. أما المعنى، فلأن الاقتضاء مختلف. فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه، لأن القسم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له. وأما اللفظ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم، لم يحتج إلى مزيد رابط، وإذا كانت جواب شرط، احتاجت لمزيد رابط، وهو الفاء. ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معاً. ودخلت إذاً بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر. فلم تتقدّم، لأنه سبق قسم وشرط، والجواب هو للقسم. فلو تقدمت، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم تتأخر، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي: فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة. وتحرير معنى إذن صعب، وقد اضطرب الناس في معناها، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء. واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه، وقد أمعنا الكلام في ذلك في (كتاب التكميل) من تأليفنا، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان مسبباً عما قبلها، فهي في ذلك على وجهين: أحدهما: أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها. مثال ذلك أزورك فتقول: إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك. وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها مذكورة في النحو. الوجه الثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وذلك نحو: إن تأتني إذن آتك، ووالله إذن لأفعلن. فلو أسقطت إذن، لفهم الارتباط. ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: أزورك فتقول: إذن أنا أكرمك، وجاز توسطها نحو: أنا إذاً أكرمك، وتأخرها. وإذا تقرر هذا، فجاءت إذاً في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما قررت معناها هنا لأنها كثيرة الدور في القرآن، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه. { الذين آتيناهم الكتاب }: هم علماء اليهود والنصارى، أو من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، كابن سلام وغيره، أو من آمن به مطلقاً، أقوال. والكتاب: التوراة، أو الإنجيل، أو مجموعهما، أو القرآن. أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا، لإسناد الإيتاء إلى الله تعالى، معبراً عنه بنون العظمة، وكذا ما يجيء من نحو هذا، مراداً به الإكرام نحو: هدينا، واجتبينا، واصطفينا. قيل: ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو: { { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } [الأنعام: 89]، وإذا أريد بالكتاب أكثر من واحد، فوحد، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر.

{ يعرفونه }: جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم، وجوز أن يكون الذين مجروراً على أنه صفة للظالمين، أو على أنه بدل من الظالمين، أو على أنه بدل من { الذين أوتوا الكتاب } في الآية التي قبلها، ومرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، ومنصوباً على إضمار، أعني: وعلى هذه الأعاريب يكون قوله: { يعرفونه }، جملة في موضع الحال، إما من المفعول الأول في آتيناهم، أو من الثاني الذي هو الكتاب، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما. والظاهر هو الإعراب الأول، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله: { إنك إذاً لمن الظالمين }. والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وروي عن ابن عباس، واختاره الزجاج، ورجحه التبريزي، وبدأ به الزمخشري فقال: يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص. قال الزمخشري وغيره: واللفظ للزمخشري، وجاز الإضمار، وإن لم يسبق له ذكر، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوم بغير إعلام. انتهى. وأقول: ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر: بل هذا من باب الالتفات، لأنه قال تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِّ وجهك } ثم قال: { ولئن أتيت الذين } إلى آخر الآية، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب، أقبل على الناس فقال: { الذين آتيناهم الكتاب } واخترناهم لتحمل العلم والوحي، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه، ولا يشكون في معرفته، ولا في صدق أخباره، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة، لما في كتابهم من ذكره ونعته، والنص عليه يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر، وأنه من باب الالتفات، وتبينت حكمة الالتفات. ويؤيد كون الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما روي أن عمر سأل عبد الله بن سلام، رضي الله عنهما، وقال: إن الله قد أنزل على نبيه: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته، كما أعرف ابني، ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشدّ من معرفتي بابني. فقال عمر: وكيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقاً، وقد نعته الله في كتابنا، ولا أدري ما يصنع النساء. فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت، وقد روي هذا الأثر مختصراً بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها، وفيه: فقبل عمر رأسه. وإذا كان الضمير للرسول، فقيل: المراد معرفة الوجه وتميزه، لا معرفة حقيقة النسب. وقيل: المعنى يعرفون صدقه ونبوّته. وقيل: الضمير عائد على الحق الذي هو التحوّل إلى الكعبة، قاله ابن عباس وقتادة أيضاً، وابن جريج والربيع. وقيل: عائد على القرآن. وقيل: على العلم. وقيل: على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء، لأنه قال: { الذين آتيناهم الكتاب }، فإن تعلقت المعرفة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون حصولها بالرؤية والوصف، أو بالقرآن، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن، وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته، أو بالقبلة، أو التحويل، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق.

{ كما يعرفون أبناءهم }، الكاف: في موضع نصب، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفاناً مثل عرفانهم. أبناءهم: أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف، كان التقدير: يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم. وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى، ومعرفة متعلقها المحسوس. وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور، فيكونون قد خصوا بذلك، لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوب الآباء. ويحتمل أن يراد بالأبناء: الأولاد، فيكون ذلك من باب التغليب. وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس، لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه، بخلاف الأبناء، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه.

{ وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق }: أي من الذين آتيناهم الكتاب، وهم المصرّون على الكفر والعناد، من علماء اليهود النصارى، على أحسن التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى، الذين قيل فيهم: { { ومنهم أمّيون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ } [البقرة: 78]، للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به، ولوصف الأمّيين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ. والحق المكتوم هنا هو نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة ومجاهد، أو التوجه إلى الكعبة، أو أن الكعبة هي القبلة، أو أعم من ذلك، فيندرج فيه كل حق.

{ وهم يعلمون }: جملة حالية، أي عالمين بأنه حق. ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم. وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة.

{ الحق من ربك }: قرأ الجمهور: برفع الحق على أنه مبتدأ، والخبر هو من ربك، فيكون المجرور في موضع رفع. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق من ربك، والضمير عائد على الحق المكتوم، أي ما كتموه هو الحق من ربك، ويكون المجرور في موضع الحال، أو خبراً بعد خبر. وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه. والألف واللام في الحق للعهد، وهو الحق الذي عليه الرسول، أو الحق الذي كتموه، أو للجنس على معنى: أن الحق هو من الله، لا من غيره، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله، كالذي عليه الرسول، وما لم تثبت حقيقته، فليس من الله، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب. وقرأ علي بن أبي طالب: الحق بالنصب، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم، فيكون التقدير: يكتمون الحق من ربك، قاله الزمخشري؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون، قاله ابن عطية، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل، كقوله:

لا أرى المـوت يسبـق المـوت شـيء

أي يسبقه شيء. وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره: الزم الحق من ربك، ويدل عليه الخطاب بعده: { فلا تكونن من الممترين }.

والمراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة. ودل الممترين على وجودهم، ونهى أن يكون منهم، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك: لا تكن ظالماً، أبلغ من قولك: لا تظلم، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك: لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة، أبلغ من النهي عن تلك الصفة، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم، ويستلزم عموماً، وبين ما يدل على عموم فقط، فلذلك كان أبلغ، ولذلك كثر النهي عن الكون. قال تعالى: { { فلا تكوننّ من الجاهلين } [الأنعام: 35] { { ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } [يونس: 95] { { فلا تك في مرية منه } [هود: 17]. والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي. والمعنى: لا تظلم في كل أكوانك، أي في كل فرد فرد من أكوانك، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم، فتصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان، بخلاف لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان. وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة. والمعنى: فلا تكونن من الذين يشكون في الحق، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك.

{ ولكل وجهة هو موليها }، لما ذكر القبلة التي أمر المسلمون بالتوجه إليها، وهي الكعبة، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها، وأن كلاً من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها، أعلم أن ذلك هو بفعله، وأنه هو المقدر ذلك، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته. ففي ذلك تنبيه على شكر الله، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك. وقرأ الجمهور: ولكل: منوناً، وجهة: مرفوعاً، هو موليها: بكسر اللام اسم فاعل. وقرأ ابن عامر: هو مولاها، بفتح اللام اسم مفعول وهي، قراءة ابن عباس. وقرأ قوم شاذاً: ولكل وجهة، بخفض اللام من كل من غير تنوين، وجهة: بالخفض منوناً على الإضافة، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة، وذلك المضاف إليه كل المحذوف اختلف في تقديره. فقيل: المعنى: ولكل طائفة من أهل الأديان. وقيل: المعنى: ولكل أهل صقع من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق، إلى جهة الكعبة، وراءها وقدّامها، ويمينها وشمالها، ليست جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها. وقيل: المعنى: ولكل نبي قبلة، قاله ابن عباس. وقيل: المعنى: ولكل ملك ورسول صاحب شريعة جهة قبلة، فقبلة المقربين العرش، وقبلة الروحانيين الكرسي، وقبلة الكروبيين البيت المعمور، وقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس، وقبلتك الكعبة، وقد اندرج في هذا الذي ذكرناه أن المراد بوجهه: قبلة، وهو قول ابن عباس، وهي قراءة أبيّ، قرأ: ولكل قبلة. وقرأ عبد الله: ولكل جعلنا قبلة. وقال الحسن: وجهة: طريقة، كما قال: { { لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [المائدة: 48]، أي لكل نبي طريقة. وقال قتادة: وجهة: أي صلاة يصلونها، وهو من قوله: هو موليها عائد على كل على لفظه، لا على معناه، أي هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى، أي هو موليها وجهه أو نفسه، قاله ابن عباس وعطاء والربيع، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ: هو مولاها. وقيل: هو عائد على الله تعالى، قاله الأخفش والزجاج، أي الله موليها إياه، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها. فمعنى هو موليها على هذا التقدير: شارعها ومكلفهم بها. والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة. وأما قراءة من قرأ: ولكل وجهة على الإضافة، فقال محمد بن جرير: هي خطأ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر، أحد القراء السبعة، وقد وجهت هذه القراءة. قال الزمخشري: المعنى: ولكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدمّ المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه. انتهى كلامه، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام. لا يجوز أن يقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه. وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة. كان قوياً، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدماً، ولا يمكن أن يكون العامل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا:

سـراقــة للـقــرآن يـدرســه

وليس نظير ما مثل به من قوله: لزيد ضربت، أي زيداً ضربت، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد، ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل وجهة يفسره قوله موليها، كتقديرنا زيداً أنا ضاربه، أي اضرب زيداً أنا ضاربه، فتكون المسألة من باب الاشتغال، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر. تقول: زيداً مررت به، أي لابست زيداً، ولا يجوز: بزيد مررت به، فيكون التقدير: مررت بزيد مررت به، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر، بل إذا أردت الاشتغال نصبته، هكذا جرى كلام العرب. قال تعالى: { { والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً } [الإنسان: 31]. وقال الشاعر:

أثعلبة الفوارس أم رباحا عدلت به طهية والخشابا

وأما تمثيله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي. فإن قلت: لم لا تتوجه هذه القراءة على أن لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ، وهو الهاء، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف، وأنث على معنى الطوائف، وقد تقدم ذكرهم، ويكون التقدير: وكل وجهة الله مولّي الطوائف أصحاب القبلات؟ فالجواب: أنه منع مع هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله، إذا تقدّم. أما ما يتعدى إلى اثنين، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم، ولا إذا تأخر. وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة. ومولّ هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين، فلذلك لا يجوز هذا التقدير. وقال ابن عطية، في توجيه هذه القراءة: أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله: لكل وجهة على الأمر في قوله: فاستبقوا الخيرات، للاهتمام بالوجهة، كما تقدم المفعول. انتهى كلام ابن عطية، وهو توجيه لا بأس به.

{ فاستبقوا الخيرات }: هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح. وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة، أو قبلة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها. قال قتادة: الاستباق في أمر الكعبة رغماً لليهود بالمخالفة. وقال ابن زيد: معناه: سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات، وهي الجهات المسامتة للكعبة، وإن اختلفت. وذكرنا أن استبق بمعنى: تسابق، فهو يدل على الاشتراك. { { إنا ذهبنا نستبق } [يوسف: 17]، أي نتسابق، كما تقول. تضاربوا. واستبق لا يتعدى، لأن تسابق لا يتعدى، وذلك أن الفعل المتعدي، إذا بنيت من لفظ، معناه: تفاعل للاشتراك، صار لازماً، تقول: ضربت زيداً، ثم تقول: تضاربنا، فلذلك قيل: إن إلى هنا محذوفة، التقدير: فاستبقوا إلى الخيرات. قال الراعي:

ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل سواكم فإني مهتد غير مائل

يريد ومن يمل إلى سواكم { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً }: هذه جملة تتضمن وعظاً وتحذيراً وإظهاراً لقدرته، ومعنى: { يأت بكم الله جميعاً }: أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب، فأنتم لا تعجزونه، وافقتم أم خالفتم، ولذلك قال ابن عباس: يعني يوم القيامة. وقيل: المعنى: أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام، قاله الزمخشري. { إن الله على كل شيء قدير } تقدم شرح هذه الجملة، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء، أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات، وهذا منها. وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها، فكان المعنى: إتيان الله بكم جميعاً لقدرته على ذلك.

{ ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام }: لما ذكر تعالى أن لكل وجهة يتولاها، أمر نبيه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام من أي مكان خرج، لأن قوله: { فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك } ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة. فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفراً في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام، ثم عطف عليه: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }، ليبين مساواتهم له في ذلك، أي في حالة السفر، والأولى في حالة الإقامة. وقرأ عبد الله بن عمير: ومن حيث بالفتح، فتح تخفيفاً. وقد تقدم القول في حيث في قوله: { حيث شئتما }.

{ وإنه للحق من ربك }: هذا إخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق، أي الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل. وفي الأول قال: { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم }، حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا في تحويل القبلة، فردّ عليهم بأشياء منها: أن علماءهم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله: { وما الله بغافل عما تعملون } في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة، وذلك مهو محض التعبد. فالجهات كلها بالنسبة إلى البارىء تعالى مستوية، فكونه خص باستقبال هذه زماناً، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض. فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم، بل هو المطلع عليها، المجازي بالثواب من امتثل أمره، وبالعقاب من خالفه. وجاء في قوله: { الحق من ربك } في المكانين، وفي قوله: { وما الله } في المكانين، فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله، ذكر الرب المقتضي للنعم، لننظر منها إلى المنعم، ونستدل بها عليه، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد، ذكر لفظ الله المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب.

{ ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }: ظاهر هذه الجملة أنها كررت توكيداً لما قبلها في الآية التي تليها فقط، لا أن ذلك توكيد للآية الأولى، لأنا قد بينا أن الأولى في الإقامة، والثانية في السفر، وأما الثالثة فهي في السفر، فهي تأكيد للثانية. وحكمة هذا التأكيد تثبيت هذا الحكم، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس، لأن النسخ هو من مظان الفتنة والشبهة وتزيين الشيطان للطعن في تبديل قبلة بقبلة، إذ كان ذلك صعباً عليهم، فأكد بذلك أمر النسخ وثبت. وكان التأكيد على ما قررناه بتكرير هذه الجمل مرتين، لأن ذلك هو الأكثر المعهود في لسان العرب، وهو أن تعاد الجملة مرة واحدة. وقال المهدوي: كررت هذه الأوامر، لأنه لا يحفظ القرآن كل أحد، فكان يوجد عند بعض الناس ما ليس عند بعض لو لم يكرر. وهذا المعنى في التكرير يروى عن جعفر الصادق، ولهذا المعنى رفع التكرير في القصص. وقيل: لما كانت هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا، كررت للتأكيد والتقرير وإزالة الشبهة، وقد ذكر العلماء في هذه الآيات مخصصات تخرجها بذلك عن التأكيد. فقيل: الأولى من قوله: { فول وجهك }، نسخ للقبلة الأولى، والثانية لاستواء الحكم في جميع الأمكنة، والثالثة للدّوام في جميع الأزمان. وقيل: الأولى في المسجد الحرام، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد. وقيل: الخروج الأول إلى مكان ترى فيه الكعبة، والثاني إلى مكان لا ترى فيه، فسوى بين الحالتين. وقيل: الخروج الأول متصل بذكر السبب، وهو: { وإنه للحق من ربك }، والثاني متصل بانتفاء الحجة، وهو: { لئلا يكون للناس عليكم حجة }. وقيل: الأول لجميع الأحوال، والثاني لجميع الأمكنة، والثالث لجميع الأزمنة. وقيل: الأول أن يكون الإنسان في المسجد الحرام، والثاني: أن يكون خارجاً عنه وهو في البلد، والثالث أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض، فسوى بين هذه الأحوال، لئلا يتوهم أن للأقرب حرمة لا تثبت للأبعد. وقيل: التخصيص حصل في كل واحد من الثلاثة بأمر، فالأول بين فيه أن أهل الكتاب يعلمون أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة، حتى أنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، والثاني فيه شهادة الله بأن ذلك حق، والثالث بين فيه أنه فعل ذلك { لئلا يكون للناس عليكم حجة }، فقطع بذلك قول المعاندين. وقيل: الأول مقرون بإكرامه تعالى إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها، وهي قبلة إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، بقوله: { ولكل وجهة هو موليها }، أي لكل صاحب دعوة قبلة يتوجه إليها، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها الحق، والثالث مقرون بقطع الله حجة من خاصمه من اليهود. وقيل: ربما خطر في بال جاهل أنه تعالى فعل ذلك لرضا نبيه لقوله: { فلنولينك قبلة ترضاها }، فأزال هذا الوهم بقوله: { وإنه للحق من ربك }، أي ما حولناك لمجرد الرضا، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق، فليست كقبلة اليهود التي يتبعونها بمجرد الهوى، ثم أعاد ثالثاً، والمراد: دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة. وقيل: كرر { وحيث ما كنتم }، فحث بإحداهما على التوجه إلى القبلة بالقلب والبدن، في أي مكان كان الإنسان، نائياً كان عنها، أو دانياً منها، وذلك في حال التمكن والاختيار، وحث بالأخرى على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة في حالة المسابقة، وفي النافلة في حالة السفر، وعلى الراحلة في السفر.

{ لئلا يكون }: هذه لام كي، وأن بعدها لا النافية، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم: أن لا تفعل أفعل. وكتبت في المصحف: لا ما بعدها ياء، بعدها لام ألف، فجعلوا صورة للهمزة الياء، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء. وقرأ الجمهور بالتحقيق: وهذه أن واجبة الإظهار هنا، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية، لأن في ذلك قلقاً في اللفظ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع، فإذا أثبتوها، فهو الأصل، وهو الأقل في كلامهم، وإذا حذفوها، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.

{ للناس عليكم حجة }: أي احتجاج. والناس: قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم. وقيل: اليهود، وحجتهم قولهم: يخالفنا محمد في قبلتنا، وقد كان يتبعها، أو لم ينصرف عن بيت المقدس، مع علمه بأنه حق إلا برأيه، ويزعم أنه أمر به، أو ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم. وقيل: مشركو العرب، وحجتهم قولهم: قد رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة. وقيل: الناس عام، والمعنى: أن الله وعدهم بأنه لا يقوم لأحد عليهم حجة إلا حجة باطلة، وهي قولهم: يوافق اليهود مع قوله: إني حنيف أتبع ملة إبراهيم، أو لا يقين لكم ولا تثبتون على دين، أو قالوا: ما لك تركت بيت المقدس؟ إن كانت ضلالة فقد دنت بها، وإن كانت هدى فقد نقلت عنه، أو قولهم: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه، أو قولهم في التوراة: إنه يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم، فحوله الله، لئلا يقولوا: نجده في التوراة يتحول فما تحول، فيكون لهم ذلك حجة، فأذهب الله حجتهم بذلك. واللام في لئلا لام الجر، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر، أي لانتفاء الحجة عليكم. وتتعلق هذه اللام، قيل: بمحذوف، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة في ذلك لئلا يكون. وقيل: تتعلق بولوا، والقراءة بالياء، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين، فسهل التذكير جداً، وخبر كان قوله: للناس، وعليكم: في موضع نصب على الحال، وهو في الأصل صفة للحجة، فلما تقدم عليها انتصب على الحال، والعامل فيها محذوف، ولا جائز أن يتعلق بحجة، لأنه في معنى الاحتجاج، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل لا يتقدم على عامله. وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة، هكذا نقلوا، ويحتمل أن يكون عليكم الخبر، وللناس متعلق بلفظ يكون، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور.

{ إلا الذين ظلموا منهم }، قرأ الجمهور: إلا جعلوها أداة استثناء، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد: ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح. فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب الذين ظلموا مبتدأ، والجملة من قوله: { فلا تخشوهم واخشوني } في موضع الخبر، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل. المعنى: كأنه قيل: من يظلم من الناس، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم. واخشوني: فلا تخالفوا أمري، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال، أي لا تخشوا الذين ظلموا، لا تخشوهم، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصباً بفعل مقدر على الإغراء. ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين، جعلها حرف جر، وتأوّلها بمعنى مع. وأما على قراءة الجمهور، فالاستثناء متصل، قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكاناً حسناً، كان أولى من غيره. قال الزمخشري: ومعناه لئلا يكون حجة لأحد من اليهود، إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء. فإن قلت: أي حجة كانت تكون للمتصفين منهم لو لم يحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟ قلت: كانوا يقولون: ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم، كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ فإن قلت: كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت: لأنهم يسوقونه سياق الحجة، انتهى كلامه. وقال ابن عطية: المعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم: { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } استهزاء، وفي قولهم: تحير محمد في دينه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن، أو من يهودي، أو من منافق. وسماها تعالى: حجة، وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة. انتهى كلامه. وقد اتضح بهذا التقرير اتصال الاستثناء. وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة، يضعونها موضع الحجة، وليست بحجة. ومثار الخلاف هو: هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول، فهو استثناء منقطع، وإن كان الثاني، فهو استثناء متصل. قال الزجاج: أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله تعالى: { ولكل وجهة هو موليها لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا من ظلم }، باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك عليّ حجة إلا الظلم، أو إلا أن تظلمني، أي ما لك حجة ألبتة، ولكنك تظلمني. وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلاً من ضمير الخطاب في عليكم، ويكون التقدير: لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون، بتولية وجوهكم إلى القبلة. ونقل السجاوندي أن قطرباً قرأ: إلا على الذين ظلموا، وهو بدل أيضاً على إظهار حرف الجر، كقوله: { { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } [الأعراف: 75]، وهذا ضعيف، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، ولا يجوز ذلك إلا على مذهب الأخفش. وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن إلا في الآية بمعنى الواو، وجعل من ذلك قوله:

ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروانا

وقوله:

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

التقدير: عنده والذين ظلموا، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو، لا يقوم عليه دليل، والاستثناء سائغ فيما ادّعى فيه أن إلا بمعنى الواو، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو. وقال الزجاج: هذا خطأ عند حذاق النحويين، وأضعف من هذا زعم من زعم أن إلا بمعنى بعد، أي بعد الذين ظلموا، وجعل من ذلك { { إلا ما قد سلف } [النساء: 22، 23]، أي بعد ما قد سلف، { { إلا الموتة الأولى } [الدخان: 56]، أي بعد الموتة الأولى، ولولا أن بعض المفسرين ذكر هذين القولين، ما ذكرتهما لضعفهما. { فلا تخشوهم واخشوني }: هذا فيه تحقير لشأنهم، وأمر باطراحهم، ومراعاة لأمره تعالى. وضمير المفعول في فلا تخشوهم يحتمل أن يعود على الناس، أي فلا تخشوا الناس، وأن يعود على الذين ظلموا، أي فلا تخشوا الظالمين. ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل، فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر. وأمر بخشيته هو في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام. وقيل: المعنى فلا تخشوهم في المباينة، واخشوني في المخالفة، ومعناه قريب من الأول. وقد ذكرنا شرح هاتين الجملتين في ذكر قراءة ابن عباس بقريب من هذا. وقال السدي: معناه لا تخشوا أن أردّكم في دينكم واخشوني، وهذا الذي قاله لا يساعده قوله: فلا تخشوهم. قال بعضهم: ذكر الخشية هنا ولم يذكر الخوف، لأن الخشية حذر من أمر قد وقع، والخوف حذر من أمر لم يقع. والذي تدل عليه اللغة والاستعمال أن الخشية والخوف مترادفان، وقال تعالى: { { فلا تخافوهم وخافون } [آل عمران: 175]، كما قال هنا: { فلا تخشوهم واخشوني }.

{ ولأتمّ نعمتي عليكم }: الظاهر أنه معطوف على قوله: { لئلا يكون }، وكان المعنى: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم، ولإتمام النعمة، فيكون التعريف معللاً بهاتين العلتين، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل، إذ هو من متعلق العلة الأولى. وقيل: هو معطوف على علة محذوفة، وكلاهما معلولهما الخشية السابقة، كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتمّ نعمتي عليكم. وقيل: تتعلق اللام بفعل مؤخر، التقدير: ولأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، ومن زعم أن الواو زائدة، فقوله ضعيف. وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة، أو بما أعدّه لهم من ثواب الطاعة، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم، أو بإدخالهم الجنة، أو بالموت على الإسلام، أو النعمة سنة الإسلام، والقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والستر، والعافية، والغنى عن الناس؛ أو بشرائع الملة الحنيفية، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال، لا مصدر التعيين، وكل فيها نعمة. { ولعلكم تهتدون }: تقدم القول في لعل بالنسبة إلى مجيئها من الله تعالى في قوله: { { والذين من قبلكم لعلكم تتقون } [البقرة: 21]، في أول البقرة، وهو أول مواقعها فيه. والمعنى: لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم على استقبال الكعبة، أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم، والظاهر رجاء الهداية مطلقاً.

{ كما أرسلنا فيكم }: الكاف هنا للتشبيه، وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف. واختلف في تقديره، فقيل التقدير: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام إرسال الرسول فيكم. ومتعلق الإتمامين مختلف، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا. أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله: { { ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك } [البقرة: 128]، والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله: { { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [البقرة: 129]، وقيل: التقدير: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً، كتحقق إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً، كتحقق إرسالنا وثبوته. وقيل: متعلق بقوله: { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً }، أي جعلاً مثل ما أرسلنا، وهو قول أبي مسلم، وهذا بعيد جدًّا، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من نعمتي، أي: { ولأتمّ نعمتي عليكم } مشبهة إرسالنا فيكم رسولاً، أي مشبهة نعمة الإرسال، فيكون على حذف مضاف. وقيل: الكاف منقطعة من الكلام قبلها، ومتعلقة بالكلام بعدها، والتقدير: قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسول، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. انتهى. فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف، أي اذكروني ذكراً مثل ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فائته بكرمك، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم، والمعنى: أنكم كنتم على حالة لا تقرأون كتاباً، ولا تعرفون رسولاً، ومحمد صلى الله عليه وسلم رجل منكم، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه فقال: "كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً، فاذكروني بالشكر، أذكركم برحمتي" ، ويؤكده: { { لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [آل عمران: 164]. ويحتمل على هذا الوجه، بل يظهر، وهو إذا علقت بما بعدها أن، لا تكون الكاف للتشبيه بل للتعليل، وهو معنى مقول فيها إنها ترد له وحمل على ذلك قوله تعالى: { واذكروه كما هداكم }، وقول الشاعر:

لا تشتــم النــاس كمـا لا تشتـم

أي: واذكروه لهدايته إياكم، ولا تشتم الناس لكونك لا تشتم، أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك. وما: في كما، مصدرية، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، ورسولاً بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولاً، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله، ومع الكلام الذي بعده، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل. وكذلك جعل ما كافة، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر، لولايتها الجمل الإسمية، نحو قول الشاعر:

لعمرك إنني وأبا حميد كما النشوان والرجل الحليم

وقول من قال إن: كما أرسلنا، متعلق بما بعده، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب، قال: لأن الأمر إذا كان له جواب، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه، قال: لو قلت كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني، لأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر، أو بمضمر، وكذلك: فاذكروني أذكركم، هو أمر له جواب، فلا تتعلق كما به، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، وهو قولك: إذا أتاك فلان فائته ترضه، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر، والأول أفصح وأشهر. وتقول: كما أحسنت إليك فأكرمني، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني، إذ لا جواب له. انتهى كلامه. ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها، وهو: { ولأتم نعمتي عليكم }، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو. وما ذهب إليه مكي من إبطال أن، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء، لأن الكاف، إما أن تكون للتشبيه، أو للتعليل. فإن كانت للتشبيه، فتكون نعتاً لمصدر محذوف، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل، مثال ذلك: أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك، فيجوز تقديم هذا المصدر. وإن كانت للتعليل، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل، مثال ذلك: أكرمني لإكرامي لك أكرمك، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته، كما وفاذكروني جوابين للأمر، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب، ولأن ذلك التشبيه فاسد، لأن المصدر لا يشبه الجواب، وكذلك التعليل. أما المصدر التشبيهي، فهو وصف في الفعل المأمور به، فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف. وعلى هذا لا يشبه الجواب، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل. وأما التعليل، فكذلك أيضاً ليس مترتباً على وقوع الفعل، بل الفعل مترتب على وجود العلة، فهو نقيض الجواب، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل، والعلة مترتب عليها وجود الفعل، فلا تشبيه بينهما، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله: فاذكروني، هو الفاء، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيها قبلها، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً، وتبعد زيادة الفاء. فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام.

وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام، بإتمام النعمة السابقة، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها، وجعل ذلك إتماماً للنعمة في الحالين، لأن استقبال الكعبة ثانياً أمر لا يزاد عليه شيء ينسخه، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة. كما أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ لا نبي بعده، وهو خاتم النبيين. فشبه إتمام تلك النعمة، التي هي كمال نعمة استقبال القبل، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل. وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب، وشرف واستمالة لقلوبهم، إذ كان الرسول منهم، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بيتهم الذي يحجونه قديماً وحديثاً ويعظمونه.

{ رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة }: فيه اعتناء بالعرب، إذ كان الإرسال فيهم، والرسول منهم، وإن كانت رسالته عامة. وكذلك جاء { { هو الذي بعث في الأمّيين } [الجمعة: 2]، ويشعر هذا الامتنان بإنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك أفرده فقال: { { رسولاً منهم } [البقرة: 129]، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم، وهي كونه منهم، وتالياً عليهم آيات الله، ومزكياً لهم، ومعلماً لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون. وقدم كونه منهم، أي يعرفونه شخصاً ونسباً ومولداً ومنشأً، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله. وأتى ثانياً بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه، الباقية إلى الأبد. وأضاف الآيات إليه تعالى، لأنها كلامه سبحانه وتعالى، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة، وتنبع العلوم. وأتى ثالثاً بصفة التزكية، وهي التطهير من أنجاس الضلال، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق. وأتى رابعاً بصفة تعليم الكتاب والحكمة، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان، باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى، وما اقتضته الحكمة الإلهية. وأتى بهذه الصفات فعلاً مضارعاً ليدل بذلك على التجدد، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائماً. وأما الصفة الأولى، وهي كونه منهم، فليست بمتجددة، بل هو وصف ثابت له. وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله: { { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [البقرة: 129] بأشبع من هذا، فلينظر هناك.

وختم هذا بقوله: { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }، وهو ذكر عام بعد خاص، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة. وفسر بعضهم ذلك بأن الذي لم يكونوا يعلمون: قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب. وفي هذه الآية قدم التزكية على التعليم، وفي دعاء إبراهيم قدم التعليم على التزكية، وذلك لاختلاف المراد بالتزكية. فالظاهر أن المراد هنا هو التطهير من الكفر، كما شرحناه، وهناك هو الشهادة بأنهم خيار أزكياء، وذلك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل بها. { فاذكروني أذكركم }: أي اذكروني بالطاعة، أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله ابن جبير، أو بالدعاء والتسبيح ونحوه، قاله الربيع والسدي. وقال عكرمة: "يقول الله يا ابن آدم أذكرني بعد صلاة الصبح ساعة، وبعد صلاة العصر ساعة، وأنا أكفيك ما بينهما، أو اثنوا عليّ، أثن عليكم" . وقد جاء هذا المعنى في الحديث الطويل في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر . وفيه: ما يقول عبادي؟ قالوا: يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك" . وقيل: هو على حذف مضاف، أي اذكروا نعمتي أذكركم بالزيادة. وقد جاء التصريح بالنعمة في قوله: { اذكروا نعمتي }. وقيل: الذكر باللسان وبالقلب عند الأوامر والنواهي. وقيل: اذكروني بتوحيدي وتصديق نبيـي. وقيل: بما فرضت عليكم، أو ندبتكم إليه، أذكركم، أي أجازكم على ذلك. وقد تقدم معنى هذا، وهو قول سعيد، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. وقيل: فاذكروني في الرخاء بالطاعة والدعاء، أذكركم في البلاء بالعطية والنعماء، قاله ابن بحر. وقيل: اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال، أو اذكروني بالتوبة أذكركم بالعفو عن الحوبة، أو اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة، أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات، أو اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي، أو اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص، أو اذكروني بالموافقات أذكركم بالكرامات، أو اذكروني بترك كل حظ أذكركم بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم، أو اذكروني بقطع العلائق أذكركم بنعت الحقائق، أو اذكروني لمن لقيتموه أذكركم لكل من خاطبته، قال: ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، أو اذكروني أذكركم، أحبوني أحبكم، أو اذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل، أو اذكروني بقلوبكم أذكركم بتحقيق مطلوبكم، أو اذكروني على الباب من حيث الخدمة أذكركم على بساط القرب بإكمال النعمة، أو اذكروني بتصفية السر أذكركم بتوفية البر، أو اذكروني في حال سروركم أذكركم في قبوركم، أو اذكروني وأنتم بوصف السلامة أذكركم يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة، أو اذكروني بالرهبة أذكركم بالرغبة. وقال القشيري: فاذكروني أذكركم، الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور، ثم استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منه إلا أثر يذكر، فيقال: قد كان فلان. قال تعالى: { { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } [الذاريات: 16]. وإنما الدنيا حديث حسن فكن حديثاً حسناً لمن وعى، قال الشاعر:

إنما الدنيا محاسنها طيب ما يبقى من الخبر

وفي المنتخب ما ملخصه: الذكر يكون باللسان، وهو: الحمد، والتسبيح، والتمجيد، وقراءة كتب الله؛ وبالقلب، وهو: الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف، والأحكام، والأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والفكر في الصفات الإلهية، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس، فإذا نظر العبد إليها، انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال، وبالجوارح، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها، خالية عن الأعمال المنهي عنها. وعلى هذا الوجه، سمى الله الصلاة ذكراً بقوله: { { فاسعوا إلى ذكر الله } [الجمعة: 9]. انتهى. وقالوا: الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك. ولما كثر إطلاقه عليه، صار هو السابق إلى الفهم. فالذكر باللسان سريّ وجهريّ، والذكر بالقلب دائم ومتحلل، وبهما أيضاً دائم ومتحلل. فباللسان ذكر عامّة المؤمنين، وهو أدنى مراتب الذكر، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذكراً» خرج ابن ماجة "أن أعرابياً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله" ، وخرج أيضاً قال: "يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذ هو ذكرني وتحركت بي شفتاه" . وسئل أبو عثمان، فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة، فقال: احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم ذكراً، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور: قال الشاعر:

سواك ببالي لا يخطر إذا ما نسيتك من أذكر

وبهما: هو ذكر خواص المؤمنين، وهذه ثلاث المقامات، أدومها أفضلها. انتهى.

وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة، وتركنا أشياء مما ذكره الناس، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران، لا يدل اللفظ على شيء منها، وينبغي أن يحمل ذلك من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد. وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني. والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفرداً من غير إسناد، بل لا بدّ من إسناد، وأولاها الأذكار المروية في الآثار، والمشار إليها في القرآن. وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل. وتلك الأذكار تتضمن: الثناء على الله، والحمد له، والمدح لجلاله، والتماس الخير من عنده. فعبر عن ذلك بالذكر، وأمر العبد به، فكأنه قيل: عظموا الله، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك. وسمى الثواب المترتب على ذلك ذكراً، فقال: فاذكروني أذكركم على سبيل المقابلة، لما كان نتيجة الذكر وناشئاً عنه سماه ذكراً. { واشكروا لي } تقدّم تفسير الشكر، وعداه هنا باللام، وكذلك { { أن اشكر لي ولوالديك } [لقمان: 14]، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر، وتارة تتعدّى بنفسها، كما قال عمرو بن لجاء التميمي:

هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل

وفي إثبات هذا النوع من الفعل، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر، بحق الوضع فيهما خلاف. وقالوا: إذا قلت: شكرت لزيد، فالتقدير: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه. ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. وقال ابن عطية: واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه: نعمتي وأيادي، وكذلك إذا قلت: شكرتك، فالمعنى: شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر: ذكر اليد وذكر مسديها معاً، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، انتهى كلامه، ويحتاج، كونه يتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف جر، فتقول: شكرت لزيد صنيعه، لسماع من العرب، وحينئذ يصار إليه.

{ ولا تكفرون }: وهو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان، لكان: ولا تكفروا، أو ولا تكفروا بي. وهذه النون نون الوقاية، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفاً لتناسب الفواصل. قيل: المعنى واشكروا لي بالطاعة، ولا تكفرون بالمعصية. وقيل: معنى الشكر هنا: الاعتراف بحق المنعم، والثناء عليه، ولذلك قابله بقوله: { ولا تكفرون }. وهنا ثلاث جمل: جملة الأمر بالذكر، وجملة الأمر بالشكر، وجملة النهي عن الكفران. فبدىء أولاً بجملة الذكر، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى، وذكر له جواب مترتب عليه. وثنى بجملة الشكر، لأنه ثناء على شيء خاص، وقد اندرج تحت الأول، فهو بمنزلة التوكيد، فلم يحتج إلى جواب. وختم بجملة النهي، لأنه لما أمر بالشكر، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات. ونهى عن الكفران، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان، وذلك ممكن لأنه من باب التروك. وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي، بدىء بالأمر. وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله: { { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به } [البقرة: 41]، فأغنى عن إعادته هنا..

{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة }، قيل: سبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا: سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا. هزهم بهذا النداء المتضمن هذا الوصف الشريف، وهو الإيمان مجعولاً فعلاً ماضياً في صلة الذين، دالاً على الثبوت والالتباس به في تقدّم زمانهم، ليكونوا أدعى لقبول ما يرد عليهم من الأمر والتكليف الشاق، لأن الصبر والصلاة هما ركنا الإسلام. فالصبر قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة، وهو أمر قلبي؛ والصلاة ثمرته، وهي من أشق التكاليف لتكررها. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنهم سمعوا من طعن الكفار على التوجه إلى الكعبة والصلاة إليها أذى كثيراً، فأمروا عند ذلك بالاستعانة بالصبر والصلاة. وقد قيد بعضهم الصبر هنا: بأنه الصبر على أذى الكفار بالطعن على التحول والصلاة إلى الكعبة، وبعضهم بالصبر على أداء الفرائض. وروي عن ابن عباس وبعضهم قال: هو كناية عن الصوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، وبعضهم قال: هو كناية عن الجهاد لقوله: بعد: { ولا تقولوا لمن يقتل }، وهو قول أبي مسلم. والأولى ما قدمناه من عموم اللفظ، فتندرج هذه الأفراد تحته. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له. وقد تقدم الكلام على شرح هذه الجملة من قوله: { استعينوا بالصبر والصلاة }.

{ إن الله مع الصابرين }: أي بالمعونة والتأييد، كما قال: اهجهم، وروح القدس معك. وقال تعالى: { لا تحزن إن الله معنا }، ومن كان الله معه فهو الغالب، ولما كانت الصلاة ناشئة عن الصبر، وصار الصبر أصلاً لجميع التكاليف الشاقة قال: { إن الله مع الصابرين }، فاندرج المصلون تحت الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل. وأما قوله هناك: { { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [البقرة: 45]، فأعاد الضمير عليها على ظاهر الكلام، لأنها أشرف وأشق نتائج الصبر..

{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون }، قيل: سبب نزول هذه الآية أنه قيل لمن قتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزلت. نهوا عن قولهم عن الشهداء أموات، وأخبر تعالى أنهم أحياء، وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم أموات، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء، مندرجاً تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. لكن يرجح الوجه الأول، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله: { ولكن لا تشعرون }، لأن معناه: أن حياتهم لا شعور لكم بها، والظاهر أن المراد حقيقة الموت والحياة. وقيل: ذلك مجاز. واختلفوا فقيل: أموات بانقطاع الذكر، بل أحياء ببقائه وثبوت الأجر. وكانت العرب تسمي من لا يبقى له ذكر بعد موته كالولد، وغيره ميتاً. وقيل: أموات بالضلال، بل أحياء بالطاعة والهدى، كما قال: { { أو من كان ميتاً فأحييناه } [الأنعام: 122]. وإذا حمل الموت والحياة على الحقيقة فاختلفوا، فقال قوم: معناه النهي عن قول الجاهلية أنهم لا يبعثون، فالمعنى: أنهم سيحيون بالبعث، فيثابون ثواب الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله. وأكثر أهل العلم على أنهم أحياء في الوقت. ومعنى هذه الحياة: بقاء أرواحهم دون أجسادهم، إذ أجسادهم نشاهد فسادها وفناءها. واستدلوا على بقاء الأرواح بعذاب القبر، وبقوله: { ولكن لا تشعرون } معناه: لا تشعرون بكيفية حياتهم. ولو كان المعنى بإحياء أنهم سيحيون يوم القيامة، أو أنهم على هدى ونور، لم يظهر لنفي الشعور معنى، إذ هو خطاب للمؤمنين، وهم قد علموا بالبعث، وبأنهم كانوا على هدى. فلا يقال فيه: ولكن لا تشعرون، لأنهم قد شعروا به وبقوله: { { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } [آل عمران: 170].

وقد ذهب بعض الناس إلى أن الشهيد حي الجسد والروح، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور به من الحي غيره. فنحن نراهم على صفة الأموات وهم أحياء، كما قال تعالى: { { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } [النمل: 88]، وكما ترى النائم على هيئته، وهو يرى في منامه ما ينعم به أو يتألم به. ونقل السهيلي في كتاب (دلائل النبوّة) من تأليفه، حكاية عن بعض الصحابة، أنه حفر في مكان، فانفتحت طاقة، فإذا شخص جالس على سرير وبين يديه مصحف يقرأ فيه وأمامه روضة خضراء، وذلك بأحد، وعلم أنه من الشهداء، لأنه رأى في صفحة وجهه جرحاً. وإذا ثبت أن الشهداء أحياء، إما أرواحهم، وإما أجسادهم وأرواحهم، فاختلف في مستقرها. فقيل: قبورهم يرزقون فيها. وقيل: في قباب بيض في الجنة يرزقون فيها، قاله أبو بشار السلمي. وقيل: في طير بيض تأكل من ثمار الجنة ومساكنهم سدرة المنتهى، قاله قتادة. وقيل: يأكلون من ثمر الجنة ويجدون ريحها، وليسوا فيها، قاله مجاهد. وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء" . وروي: في روضة خضراء يجري عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: "أن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة، وأنهم في قناديل من ذهب، وأنهم في قبة خضراء" . وإذا صح ذلك، فهي أحوال لطوائف من الشهداء، أو في أوقات مختلفة. والجمهور: على أنهم في الجنة، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لأم حارثة: "إنهم في الفردوس" . ومذهب أهل السنة: أن الأرواح لا تفنى، وأنها باقية بعد خروجها من البدن. فأرواح أهل السعادة منعمة إلى يوم الدين، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدّين.

والفرق بين الشهيد وغيره من المؤمنين إنما هو الرّزق، فضلهم الله بذلك، وقال تعالى في حق الكفار: { { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [غافر: 46]. وقال الحسن: الشهداء أحياء عند الله، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على آل فرعون غدوة وعشياً، فيصل إليهم الوجع. وقالوا: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم، وإن كانت في حجم الذرة. ولم تتعرض الآية الكريمة لرزق أرواح الشهداء ولا لمستقرّها، وإنما جرى ذكر ذلك على سبيل الاستطراد، اتباعاً للمفسرين، حيث تكلموا في ذلك في هذه الآية، وإلا فمظنة الكلام على ذلك في قوله: { { بل أحياء عند ربهم يرزقون } [آل عمران: 169]، حيث ذكر العندية والرزق، وظاهر قوله: { لمن يقتل في سبيل الله }، العموم. وقيل: نزلت في شهداء بدر، كانوا أربعة عشر، ولا يخصص هذا العموم بهذا السبب، بل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي هذه الآية تسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم من المؤمنين بذكر أنهم أحياء، فهم مغبوطون لا محزونون عليهم.

{ ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات }: تقدم أن الابتلاء: هو الاختبار، ليعلم ما يكون من حال المختبر، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى، وإنما معناه هنا: الإجابة، والضمير الذي للخطاب. قيل: هو للصحابة فقط، قاله عطاء. خاطبهم بذلك بعد الهجرة، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطميناً لقلوبهم، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع، كان قد استعد له، بخلاف الأشياء التي تفاجىء، فإنها أصعب على النفس، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة، وإخباراً بمغيب يقع وفق ما أخبر، وتمييزاً لمن أسلم مريداً وجه الله ممن نافق، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية، وحملاً لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه، مع ما ابتلوا به. وقيل: هؤلاء أهل مكة، خاطبهم بذلك إعلاماً أنه أجاب دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم، وليبقوا يتوقعون المصيبة، فتضاعف عليهم المصيبات. وقيل: هو خطاب للأمة، ويكون آخر الزمان، قال كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة، يكون هذا الإخبار تحذيراً وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها، ويكون إخباراً بالمغيبات. وقيل: الخطاب لا يراد به معين، بل هو عام، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص، فكأنه قيل: ولنصيبن بكذا، فيكون في ذلك تحذير، وأنه للصحابة وغيرهم.

وهذه الآية لها تعلق بقوله: { واستعينوا بالصبر والصلاة } الآية، وقبلها: { واشكروا لي }، والشكر يوجب زيادة النعم والإبتلاء بما ذكر، ينافيه ظاهراً، وتوجيهه: أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة، ولذلك يوجب الشكر. والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق، فأمر فيها بالصبر، وأنه أنعم عليه أولاً فشكر، وابتلي ثانياً فصبر، لينال درجتي الشكر والصبر، فيكمل إيمانه. كما روي عنه عليه السلام: "الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" . بشيء: متعلق بقوله: { ولنبلونكم }، والباء فيه للإلصاق، وأفرده ليدل على التقليل، إذ لو جمعه فقال: بأشياء، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده. وقد قرأ الضحاك: بأشياء، فلا يكون حذف فيما بعدها، فيكون من في موضع الصفة، بخلاف قراءة الجمهور: بشيء، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص. والمعنى في هذه القراءة: ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا. والخوف: خوف العدو، قاله ابن عباس، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب. وقال الشافعي: هو خوف الله تعالى. والجوع: القحط، قاله ابن عباس، عبر بالمسبب عن السبب. وقيل: الجوع: الفقر، عبر بالمسبب عن السبب أيضاً. وقال الشافعي: هو صيام شهر رمضان. ونقص من الأموال: بالخسران والهلاك. وقال الشافعي: بالصدقات. والأنفس: بالقتل والموت. وقال الشافعي: بالأمراض، وقيل: بالشيب. والثمرات: يعني الجوائح في الثمرات، وقلة النبات، وانقطاع البركات. وقال القفال: قد يكون نقصها بالجدوب، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: بظهور العدوّ عليهم. وقال الشافعي: والثمرات: موت الأولاد، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه. وفي حديث أبي موسى، أن الله يقول للملائكة إذا مات ولد العبد: أقبضتم ثمرة فؤاده؟.

وقال بعض العلماء: المراد في هذه الآية: مؤن الجهاد وكلفه، فالخوف من العدوّ، والجوع به وبالأسفار إليه، ونقص الأموال بالنفقات فيه، والأنفس بالقتل، والثمرات بإصابة العدوّ لها، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد. انتهى كلامه. وعطف ونقص على قوله: بشيء، أي: ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص، ويحسن العطف تنكيرها، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره: وشيء من نقص. ومن الأموال: متعلق بنقص، لأنه مصدر نقص، وهو يتعدّى إلى واحد، وقد حذف، أي: ونقص شيء. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص. وتكون من لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف، أي ونقص شيء من الأموال، وتكون من إذ ذاك للتبعيض. وقالوا: يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات. وأتى بالجملة الخبرية مقسماً عليها، تأكيداً لوقوع الابتلاء، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه. وأن هذه المحن من الله تعالى، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين. وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي: فأخبر أولاً بالابتلاء بشيء من الخوف، وهو توقع ما يرد من المكروه. ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط، أو الفقر، أو الحاجة إلى الأكل، إلا على تفسير الشافعي، وهو صوم رمضان. ولا ترقي بين نقص وشيء، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء، بل الترقي في العطف بعد ونقص، فبدأ أولاً بالأموال، ثم ترقى إلى الأنفس. وأما والثمرات، فجاء كالتخصيص بعد التعميم، لأنها تندرج تحت الأموال، فلا ترقي فيها.

{ وبشر الصابرين }: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من تتأتى منه البشارة، أي على الجهاد بالنصر، أو على الطاعة بالجزاء، أو على المصائب بالثواب، أقوال: والأحسن عدم التقييد، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً، فهو مندرج في الصابرين. قالوا: والصبر من خواص الإنسان، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة، وهو بدني. وهو: إما فعلي، كتعاطي الأعمال الشاقة، وإما احتمال، كالصبر على الضرب الشديد، ونفسي، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع. فإن كان من شهوة الفرج والبطن، سمي عفة. وإن كان من احتمال مكروه، اختلفت أسامية باختلاف المكروه. ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر، ويضاده الجزع. وإن كان في الغنى، سمي ضبط النفس، ويضاده البطر. وإن كان في حرب، سمي شجاعة، ويضاده الجبن. وإن كان في نائبة مضجرة، سمي سعة صدر، ويضاده الضجر. وإن كان في إخفاء كلام، سمي كتماناً، ويضاده الإعلان. وإن كان في فضول الدنيا، سمي زهداً، ويضاده الحرص. وإن كان على يسير من المال، سمي قناعة، ويضاده الشره. وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبراً، فقال: { { والصابرين في البأساء } [البقرة: 177]، أي المصيبة والضرّاء، أي الفقر وحين البأس، أي المحاربة. قال القفال: ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه، ولا أن لا يكره ذلك، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع، وإن ظهر دمع عين، أو تغير لون، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابراً ثم صبر، لم يعد ذلك إلا سلواناً.

{ الذين إذا أصابتهم مصيبة }: يجوز في الذين أن يكون منصوباً على النعت للصابرين، وهو ظاهر الإعراب، أو منصوباً على المدح، فيكون مقطوعاً، أو مرفوعاً على إضمارهم على وجهين: إما على القطع، وإما على الاستئناف، كأنه جواب لسؤال مقدر، أي: من الصابرون؟ قيل: هم الذين الذين إذا. وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ، وأولئك عليهم خبره، وهو محتمل. مصيبة: اسم فاعل من أصابت، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه، وصارت كناية عن الداهية، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل. وأصابتهم مصيبة: من التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً، ومنه: { { أزفت الآزفة } [النجم: 57]، { إذا وقعت الواقعة } [الواقعة: 1]. والمصيبة: كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل، صغرت أو كبرت، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى: مصيبة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه. والمعنى في إذا هنا: على التكرار والعموم. وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا، أتدل على التكرار، أم وضعت للمرّة الواحدة؟ قولان للنحويين.

{ قالوا إنا لله }: قالوا: جواب إذا، والشرط وجوابه صلة للذين. وإنا: أصله إننا، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل، فحذفت نون من إن. وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية، لأنها ظرف، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت، فقالوا: إن زيد لقائم، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال، فلذلك عملت، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير. ولله: معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور.

{ وإنا إليه راجعون }: إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصبر له. وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال: أحدها: أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا. الثاني: أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه، { وإنا إليه راجعون } يعني: للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسيء. الثالث: راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب. الرابع: أن معناه إقرار بالمملكة في قوله: { إنا لله }، وإقرار بالهلكة في قوله: { وإنا إليه راجعون }.

وفي المنتخب ما ملخصه: إن إسناد الإصابة إلى المصيبة، لا إلى الله تعالى، ليعم ما كان من الله، وما كان من غيره. فما كان من الله فهو داخل تحت قوله: { إنا لله }، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضاً للأمور إليه، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه، ولا يتعدى، كأنه في الأول { إنا لله }، يدبر كيف يشاء، وفي الثاني: { إنا إليه }، ينصف لنا كيف يشاء. وقيل: { إنا لله }، دليل على الرضا بما نزل به في الحال، { وإنا إليه راجعون }، دليل على الرضا في الحال بكل ما سينزل به بعد ذلك. واشتملت الآية على فرض ونفل. فالفرض: التسليم لأمر الله، والرضا بقدره، والصبر على أداء فرائضه. والنفل: إظهاراً لقول { إنا لله وإنا إليه راجعون }، وفي إظهاره فوائد منها: غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله.

{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة }، أولئك مبتدأ، وصلوات: ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور، أي: أولئك مستقرة عليهم صلوات، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ، والجار والمجرور في موضع خبره. والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول، لأنه يكون إخباراً عن المبتدأ بالجملة. والصلاة: من الله المغفرة، قاله ابن عباس؛ أو الثناء، قاله ابن كيسان، أو الغفران والثناء الحسن، قاله الزجاج. والرحمة: قيل هي الصلوات، كررت تأكيداً لما اختلف اللفظ، كقوله { { رأفة ورحمة } [الحديد: 27]. وقيل: الرحمة: كشف الكربة وقضاء الحاجة. وقال عمر: نعم العدلان ونعم العلاوة، وتلا: { الذين إذا أصابتهم } الآية، يعني بالعدلين: الصلوات والرحمة، وبالعلاوة: الاهتداء. وفي قوله: أولئك، اسم الإشارة الموضوع للبعد دلالة على بعد هذه الرتبة، كما جاء: { { أولئك على هدى من ربهم } [لقمان: 5]. والكناية عن حصول الغفران والثناء بقوله: { عليهم صلوات } بحرف على، إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك، قد غشيتهم وتجللتهم، وهو أبلغ من قوله لهم. وجمع صلوات، ليدل على أن ذلك ليس مطلق صلاة، بل صلاة بعد صلاة، ونكرت لأنه لا يراد العموم. ووصفها بكونها من ربهم، ليدل بمن على ابتدائها من الله، أي تنشأ تلك الصلوات وتبتدىء من الله تعالى. ويحتمل أن تكون من تبعيضية، فيكون ثم حذف مضاف، أي صلوات من صلوات ربهم. وأتى بلفظ الرب، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به. وإن كان أريد بالرحمة الصلوات، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة، لأنها قد تقيدت. وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات، فيقدر: ورحمة منه، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم. ويحتمل أن يكون: { من ربهم }، متعلقاً بقوله: { عليهم }، فلا يكون صفة، بل يكون معمولاً للرافع لصلوات، وترتب على مقام الصبر. ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل.

وقد جاء في السنة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه" . وفي حديث آخر: "من تذكر مصيبته، فأحدث استرجاعاً، وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب" . وحديث أم سلمة مشهور، حيث أخلفها الله عن أبي سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جبير: ما أعطيَ أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمة، ولو أعطيها أحد قبلها لأعطيها يعقوب. ألا ترى كيف قال حين فقد يوسف؟ { { يا أسفىٰ على يوسف } [يوسف: 84].

{ وأولئك هم المهتدون }: إخبار من الله عنهم بالهداية، ومن أخبر الله عنه بالهداية فلن يضل أبداً. وهذه جملة ثابتة تدل على الاعتناء بأمر المخبر عنه، إذ كل وصف له يبرز في جملة مستقلة. وبدىء بالجملة الأولى لأنها أهم في حصول الثواب المترتب على الوصف الذي قبله، وأخرت هذه لأنها تنزلت مما قبلها منزلة العلة، لأن ذلك القول المترتب عليه ذلك الجزاء الجزيل لا يصدر إلا عمن سبقت هدايته. وأكد بقوله: هم. وبالألف واللام، كأن الهداية انحصرت فيهم وباسم الفاعل، ليدل على الثبوت، لأن الهداية ليست من الأفعال المتجددة وقتاً بعد وقت فيخبر عنها بالفعل، بل هي وصف ثابت. وقيل: المهتدون في استحقاق الثواب وإجزال الأجر. وقيل: إلى تسهيل المصاب وتخفيف الحزن. وقيل: إلى الاسترجاع. وقيل: إلى الحق والصواب، وهذه التقييدات لا دلالة عليها في اللفظ، فالأولى الحمل على الهداية التي هي الإيمان، ونظير هاتين الجملتين قوله { { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } [البقرة: 5، لقمان: 5]. والكلام في إعراب: هم المهتدون، كالكلام على: المفلحون، وقد تقدم.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة مزيد التوكيد في الأمر بتولية وجهه من حيث خرج صلى الله عليه وسلم شطر المسجد، وبتوليتهم وجوههم شطره للاعتناء بأمر نسخ القبلة، حيث كان النسخ صعباً على النفوس، حيث ألفوا أمراً، وأمروا بتركه والانتقال إلى غيره، وخصوصاً عند من لا يرى النسخ. فلذلك كرر وأنه تعالى أمر بذلك وفعله لانتفاء حجج الناس، لأن ذلك، إذا كان بأمر منه تعالى، لم تبق لأحد حجة على ممتثل أمر الله، لأن أمر الله ثانياً، كأمره أولاً. وهو قد أمر أولاً باستقبال بيت المقدس، وأمر آخراً باستقبال الكعبة. فلا فرق بين الأمرين، ولا حجة لمن خالف. واستثنى من الناس من ظلم، لأنه لا تنقطع حججه، وإن كانت باطلة، ولا تشغيباته وتمويهاته، لأنه قام به وصف يمنعه من إدراك الحق والبلج به، ثم أمرهم تعالى بخشيته، ونهاهم عن خشية الناس، لأنهم إذا خشوا الله تعالى امتثلوا أوامره واجتنبوا مناهيه. وعطف على تلك العلة علة أخرى، وهي إتمام النعمة باستقبال الكعبة إذ في ذلك اتباع أبيكم إبراهيم، والرجوع إلى المألوف، ولتحصيل الهداية. وشبه هذا الإتمام بإتمام نعمة إرسال الرسول منهم فيهم، إذ هذه النعمة هي الأصل، وهي منبع النعم والهداية، ثم وصف المرسل إليهم بتلك الأوصاف الجليلة التي رزقوا منها الحظ الأكمل، وهي تلاوة الكتاب عليهم: { { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [العنكبوت: 51]؟ فكيف بمزيد التزكية والتعليم اللذين بهما تحصل الطهارة من الأرجاس والحياة السرمدية في الناس؟

أخو العلم حيّ خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم

وقال آخر:

محل العلم لا يأوي تراباً ولا يبلى على الزمن القديم

ثم أمرهم تعالى بالذكر لهذه النعم لئلا ينسوها، وبالشكر عليها لأن يزيدهم من النعم. ثم نهاهم عن كفرانها، لأن كفران النعم يقتضي زوالها واستحقاق العذاب الشديد عليه. ثم نادى من اتصف بالإيمان، وهو ثاني نداء للمؤمنين في هذه السورة، ليقبلوا على ما يأمرهم به. فأمرهم بالاستعانة بالصبر والصلاة، لأن الاستعانة بهما تحصل سعادة الدنيا والآخرة. ثم أخبر تعالى أنه مع من صبر ثم نهاهم عن أن يقولوا للشهداء إنهم أموات، وأخبر أنهم أحياء، فوجب تصديق ما أخبر به، وذكر أنا لا نشعر نحن بحياتهم. ثم أخبر تعالى أنه يبتليهم بما يظهر منهم فيه الصبر، وهو شيء من البلايا التي ذكرها تعالى. ثم أمر نبيه أن يبشر الصابرين على ما ابتلوا به المسلمين لقضاء الله اعتقاداً وقولاً صريحاً أنهم عبيد الله ومماليكه، وإليه مآبهم ومرجعهم، يتصرف فيهم كما أراد. ثم ختم ذلك بأن من اتصف بهذا الوصف، فعليه من الله الصلاة والرحمة، وهو المهتدي الذي ثبتت هدايته ورسخت.