خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
١٥٨
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ
١٥٩
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
١٦٠
إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
١٦١
خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ
١٦٢
وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
١٦٣
إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ
١٦٥
إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ
١٦٦
وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ
١٦٧
-البقرة

البحر المحيط

الصفا: ألفه منقلبة عن واو لقولهم: صفوان، ولاشتقاقه من الصفو، وهو الخالص. وقيل: هو اسم جنس بينه وبين مفرد تاءه التأنيث، ومفرده صفاة. وقيل: هو اسم مفرد يجمع على فعول وأفعال، قالوا: صفيّ وأصفاء. مثل: قفيّ وأقفاء. وتضم الصاد في فعول وتكسر، كعصي، وهو الحجر الأملس. وقيل: الحجر الذي لا يخالطه غيره من طين، أو تراب يتصل به، وهو الذي يدل عليه الاشتقاق. وقيل: هو الصخرة العظيمة. المروة: واحدة المرو، وهو اسم جنس، قال:

فترى المرو إذا ما هجرت عن يديها كالفراش المشفتر

وقالوا: مروان في جمع مروة، وهو القياس في جمع تصحيح مروة، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل: الحجارة الصلبة. وقيل: الصغار المرهفة الأطراف. وقيل: الحجارة السود. وقيل: البيض. وقيل: البيض الصلبة. والصفا والمروة في الآية: علمان لجبلين معروفين، والألف واللام لزمتا فيهما للغلبة، كهما في البيت: للكعبة، والنجم: للثريا، الشعائر: جمع شعيرة أو شعارة. قال الهروي: سمعت الأزهري يقول: هي العلائم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام بها. وقال الزجاج: كل ما كان من موقف ومشهد ومسعى ومذبح. وقد تقدّمت لنا هذه المادة، أعني مادة شعر، أي أدرك وعلم. وتقول العرب: بيتنا شعار: أي علامة، ومنه أشعار الهدى. الحج: القصد مرة بعد أخرى. قال الراجز:

لراهب يحج بيت المقدس في منقل وبرجد وبرنس

والاعتمار: الزيارة. وقيل: القصد، ثم صار الحج والعمرة علمين لقصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني: كالبيت والنجم في الأعيان. وقد تقدّمت هاتان المادّتان في يحاجوكم وفي يعمر. الجناح: الميل إلى المأثم، ثم أطلق على الإثم. يقال: جنح إلى كذا جنوحاً: مال، ومنه جنح الليل: ميله بظلمته، وجناح الطائر. تطوّع: تفعل من الطوع، وهو الانقياد. الليل: قيل هو اسم جنس، مثل: تمرة وتمر، والصحيح أنه مفرد، ولا يحفظ جمعاً لليل، وأخطأ من ظنّ أن الليالي جمع الليل، بل الليالي جمع ليلة، وهو جمع غريب، ونظيره: كيكه والكياكي، والكيكة: البيضة، كأنهم توهموا أنهما ليلاه وكيكاه، ويدل على هذا التوهم قولهم في تصغير ليلة: لييلية، وقد صرحوا بليلاه في الشعر، قال الشاعر:

فـي كـل يـوم وبكـل ليـلاة

على أنه يحتمل أن تكون هذه الألف إشباعاً نحو:

أعـوذ بـاللَّــه مــن العقــراب

وقال ابن فارس: بعض الطير يسمى ليلاً، ويقال: إنه ولد الحبارى. وأما النهار: فجمعه نهر وأنهرة، كقذل وأقذلة، وهما جمعان مقيسان فيه. وقيل: النهار مفرد لا يجمع لأنه بمنزلة المصدر، كقولك: الضياء يقع على القليل والكثير، وليس بصحيح. قال الشاعر:

لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر

ويقال: رجل نهر، إذا كان يعمل في النهار، وفيه معنى النسب. قالوا: والنهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعدي: "إنما هو بياض النهار وسواد الليل" ، يعني في قوله تعالى: { { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } [البقرة: 187]. وظاهر اللغة أنه من وقت الأسفار. وقال النضر بن شميل: ويغلب أول النهار طلوع الشمس. زاد النضر: ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وقال الزجاج، في (كتب الأنواء): أول النهار ذرور الشمس، واستدل بقول أمية بن أبي الصلت:

والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد

وقال عدي بن زيد:

وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا

والمصر: القطع. وأنشد الكسائي:

إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فودّعي

وقال ابن الأنباري: من طلوع الشمس إلى غروبها نهار، ومن الفجر إلى طلوعها مشترك بين الليل والنهار. وقد تقدمت مادّة نهر في قوله: { تجري من تحتها الأنهار } [البقرة: 25] الفلك: السفن، ويكون مفرداً وجمعاً. وزعموا أن حركاته في الجمع ليست حركاته في المفرد، وإذا استعمل مفرد أثنى، قالوا: فلكان. وقيل: إذا أريد به الجمع، فهو اسم جمع، والذي نذهب إليه أنه لفظ مشترك بين المفرد والجمع، وأن حركاته في الجمع حركاته في المفرد، ولا تقدر بغيرها. وإذا كان مفرداً فهو مذكر، كما قال: { { في الفلك المشحون } [الشعراء: 119] وقالوا: ويؤنث تأنيث المفرد، قال: { والفلك التي تجري }، ولا حجة في هذا، إذ يكون هنا استعمل جمعاً، فهو من تأنيث الجمع، والجمع يوصف بالتي، كما توصف به المؤنثة. وقيل: واحد الفُلك، فَلَك، كأُسُد وأَسَد، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء الذي تدور فيه النجوم، وفلكة المغزل، وفلكة الجارية: استدرار نهدها. بث: نشر وفرق وأظهر. قال الشاعر:

وفي الأرض مبثوثـاً شجـاع وعقـرب

ومضارعه: يبث، على القياس في كل ثلاثي مضعف متعد أنه يفعل إلاّ ما شذ. الدابة: اسم لكل حيوان، ورد قول من أخرج منه الطير بقول علقمة:

كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهنّ دبيب

ويقول الأعشى:

دبيب قطـا البطحاء في كـل منهـل

وفعله: دب يدب، وهذا قياسه لأنه لازم، وسمع فيه يدب بضم عين الكلمة، والهاء في الدابة للتأنيث، إما على معنى نفس دابة، وإما للمبالغة، لكثرة وقوع هذا الفعل، وتطلق على الذكر والأنثى. التصريف: مصدر صرف، ومعناه: راجع للصرف، وهو الرد. صرفت زيداً عن كذا: رددته. الرياح: جمع ريح، جمع تكسير، وياؤه واو لأنها من راح يروح، وقلبت ياء لكسرة ما قبلها، وحين زال موجب القلب، وهو الكسر، ظهرت الواو، وقالوا: أرواح، كجمع الروح. قال الشاعر:

أريت بها الأرواح كل عشية فلم يبق إلا ال نؤي منضد

قال ابن عطية: وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فاستعمل الأرياح في شعره، ولحن في ذلك. وقال أبو حاتم: إن الأرياح لا يجوز، فقال له عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، فقال له: صدقت ورجع. انتهى. وفي محفوظي قديماً أن الأرياح جاءت في شعر بعض فصحاء العرب الذين يستشهد بكلامهم، كأنهم بنوه على المفرد، وإن كانت علة القلب مفقودة في الجمع، كما قالوا: عيد وأعياد، وإنما ذلك من العود، لكنه لما لزم البدل جعله كالحرف الأصلي. السحاب: اسم جنس، المفرد سحابة، سمي بذلك لأنه ينسحب، كما يقال له: حبى، لأنه يحبو، قاله أبو علي. التسخير: هو التذليل وجعل الشيء داخلاً تحت الطوع. قال الراغب: التسخير: القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه. الحب: مصدر حب يحب، وقياس مضارعه يحب بالضم، لأنه من المضاعف المتعدي، وقياس المصدر الحب بفتح الحاء، ويقال: أحب، بمعنى: حب، وهو أكثر منه، ومحبوب أكثر من محب، ومحب أكثر من حاب، وقد جاء جمع الحب لاختلاف أنواعه، قال الشاعر:

ثلاثة أحباب فحب علاقة وحب تملاق وحب هو القتل

والحب: إناء يجعل فيه الماء. الجميع: فعيل من الجمع، وكأنه اسم جمع، فلذلك يتبع تارة بالمفرد: { نحن جميع منتصر } [القمر: 44]، وتارة بالجمع: { جميع لدينا محضرون } [يس: 32] وينتصب حالاً: جاء زيد وعمرو جميعاً، ويؤكد به بمعنى كلهم: جاء القوم جميعهم، أي كلهم، ولا يدل على الاجتماع في الزمان، إنما يدل على الشمول في نسبة الفعل. تبرأ: تفعل، من قولهم: برئت من الدين. براءة: وهو الخلوص والانفصال والبعد. تقطع: تفعل من القطع، وهو معروف. الأسباب: جمع سبب، وهو الوصلة إلى الموضع، والحاجة من باب، أو مودة، أو غير ذلك. قيل: وقد تطلق الأسباب على الحوادث، قال الشاعر:

ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم

وأصل السبب: الحبل، وقيل: الذي يصعد به، وقيل: الرابط الموصل. الكرّة: العودة إلى الحالة التي كان فيها، والفعل كر يكر كراً، قال الشاعر:

أكر على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها

الحسرة: شدة الندم، وهو تألم القلب بانحساره عن مأموله..

{ إن الصفا والمروة من شعائر الله }، سبب النزول: أن الأنصار كانوا يحجون لمناة، وكانت مناة خزفاً وحديداً، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا، فأنزلت. وخرّج هذا السبب في الصحيحين وغيرهما. وقد ذكر في التحرّج عن الطواف بينهما أقوال. مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله تعالى لما أثنى على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة المفنية للمال والبدن وكان أحد أركان الإسلام، ناسب ذكره بعد ذلك. والصفا والمروة، كما ذكرنا، قيل: علمان لهذين الجبلين، والأعلام لا يلحظ فيها تذكير اللفظ ولا تأنيثه. ألا ترى إلى قولهم: طلحة وهند؟ وقد نقلوا أن قوماً قالوا: ذكّر الصفا، لأن آدم وقف عليه، وأنثت المروة، لأن حوّاء وقفت عليها. وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يدعى أسافا، وعلى المروة صنم يدعى نائلة، فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث، وقدم المذكر. نقل القولين ابن عطية: ولولا أن ذلك دوّن في كتاب ما ذكرته. ولبعض الصوفية وبعض أهل البيت كلام منقول عنهم في الصفا والمروة، رغبنا عن ذكره. وليس الجبلان لذاتهما من شعائر الله، بل ذلك على حذف مضاف، أي إن طواف الصفا والمروة، ومعنى من شعائر الله: معالمه. وإذا قلنا: معنى من شعائر الله من مواضع عبادته، فلا يحتاج إلى حذف مضاف في الأول، بل يكون ذلك في الجر. ولما كان الطواف بينهما ليس عبادة مستقلة، إنما يكون عبادة إذا كان بعض حج أو عمرة. بين تعالى ذلك بقوله: { فمن حج البيت أو اعتمر }، ومن شرطية. { فلا جناح عليه أن يطوّف بهما }، قرأ الجمهور: أن يطوّف. وقرأ أنس وابن عباس وابن سيرين وشهر: أن لا، وكذلك هي في مصحف أبي وعبد الله، وخرج ذلك على زيادة لا، نحو: { { ما منعك أن لا تسجد } [الأعراف: 112] وقوله:

وما ألوم البيض أن لا تسخرا إذا رأين الشمط القفندرا

فتتحد معنى القراءتين، ولا يلزم ذلك، لأن رفع الجناح في فعل الشيء هو رفع في تركه، إذ هو تخيير بين الفعل والترك، نحو قوله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } [البقرة: 230] فعلى هذا تكون لا على بابها للنفي، وتكون قراءة الجمهور فيها رفع الجناح في فعل الطواف نصاً، وفي هذه رفع الجناح في الترك نصاً، وكلتا القراءتين تدل على التخيير بين الفعل والترك، فليس الطواف بهما واجباً، وهو مروي عن ابن عباس، وأنس، وابن الزبير، وعطاء، ومجاهد، وأحمد بن حنبل، فيما نقل عنه أبو طالب، وأنه لا شيء على من تركه، عمداً كان أو سهواً، ولا ينبغي أن يتركه. ومن ذهب إلى أنه ركن، كالشافعي وأحمد ومالك، في مشهور مذهبه، فهو واجب يجبر بالدم، كالثوري وأبي حنيفة، أو إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، أو ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين، كأبي حنيفة في بعض الرّوايات، يحتاج إلى نص جلي ينسخ هذا النص القرآني. وقول عائشة لعروة حين قال لها: أرأيت قول الله: { فلا جناح عليه أن يطوّف بهما }، فما نرى على أحد شيئاً؟ فقالت: يا عرية، كلا، لو كان كذلك لقال: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. كلام لا يخرج اللفظ عما دل عليه من رفع الإثم عمن طاف بهما، ولا يدل ذلك على وجوب الطواف، لأن مدلول اللفظ إباحة الفعل، وإذا كان مباحاً كنت مخيراً بين فعله وتركه. وظاهر هذا الطواف أن يكون بالصفا والمروة، فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما، لم يعد طائفاً. ودلت الآية على مطلق الطواف، لا على كيفية، ولا عدد. واتفق علماء الأمصار على أن الرّمل في السعي سنة. وروى عطاء، عن ابن عباس: من شاء سعى بمسيل مكة، ومن شاء لم يسع، وإنما يعني الرمل في بطن الوادي. وكان عمر يمشي بين الصفا والمروة وقال: إن مشيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وإن سعيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى. وسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ليرى المشركين قوته. فيحتمل أن يزول الحكم بزوال سببه، ويحتمل مشروعيته دائماً، وإن زال السبب، والركوب في السعي بينهما مكروه عند أبي حنيفة وأصحابه، ولا يجوز عند مالك الركوب في السعي، ولا في الطواف بالبيت، إلا من عذر، وعليه إذ ذاك دم. وإن طاف راكباً بغير عذر، أعاد إن كان بحضرة البيت، وإلا أهدى. وشكت أم سلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" . ولم يجىء في هذا الحديث أنه أمرها بدم. وفرق بعض أهل العلم فقال: إن طاف على ظهر بعير أجزاه، أو على ظهر إنسان لم يجزه. وكون الضمير مثنى في قوله: بهما، لا يدل على البداءة بالصفا، بل الظاهر أنه لو بدأ بالمروة في السعي أجزأه، ومشروعية السعي، على قول كافة العلماء، البداءة بالصفا. فإن بدأ بالمروة، فمذهب مالك، ومشهور مذهب أبي حنيفة، أنه يلغي ذلك الشوط، فإن لم يفعل، لم يجزه. وروي عن أبي حنيفة أيضاً: إن لم يلغه، فلا شيء عليه، نزله بمنزلة الترتيب في أعضاء الوضوء. وقرأ الجمهور: يطوف وأصله يتطوّف، وفي الماضي كان أصله تطوف، ثم أدغم التاء في الطاء، فاحتاج إلى اجتلاب همزة الوصل، لأن المدغم في الشيء لا بدّ من تسكينه، فصار أطوف، وجاء مضارعه يطوف، فانحذفت همزة الوصل لتحصين الحرف المدغم بحرف المضارعة. وقرأ أبو حمزة: أن يطوف بهما، من طاف يطوف، وهي قراءة ظاهرة. وقرأ ابن عباس وأبو السمال: يطاف بهما، وأصله: يطتوف، يفتعل، وماضيه: اطتوف افتعل، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، وأدغمت الطاء في التاء بعد قلب التاء طاء، كما قلبوا في اطلب، فهو مطلب، فصار: أطاف، وجاء مضارعه: يطاف، كما جاء يطلب: ومصدر اطوف: اطوّفا، ومصدر اطاف: اطيافاً، عادت الواو إلى أصلها، لأن موجب إعلالها قد زال، ثم قلبت ياء لكسرة ما قبلها، كما قالوا: اعتاد اعتياداً، وأن يطوف أصله، في أن يطوف، أي لا إثم عليه في الطواف بهما، فحذف الحرف مع أن، وحذفه قياس معها إذا لم يلبس، وفيه الخلاف السابق، أموضعها بعد الحذف جر أم نصب؟ وجوّز بعض من لا يحسن علم النحو أن يكون: أن يطوّف، في موضع رفع، على أن يكون خبراً أيضاً، قال التقدير: فلا جناح الطواف بهما، وأن يكون في موضع نصب على الحال، والتقدير: فلا جناح عليه في حال تطوّفه بهما، قال: والعامل في الحال العامل في الجر، وهي حال من الهاء في عليه. وهذان القولان ساقطان، ولولا تسطيرهما في بعض كتب التفسير لما ذكرتهما.

{ ومن تطوّع خيراً }: التطوّع: ما تترغب به من ذات نفسك مما لا يجب عليك. ألا ترى إلى قوله في حديث ضمام: هل عيّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، أي تتبرّع. هذا هو الظاهر، فيكون المراد التبرع بأي فعل طاعة كان، وهو قول الحسن؛ أو بالنفل على واجب الطواف، قاله مجاهد، أو بالعمرة، قاله ابن زيد؛ أو بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب عليه، أو بالسعي بين الصفا والمروة، وهذا قول من أسقط وجوب السعي، لما فهم الإباحة في التطوف بهما من قوله: { فلا جناح عليه أن يطوف بهما }، حمل هذا على الطواف بهما، كأنه قيل: ومن تبرع بالطواف بينهما، أو بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة، أقوال ستة. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: تطوّع فعلاً ماضياً هنا، وفي قوله: { فمن تطوّع خيراً فهو خير له } [البقرة: 184]، فيحتمل من أن يكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون شرطية. وقرأ حمزة، والكسائي: يطوّع مضارعاً مجزوماً بمن الشرطية، وافقهما زيد ورويس في الأول منهما، وانتصاب خيراً على المفعول بعد إسقاط حرف الجر، أي بخير، وهي قراءة ابن مسعود، قرأ: يتطوّع بخير. ويطوّع أصله: يتطوّع، كقراءة عبد الله، فأدغم. وأجازوا جعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف، أي ومن يتطوع تطوعاً خيراً.

{ فإن الله شاكر عليم }: هذه الجملة جواب الشرط. وإذا كانت من موصولة في احتمال أحد وجهي من في قراءة من قرأ تطوّع فعلاً ماضياً، فهي جملة في موضع خبر المبتدأ، لأن تطوّع إذ ذاك تكون صلة. وشكر الله العبد بأحد معنيين: إما بالثواب، وإما بالثناء. وعلمه هنا هو علمه بقدر الجزاء الذي للعبد على فعل الطاعة، أو بنيته وإخلاصه في العمل. وقد وقعت الصفتان هنا الموقع الحسن، لأن التطوّع بالخير يتضمن الفعل والقصد، فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل، وذكر العلم باعتبار القصد، وأخرت صفة العلم، وإن كانت متقدمة، على الشكر، كما أن النية مقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي.

{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى }: الآية نزلت في أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن عباس: أن معاذاً سأل اليهود عما في التوراة من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه إياه، فأنزل الله هذه الآية. والكاتمون هم أحبار اليهود وعلماء النصارى، وعليه أكثر المفسرين وأحبار اليهود كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وابن صوريا، وزيد بن التابوه. ما أنزلنا: فيه خروج من ظاهر إلى ضمير متكلم. والبينات: هي الحجج الدالة على نبوّته صلى الله عليه وسلم. والهدى: الأمر باتباعه، أو البينات والهدى واحد، والجمع بينهما توكيد، وهو ما أبان عن نبوّته وهدى إلى اتباعه. أو البينات: الرجم والحدود وسائر الأحكام، والهدى: أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته واتباعه. وتتعلق من بمحذوف، لأنه في موضع الحال أي كائناً من البينات والهدى.

{ من بعد ما بيناه للناس في الكتاب }: الضمير المنصوب في بيناه عائد على الموصول الذي هو ما أنزلنا، وضمير الصلة محذوف، أي ما أنزلناه. وقرأ الجمهور: بيناه مطابقة لقوله: أنزلنا. وقرأ طلحة بن مصرّف: بينه: جعله ضمير مفرد غائب، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب. والناس هنا: أهل الكتاب، والكتاب التوراة والإِنجيل، وقيل: الناس أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب: القرآن. والأولى والأظهر: عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب؛ وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه ونشره، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" ، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه. وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن. كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم. وقد امتنع أبو هريرة من تحديثه ببعض ما يخاف منه فقال: لو بثثته لقطع هذا البلعوم. وظاهر الآية استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل الله، وإن لم يسأل عنه، بل يجب التعليم والتبيين، وإن لم يسألوا، { { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [آل عمران: 187] وقال الإمام أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم القرطبي، فيما سمع منه أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ: الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ويدعو إليه في شوارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ويعظم الأجعال للباحثين عنه ويسني مراتب أهله صابراً في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظاً جزيلاً وعملاً جيداً وسعداً كريماً وأحياء للعلم، وإلا فقد درس وطمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام داثرة. انتهى كلامه.

{ أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }: هذه الجملة خبر إن. واستحقوا هذا الأمر الفظيع من لعنة الله ولعنة اللاعنين على هذا الذنب العظيم، وهو كتمان ما أنزل الله تعالى، وقد بينه وأوضحه للناس بحيث لا يقع فيه لبس، فعمدوا إلى هذا الواضح البين فكتموه، فاستحقوا بذلك هذا العقاب. وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد، تنبيهاً على ذلك الوصف القبيح، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى: { إن الذين يكتمون }. ولذلك أتى صلة الذين فعلاً مضارعاً ليدل أيضاً على التجدد، لأن بقاءهم على الكتمان هو تجدد كتمان. وجاء بالجملة المسند فيها الفعل إلى الله، لأنه هو المجازي على ما اجترحوه من الذنب. وجاءت الجملة الثانية، لأن لعنة اللاعنين مترتبة على لعنة الله للكاتمين. وأبرز اسم الجلالة بلفظ الله على سبيل الالتفات، إذ لو جرى على نسق الكلام السابق، لكان أولئك يلعنهم، لكن في إظهار هذا الاسم من الفخامة ما لا يكون في الضمير. واللاعنون: كل من يتأتى منهم اللعن، وهم الملائكة ومؤمنو الثقلين، قاله الربيع بن أنس؛ أو كل شيء من حيوان وجماد غير الثقلين، قاله ابن عباس والبرّاء بن عازب، إذا وضع في قبره وعذب فصاح، إذ يسمعه كل شيء إلا الثقلين؛ أو البهائم والحشرات، قاله مجاهد وعكرمة، وذلك لما يصيبهم من الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين، أو الطاردون لهم إلى النار حين يسوقونهم إليها، لأن اللعن هو الطرد؛ أو الملائكة؛ قاله قتادة؛ أو المتلاعنون، إذا لم يستحق أحد منهم اللعن انصرف إلى اليهود، قاله ابن مسعود؛ والأظهر القول الأول. ومن أطلق اللاعنون على ما لا يعقل أجراه مجرى ما يعقل، إذ صدرت منه اللعنة، وهي من فعل من يعقل، وذلك لجمعه بالواو والنون. وفي قوله: { ويلعنهم اللاعنون }، ضرب من البديع، وهو التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً.

{ إلا الذين تابوا }: هذا استثناء متصل، ومعنى تابوا عن الكفر إلى الإسلام، أو عن الكتمان إلى الإظهار. { وأصلحوا } ما أفسدوا من قلوبهم بمخالطة الكفر لها، أو ما أفسدوا من أحوالهم مع الله، أو أصلحوا قومهم بالإِرشاد إلى الإِسلام بعد الإضلال. { وبينوا }: أي الحق الذي كتموه، أو صدق توبتهم بكسر الخمر وإراقتها، أو ما في التوراة والإِنجيل من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، أو اعترفوا بتلبيسهم وزورهم، أو ما أحدثوا من توبتهم، ليمحوا سيئة الكفر عنهم ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين. { فأولئك }: إشارة إلى من جمع هذه الأوصاف من التوبة والإصلاح والتبيين. { أتوب عليهم }: أي أعطف عليهم، ومن تاب الله عليه لا تلحقه لعنة. { وانا التواب الرحيم }: تقدم الكلام في هاتين الصفتين، وختم بهما ترغيباً في التوبة وإشعاراً بأن هاتين الصفتين هما له، فمن رجع إليه عطف عليه ورحمه.

وذكروا في هذه الآية من الأحكام جملة، منها أن كتمان العلم حرام، يعنون علم الشريعة لقوله: { ما أنزلنا من البينات }، وبشرط أن يكون المعلم لا يخشى على نفسه، وأن يكون متعيناً لذلك. فإن لم يكن من أمور الشرائع، فلا تحرج في كتمها. روي عن عبد الله أنه قال: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حدث الناس بما يفهمون" . أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ قالوا: والمنصوص عليه من الشرائع والمستنبط منه في الحكم سواء، وإن خشي على نفسه فلا يحرج عليه، كما فعل أبو هريرة، وإن لم يتعين عليه فكذلك، ما لم يسأل فيتعين عليه، ومنها: تحريم الأجرة على تعليم العلم، وقد أجازه بعض العلماء. ومنها: أن الكافر لا يجوز تعليمه القرآن حتى يسلم، ولا تعليم الخصم حجة على خصمه ليقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلاً يتطرّف به إلى مكاره الرعية، ولا تعليم الرخص إذا علم أنها تجعل طريقاً إلى ارتكاب المحظورات وترك الواجبات. ومنها: وجوب قبول خبر الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب عليهم قبول قوله، لأن قوله من البينات والهدى يعم المنصوص والمستنبط وجواز لعن من مات كافراً، وقال بعض السلف: لا فائدة في لعن من مات أو جنّ من الكفار، وجمهور العلماء على جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين. وقال بعضهم بوجوبها، وأما الكافر المعين فجمهور العلماء على أنه لا يجوز لعنه. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً بأعيانهم. وقال ابن العربي: الصحيح عندي جواز لعنه. وذكر ابن العربي الاتفاق على أنه لا يجوز لعن العاصي والمتجاهر بالكبائر من المسلمين. وذكر بعض العلماء فيه خلافاً، وبعضهم تفصيلاً، فأجازه قبل إقامة الحدّ عليه. ومنها: أن التوبة المعتبرة شرعاً أن يظهر التائب خلاف ما كان عليه في الأول، فإن كان مرتداً، فبالرجوع إلى الإسلام وإظهار شرائعه، أو عاصياً، فبالرجوع إلى العمل الصالح ومجانبة أهل الفساد. وأما التوبة باللسان فقط، أو عن ذنب واحد، فليس ذلك بتوبة. وقد تقدم الكلام في التوبة مشبعاً.

{ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله }: لما ذكر حال من كتم العلم وحال من تاب، ذكر حال من مات مصراً على الكفر، وبالغ في اللعنة، بأن جعلها مستعلية عليه، وقد تجللته وغشيته، فهو تحتها، وهي عامة في كل من كان كذلك. وقال أبو مسلم: هي مختصة بالذين يكتمون ما أنزل الله في الآية قبل، وذلك أنه ذكر حال الكاتمين، ثم ذكر حال التائبين، ثم ذكر حال من مات من غير توبة منهم. ولأنه لما ذكر أن الكاتمين ملعونون في الدنيا حال الحياة، ذكر أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات. والجملة من قوله: { وهم كفار }، جملة حالية، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها، خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً، وهو الفراء، وتبعه الزمخشري، وبيان ذلك في علم النحو. والجملة من قوله: { عليهم لعنة الله } خبر إن، ولعنة الله مبتدأ، خبره عليهم. والجملة من قوله: { عليهم لعنة الله } خبر عن أولئك. والأحسن أن يكون لعنة فاعلاً بالمجرور قبله، لأنه قد اعتمد بكونه خبراً لذي خبر، فيرفع ما بعده على الفاعلية، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد، بخلاف الإعراب الأول، فإنك أخبرت عنه بجمل.

وقرأ الجمهور: { والملائكة والناس أجمعين }، بالجر عطفاً على اسم الله. وقرأ الحسن: والملائكة والناس أجمعون، بالرفع. وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر، وقدروه: أن لعنهم الله، أو: أن يلعنهم الله. وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لأن والفعل. والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل، لأنه لا يراد به العلاج. وكان المعنى: أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص، لا على سبيل الحدوث. ونظير ذلك: { ألا لعنة الله على الظالمين } [هود: 18]، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين، وقولهم له ذكاء الحكماء. ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل، بل صار ذلك على معنى قولهم: له وجه وجه القمر، وله شجاعة شجاعة الأسد، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع الأسد. ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر، أعني لعنة الله بأن والفعل، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع، لأنه لا طالب له. ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر؟ فقد تغير المصدر بتنوينه، ولذلك حمل سيبويه قولهم: هذا ضارب زيد غداً وعمراً، على إضمار فعل: أي ويضرب عمراً، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع. ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت: هذا ضارب زيداً وتنون؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون، فهي مسألة خلاف. البصريون يجيزون ذلك فيقولون: عجبت من ضرب زيد عمراً. والفراء يقول: لا يجوز ذلك، بل إذا نون المصدر لم يجىء بعده فاعل مرفوع. والصحيح مذهب الفراء، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم من السماع، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل. فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر، لأنا نقول: لا نسلم أنه مصدر ينحل لأن والفعل، فيكون عاملاً. سلمنا، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً. سلمنا، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه. وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه. أولاها: أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف، التقدير: وتلعنهم الملائكة، كما خرج سيبويه في: هذا ضارب زيد وعمراً: أنه على إضمار فعل: ويضرب عمراً. الثاني: أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف، أي لعنة الله ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو: { واسئل القرية } [يوسف: 82]. الثالث: أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم. وظاهر قوله: والناس أجمعين العموم، فقيل ذلك يكون في القيامة، إذ يلعن بعضهم بعضاً، ويلعنهم الله والملائكة والمؤمنون، فصار عاماً، وبه قال أبو العالية. وقيل: أراد بالناس من يعتد بلعنته، وهم المؤمنون خاصة، وبه قال ابن مسعود، وقتادة، والربيع، ومقاتل. وقيل: الكافرون يلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون، فيقولون: في الدنيا لعن الله الكافر، فيتأتى العموم بهذا الاعتبار، بدأ تعالى بنفسه، وناهيك بذلك طرداً وإبعاداً. { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله } [المائدة: 60] ، فلعنة الله هي التي تجر لعنة الملائكة والناس. ألا ترى إلى قول بعض الصحابة: وما لي لا ألعن من لعنه الله على لسان رسوله؟ وكما روي عن أحمد، أن ابنه سأله: هل يلعن؟ وذكر شخصاً معيناً. فقال لابنه: يا بني، هل رأيتني ألعن شيئاً قط؟ ثم قال: وما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟ قال فقلت: يا أبت، وأين لعنة الله؟ قال: قال تعالى: { ألا لعنة الله على الظالمين } [هود: 18]. ثم ثنى بالملائكة، لما في النفوس من عظم شأنهم وعلو منزلتهم وطهارتهم. ثم ثلث بالناس، لأنهم من جنسهم، فهو شاق عليهم، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه أشق، بخلاف صدور ذلك من الأعلى.

{ خالدين فيها }: أي في اللعنة، وهو الظاهر، إذ لم يتقدم ما يعود عليها في اللفظ إلا اللعنة. وقيل: يعود على النار، أضمرت لدلالة المعنى عليها، ولكثرة ما جاء في القرآن من قوله: خالدين فيها، وهو عائد على النار، ولدلالة اللعنة على النار، لأن كل من لعنه الله فهو في النار. { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون }: سبق الكلام على مثل هاتين الجملتين تلو قوله { { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف } [البقرة: 86]، الآية، فأغنى عن إعادته هنا. إلا أن الجملة من قوله: { لا يخفف } هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين، أي غير مخفف عنهم العذاب. فهي حال متداخلة، أي حال من حال، لأن خالدين حال من الضمير في عليهم. ومن أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد، أجاز أن تكون الجملة من قوله: { لا يخفف }، حال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون: لا يخفف جملة استئنافية، فلا موضع لها من الإعراب. وفي آخر الجملة الثانية، هناك: ولا ينصرون، نفى عنهم النصر، وهنا: ولا هم ينظرون، نفي الأنظار، وهو تأخير العذاب.

{ وإلهكم إله واحد } الآية. روي عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش، قالوا: يا محمد، صف وانسب لنا ربك، فنزلت سورة الإخلاص وهذه الآية. وروي عنه أيضاً أنه كان في الكعبة، وقيل حولها، ثلاثمائة وستون صنماً يعبدونها من دون الله، فنزلت. وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة، فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى. ويحتمل أن يكون خطاباً لمن قال: صف لنا ربك وانسبه، أو خطاباً لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار. وإله: خبر عن إلهكم، وواحد: صفته، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله، ومنع الاقتصار عليه، فهو شبيه بالحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً. والواحد المراد به نفي النظير، أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل شيء، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء، أو المتوحد في استحقاق العبادة. أقوال أربعة أظهرها الأول. تقول: فلان واحد في عصره، أي لا نظير له ولا شبيه، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد.

{ لا إله إلا هو }: توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره. وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك، لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية. وتقدم الكلام على إعراب الإسم بعد لا في قوله: { لا ريب فيه } [البقرة: 2]، والخبر محذوف، وهو بدل من اسم لا على الموضع، ولا يجوز أن يكون خبراً. كما جاز ذلك في قولك: زيد ما العالم إلا هو، لأن لا لا تعمل في المعارف، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبني الإسم معها هو مرفوع بها، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعاً بها، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها، وهو مذهب سيبويه، فلا يجوز أيضاً، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة، والخبر معرفة، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي. وتقرير البدل فيه أيضاً مشكل على قولهم: إنه بدل من إله، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد. والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من إله ولا من رجل في قولك: لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، فالتقدير: لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب، فليس بدلاً على موضع اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا، أي من الضمير العائد على اسم لا. قال بعضهم: وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل، قال: ولا يجوز فيه النصب هاهنا، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك، والنصب على أن الاعتماد على الأول. انتهى كلامه. ولا فرق في المعنى بين: ما قام القوم إلا زيد، وإلا زيداً، من حيث أن زيداً مستثنى من جهة المعنى. إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب، فأعربوا ما كان تابعاً لما قبله بدلاً، وأعربوا هذا منصوباً على الاستثناء، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية، والنصب جائز، ولا نعلم في ذلك خلافاً.

وقال في المنتخب: لما قال تعالى: { وإلهكم إله واحد }، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فلا جرم. أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال: لا إله إلا هو. فقوله: لا إله يقتضي النفي العام الشامل، فإذا قال بعده: إلا الله، أفاد التوحيد التامّ المطلق المحقق. ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف، كما يقوله النحويون، والتقدير: لا إله لنا، أو في الوجود، إلا الله، لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق، لأنه إن كان المحذوف لنا، كان توحيداً لإلهنا لا توحيداً للإله المطلق، فحينئذ لا يبقى بين قوله: { وإلهكم إله واحد }، وبين قوله: { لا إله إلا هو } فرق، فيكون ذلك تكراراً محضاً، وأنه غير جائز. وأما إن كان المحذوف في الوجود، كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني. أما لو لم يضمر، كان نفياً لماهية الإله الثاني، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى، وإنما قدم النفي على الإثبات، لغرض إثبات التوحيد، ونفي الشركاء والأنداد. انتهى الكلام.

قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ريّ الظمآن): هذا كلام من لا يعرف لسان العرب. فإن لا إله في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد. وأما قوله: إذا لم يضمر كان نفياً للماهية، قلنا: نفي الماهية هو نفي الوجود، لأن نفي الماهية لا يتصوّر عندنا إلا مع الوجود، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود، والدليل يأبى ذلك. انتهى كلامه، وما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله: لا إله، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده ومسند إليه. فالمسند إليه هو إله، والمسند هو الكون المطلق، ولذلك ساغ حذفه، كما ساغ بعد قولهم: لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره: لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، ووجب حذفه عند التميميين. وإذا كان الخبر كوناً مطلقاً، كان معلوماً، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو: لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا أن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه.

{ الرحمن الرحيم }: ذكر هاتين الصفتين منبهاً بهما على استحقاق العبادة له، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشراً سوياً عاقلاً وتربية في دار الدنيا موعوداً الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته. وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب، ذكرت آية رحمة، وإذا ذكرت آية رحمة، ذكرت آية عذاب. وتقدم شرح هاتين الصفتين، فأغنى عن إعادته. ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله: وإلهكم، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار: إله واحد خبر، ولا إله إلا هو خبر ثان، والرحمن الرحيم خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك: ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد. قالوا: ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم، { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }" .

{ إن في خلق السماوات والأرض }: روي أنه لما نزل { وإلهكم } الآية، قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزل: { إن في خلق }. ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالاً بالأثر على المؤثر، وبالصنعة على الصانع، وعرفهم طريق النظر، وفيم ينظرون. فبدأ أولاً بذكر العالم العلوي فقال: { إن في خلق السماوات }. وخلقها: إيجادها واختراعها، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم: خلق فلان حسن: أي خلقته وشكله. وقيل: خلق هنا زائدة والتقدير: إن في السماوات والأرض، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء. والآيات في المشاهد من السماوات والأرض، لا في الإرادة، وهذا ضعيف، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان، ولأن الخلق ليس هو الإرادة، بل الخلق ناشىء عن الإرادة. قالوا: وجمع السموات لأنها أجناس، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب. وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك، وآياتها: ارتفاعها من غير عمد تحتها، ولا علائق من فوقها، ثم ما فيها من النيرين، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة، شارقة وغاربة، نيرة وممحوّة، وعظم أجرامها وارتفاعها، حتى قال أرباب الهيئة: إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرّة، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرّات، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها، وإنها سبعة أفلاك، يجمعها الفلك المحيط. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد" . وصح أيضاً.

" أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة" . وآية الأرض: بسطها، لا دعامة من تحتها ولا علائق من فوقها، وأنهارها ومياهها وجبالها ورواسيها وشجرها وسهلها ووعرها ومعادنها، واختصاص كل موضع منها بما هيـىء له، ومنافع نباتها ومضارها. وذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة، وأن البحار محيطة بها، والهواء محيط بالماء، والنار محيطة بالهواء، والأفلاك وراء ذلك. وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف (بالدقائق) خلافاً عن الناس المتقدمين: هل الأرض واقفة أم متحركة؟ وفي كل قول من هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها، أو لتحركها. وكذلك تكلموا على جرم السموات ولونها وعظمها وأبراجها، وذكر مذاهب للمنجمين والمانوية، وتخاليط كثيرة. والذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم، وليس في الشرع شيء من ذلك. والمعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا الله تعالى، ومن أطلعه الله على شيء منها بالوحي { أحاط بكل شيء علماً } [الطلاق: 12]، { { وأحصى كل شيء عدداً } [الجن: 28].

{ واختلاف الليل والنهار }: اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة، والطول والقصر، أو تساويهما، قاله ابن كيسان. وقدم الليل على النهار لسبقه في الخلق، قال تعالى: { { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } [يس: 37] وقال قوم: إن النور سابق على الظلمة، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم. فعلى القول الأول: تكون ليلة اليوم هي التي قبله، وهو قول الجمهور؛ وعلى القول الثاني: ليلة اليوم هي الليلة التي تليه، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار، اختلافهم في مسألة: لو حلف لا يكلم زيداً نهاراً.

{ والفلك التي تجري في البحر }: أول من عمل الفلك نوح، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وقال له جبريل عليه السلام: ضعها على جؤجؤ الطائر. فالسفينة طائر مقلوب، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها، قاله أبو بكر بن العربي. وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء، ووقوفها فوقه مع ثقلها وتبليغها المقاصد. ولو رميت في البحر حصاة لغرقت. ووصفها بهذه الصفة من الجريان، لأنها آيتها العظمى، وجعل الصفة موصولاً، صلته تجري: فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها. وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر. والألف واللام فيه للجنس، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري. { بما ينفع الناس }: يحتمل أن تكون ما موصولة، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد، فتكون الباء للحال. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما، فتكون الباء للسبب. واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر، لأنه ذكرها في معرض الامتنان..

{ وما أنزل الله من السماء من ماء }: أي من جهة السماء. من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما، أي والذي أنزله الله من السماء. ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله: { من السماء }، بدل اشتمال، فهو على نية تكرار العامل، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى، أو للتبعيض، وتتعلق بأنزل. ولا يقال: كيف تتعلق بأنزل من الأولى والثانية، لأن معنييهما مختلفان. { فأحيا به الأرض بعد موتها }: عطف على صلة ما، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات، وبه عائد على الموصول. وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره. وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها، كأنه دفين فيها، وهي له قبر.

{ وبث فيها من كل دابة }: إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره: وبث فيها من كل دابة. لكن حذف هذا الضمير، إذا كان مجروراً بالحرف، له شرط، وهو أن يدخل على الموصول، أو الموصوف بالموصول، أو المضاف إلى الموصول حرف جر، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع، وأن لا يكون محصوراً، ولا في معنى المحصور، وأن يكون متعيناً للربط. وهذا الشرط مفقود هنا. قال الزمخشري: فإن قلت قوله: { وبث فيها }، عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأن قوله: { فأحيا به الأرض } عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، وكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة. ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. انتهى كلامه، ولا طائل تحته. وكيفما قدّرت من تقديرية، لزم أن يكون في قوله: { وبث فيها من كل دابة } ضمير يعود على الموصول، سواء أعطفته على أنزل، أو على فأحيا، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول. والذي يتخرّج على الآية، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله: { وما أنزل }، التقدير: وما بث فيها من كل دابة، فيكون ذلك أعظم في الآيات، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها، وما أودع في كل شكل، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة، وذلك من الفيل إلى الذرة، وما أوجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر. فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي، غير أن عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب، وإن كان البصريون لا يقيسونه، فقد قاسه غيرهم، قال بعض طي:

ما الذي دأبه احتياط وحزم وهواه أطاع مستويان

أي: والذي أطاع، وقال حسان:

أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء

أي: ومن يمدحه، وقال آخر:

فوالله ما نلتم وما نيل منكم بمعتدل وفق ولا متقارب

يريد: ما الذي نلتم وما نيل منكم، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى: { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } [العنكبوت: 46]، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى: { { والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } [النساء: 136] وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه، وقد جاء ذلك في أشعارهم، قال:

وإن لساني شهدة يشتفى بها وهو على من صبه الله علقم

يريد: من صبه الله عليه، وقال:

لعلّ الذي أصعدتني أن تردني إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر

يريد: أصعدتني به. فعلى هذا القول يكون { من كل دابة } في موضع المفعول، ومن تبعيضية. وعلى مذهب الأخفش، يجوز أن تكون زائدة، وكل دابة هو نفس المفعول، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً، أي: وبثه، وتكون من حالية، أي: كائناً من كل دابة، فهي تبعيضية، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك. { وتصريف الرّياح } في هبوبها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيماً ولواقح ونكباء، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين. وقيل: تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب. وقيل: تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنها ما يضر بها، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها، فإنها لو جاءت جسداً واحداً لصدمت القلوع وأغرقت.

وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها، وفيما جاء فيها من الآثار، وفيما قيل فيها من الشعر، وليس ذلك من غرضنا. والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي، ومن آياته ما جعل الله فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الديار وتهلك الكفار، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها، وسوق السحاب إلى البلد الماحل. واختلف القراء في إفراد الرّيح وجمعه في أحد عشر موضعاً. هذا، وفي الشريعة وفي الأعراف: { { يرسل الرياح } [الآية: 57] و { اشتدت به الرّيح } [إبراهيم: 18] و { أرسلنا الرّياح لواقح } [الحجر: 22] و { تذروه الرّياح } [الكهف: 45] وفي الفرقان: { أرسل الرياح } [الآية: 48]، و { { ومن يرسل الرياح } [النمل: 63] وفي الروم: { ألله الذي يرسل الرياح } [الآية: 48] وفي فاطر: { أرسل الرياح } [الآية: 9]، وفي الشورى: { { إن يشأ يسكن الرياح } [الآية: 33]. فأفرد حمزة إلا في الفرقان، والكسائي إلا في الحجر، وجمع نافع الجميع والعربيان إلا في إبراهيم والشورى، وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة فقط. وفي مصحف حفصة هنا وتصريف الأرواح. ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام. وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله: { وجرين بهم بريح طيبة } [الآية: 22]. وفي الحديث: "اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً" . قال ابن عطية: لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة منقطعة، فلذلك هي رياح، وهو معنى ينشر، وأفردت مع الفلك، لأن ريح أجزاء السفن إنما هي واحدة متصلة. ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، انتهى. ومن قرأ بالتوحيد، فإنه يريد الجنس، فهو كقراءة الجمع. والرياح في موضع رفع، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل، أي وتصريف الرياح، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول، أي وتصريف الله الرياح.

{ والسحاب المسخر }، تسخيره: بعثه من مكان إلى مكان. وقيل: تسخيره: ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه. ووصف السحاب هنا بالمسخر، وهو مفرد لأنه اسم جنس، وفيه لغتان: التذكير: كهذا وكقوله: { { أعجاز نخل منقعر } [القمر: 20]، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى: { حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً } [الأعراف: 57]. قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض. فقيل: السحاب يأخذ المطر من السماء، وقيل: يغترفه من بحار الأرض، وقيل: يخلقه الله فيه، وللفلاسفة فيه أقوال. وجعل مسخراً باعتبار إمساكه الماء، إذ الماء ثقيل، فبقاؤه في جوّ الهواء هو على خلاف ما طبع عليه، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة، يأتي به الله في وقت الحاجة، ويرده عند زوال الحاجة، أو سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد الله تعالى. وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية.

{ بين السماء والأرض }: انتصاب بين على الظرف، والعامل فيه المسخر، أي سخر بين كذا وكذا، أو محذوف تقديره كائناً بين، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر. { لآيات لقوم يعقلون }: دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها، إذ لو كان يليها، ما جاز دخولها، وهي لام التوكيد، فصار في الجملة حرفا تأكيد: إن واللام. ولقوم: في موضع الصفة، أي كائنة لقوم. والجملة صفة لقوم، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وانفراده بالإلهية، وعظيم قدرته، وباهر حكمته. وقد أثر في الأثر: ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد، وأنه منفرد بالإلهية، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار. ثم مع كونها دلائل، بل هي نعم من الله على عباده، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر. لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكناً من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية، وإن جعلنا: وبث فيها، على حذف موصول، كما قدرناه في أحد التخريجين، كانت تسعة، وهي باعتبار تصير إلى أربعة: خلق، واختلاف، وإنزال ماء، وتصريف.

فبدأ أولاً بالخلق، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف. { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [النحل: 17]؟ { { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون } [النحل: 20]. ودل الخلق على جميع الصفات الذاتية، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة، وقدّم السموات على الأرض لعظم خلقها، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك.

ثم أعقب ذكر خلق السموات والأرض باختلاف الليل والنهار، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السموات. ثم أعقب ذلك بذكر الفلك، وهو معطوف على الليل والنهار، كأنه قال: واختلاف الفلك، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض.

ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي، وهو إنزال الماء من السماء، ونشر ما كان دفيناً في الأرض بالأحياء. وجاء هذا المشترك مقدماً فيه السبب على المسبب، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم.

ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به، وهو تصريف الرياح والسحاب. وقدم الرياح على السحاب، لتقدم ذكر الفلك، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك.

فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر، حيث بدأ أولاً باختراع السموات والأرض، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي، ثم أتى ثالثاً بذكر ما نشأ عن العالم السفلي، ثم أتى بالمشترك. ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به، وهو التصريف المشروح.

وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين: قسم مدرك بالبصائر، وقسم مدرك بالأبصار. فخلق السموات والأرض مدرك بالعقول، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار. والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود، مستدل عليه بالعقول، فلذلك قال تعالى: { لآيات لقوم يعقلون }، ولم يقل: لآيات لقوم يبصرون، تغليباً لحكم العقل، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى.

{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً }: لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق. واتخاذه الأنداد من دون الله، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين. والضد يظهر حسنه الضد، وأنه مع وضوح هذه الآيات، لم يشاهد هذا الضال شيئاً منها. ولفظ الناس عام، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان. فالأنداد، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي، وإن خالف أمر الله ونهيه. قال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } [التوبة: 31]. والأنداد، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله. وقيل: المراد بالناس الخصوص. فقيل: أهل الكتاب. وقيل: عباد الأوثان، والأولى القول الأول. ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله: يحبونهم، فأتى بضمير العقلاء، وباستبعاد محبة الأصنام، وبقوله: { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا }، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء. ومن: مبتدأ موصول، أو نكرة موصوفة، وأفرد يتخذ حملاً على لفظ من، ومن دون الله متعلق بيتخذ، ودون هنا بمعنى غير، وأصلها أن يكون ظرف مكان، وهي نادرة التصرف إذ ذاك. قال ابن عطية: ومن دون: لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام، وتفسير دون بسوى، أو بغير، لا يطرد. انتهى. تقول: فعلت هذا من دونك، أي وأنت غائب. وتقول: اتخذت منك صديقاً، واتخذت من دونك صديقاً. فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقاً. وتقول: قام القوم دون زيد. فالذي يفهم من هذا: أن المعنى أن زيداً لم يقم، فدلالتها دلالة غير في هذا. والذي ذكر النحويون، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان، وأنها قليلة التصرف نادرته. وقد حكى سيبويه أيضاً أنها تكون بمعنى رديء، تقول: هذا ثوب دون أي رديء، فإذا كانت ظرفاً، دلت على انحطاط المكان، فتقول: قعد زيد دونك، فالمعنى: قعد زيد مكاناً دون مكانك، أي منحطاً عن مكانك. وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول: زيد دون عمرو في الشرف، تريد المكانة لا المكان. ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء، ونحن نوضحه فنقول: إذا قلت: اتخذت من دونك صديقاً، فأصله: اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقاً، فهو ظرف مجازي. وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه، لزم أن يكون غيراً، لأنه ليس إياه، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيراً، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك. وانتصب أنداداً هنا على المفعول بيتخذ، وهي هنا متعدية إلى واحد، نحو قولك: اتخذت منك صديقاً، وهي افتعل من الأخذ، وقد تقدم الكلام على الند وعلى اتخذ، فأغنى عن إعادته. قال ابن عباس والسّدي: الأنداد: الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي الله تعالى. وقال مجاهد وقتادة: الأنداد: الأوثان، وجاء الضمير في يحبونهم ضمير من يعقل. وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد: المجموع من الأوثان والرؤساء، وتكون الآية عامة. وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في: { يحبونهم }، أي يعظمونهم ويخضعون لهم. والجملة من يحبونهم صفة للأنداد، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ، ويجوز أن تكون صفة لمن، إذا جعلتها نكرة موصوفة. وجاز ذلك، لأن في يحبونهم ضمير أنداد، أو ضمير من، وأعاد الضمير على من جمعاً على المعنى، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ، إذ أفرد الضمير، وقد وقع الفصل بين الجملتين، وهو شرط على مذهب الكوفيين.

{ كحب الله }، الكاف في موضع نصب، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف، على رأي سيبويه، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، على رأي جمهور المعربين، التقدير: على الأول يحبونهموه، أي الحب مشبهاً حب الله، وعلى الثاني تقديره: حباً مثل حب الله، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب، والفاعل محذوف، التقدير: كحبهم الله، أو كحب المؤمنين الله، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين، حب الأنداد وحب الله. وقال ابن عطية: حب: مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر، تقديره: كحبكم الله، أو كحبهم، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة. انتهى كلامه. فقوله: مضاف إلى الفاعل المضمر، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل، وإنما سماه مضمراً لما قدره كحبكم أو كحبهم، فأبرزه مضمراً حين أظهر تقديره، أو يعني بالمضمر المحذوف، وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذف إضماراً. وإنما قلت ذلك، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف، وإنما يكون مضمراً في المصدر. وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس، كالزيت والقمح، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها. وقال الزمخشري: كحب الله: كتعظيم الله والخضوع له، أي كما يحب الله، على أنه مصدر من المبني للمفعول، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه، لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم الله، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه، { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } [العنكبوت: 65]. انتهى كلامه. واختار كون المصدر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهي مسألة خلاف. أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول؟ فيجوز: عجبت من ضرب زيد، على أنه مفعول لم يسم فاعله، ثم يضاف إليه، أم لا يجوز ذلك؟ فيه ثلاثة مذاهب، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو: عجبت من جنون بالعلم زيد، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله، أو من فعل يجوز أن يبنى للفاعل، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول، ويمتنع في الثاني، وأصحها المنع مطلقاً. وتقرير هذا كله في النحو. وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين، أو ضميرهم، وهو مروي عن ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والمبرد، وقال: ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد: { والذين آمنوا أشد حباً لله }، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله، لأنهم أشركوها مع الله تعالى، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها. وقرأ أبو رجاء العطاردي: يحبونهم، بفتح الياء، وهي لغة، وفي المثل السائر: من حب طبّ، وجاء مضارعه على يحب، بكسر العين شذوذاً، لأنه مضاعف متعد، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو: مده يمده، وجر يجره.

{ والذين آمنوا أشد حباً لله }: قال الراغب: الحب أصله من المحبة، حببته: أصبت حبة قلبه، وأصبته بحبة القلب، وهي في اللفظ فعل، وفي الحقيقة انفعال. وإذا استعمل في الله، فالمعنى: أصاب حبة قلب عبده، فجعلها مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله. انتهى. وقال عبد الجبار: حب العبد لله: تعظيمه والتمسك بطاعته، وحب الله العبد: إرادة الثناء عليه وإثابته. وأصل الحب في اللغة: اللزوم، لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن. اهـ. والمفضل عليه محذوف، وهم المتخذون الأنداد، ومتعلق الحب الثاني فيه خلاف. فقيل: معنى أشد حباً لله: أي منهم لله، لأن حبهم لله بواسطة، قاله الحسن؛ أو منهم لأوثانهم، قاله غيره. ومقتضى التمييز بالأشدية، إفراد المؤمنين له بالمحبة، أو لمعرفتهم بموجب الحب، أو لمحبتهم إياه بالغيب، أو لشهادته تعالى لهم بالمحبة، إذ قال تعالى: { يحبهم ويحبونه } [المائدة: 54]، أو لإقبال المؤمن على ربه في السراء والضراء والشدة والرخاء، أو لعدم انتقاله عن مولاه ولا يختار عليه سواه، أو لعلمه بأن الله خالق الصنم وهو الضارّ النافع، أو لكون حبه بالعقل والدليل، أو لامتثاله أمره حتى في القيامة حين يأمر الله تعالى من عبده لا يشرك به شيئاً أن يقتحم النار، فيبادرون إليه، فتبرد عليهم النار، فينادي مناد تحت العرش: { والذين آمنوا أشد حباً لله }، ويأمر من عبد الأصنام أن يدخل معهم النار فيجزعون، قاله ان جبير. تسعة أقوال ثبتت نقائضها ومقابلاتها لمتخذ الأنداد. وهذه كلها خصائص ميز الله بها المؤمنين في حبه على الكافرين، فذكر كل واحد من المفسرين خصيصيه. والمجموع هو المقتضى لتمييز الحب، فلا تباين بين الأقوال على هذا، لأن كل قول منها ليس على جهة الحصر فيه، إنما هو مثال من أمثلة مقتضى التمييز.

وقال في المنتخب جمهور المتكلمين: على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة، لا تعلق لها إلا بالجائزات، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته. فإذا قلنا: يحب الله، فمعناه: يحب طاعة الله وخدمته وثوابه وإحسانه. وحكى عن قوم سماهم هو بالعارفين أنهم قالوا: نحب الله لذاته، كما نحب اللذة لذاتها، لأنه تعالى موصوف بالكمال، والكمال محبوب لذاته. انتهى كلامه. وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حباً، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من وادٍ واحد. وأنت لو قلت: ما أحب زيداً، لم يكن ذلك تعجباً من فعل الفاعل، إنما يكون تعجباً من فعل المفعول، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل. لا تقول: ما أضرب زيداً، على أن زيداً حل به الضرب. وإذا تقرر هذا، فلا يجوز زيد أحب لعمرو، لأنه يكون المعنى: أن زيداً هو المحبوب لعمرو. فلما لم يجز ذلك، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك، فتقول: ما أشد حب زيد لعمرو، وزيد أشد حباً لعمرو من خالد لجعفر. على أنهم قد شذوا فقالوا: ما أحبه إليّ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس، ويعدل على الصحيح الفصيح. وانتصاب حباً على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره: حبهم لله أشد من حب أولئك لله، أو لأندادهم، على اختلاف القولين.

{ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب }: قرأ نافع وابن عامر: إذ ترون، بالتاء من فوق أن القوة، وأن بفتحهما. وقرأ ابن عامر: إذ يرون، بضم الياء. وقرأ الباقون: بالفتح. وقرأ الحسن، وقتادة، وشيبة، وأبو جعفر، ويعقوب: ولو ترى، بالتاء من فوق إن القوة، وإن بكسرهما. وقرأ الكوفيون، وأبو عمرو، وابن كثير: ولو يرى، بالياء من أسفل أن القوة، وأن بفتحهما. وقرأت طائفة: ولو يرى، بالياء من أسفل إن القوة، وإن بكسرهما. ولو هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، فلا بد لها من جواب، واختلف في تقديره. فمنهم من قدره قبل أن القوة، فيكون أن القوة معمولاً لذلك الجواب، التقدير: على قراءة من قرأ بالتاء من فوق، لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعاً، أو لعلمت يا محمد أن كان المخاطب في ولو ترى له. وقد كان صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ولكن خوطب، والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج لتقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ومن قرأ بالكسر، قدر الجواب: لقلت إن القوة على اختلاف القولين في المخاطب بقوله: ولو ترى من هو؟ أهو السامع؟ أم النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو يكون التقدير: لاستعظمت حالهم. وأن القوة، وإن كانت مكسورة، فيها معنى التعليل مثل: لو قدمت على زيد لأحسن إليك، إنه مكرم للضيفان. وقال ابن عطية: تقدير ذلك: ولو ترى الذين ظلموا، في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له، لأقروا أن القوة لله. فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى، وهو العامل في أن انتهى. وفيه مناقشة، وهو قوله: في حال رؤيتهم العذاب. وكان ينبغي أن يقدر بمرادف، إذ وهو قوله: في وقت رؤيتهم العذاب، وأيضاً فقدر جواب لو، وهو غير مترتب على ما يلي لو، لأن رؤية السامع، أو النبي صلى الله عليه وسلم الظالمين في وقت رؤيتهم، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعاً. وصار نظير قولك: يا زيد لو ترى عمراً في وقت ضربه، لأقر أن الله قادر عليه، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. وعلى من قرأ: ولو يرى، بالياء من أسفل وفتح، أن يكون تقدير الجواب: لعلموا أن القوة لله جميعاً، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا، وإن كان ضميراً يقدر ولو يرى هو، أي السامع، كان التقدير: لعلم أن القوة لله جميعاً. ومنهم من قدر الجواب محذوفاً بعد قوله { وأن الله شديد العذاب }، وهو قول أبي الحسن الأخفش، وأبي العباس المبرد، وتقديره: على قراءة ولو ترى بالخطاب، لاستعظمت ما حل بهم، وعلى قراءة ولو يرى للغائب، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير: لاستعظم ذلك، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل، كان التقدير: لاستعظموا ما حل بهم. وإذا كان الجواب مقدراً آخر الكلام، وكانت أن مفتوحة، فتوجيه فتحها على تقديرين: أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً. وأما من قرأ بالتاء، فتكون أن مفعولاً من أجله، أي لأن القوة لله جميعاً، ومن كسر أن مع قراءة التاء في ترى، وقدر الجواب آخر الكلام، فهي، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة، دالة على التعليل، تقول: لا تهن زيداً إنه عالم، ولا تكرم عمراً إنه جاهل، فهي على معنى المفتوحة من التعليل، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف. وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو، أي لقالوا إن القوة، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف، أي لاستعظموا ذلك، ومفعول: ترى محذوف، أي ولو رأى الظالمون حالهم. وترى في قوله: ولو ترى، يحتمل أن تكون بصرية، وهو قول أبي علي، ويحتمل أن تكون عرفانية. وإذا جعلت أن معمولة ليرى، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين، سدت أن مسدهما، على مذهب سيبويه. والذين ظلموا، إشارة إلى متخذي الأنداد، ونبه على العلية، أو يكون عاماً، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار. ولكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد. وقراءة ابن عامر: إذ يرون، مبنياً للمفعول، هو من أريت المنقولة من رأيت، بمعنى أبصرت. ودخلت إذ، وهي للظرف الماضي، في أثناء هذه المستقبلات، تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه، كما يقع الماضي موقع المستقبل في قوله: { ونادى أصحاب النار } [الأعراف: 50] وكما جاء:

بقيت وفري وانحرفت عن العلى ولقيت أضيافي بوجه عبوس

لأنه علق ذلك على مستقبل، وهو قوله:

إن لم أشن على ابن هند غارة لم تخل يوماً من نهاب نفوس

وحذف جواب لو، لفهم المعنى، كثير في القرآن، وفي لسان العرب. قال تعالى: { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } [سبأ: 51]، { { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [الأنعام: 27]، { { ولو أن قرآناً سُيرت به الجبال } [الرعد: 31] وقال امرؤ القيس:

وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب، ونحن نذكر من كلام المفسرين فيها. قال عطاء: المعنى: ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة، إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة، لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعاً. وقيل: لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه، إذ يرون العذاب، لأقروا بأن القوّة لله جميعاً، أي لتبرأوا من الأنداد، والثانية من رؤية العين. وقال التبريزي: لو اعتقدوا أن الله يقدر ويقوى على تعذيبهم يوم القيامة، لامتنعوا عما يوجب الجزاء بالعذاب. وقال الزمخشري: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم، أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين، إذ عاينوا العذاب يوم القيامة، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع الظلم بظلمهم وضلالهم. انتهى كلامه. وحكى الراغب: أن بعضهم زعم أن القوة بدل من الذين، قال: وهو ضعيف. انتهى. ويصير المعنى: ولو ترى قوة الله وقدرته على الذين ظلموا. وقال في المنتخب: قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينونه من العذاب يوم القيامة، أما المتوعدون فإنهم لم يعلموا ذلك، فوجب إسناد الفعل إليهم. انتهى. ولا فرق عندنا بين القراءتين، أعني التاء والياء، لأنهما متواترتان. وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور. والقوة هنا مصدر أريد به الجنس، التقدير: أن القوى مستقرة لله جميعاً، ولا يجوز أن تكون حالاً من القوة، لأن العامل في القوة أن، وأن لا تعمل في الأحوال. وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت: إن الله قوي، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف. وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة.

{ إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب }: لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم، معتقدين أنهم سبب نجاتهم، لم تغن شيئاً، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم، تبرأوا منهم. وإذ: بدل من: إذ يرون العذاب. وقيل: معمولة لقوله شديد العذاب. وقيل: لمحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا، هم رؤساؤهم وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، قاله الحسن وقتادة أيضاً والسدي؛ أو عام في كل متبوع، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ. وقراءة الجمهور: اتبعوا الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل. وقراءة مجاهد بالعكس. فعلى قراءة الجمهور: تبرؤ المتبوعون بالندم على الكفر، أو بالعجز عن الدفع، أو بالقول: إنا لم نضل هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم وتعلق العقاب عليهم بكفرهم، ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على من أضلهم. أقوال ثلاثة، الأخير أظهرها، وهو أن يكون التبرؤ بالقول. قال تعالى: { تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } [القصص: 63]. وتبرؤ التابعين هو انفصالهم عن متبوعيهم والندم على عبادتهم، إذ لم يجد عنهم يوم القيامة شيئاً، ولم يدفع عنهم من عذاب الله، ورأوا العذاب الظاهر. إن هذه الجملة، هي وما بعدها، قد عطفتا على تبرأ، فهما داخلان في حيز الظرف. وقيل: الواو للحال فيهما، والعامل تبرأ، أي تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب بهم، ولأنها حالة يزداد فيها الخوف والتنصل ممن كان سبباً في العذاب. وقيل: الواو للحال في: ورأوا العذاب، وللعطف في: وتقطعت على تبرأ، وهو اختيار الزمخشري.

{ وتقطعت بهم الأسباب }: كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب، ولا مخلص، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به. وللمفسرين في الأسباب أقوال: الوصلات عن قتادة، والأرحام عن ابن عباس وابن جريج، أو الأعمال المتلزمة عن ابن زيد والسدي، أو العهود عن مجاهد وأبي روق، أو وصلات الكفر، أو منازلهم من الدنيا في الجاه عن ابن عباس، أو أسباب النجاة، أو المودّات. والظاهر دخول الجميع في الأسباب، لأنه لفظ عام. وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع، وهو أن يكون الكلام مسجوعاً كقوله تعالى: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } [البقرة: 267]، وهو في القرآن كثير، وهو في هذه الآية في موضعين. أحدهما: { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا }، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله: اتبعوا، إذ لو جاء اتبعوهم، لفات هذا النوع من البديع. والموضع الثاني: { ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب }، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب:

في تاجه قمر في ثوبه بشر في درعه أسد تدمي أظافره

وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد:

فالنحر مرمرة والنشر عنبرة والثغر جوهرة والريق معسول

{ وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءُوا منا }، المعنى: أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرؤوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعاً، مثل ما تبرأ المتبوعون أولاً منهم. ولو: هنا للتمني. قيل: وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله: { فنتبرأ }، كما جاء جواب ليت في قوله: { { يا ليتني كنت معهم فأفوز } [النساء: 73]، وكما جاء في قول الشاعر:

فلو نبش المقابر عن كليب فتخبر بالذنائب أي زير

والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره، وأشربت معنى التمني، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها، وهو قوله:

بيوم الشعثمين لقر عيناً وكيف لقاء من تحت القبور

وأن مفتوحة بعد لو، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله:

يا ليت أنا ضمنا سفينه حتى يعود البحر كينونه

وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء، وأنها إذا سقطت الفاء، انجزم الفعل هذا الموضع، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضاً، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جواباً للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء. والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني، ليس أصلها، وإنما ذلك بالحمل على حرف التمني الذي هو ليت. والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء، إنما هو لتضمنها معنى الشرط، أو دلالتها على كونه محذوفاً بعدها، على اختلاف القولين، فصارت لو فرع فرع، فضعف ذلك فيها. والكاف في كما: في موضع نصب، إما نعتاً لمصدر محذوف، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين، في غير ما موضع من هذا الكتاب. وما في كما: مصدرية، التقدير: تبرأوا مثل تبرئهم، أو فنتبرأه، أي فنتبرأ التبرؤ مشابهاً لتبرئهم. وقال ابن عطية: الكاف من قوله: كما في موضع نصب على النعت، إما لمصدر، أو لحال، تقديرها: متبرئين. كما انتهى كلامه. أما قوله على النعت، إما لمصدر، فهو كلام واضح، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا. وأما قوله: أو لحال، تقديرها: متبرئين كما، فغير واضح، لأنا لو صرحنا بهذه الحال، لما كان كما منصوباً على النعت لمتبرئين، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل، لا من صفات الفاعل. وإذا كان كذلك، لم ينتصب على النعت للحال، لأن الحال هنا من صفات الفاعل، ولا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنها إذ ذاك تكون حالاً مؤكدة، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظاً بها. أما أن تقدر حالاً ونجعلها مؤكدة، فلا حاجة إلى ذلك. وأيضاً فالتوكيد ينافي الحذف، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضاً. فلو صرح بهذه الحال، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتاً لمصدر محذوف، أو حالاً من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها، مثال ذلك: هم محسنون إليّ كما أحسنوا إلى زيد. فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين، إنما هو من صفات الإحسان، التقدير: على الإعراب المشهور إحساناً مثل إحسانهم إلى زيد.

{ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم }: الكاف عند بعضهم في موضع رفع، وقدروه الأمر كذلك، أو حشرهم كذلك، وهو ضعيف، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ، أو كلاهما على خلاف الأصل. والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال، { يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم }، فيكون نعتاً لمصدر محذوف، فيكون في موضع نصب. وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله: كذلك، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض. والأجود تشبيه الآراءة بالآراءة، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة، فتكون حسرات منصوباً على الحال، وأن تكون قلبية، فتكون مفعولاً ثالثاً، قالوا: ويكون ثم حذف مضاف، أي على تفريطهم. وتحسر: يتعدى بعلى، تقول: تحسرت على كذا، فعلى هنا متعلقة بقوله: حسرات. ويحتمل أن تكون في موضع الصفة، فالعامل محذوف، أي حسرات كائنة عليهم، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم. وأعمالهم، قيل: هي الأعمال التي صنعوها، وأضيفت إليهم من حيث عملوها، وأنهم مأخوذون بها. وهذا على قول من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد: أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها، فوجب لهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدّي: المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها، ففاتتهم الجنة، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها، لو أطاعوا الله تعالى، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم، فذلك حين يندمون. وهذا معنى قول بعضهم، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم، لأن الكافر لا يثاب مع كفره. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم، "وقد ذكر له أن ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين، وسئل: هل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" ، ومنه قوله تعالى: { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } [الفرقان: 23]. وقيل: المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم. والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم، وهي الكفر والمعاصي. وكانت حسرة عليهم، لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم، وتيقنوا الجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها، لو شاء الله.

{ وما هم بخارجين من النار }: هذا يدل على دخول النار، إذ لا يقال: ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول. ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع، وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد. وقال الزمخشري: هم بمنزلته في قوله:

هـم يفـرشون اللبـد كـل طمـرّه

في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص. انتهى كلامه، وفيه دسيسة اعتزال، لأنه إذا لم يدل على الاختصاص، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها. وأما قول صاحب المنتخب: إن الأصحاب احتجوا على أن صاحب الكبيرة من أهل القبلة، إلى آخر كلامه، فهو غير مسلم، ولا دلالة في الآية على شيء من المذهبين. لأنك إذا قلت: ما زيد بمنطلق، وإنما في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق، فلا إنما يفهم ذلك، أعني الاختصاص، بنفي الخروج من النار، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب؟ فإذا قلت: زيد منطلق، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص، ولا شيء من المشاركة، فكذلك النفي، وكونه قابلاً للخصومة والاشتراك، يدل على ذلك. ألا ترى أنك تقول: زيد منطلق لا غيره، وزيد منطلق مع غيره؟.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة. إخباره تعالى بأن الصفا والمروة من معالمه التي جعلها محملاً لعبادته، وإن كان قد سبق غشيان المشركين لها، وتقربهم بالأصنام عليها. وصرّح برفع الإثم عمن طاف بهما ممن حج أو اعتمر. ثم ذكر أن من تبرع بخير، فإن الله شاكر لفعله، عليم بنيته، لما كان التطوّع يشتمل على فعل ونية، ختم بهاتين الصفتين المتناسبتين. ثم أخبر تعالى عمن كتم ما أنزل الله من الحكم الإلهي من بعد ما بينه في كتابه، لعنه الله وملائكته ومن يسوغ منه اللعن من صالحي عباده. ثم استثنى من تاب وأصلح، وبين ما كتم. ولم يكتف بالتوبة فقط حتى أضاف إليها الإصلاح، لأن كتم ما أنزل الله من أعظم الإفساد، إذ فيه حمل الناس على غير المنهج الشرعي. وأضاف التبيين لما كتم حتى يتضح للناس وضوحاً بيناً ما كان عليه من الضلال، وأنه أقلع عن ذلك، وسلك نقيض فعله الأول، فكان ذلك أدعى لزوال ما قرر أولاً من كتمان الحق

وبضــدهــا تتبيـــن الأشيـــاء

ثم أخبر تعالى عن هؤلاء المستثنين، أنه يتوب عليهم، وأنه تعالى لا يتعاظم عنده ذنب، وإن كان أعظم الذنوب، إذا تاب العبد منه. ثم أخبر تعالى أنه التواب الرحيم، بصفتي المبالغة التي في فعال وفعيل. ولما ذكر تعالى حال المؤمنين المتسمين بالصبر والصلاة والحج، وغير ذلك من أعمال البر، وحال من ارتكب المعاصي، ثم أقلع عن ذلك وتاب إلى الله. ذكر حال من وافى على الكفر، وأنه تحت لعنة الله وملائكته والناس، وأنهم خالدون في اللعنة، غير مخفف عنهم العذاب، ولا مرجئون إلى وقت. ثم لما كان كفر معظم الكفار إنما هو لاتخاذهم مع الله آلهة { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } [ص: 5]؟ { { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله } [المائدة: 116]؟ { { وقالت اليهود عزير ابن الله } [التوبة: 30] وفي الحديث: "أنهم يسألون فيقولون كنا نعبد عزيراً" .

أخبر تعالى أن الإله هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ، ولا له مثيل في صفاته. ثم حصر الإلهية فيه، فتضمن ذلك أنه هو المثيب المعاقب، فوصف نفسه بهاتين الصفتين من الرحمانية والرحيمية. ثم أخذ في ذكر ما يدل على الوحدانية والانفراد بالإلهية. فبدأ بذكر اختراع الأفلاك العلوية، والجرم الكثيف الأرضي، وما يكون فيهما من اختلاف ما به السكون والحركة، من الليل والنهار الناشئين عما أودع الله تعالى في العالم العلوي، واختلاف الفلك ذاهبة وآيبة بما ينفع الناس الناشىء ذلك عما أودع في العالم السفلي، وما يكون مشتركاً بين العالمين، من إنزال الماء، وتشقق الأرض بالنبات، وانتشار العالم فيها. ولما ذكر أشياء في الأجرام العلوية، وأشياء في الجرم الأرضي، ذكر شيئاً مما هو بين الجرمين، وهو تصريف الرّياح والسحاب، إذ كان بذلك تتم النعمة المقتضية لصلاح العالم في منافعهم البحرية والبرية. ثم ذكر أن هذا كله هي آيات للعاقل، تدله على وحدانية الله تعالى واختصاصه بالإلهية، إذ من عبدوه من دون الله يعلمون قطعاً أنه لا يمكنه اقتدار على شيء مما تضمنته هذه الآيات، وأنهم بعض ما حوته الدائرة العلوية والدائرة السفلية، وأن نسبتهم إلى من لم يعبدوه من سائر المخلوقات نسبة واحدة في الافتقار والتغير، فلا مزية لهم على غيرهم إلا عند من سلب نور العقل، وغشيته ظلمات الجهل.

ثم ذكر تعالى، بعد ذكر هذه البينات الواضحات الدالة على الوحدانية واستحقاق العبادة، أن من الناس متخذي أنداد، وأنهم يؤثرونهم ويحبونهم مثل محبة الله، فهم يسوّون بين الخالق والمخلوق في المحبة، { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [النحل: 17] ثم ذكر أن من المؤمنين أشدّ حبًّا لله من هؤلاء لأصناهم. ثم خاطب من خاطب بقوله: { ولو يرى الذين ظلموا }، حين عاينوا نتيجة اتخاذهم الأنداد، وهو العذاب، الحال بهم، أي لرأيت أمراً عظيماً. ثم نبه على أن أندادهم لا طاقة لها ولا قوة بدفع العذاب عمن اتخذوهم، لأن جميع القوى والقدر هي لله تعالى. ثم ذكر تعالى تبرؤ المتبوعين من التابعين وقت رؤية العذاب وزالت المودات التي كانت بينهم، وأن التابعين تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا ويتبرأوا من متبوعيهم حيث لا ينفع التمني ولا يمكن أن يقع، فهو تمني مستحيل، لأن الله تعالى قد حكم وأمضى أن لا عودة إلى الدنيا. ثم ذكر تعالى أنهم بعد رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب، أراهم أعمالهم ندامات حيث لا ينفع الندم، ليتضاعف بذلك الألم. ثم ختم ذلك بما ختم لهم من العذاب السرمدي والشقاء الأبدي. نعوذ بالله من سطا نقماته، ونستنزل من كرمه العميم نشر رحماته.