خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٢٣٤
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٣٥
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٣٦
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٣٧
حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ
٢٣٨
فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
٢٣٩
-البقرة

البحر المحيط

يذر: معناه يترك، ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا المفعول، وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ.

خبير: للمبالغة، من خبرت الشيء علمته، ومنه: قتل ارضاً خابرها، وخبرت زيداً اختبرته، ولهذه المادة يرجع الخبر لأنه الشيء المعلم به، والخبار الأرض اللينة.

التعريض: الإشارة إلى الشيء دون تصريح.

الخطبة: بكسر الخاء التماس النكاح، يقال خطب فلان فلانة، أي: سألها خطبه أي: حاجته، فهو من قولهم: ما خِطبك؟ أي: ما حاجتك، وأمرك؟ قال الفراء: الخطبة مصدر بمعنى الخطب، وهو من قولك: إنه يحسن القِعدة والجِلسة، يريد: القعود والجلوس.

والخُطبة بضم الخاء الكلام المشتمل على: الزجر، والوعظ، والإذكار، وكلاهما راجع للخطاب الذي هو الكلام، وكانت سجاح يقول لها الرجل: خطب، فتقول: نكح.

أكنّ الشيء: أخفاه في نفسه، وكنه: ستره شيء، والهمزة في أكنّ للتفرقة بين المعنيين، كأشرقت.

العقدة: في الحبل، وفي الغصن معروفة، يقال: عقدت الحبل والعهد، ويقال: أعقدت العسل، وهو راجع لمعنى الاشتداد، وتعقد الأمر عليّ اشتدّ، ومنه العقود.

المقتر: المقل أقتر الرجل وقتر يقتر ويقتر، والقلة معنى شامل لجميع مواقع اشتقاقه، ومنه القتير، وهو مسمار الدرع، والقترة أدنى الغبار، والناموس الصغار، والقتار: ريح القدر قال طرفة:

حين قال الناس في مجلسهم أقتار ذاك؟ أم ريحٌ قطر؟

والقتر: بيوت الصيادين على الماء، قال الشاعر:

ربّ رام من بني ثعل مثلج كفيه في قتره

النصف: هو الجزء من اثنين على السواء، ويقال: بكسر النون وضمها، ونصيف: ومنه: "ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" ، أي: نصفه، كما يقال: ثمن وثمين، وعشر وعشير، وسدس وسديس، ومنه قيل: النصف. المقنعة التي توضع على رأس المرأة نصيف، وكل شيء بلغ نصف غيره فهو نصف، يقال: نصف النهار ينصف، ونصف الماء القدح، والإزار الساق، والغلام القرآن، وحكى الفراء في جميع هذا: أنصف.

المحافظة على الشيء: المواظبة عليه، وهو من الحفظ، حفظ المكان حرسه، وحفظ القرآن تذكره غائباً، وهو راجع لمعنى الحراسة، وحفظ فلان: غضب، وأحفظه: أغضبه، ومصدر: حفظ، بمعنى غضب: الحفيظة والحفظ.

الركوب: معروف، وركبان: جمع راكب، وهو صفة استعملت استعمال الأسماء، فحسن أن يجمع جمع الأسماء، ومع ذلك فهو في الأسماء محفوظ قليل، قالوا: حاجر وحجران، ومثل، ركبان: صحبان، ورعيان، جمع صاحب وراع، فإن لم تستعمل الصفة استعمال الأسماء لم يجيء فيها فعلان، لم يرد مثل: ضربان وقتلان في جمع: ضارب وقاتل.

{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدّم ذكر عدة طلاق الحيض، واتصلت الأحكام إلى ذكر الرضاع، وكان في ضمنها قوله { وعلى الوارث مثل ذلك } [البقرة: 233] أي: وارث المولود له، ذكر عدة الوفاة إذ كانت مخالفة لعدة طلاق الحيض.

وقرأ الجمهور: يتوفون، بضم الياء مبنياً للمفعول وقرأ علي، والمفضل، عن عاصم: بفتح الياء مبنياً للفاعل، ومعنى هذه القراءة أنهم: يستوفون آجالهم.

وإعراب: الذين، مبتدأ واختلف أنه خبر أم لا؟ فذهب الكسائي والفراء إلى أنه لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهن: بالذين، لأن الحديث معهن في الاعتداد بالأشهر، فجاء الخبر عما هو المقصود، والمعنى: من مات عنها زوجها تربصت، وأنشد الفراءرحمه الله :

لعلِّي إن مالت بي الريح ميلة على ابن أبي ذيان أن يتندّما

فقال: لعلِّي، ثم قال: أن يتندّما، لأن المعنى: لعل ابن أبي ذيان إن مالت بي الريح ميلة أن يتندما وقال الشاعر:

بني أسدٍ إن ابن قيس، وقتله بغير دم، دارَ المذلة حلت

ألغى ابن قيس، وقد ابتدأ بذكره وأخبر عن قتله أنه ذُلّ؛ وتحرير مذهب الفراء أن العرب إذا ذكرت أسماء مضافة إليها، فيها معنى الخبر، أنها تترك الإخبار عن الإسم الأول ويكون الخبر عن المضاف، مثاله: إن زيداً وأخته منطلقة، لأن المعنى: إن أخت زيد منطلقة؛ والبيت الأول ليس من هذا الضرب، وإنما أوردوا مما يشبه هذا الضرب قول الشاعر:

فمن يك سائلاً عني فإنيوجروة لا ترود ولا تعار

والرد على الفراء، وتأويل الأبيات والآية، مذكور في النحو.

وذهب الجمهور إلى أن له خبراً، واختلفوا، فقيل: هو ملفوظ به، وهو: يتربصن، ولا حذف يصحح معنى الخبر، لأنه ربط من جهة المعنى، لأن النون في: يتربصن، عائد، فقيل: على الأزواج الذين يتوفون، فلو صرح بذلك فقيل: يتربصن أزواجهم، لم يحتج إلى حذف، وكان إخباراً صحيحاً، فكذلك ما هو بمعناه، وهو قول الزجاج.

وقيل: ثَمَّ حذف يصحح معنى الخبرية، واختلفوا في محل الحذف، فقيل: من المبتدأ، والتقدير: وأزواج الذين، ودل على المحذوف قوله: { ويذرون أزواجاً } وقيل: من الخبر، وتقديره: يتربصن بعدهم، أو: بعد موتهم، قاله الأخفش.

وقيل: من الخبر وهو أن يكون الخبر جملة من مبتدأ محذوف وخبره يتربصن، تقديره: أزواجهم يتربصن، ودل عليه المظهر، قاله المبرد.

وقيل: الخبر بجملته محذوف مقدّر قبل المبتدأ تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً.

وقوله: { يتربصن بأنفسهنّ } بيان للحكم المتلو، وهي جملة لا موضع لها من الإعراب، قالوا: وهذا قول سيبويه.

قال ابن عطية: إنما يتجه ذلك إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد، مثل قوله: { { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [المائدة: 38] وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه، فيحتاج في هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر، وحسَّن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله: { فلا جناح عليكم } إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها للرجال الذين منهم الحكام والنظار عبارة الأخفش والمبرد ما ذكرناه. انتهى كلامه.

وظاهر قوله: يتربصن، العموم في كل امرأة توفي عنها زوجها، فيدخل فيه الأمة والكتابية والصغيرة.

وروي عن أبي حنيفة أن عدة الكتابية ثلاث حيض إذا توفي عنها زوجها، وروي عنه أن عليها عدّة، فإن لم يدخل فلا عدة قولاً واحداً، ويتخرج على هذين القولين الإحداد، وتخصيص الحامل قيل: بقوله { وأولات الأحمال أجلهن } [الطلاق: 4] الآية، ولم يخصص الشافعي هنا العموم في حق الحامل إلاَّ بالسنة لا بهذه الآية، لأنها وردت عقيب ذكر المطلقات، فيحتمل أن يقال: هي في المطلقة، لا في المتوفى عنها زوجها، ولأن كل واحدة من الآيتين أعم من الأخرى من وجه، وأخص منها من وجه، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى، والتي توفي عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا تكون، فامتنع التخصيص.

وقيل: الآية تتناول أولاً الحوامل، ثم نسخ بقوله: { وأولات الأحمال } [الطلاق: 4] وعدة الحامل وضع حملها عند الجمهور.

وروي عن علي، وابن عباس، وغيرهما: أن تمام عدتها آخر الأجلين، واختاره سحنون، وروي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك.

ومعنى: { يتربصن بأنفسهن } أي: ينتظرن. قيل: والتربص هنا الصبر عن النكاح، قاله الحسن، قال: وليس الإحداد بشيء ولها أن تتزين وتتطيب، وضعف قوله. وقيل: ترك التزوج ولزوم البيت والإحداد، وهو أن تمتنع من الزينة، ومن لبس المصبوغ الجميل مثل الحمرة والصفرة والخضرة، والطيب، وما يجري مجرى ذلك. وهذا قول الجمهور، وليس في الآية نص على الإحداد، بل التربص مجمل بينته السنة، "ثبت في حديث الفريعة قوله صلى الله عليه وسلم: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. وكانت متوفى عنها زوجها، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً" . وصح أنه قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلاَّ على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشراً، وتلزم المبيت في بيتها" . وهذا قول الجمهور، وقال ابن عباس، وأبو حنيفة، وغيرهما: تبيت حيث شاءت، وروي ذلك عن علي، وجابر، وعائشة، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، والحسن، وداود.

قال ابن عباس: قال تعالى: { يتربصن بأنفسهن } ولم يقل: يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت أربعة أشهر وعشراً، قالوا: معناه وعشر ليال، ولذلك حذف التاء وهي قراءة ابن عباس. والمراد عشر ليال بأيامها، فيدخل اليوم العاشر، قيل: وغلب حكم الليالي إذ الليالي أسبق من الأيام، والأيام في ضمنها، وعشر أخف في اللفظ، ولا تنقضي عدّتها إلاَّ بانقضاء اليوم العاشر، هذا قول الجمهور.

وقال الأوزاعي، وأبو بكر الأصم: ليس اليوم العاشر من العدة، بل تنقضي بتمام عشر ليالٍ. وقال المبرد: معناه وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة، تقول العرب: سرنا خمساً، أي: بين يوم وليلة قال الشاعر:

فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة وكان النكيرات تضيف وتجأرا

وقال الزمخشري: وقيل عشراً ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام، تقول: صمت عشراً، ولو ذكرت خرجت من كلامهم، ومن البين فيه { إن لبثتم إلا عشراً } [طه: 103] { إن لبثتم إلا يوماً } [طه: 104] انتهى كلامه.

ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليالٍ لأجل حذف التاء، ولا إلى تأويلها بمدد، كما ذهب إليه المبرد، بل الذي نقل أصحابنا أنه: إذا كان المعدود مذكراً وحذفته، فلك فيه وجهان.

أحدهما، وهو الأصل: أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود، فتقول: صمت خمسة. تريد: خمسة أيام، قالوا: وهو الفصيح، قالوا: ويجوز أن تحذف منه كله تاء التأنيث، وحكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمساً. ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام، واليوم مذكر وكذلك قوله:

وإلاَّ فسيري مثل ما سار راكب يتمم خمساً ليس في سيره أمم

يريد خمسة أيام، وعلى ذلك ما جاء في الحديث، "ثم أتبعه بست من شوال" ، وإذا تقرر هذا فجاء قوله: عشراً على أحد الجائزين، وحسنه هنا أنه مقطع كلام، فهو شبيه بالفواصل، كما حسن قوله: { إن لبثتم إلا عشراً } [طه: 103] كونه فاصلة، فلذلك اختير مجيء هذا على أحد الجائزين، فقوله: ولو ذكرت لخرجت عن كلامهم، ليس كما ذكر، بل لو ذكر لكان أتى على الكثير الذي نصوا عليه أنه الفصيح، إذ حاله عندهم محذوفاً كحاله مثبتاً في الفصيح، وجوزوا الذي ذكره الزمخشري على أن غيره أكثر منه، وقوله: ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه، كما ذكر، بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح فيه. كما ذكرنا. وقوله: ومن البين فيه { إن لبثتم إلاَّ عشراً } [طه: 103] قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه، وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة، وقوله: { إن لبثتم إلا يوماً } [طه: 104] فائدة ذكر الزمخشري هذا أنه على زعمه أراد الليالي، والأيام داخلة معها، فأتى بقوله: إلاَّ يوماً، للدلالة على ذلك، وهذا عندنا يدل على أن قوله: عشراً، إنما يريد بها الأيام، لأنهم اختلفوا في مدة اللبث، فقال قوم: عشر، وقال، أمثلهم طريقة: يوم، فقوله: إلاَّ يوماً، مقابل لقولهم إلاَّ عشراً، ويبين أنه أريد بالعشر الأيام، إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم: عشر ليال، ويقول بعض: يوماً. وظاهر قوله: أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر، فلو وجبت العدّة مع رؤية الهلال لاعتدّت بالأهلة، كان الشهر تاماً أو ناقصاً. وإن وجبت في بعض شهر، فقيل: تستوفي مائة وثلاثين يوماً، وقيل: تعتدّ بما يمر عليها من الأهلة شهوراً، ثم تكمل الأيام الأول، وكلا القولين عن أبي حنيفة.

ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك، فتعتد إثر الوفاة، جاء الفعل مسنداً: إليهن، وأكد بقوله: بأنفسهن، فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة، وقامت على ذلك البينة، ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة، فالذي عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة، وبه قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وعطاء والأسود بن يزيد، وفقهاء الأمصار.

وقال علي، والحسن البصري، وخلاس بن عمرو، وربيعة: من يوم يأتيها الخبر.

وكأنهم جعلوا في إسناد التربص إليهن تأثيراً في العدة. وروي عن سعيد بن المسيب، والشافعي: أنهما قالا: إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر.

وروي عن الشافعي مثل قول الجمهور، وأجمعوا على أن المعتدة، لو كانت حاملاً لا تعلم بوفاة الزوج حتى وضعت الحمل، أن عدتها منقضية، ولم تتعرض الآية في المتوفى عنها زوجها إلاَّ لأن تتربص تلك المدة، فلا نفقة لها في مدة العدة من رأس المال، ولو كانت حاملاً، قاله جابر، وابن عباس، وابن المسيب، وعطاء، والحسن، وعكرمة، وعبد الملك بن يعلى، ويحيـى الأنصاري، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وروي عن أبي حنيفة.

وقيل: لها النفقة من جميع المال، وروي ذلك عن علي، وعبد الله بن عمر، وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وأبي العالية، والنخعي، وخلاس بن عمرو، وحماد بن أبي سليمان، وأيوب السختياني، والثوري، وأبي عبيد.

وظاهر قوله { يتربصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً } أنه إذا تربصت هذه المدة ليس عليها أكثر من ذلك، وإن كانت ممن تحيض فلم تحض فيها، وقيل: لا تبرأ إلاَّ بحيضة تأتي بها في المدة، وإلاَّ فهي مستريبة، فتمكث حتى تزول ريبتها.

وأجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الإعتداد بالحول، وهذا من غرائب النسخ، فإن الحكم الثاني ينسخ الأول، وقيل: إن الحول لم ينسخ، وإنما هو ليس على وجه الوجوب، بل هو على الندب، فأربعة أشهر وعشراً، أقل ما تعتدّ به المتوفى عنها زوجها، والحول هو الأكمل والأفضل.

وقال قوم: ليس في هذا نسخ، وإنما هو نقصان من الحول: كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن ذلك نسخاً، بل كان تخفيفاً.

قالوا: واختص هذا العدد في عدّة المتوفى عنها زوجها استبراء للحمل فقد روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكون خلق أحدكم نطفة أربعين يوماً، ثم علقة أربعين يوماً، ثم مضغة أربعين يوماً، ثم ينفخ فيه الروح" ، أربعة أشهر وزاد الله العشر لأنها مظنة لظهور حركة الجنين، أو مراعاة لنقص الشهور وكمالها، أو استظهاراً لسرعة ظهور الحركة أو بطئها في الجنين. قال أبو العالية وغيره: إنما زيدت العشر لأن نفخ الروح يكون فيها، وظهور الحمل في الغالب. وقال الأصمعي: ولد كل عامل يركض في نصف حمله، وقال الراغب: ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر، إذا كان ذكراً يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإذا كان أنثى بعد أربعة أشهر، وزيد على ذلك عشراً استظهاراً.

قال وخصت العشرة لزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في: { { تلك عشرة كاملة } [البقرة: 196].

قال القشيري: لما كان حق الميت أعظم، لأن فراقه لم يكن بالاختيار، كانت مدة وفاته أطول، وفي ابتداء الإسلام كانت عدة الوفاة سنة، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتخفيف براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر، إذ الموت لا يستديم موافاة إلى آخر عمر أحد. كما قيل:

وكما تبلى وجوه في الثرى فكذا يبلى عليهنّ الحزن

{ فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف }. بلوغ أجلهنّ هو انقضاء المدة المضروبة في التربص، والمخاطبون: بعليكم، الأولياء، أو الأئمة والحكام والعلماء، إذ هم الذين يرجع إليهم في الوقائع، أو عامة المؤمنين. أقوال، ورفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهنّ لأنهم هم الذين ينكرون عليهنّ، ويأخذونهنّ بأحكام العدد، أو لأنهم إذ ذاك يسوغ لهم نكاحهن، إذ كان ذلك في العدّة حراماً، فزال الجناح بعد انقضاء العدة.

والذي فعلن بأنفسهن: النكاح الحلال، قاله مجاهد، وابن شهاب، أو: الطيب، والتزين، والنقلة من مسكن إلى مسكن، قاله أبو جعفر الطبري، ومعنى: بالمعروف أي: بالإشهاد، وقيل: ما أذن فيه الشرع مما يتوقف النكاح عليه، وقال الزمخشري: { فيما فعلن في أنفسهن } من التعرض للخطاب، بالمعروف: بالوجه الذي لا ينكره الشرع، والمعنى: أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمه أن يكفوهن، وإن فرطوا كان عليهم الجناح. إنتهى كلامه. وهو حسن.

{ والله بما تعملون خبير } وعيد يتضمن التحذير، وخبير للمبالغة، وهو العلم بما لطف والتقصي له.

{ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطب النساء أو أكننتم في أنفسكم } نفى الله الحرج في التعريض بالخطبة، وهو: إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإن من عزمي أن أتزوج؛ وإنى فيك لراغب، وما أشبه ذلك، أو: أريد النكاح، وأحب امرأة كذا وكذا يعد أوصافها، قاله ابن عباس. أو: إنك لنافقة، وإن قضي شيء سيكون، قاله الشعبي. أو: يصف لها نفسه، وفخره، وحسبه، ونسبه، كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة، أو يقول لوليها: لا تسبقني بها، كما قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك" . وقد أوّل هذا على أنه منه صلى الله عليه وسلم لفاطمة على سبيل الرأي فيمن يتزوجها، لا أنه أرادها لنفسه، ولذلك كره مجاهد أن يقول: لا تسبقيني بنفسك، ورآه من المواعدة سراً، أو يقول: ما عليك تأيم، ولعل الله يسوق إليك خيراً، أو رب رجل يرغب فيك، أو: يهدي لها ويقوم بشغلها إذا كانت له رغبة في تزويجها.

قال إبراهيم: أو يقول كل ما سوى التصريح، قاله ابن زيد، والإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج، ولا التنبيه عليه، ولا الرفث، وذكر الجماع، والتحريض عليه. وقد استدلت الشافعية بنفي الحرج في التعريض بالخطبة على أن التعريض بالندب لا يوجب الحد، فكما خالف نهيُ حكمَيْ التعريض والتصريح في الخطبة، فكذلك في القذف.

{ أو أكننتم في أنفسكم } أي: أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ولم يصرّحوا بذكر، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفى عنهما، وقيل: المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرّح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة، فأباح الله التعريض، وحرم التصريح في الحال، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل.

ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة، لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من ميل القلب.

{ علم الله أنكم ستذكرونهن } هذا عذر في التعريض، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه، فأسقط الله الحرج في ذلك، وفيه طرف من التوبيخ، كقوله: { { علم الله أنكم كنتم تختانون } [البقرة: 187] وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت، وتتوق إليهن الأنفس، ويتمنى نكاحهن.

وقال الحسن، معنى: ستذكرونهن، كأنه قال: إن لم تنهوا. إنتهى.

وقوله: ستذكرونهن، شامل لذكر اللسان وذكر القلب، فنفى الحرج عن التعريض وهو كسر اللسان، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب.

{ ولكن لا تواعدوهن سراً } هذا الاستدراك من الجملة التي قبله، وهو قوله: ستذكرونهن، والذكر يقع على أنحاء وأوجه، فاستدرك منه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص، ولو لم يستدرك لكان مأذوناً فيه لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه، وهو نظير قولك: زيد سيلقى خالداً ولكن لا يواجهه بشرٍّ، فاستدرك هذه الحالة مما يحتمله اللقاء، وإن من أحواله المواجهة بالشر، ولا يحتاج لكن إلى جملة محذوفة قبلها، لكن يحتاج ما بعد: لكن، إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء.

قال الزمخشري، فإن قلت، أين المستدرك بقوله: { ولكن لا تواعدوهن }. قلت، هو محذوف لدلالة: { ستذكرونهن } عليه { علم الله أنكم ستذكرونهن } فاذكروهن { ولكن لا تواعدوهن سرا } إنتهى كلامه.

وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن، بل الاستدراك جاء من قبل قوله: ستذكرونهن، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء، لا على طريق الوجوب، ولا الندب، فيحتاج إلى تقدير: فاذكروهن، على ما قررناه قبل قولك: سألقاك ولكن لا تخف مني، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقي استدرك فقال: ولكن لا تخف مني.

والسر ضد الجهر، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه، لكنه في سر، وقد يعبر به عن العقد، لأنه سبب فيه، وقد فسر: السر، هنا: بالزنا الحسن، وجابر بن زيد، وأبو مجلز، والضحاك، والنخعي. ومما جاء: السر، في الوطء الحرام، قوله الحطيئة:

ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع

وقال الأعشى:

ولا تقربن جارة إنَّ سرها عليك حرام فانكحن أو تأبدا

وقال ابن جبير: السر، هنا النكاح. وقال ابن زيد معنى ذلك: لا تنكحوهن وتكتمون ذلك، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن، فسمى العقد عليهم مواعدة، وهذا ينبو عنه لفظ المواعدة.

قال بعضهم: جماعاً وهو أن يقول لها: إن نكحتك كان كيت وكيت، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف. وقال ابن عباس، وابن جبير أيضاً، والشعبي، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، ومالك، وأصحابه، والجمهور: المعنى: لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية.

فعلى هذا القول، والقول الذي قبله، ينتصب، سراً، على الحال، أي: مستسرين. وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول، وإذا انتصب على الحال كان مفعول: فواعدوهن محذوفاً، تقديره: النكاح، وقيل: انتصب على أنه نعت مصدر محذوف، تقديره: مواعدة سراً. وقيل التقدير في: وانتصب انتصاب الظرف، على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن لأن مسارتهن في الغالب بما يستحي من المجاهرة به، والذي تدل عليه الآية أنهم: نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة، أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج.

وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها، وأما إطلاق المواعدة سراً على النقد فبعيد أيضاً، وأما قول الجمهور فبعيد أيضاً، لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سراً وجهراً، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر.

{ إلا أن تقولوا قولاً معروفاً }. هذا الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج تحت: سراً، من قوله: { ولكن لا تواعدوهن سراً } على أي تفسير فسرته، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقال الضحاك: من القول المعروف أن تقول للمعتدة: احبسي عليّ نفسك فإن لي بك رغبة فتقول هي: وأنا مثل ذلك.

قال ابن عطية: وهذا عندي مواعدة.

وإنما التعريض قول الرجل: إنكن لإماء كرام، وما قدر كان، وإنك لمعجبة ونحو هذا.

وقال الزمخشري: { إلا أن تقولوا قولا معروفاً } وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا.

فان قلت: بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهنّ، أي: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة، أو: لا تواعدوهنّ إلاَّ بأن تقولوا، أي: لا تواعدوهنّ إلاَّ بالتعريض، ولا يجوز أن يكون استثناءً من: سراً، لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهن إلاَّ التعريض إنتهى كلام الزمخشري. ويحتاج إلى توضيح، وذلك أنه جعله استثناءً متصلاً باعتبار أنه استثناء مفرغ، وجعل ذلك على وجهين.

أحدهما: أن يكون استثناء من المصدر المحذوف، وهو الوجه الأول الذي ذكره، وقدّره: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة، فكأن المعنى: لا تقولوا لهن قولاً تعدونهن به إلاَّ قولاً معروفاً، فصار هذا نظير: لا تضرب زيداً ضرباً شديداً.

والثاني: أن يكون استثناء مفرغاً من مجرور محذوف، وهو الوجه الثاني الذي ذكره، وقدره: إلاَّ بأن تقولوا، ثم أوضحه بقوله: إلاَّ بالتعريض، فكان المعنى: لا تواعدوهنّ سراً، أي نكاحاً بقول من الأقوال، إلاَّ بقول معروف، وهو التعريض. فحذف: من أن، حرف الجر، فيبقى منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي تقدم في نظائره.

والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو: الباء، التي للسبب.

قوله ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من: سراً، لأدائه إلى قوله: لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض، والتعريض ليس مواعداً، فلا يصح عنده أن ينصب عليها العامل، وهذا عنده على أن يكون منقطعاً نظير: ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً. لكن هذا يصح فيه: ما رأيت إلاَّ حماراً، وذلك لا يصح فيه، لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض، لأن التعريض لا يكون مواعداً بل مواعداً به النكاح، فانتصاب: سراً، على أنه مفعول، فكذلك ينبغي أن يكون: أن تقولوا، مفعولاً، ولا يصح ذلك فيه، فلا يصح أن يكون استثناء منقطعاً. هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعاً.

وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين.

أحدهما: ما ذكره الزمخشري، وهو: أن يتسلط العامل على ما بعد؛ إلاَّ، كما مثلنا به في قولك: ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً. و: ما في الدار أحد إلاَّ حماراً.

وهذا النوع فيه خلاف عن العرب، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الإعراب، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد إلاَّ، فتقول: ما رأيت إلاَّ حماراً، وما في الدار إلاَّ حمار. ويصح في الكلام: { ما لهم به من علم إلاَّ اتباع الظن } [النساء: 157].

والقسم الثاني: من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلاَّ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة، ومن ذلك: ما زاد إلاَّ ما نقص، وما نفع إلاَّ ما ضر. فما بعد إلاَّ لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص، بل يقدّر المعنى: ما زاد، لكن النقص حصل له، وما نفع لكن الضرر حصل، فاشترك هذا القسم مع الأوّل في تقدير إلاَّ بلكن، لكن الأوّل يمكن تسليط ما قبله عليه، وهذا لا يمكن.

وإذا تقرر هذا فيكون قوله: { إلاَّ أن تقولوا } استثناء منقطعاً من هذا القسم الثاني، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل، والتقدير: لكنّ التعريض سائغ لكم، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد إلاَّ، فلذلك منعه، والله أعلم.

وظاهر النهي في قوله { لا تواعدوهنّ سرّاً } التحريم حتى قال مالك في رواية ابن وهب عنه، فيمن واعد في العدّة ثم تزّوجها بعد العدّة، قال: فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب. وروى أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما. وقال ابن القاسم: وحكى مثل هذا ابن حارث عن ابن الماجشون، وزاد ما تقتضي تأبيد التحريم. وقال الشافعي: لو صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلاَّ بعد انقضاء العدّة صح النكاح، والتصريح بهما مكروه. وقال ابن عطية: أجمعت الأمّة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة.

{ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } نهوا عن العزم على عقدة النكاح، وإذا كان العزم منهياً عنه فأحرى أن ينهى عن العقدة.

وانتصاب: عقدة، على المفعول به لتضمين: تعزموا، معنى ما يتعدّى بنفسه، فضمن معنى: تنووا، أو معنى: تصححوا، أو معنى: توجبوا، أو معنى: تباشروا، أو معنى: تقطعوا، أي: تبتوا. وقيل: انتصب عقدة على المصدر، ومعنى تعزموا تعقدوا. وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو على هذا التقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح. وحكى سيبويه أن العرب تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر:

ولقد أبيت على الطوى وأظله حتى أنال به كريمَ المأكلِ

الأصل وأظل عليه، فحذف: على، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدّى بعلى، قال الشاعر:

عزمت على إقامة ذي صباح لأمر ما يسوّد من يسود

وقد تقدّم الكلام على نظير هذا في قوله: { وإن عزموا الطلاق } [البقرة: 227] وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك، ولذلك قال ابن عطية: عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدّة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدّي. ولم ينقل عن أحد خلافه، بل هو من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدّة.

والكتاب هنا هو المكتوب أي: حتى يبلغ ما كتب، وأوجب من العدّة أجله أي: وقت انقضائه وقال الزجاج الكتاب هو القرآن، وهو على حذف مضاف، التقدير: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، وهو ما فرض بالكتاب من العدّة، فإذا انقضت العدّة جاز الإقدام على التزّوج، وهذا النهي معناه التحريم، فلو عقد عليها في العدّة فسخ الحاكم النكاح، فإن كان ذلك قبل الدخول بها، فقال عمر، والجمهور: لا يتأبد التحريم. وقال مالك، وابن القاسم، في المدّونة: ويكون خاطباً من الخطاب. وحكى ابن الجلاب عن مالك: أنه يتأبد، وإن عقد عليها في العدّة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء، قال قوم: يتأبد، وقال قوم: لا يتأبد، والقولان عن مالك، ولو عقد عليها في العدّة، ودخل بها في العدّة، فقال عمر، ومالك، وأصحابه، والأوزاعي، والليث، وأحمد وغيرهم: يتأبد التحريم.

وقال مالك، والليث: ولا تحل له بملك اليمين، وقال علي، وابن مسعود، وإبراهيم، وأبو حنيفة، والشافعي: وعبد العزيز بن أبي سلمة، وجماعة: لا يتأبد، بل يفسخ بينهما، ثم تعتدّ منه ويكون خاطباً من الخطاب.

قال الحسن، وأبو حنيفة، والليث، وأحمد، وإسحاق، والمدنيون غير مالك: تعتدّ من الأوّل، فإذا انقضت العدّة فلا بأس أن يتزوّجها الآخر.

وقال مالك، وأصحاب الرأي، والأوزاعي والثوري: عدّة واحدة تكفيهما جميعاً، سواء كانت بالحمل، أم بالإقراء، أم بالأشهر.

{ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } قيل: المعنى ما في أنفسكم من هواهنّ، وقيل: من الوفاء والإخلاف، قاله ابن عباس: فاحذروه، الهاء تعود على الله تعالى، أي: فاحذروا عقابه.

وقال الزمخشري: يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه. انتهى. فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم، أي فاحذور ما لا يجوز ولا تعزموا عليه، فتكون الهاء في: فاحذروه ولا تعزموا عليه، عائدة على شيء واحد، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله، والهاء في: عليه، على ما لا يجوز، فيختلف ما تعود عليه الهاءان، ولما هدّدهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم، وحذرهم منه، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل عنهم بعض روع التهديد والوعيد، والتحذير من عقابه، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه، وجاء خبر إن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات، وإن كان من صفات الفعل.

قيل: وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البديع.

منها: معدول الخطاب، وهو أن الخطاب بقوله: { والذين يتوفون } الآية عام والمعنى على الخصوص. ومنها: النسخ، إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين. ومنها: الاختصاص، وهو أن يخص عدداً فلا يكون ذلك إلاَّ لمعنى، وذلك في قوله: { أربعة أشهر وعشراً } ومنها: الكناية، في قوله: { ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا } كنى بالسر عن النكاح، وهي من أبلغ الكنايات. ومنها: التعريض، في قوله: { يعلم ما في أنفسكم } ومنها: التهديد، بقوله { فاحذروه } ومنها: الزيادة في الوصف، بقوله: { غفور حليم }.

{ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة } "نزلت في أنصاري تزوّج حنيفية ولم يسم مهراً، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال صلى الله عليه وسلم: متعها ولو بقلنسوتك" : فذلك قوله: { لا جناح عليكم } الآية.

ومناسبتها لما قبلها أنه: لما بين تعالى حكم المطلقات المدخول بهنّ، والمتوفى عنهنّ أزواجهنّ، بين حكم المطلقة غير المدخول بها، وغير المسمى لها مدخولاً بها، أو غير ذلك.

والمطلقات أربع: مدخول بها مفروض لها، ونقيضتها، ومفروض لها غير مدخول بها، ونقيضتها.

والخطاب في قوله: { لا جناح عليكم } للأزواج، ومعنى نفي الجناح هنا هو أنه: لما نهى عن التزوّج بمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوّج طلباً للعصمة والثواب، ودوام الصحبة، وقع في بعض نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء يكون قد أوقع جزأ من هذا المكروه، فرفع الله الجناح في ذلك، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.

{ ما لم تمسوهنّ } قرأ حمزة والكسائي: تماسوهنّ، مضارع ماس، فاعل. وقرأ باقي السبعة مضارع مسست، وفاعل. يقتضى اشتراك الزوجين في المسيس، ورجح أبو علي قراءة: تمسوهنّ، بأن أفعال هذا الباب جاءت ثلاثية، نحو: نكح، وسفد، وفزع، ودقط، وضرب الفحل، والقرابان حسنتان، والمس هنا والمماسة: الجماع، كقوله: { { ولم يمسسني بشر } [آل عمران: 47، مريم: 20] و: ما، في قوله: { ما لم تمسوهنّ } الظاهر أنها ظرفية مصدرية، التقدير: زمان عدم المسيس كقوله الشاعر:

إني بحبلك واصل حبلي وبريش نبلك رائش نبلي
ما لم أجدك على هدى أثر يقرو مقصك قائف قبلي

وهذه ما، الظرفية المصدرية، شبيهة بالشرط، وتقتضي التعميم نحو: أصحبك ما دمت لي محسناً، فالمعنى: كل وقت دوام إحسان. وقال بعضهم: ما، شرطية، ثم قدرها بأن، وأراد بذلك، والله أعلم، تفسير المعنى، و: ما إذا كانت شرطاً تكون إسماً غير ظرف زمان ولا مكان، ولا يتأتى هنا أن تكون شرطاً بهذا المعنى.

وزعم ابن مالك أن: ما، تكون شرطاً ظرف زمان؛ وقد رد ذلك عليه ابنه بدر الدين محمد في بعض تعاليقه، وتأول ما استدل به والده، وتأولنا نحن بعض ذلك، بخلاف تأويل ابنه، وذلك كله ذكرناه في كتاب (التكميل) من تأليفنا. على أن ابن مالك ذكر أن ما ذهب إليه لا يقوله النحويون، وإنما استنبط هو ذلك من كلام الفصحاء على زعمه.

وزعم بعضهم أن: ما، في قوله { ما لم تمسوهنّ } إسما موصولاً والتقدير: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهنّ، فلا يكون لفظ. ما، شرطاً، وهذا ضعيف، لأن: ما، إذ ذاك تكون وصفاً للنساء، إذ قدرها بمعنى اللاتي، و: ما، من الموصولات التي لا يوصف بها بخلاف الذي والتي.

وكنى بالمسيس عن المجامعة تأديباً لعباده في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون.

{ أو تفرضوا لهنّ فريضة } الفريضة هنا هو الصداق، وفرضه تسميته.

و: أو، على بابها من كونها تأتي لأحد الشيئين، أو لأشياء، والفعل بعدها معطوف على: تمسوهنّ، فهو مجزوم، أو معطوف على مصدر متوهم، فهو منصوب على إضمار أن بعد أو، بمعنى إلاَّ. التقدير: ما لم تمسوهنّ إلاَّ أن تفرضوا لهنّ فريضة، أو معطوف على جملة محذوفة التقدير: فرضتم أو لم تفرضوا، أو بمعنى الواو والفعل مجزوم معطوف على: تمسوهنّ، أقوال أربعة.

الأول: لابن عطية وغيره والثاني: للزمخشري والثالث: لبعض أهل العلم ولم يسم والرابع: للسجاوندي وغيره.

فعلى القول الأول: ينتفي الجناح عن المطلق عند انتفاء أحد أمرين: إما الجماع، وإما تسمية المهر، أما عند انتفاء الجماع فصحيح، وأما عند انتفاء تسمية المهر فالحكم ليس كذلك، لأن المدخول بها التي لم يسم لها مهر، وهي المفوضة، إذا طلقها زوجها لا ينتفي الجناح عنه.

وعلى القول الثاني: ينتفي الجناح عند انتفاء الجماع إلاَّ إن فرض لها مهرٌ، فلا ينتفي الجناح، وإن انتفى الجماع، لأنه استثنى من الحالات التي ينتفي فيها الجناح حالة فرض الفريضة، فيثبت فيها الجناح.

وعلى القول الثالث: ينتفي الجناح بانتفاء الجماع فقط، سواء فرض أم لم يفرض، وقالوا: المراد هنا بالجناح لزوم المهر، فينتفي ذلك بالطلاق قبل الجماع، فرض مهراً أو لم يفرض، لأنه إن فرض انتقل إلى النصف، وإن لم يفرض، فاختلف في ذلك، فقال حماد بن أبي سليمان: إذا طلقها ولم يدخل بها، ولم يكن فرض لها، أجبر على نصف صداق مثلها، وقال غيره: ليس لها نصف مهر المثل، ولكن المتعة.

وفي هذا القول الثالث حذف جملة، وهي قوله: فرضتم، وإضمار: لم، بعد: أو، وهذا لا يجوز إلاَّ إذا عطف على مجزوم، نحو: لم أقم وأركب، على مذهب من يجعل العامل في المعطوف مقدراً بعد حرف العطف.

وعلى القول الرابع: ينتفي الجناح بانتفاء الجماع وتسمية المهر معاً، فإن وجد الجماع وانتفت التسمية فلها مهر مثلها، وإن انتفى الجماع ووجدت التسمية فنصف المسمى، فيثبت الجناح إذ ذاك في هذين الوجهين، وينتفى بانتفائهما، ويكون الجناح إذ ذاك يطلق على ما يلزم المطلق باعتبار هاتين الحالتين.

وهذه الآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء، وأجمعوا على جواز ذلك، والظاهر جواز طلاق الحائض غير المدخول بها، لأن الآية دلت على انتفاء الحرج في طلاقهنّ عموماً، سواء كنّ حيضاً أم لا، وهو قول أكثر العلماء ومشهور مذهب مالك، ولمالك قول يمنع من طلاق الحائض مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وموت الزوج قبل البناء، وقبل الفرض ينزل منزلة طلاقه قبل البناء وقبل الفرض، فليس لها مهر ولا ميراث، قاله مسروق، وهو مخالف للأصول.

وقال عليّ، وزيد، وابن عباس، وابن عمر، والزهري، والأوزاعي، ومالك. والشافعي: لها الميراث، ولا صداق لها. وعليها العدة.

وقال عبد الله بن مسعود، وجماعة من الصحابة، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق: لها صداق مثل نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث.

وظاهر الآية يدل على صحة نكاح التفويض، وهو جائز عند فقهاء الأمصار، لأنه تعالى قسم حال المطلقة إلى قسمين: مطلقة لم يسم لها، ومطلقة سمي لها، فإن لم يفرض لها، ووقع الطلاق قبل الدخول، لم يجب لها صداق إجماعاً. قاله القاضي أبو بكر بن العربي، وقد تقدّم خلاف حماد بن أبي سليمان في ذلك، وأن لها نصف صداق مثلها، وإن فرض لها بعد العقد أقل من مهر مثلها لم يلزمها تسليم نفسها، أو مهر مثلها لزمها التسليم، ولها حبس نفسها حتى تقبض صداقها.

وقال أبو بكر الأصم، وأبو إسحاق الزجاج: هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير مهر جائز، وقال القاضي: لا تدل على الجواز، لكنها تدل على الصحة، أما دلالتها على الصحة فلأنه لو لم يكن صحيحاً لم يكن الطلاق مشروعاً، ولم تكن النفقة لازمة، وأما أنها لا تدل على الجواز، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام، ومع ذلك هو واقع صحيح.

{ ومتعوهنّ } أي: ملكوهنّ ما يتمتعن به، وذلك الشيء يسمى متعة. وظاهر هذا الأمر الوجوب، وروي ذلك عن: عليّ، وابن عمر، والحسن، وابن جبير، وأبي قلابة، وقتادة، والزهري، والضحاك بن مزاحم؛ وحمله على الندب: شريح، والحكم، وابن أبي ليلى، ومالك، والليث، وأبو عبيد.

والضمير الفاعل في { ومتعوهنّ } للمطلقين، والضمير المنصوب ضمير المطلقات قبل المسيس، وقبل الفرض، فيجب لهنّ المتعة، وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن زيد، والحسن، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وتندب في حق غيرهنّ من المطلقات.

وروي عن: عليّ والحسن، وأبي العالية، والزهري: لكل مطلقة متعة، فإن كان فرض لها وطلقت قبل المسيس، فقال ابن عمر، وشريح، وإبراهيم، ومحمد بن عليّ: لا متعة لها، بل حسبها نصف ما فرض لها؛ وقال أبو ثور: لها المتعة، ولكل مطلقة.

واختلف فقهاء الأمصار، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وزفر، ومحمد: المتعة واجبة لغير المدخول بها ولم يسم لها، وإن دخل بها متعها، ولا يجبر عليها، وهو قول الثوري، والحسن بن صالح، والأوزاعي، إلاَّ أن الأوزاعي يزعم أن أحد الزوجين، إذا كان مملوكاً لم تجب المتعة، وإن طلقها قبل الدخول.

وقال ابن أبي ليلى، وأبو الزناد: المتعة غير واجبة، ولم يفرقا بين المدخول بها وبين من سمي لها ومن لم يسم لها.

وقال مالك: المتعة لكل مطلقة مدخول بها وغير مدخول، إلاَّ الملاعنة والمختلعة والمطلقة قبل الدخول، وقد فرض لها.

وقال الشافعي: المتعة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله، إلاَّ التي سمى لها وطلق قبل الدخول.

وقال أحمد: يجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهر، فإن دخل بها فلا متعة، ولها مهر المثل.

وروي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، وقال عطاء، والنخعي، والترمذي أيضاً: للمختلعة متعة، وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة، وقال ابن القاسم: لا متعة في نكاح منسوخ، قال ابن الموّاز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد، مثل ملك أحد الزوجين صاحبه.

وروى ابن وهب عن مالك: أن المخيرة لها المتعة، بخلاف الأمة، تعتق تحت العبد، فتختار، فهذه لا متعة لها.

وظاهر الآية: أن المتعة لا تكون إلاَّ لإحدى مطلقتين: مطلقة قبل الدخول، سواء فرض لها، أو لم يفرض. ومطلقة قبل الفرض، سواء دخل بها أو لم يدخل. وسيأتي الكلام على قوله: { وللمطلقات متاع بالمعروف } إن شاء الله تعالى.

{ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } هذا مما يؤكد الوجوب في المتعة، إذ أتى بعد الأمر الذي هو ظاهر في الوجوب بلفظة: على، التي تستعمل في الوجوب، كقوله: { وعلى المولود له رزقهنّ } [البقرة: 233] { فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب } [النساء: 25] والموسع: الموسر، والمقتر: الضيق الحال، وظاهره اعتبار حال الزوج، فمن اعتبر ذلك بحال الزوجة دون الزوج، أو بحال الزوج والزوجة، فهو مخالف للظاهر، وقد جاء هذا القدر مبهماً، فطريقة الاجتهاد وغلبة الظن إذ لم يأت فيه بشيء مؤقت.

ومعنى: قدره، مقدار ما يطيقه الزوج، وقال ابن عمر أدناها ثلاثون درهماً أو شبهها، وقال ابن عباس: أرفعها خادم ثم كسوة ثم نفقة، وقال عطاء: من أوسط ذلك درع وخمار وملحفة، وقال الحسن: يمتع كل على قدره هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب، وهذا بنفقة، وهذا قول مالك؛ ومتع الحسن بن عليّ بعشرين ألفاً وزقاق من عسل، ومتع عائشة الخثعمية بعشرة آلاف، فقالت:

متاع قليل من حبيب مفارق

ومتع شريح بخمسمائة درهم.

وقال ابن مجلز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وقال ابن المسيب: أفضل المتعة خمار، وأوضعها ثوب. وقال حماد: يمتعها بنصف مهر مثلها.

"وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل من الأنصار، تزوج امرأة ولم يسم لها مهراً، ثم طلقها قبل أن يمسها: أمتعتها قال: لم يكن عندي شيء قال: متعها بقلنسوتك" . وعند أبي حنيفة لا تنقص عن خمسة دراهم، لأن أقل المهر عنده عشرة دراهم، فلا ينقص من نصفها. وقد متع عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة ابنه بخادم سوداء، وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد رأيهم، فلم ينكر بعضهم على بعض ما صار إليه، فدل على أنها موضوعة عندهم على ما يؤدي إليه الاجتهاد، وهي بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها مقادير معلومة، وإنما ذلك على ما يؤدي إليه الإجتهاد، وهي من مسألة تقويم المتلفات.

وقرأ الجمهور: على الموسع، اسم فاعل من أوسع؛ وقرأ أبو حيوة: الموسع، بفتح الواو والسين وتشديدها، اسم مفعول من وسع؛ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر: قدره، بسكوت الدال في الموضعين؛ وقرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر، وحفص، ويزيد، وروح: بفتح الدال فيهما، وهما لغتان فصيحتان، بمعنى؛ حكاهما أبو زيد، والأخفش وغيرهما، ومعناه: ما يطيقه الزوج، وعلى أنهما بمعنى واحد أكثر أئمة العربية، وقيل: الساكن مصدر، والمتحرك اسم: كالعدّ والعدد، والمدّ والمدد.

وكان القدر بالتسكين الوسع، يقال: هو ينفق على قدره، أي: وسعه، قال أبو جعفر: وأكثر ما يستعمل بالتحريك إذا كان مساوياً للشيء يقال: هذا على قدر هذا.

وقرىء: قدره، بفتح الراء، وجوزوا في نصبه وجهين: أحدهما: أنه انتصب على المعنى، لأن معنى: { متعوهنّ } ليؤد كل منكم قدر وسعه. والثاني: على إضمار فعل، التقدير: وأوجبوا على الموسع قدره.

وفي السجاوندي: وقرأ ابن أبي عبلة: قدره، أي قدره الله. إنتهى. وهذا يظهر أنه قرأ بفتح الدال والراء، فتكون، إذ ذاك فعلاً ماضياً، وجعل فيه ضميراً مستكناً يعود على الله، وجعل الضمير المنصوب عائداً على الإمتاع الذي يدل عليه قوله: { ومتعوهنّ }.

والمعنى: أن الله قدّر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.

وفي الجملة ضمير محذوف تقديره: على الموسع منكم، وقد يقال إن الألف واللام نابت عن الضمير، أي: على موسعكم وعلى مقتركم، وهذه الجملة تحتمل أن تكون مستأنفة بينت حال المطلق في المتعة بالنسبة إلى إيساره وإقتاره، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على الحال، وذو الحال هو الضمير المرفوع وفي قوله: { ومتعوهنّ } والرابط هو ذلك الضمير المحذوف الذي قدرناه: منكم.

{ متاعاً بالمعروف } قالوا: انتصب متاعاً على المصدر، وتحريره أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسم له، ثم أطلق على المصدر على سبيل المجاز، والعامل فيه { ومتعوهنّ } ولو جاء على أصل مصدر { ومتعوهنّ } لكان تمتيعاً، وكذا قدّره الزمخشري، وجوّزوا فيه أن يكون منصوباً على الحال، والعامل فيها ما يتعلق به الجار والمجرور، وصاحب الحال الضمير المستكنّ في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقرّ عليه في حال كونه متاعاً، وبالمعروف يتعلق بقوله: ومتعوهنّ، أو: بمحذوف، فيكون صفة لقوله: متاعاً، أي ملتبساً بالمعروف، والمعروف هو المألوف شرعاً ومروءة، وهو ما لا حمل له فيه على المطلق ولا تكلف.

{ حقاً على المحسنين } هذا يؤكد أيضاً وجوب المتعة، والمراد إحسان الإيمان والإسلام. وقيل: المراد إحسان العشرة، فيكون الله سماهم محسنين قبل الفعل، باعتبار ما يؤلون إليه من الإحسان، نحو: "من قتل قتيلاً فله سلبه" .

وانتصاب حقاً على أنه صفة لمتاعاً أي: متاعاً بالمعروف واجباً على المحسنين، أو بإضمار فعل تقديره: يحق ذلك حقاً، أو حالاً مما كان حالاً منه متاعاً، أو من قوله: بالمعروف، أي: بالذي عرف في حال كونه على المحسنين.

{ وإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة } لما بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، بين حال المطلقة قبل المسيس وبعد الفرض، والمراد بالمسيس الجماع، وبالفريضة الصداق، والجملة من قوله: { وقد فرضتم } في موضع الحال، ويشمل الفرض المقارن للعقد، والفرض بعد العقد، وقبل الطلاق، فلو كان فرض لها بعد العقد، ثم طلق بعد الفرض، تنصف الصداق بالطلاق لعموم الآية، خلافاً لأبي حنيفة، إذ لا يتنصف عنده، لأنه لم يجب بالعقد، فلها مهر مثلها كقول مالك، والشافعي، ثم رجع إلى قول صاحبيه، وجواب الشرط { فنصف ما فرضتم }، وارتفاع نصف على الابتداء وقدَّر الخبر: فعليكم نصف ما فرضتم، أو: فلهن نصف ما فرضتم، ويجوز أن يقدر مؤخراً، ويجوز أن يكون خبراً، أي: فالواجب نصف ما فرضتم.

وقرأت فرقة: فنصف، بفتح الفاء أي: فادفعوا نصف ما فرضتم، وظاهر قوله: ما فرضتم، أنه إذا أصدقها عرضاً، وبقي إلى وقت الطلاق وزاد أو نقص، فنماؤه ونقصانه لهما ويتشطر، أو عيناً ذهباً أو ورقاً فاشترت به عرضاً، فنما أو نقص، فلا يكون له إلاَّ نصف ما أصدق من العين لا من العرض، لأن العرض ليس هو المفروض. وقال مالك: هذا العرض كالعين، أصل ثمنه يتشطر، وهذا تفريع على أنه هل يتبين بقاء ملكه على نصفه أو يرجع إليه بعد أن ملكته؟.

وظاهر الآية يدل على أنه لا يتشطر إلاَّ المفروض فلو كان نحلها شيئاً في العقد، أو قبله لأجله، فلا يتشطر. وقيل: هو في معنى الصداق.

وظاهر الآية أن الطلاق قبل الجماع وبعد الفرض يوجب تشطير الصداق، سواء خلا بها أم قبَّلها، أم عانقها، أم طال المقام معها، وبه قال: الشافعي، والحسن بن صالح، ولا عدة عليها؛ وروري عن علي، وعمر وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وعلي بن الحسن، وإبراهيم: أن لها بالخلوة جميع المهر. وقال مالك: إن خلا بها وقبَّلها أو كشفها، وكان ذلك قريباً، فلها نصف الصداق، وإن طال فلها المهر، إلاَّ أن يضع منه، وقال الثوري: إذا خلا بها ولم يدخل عليها، وكان ذلك من جهته، فلها المهر كاملاً، وإن كانت رتقاء فلها شطر المهر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر: الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق، وطىء أو لم يطأ، وهو أن لا يكون أحدهما محرماً أو مريضاً، أو لم تكن حائضة أو صائمة في رمضان، أو رتقاء، فإنه إذا كان كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها.

والعدّة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدّة.

وقال الأوزاعي: اذا دخل بها عند أهلها، قبلَّها أو لمسها، ثم طلقها ولم يجامعها، وكان أرخى عليها ستراً أو أغلق باباً فقد تم الصداق. وقال الليث: إذا أرخى عليها ستراً فقد وجب الصداق.

وقرأ الجمهور: فنصف بكسر النون وضم الفاء، وقرأ السلمي بضم النون، وهي قراءة علي والأصمعي عن أبي عمرو، وفي جميع القرآن. وتقدم أن ذلك لغة، والاقتصار على قوله: { فنصف ما فرضتم } يدل على أن المطلقة قبل المسيس، وقد فرض لها، ليس لها إلاَّ النصف. وكذلك قال مالك وغيره: إن هذه الآية مخرجة للمطلقة بعد الفرض وقبل المسيس من حكم التمتيع، إذ كان قد تناولها قوله: { ومتعوهنّ }.

وقال ابن المسيب: نسخت هذه الآية آية الاحزاب، وقال قتادة: نسخت الآية التي قبلها، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة، وقال فريق من العلماء، منهم أبو ثور: بينت هذه الآية أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض، ولم تتعرض الآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة ونصف المفروض، وقد تقدّم الكلام على شيء من هذا.

{ إلا أن يعفون } نص ابن عطية وغيره على أن هذا استثناء منقطع، قاله ابن عطية، لأن عفوهنّ عن النصف ليس من جنس أخذهن، والمعنى إلاَّ أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج. إنتهى.

وقيل: وليس على ما ذهبوا إليه، بل هو استثناء متصل، لكنه من الأحوال، لأن قوله: فنصف ما فرضتم، معناه: عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلاَّ في حال عفوهن عنكم، فلا يجب، وإن كان التقدير: فلهن نصف فالواجب ما فرضتم، فكذلك أيضاً وكونه استثناء من الأحوال ظاهر، ونظيره: { { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } [يوسف: 66] إلاَّ أن سيبويه منع أن تقع أن وصلتها حالاً، فعلى قول سيبويه يكون: { إلاَّ أن يعفون } استثناءً منقطعاً.

وقرأ الحسن: إلاَّ أن يعفونه، والهاء ضمير النصف، والأصل: يعفون عنه، أي: عن النصف، فلا يأخذنه. وقال بعضهم: الهاء للاستراحة، كما تأول ذلك بعضهم في قول الشاعر:

هم الفاعلون الخير والآمرونه على مدد الأيام ما فعل البر

وحركت تشبيهاً بهاء الضمير. وهو توجيه ضعيف.

وقرأ ابن أبي إسحاق: إلاَّ أن تعفون، بالتاء بثنتين من أعلاها، وذلك على سبيل الالتفات، إذ كان ضميرهن غائباً في قوله: لهن، وما قبله فالتفت إليهن وخاطبهن، وفي خطابه لهن، وجعل ذلك عفواً ما يدل على ندب ذلك واستحبابه.

وفرق الزمخشري بين قولك: الرجال يعفون، والنساء يعفون، بأن الواو في الأول ضمير، والنون علامة الرفع، والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل. إنتهى. فرقه، وهذا من النحو الجلي الذي يدرك بأدنى قراءة في هذا العلم، ونقصه أن يبين أن لازم الفعل في الرجال: يعفون، حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وأن يذكر خلافاً في نحو النساء يعفون، فذهب ابن درستويه من المتقدّمين، والسهيلي من المتأخرين، إلى أن الفعل إذا اتصلت به نون الإناث معرب لا مبني، وينسب ذلك إلى كلام سيبويه. والكلام على هذه المسألة موضح في علم النحو.

وظاهر قوله: { إلاَّ أن يعفون } العموم في كل مطلقة قبل المسيس، وقد فرض لها، فلها أن تعفو. قالوا: وأريد هنا بالعموم الخصوص، وكل امرأة تملك أمر نفسها لها أن تعفو، فأما من كانت في حجاب أو وصي فلا يجوز لها العفو، وأما البكر التي لا وليّ لها، فقال ابن عباس، وجماعة من التابعين والفقهاء: يجوز ذلك لها، وحكى سحنون، عن ابن القاسم: أنه لا يجوز ذلك لها.

{ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وهو: الزوج، قاله علي، وابن عباس وجبير بن مطعم، وشريح رجع إليه، وابن جبير، ومجاهد، وجابر بن زيد، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وابن شبرمة، وأبو حنيفة، وذكر ذلك عن الشافعي.

وعفوه أن يعطيها المهر كله، وروي أن جبير بن مطعم تزوج وطلق قبل الدخول، فأكمل الصداق، وقال: أنا أحق بالعفو.

وسمي ذلك عفواً إما على طريق المشاكلة، لأن قبله { إلا أن يعفون } أو لأن من عادتهم أن كانوا يسوقون المهر عند التزوج، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: "فأين درعك الحطيمة" يعني أن يصدقها فاطمة صلى الله على رسول الله وعليها، فسمى ترك أخذهم النصف مما ساقوه عفوا عنه.

وروي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، وطاووس، والشعبي، وإبراهيم، ومجاهد، وشريح، وأبي صالح، وعكرمة، والزهري، ومالك، والشافعي، وغيرهم: أنه الولي الذي المرأة في حجره، فهو: الأب في ابنته التي لم تملك أمرها، والسيد في أمته؛ وجوّز شريح عفو الأخ عن نصف المهر، وقال: أنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن، وقال عكرمة: يجوز أن يعفو عمّاً كان أو أخاً أو أباً، وإن كرهت، ويكون دخول.

أو: هنا للتنويع في العفو، { إلاَّ أن يعفون } إن كنّ ممن يصح العفو منهنّ، أو يعفو وليهنّ، إن كنّ لا يصح العفو منهنّ، أو للتخيير، أي: هنّ مخيرات بين أن يعفون، أو يعفو وليهنّ.

ورجح كونه الولي بأن الزوج المطلق يبعد فيه أن يقال بيده عقدة النكاح، وأن يجعل تكميله الصداق عفواً، وأن يبهم أمره حتى يبقى كالملبس، وهو قد أوضح بالخطاب في قوله: { فنصف ما فرضتم } فلو جاء على مثل هذا التوضيح لكان: إلاَّ أن يعفون أو تعفوا أنتم ولا تنسوا الفضل بينكم، فدل هذا على أنها درجة ثالثة، إذ ذكر الأزواج، ثم الزوجات، ثم الأولياء.

وأجيب عن الأول: بأن { بيده عقدة النكاح } من حيث كان عقدها قبل، فعبر بذلك عن الحالة السابقة، وللنص الذي سبق في قوله: { ولا تعزموا عقدة النكاح } والمراد به خطاب الأزواج.

وعن الثاني: أنه على سبيل المشاكلة، أو لكونه قد ساق الصداق إليها، وقد تقدّم ذكر ذلك.

وعن الثالث: أنه لا إلباس فيه، وهو من باب الالتفات، إذ فيه خروج من خطاب إلى غيبة، وإنما قلنا: لا إلباس فيه، وأنه يتعين أن يكون الزوج، لإجماع أهل العلم على أنه لا يجوز للأب أن يهب شيئاً من مال ابنته لا لزوج ولا لغيره، فكذلك المهر، إذ لا فرق.

ويحتمل أن يكون قوله: { بيده عقدة النكاح } على حذف مضاف أي: بيده حل عقدة النكاح، كما قالوا في قوله: { ولا تعزموا عقدة النكاح } أي: على عقدة النكاح.

ولو فرضنا أن قوله: { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } من المتشابه، لوجب ردّه إلى المحكم. قال الله تعالى: { وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [النساء: 4] وقال تعالى: { وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } [النساء: 20] وقال: { { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إلا أن يخافا } [البقرة: 229] الآية. فهذه الآية محكمة تدل على أن الولي لا دخول له في شيء من أخذ مال الزوجة، ورجح أيضاً أنه الزوج بأن عقدة النكاح كانت بيد الولي فصارت بيد الزوج، وبأن العفو إنما يطلق على ملك الإنسان وعفو الولي عفو عنما لا يملك، وبأن قوله: { ولا تنسوا الفضل } يدل على أن الفضل في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره.

وقرأ الحسن: أو يعفو، بتسكين الواو، فتسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها، فإذا وقف أثبتها، وفعل ذلك استثقالاً للفتحة في حرف العلة، فتقدر الفتحة فيها كما تقدّر في الألف في نحو: لن يخشى، وأكثر العرب على استخفاف الفتحة في الواو والياء في نحو: لن يرمي ولن يغزو، وحتى إن أصحابنا نصوا على أن إسكان ذلك ضرورة، وقال:

فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب

قال ابن عطية: والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب، وقد قال الخليل،رحمه الله : لم يجىء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلاَّ في قولهم: عفوة، وهو جمع: عفو، وهو ولد الحمار، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو مفتوحة، فإنها ثقيلة. انتهى كلامه.

وقوله: لقلة مجيئها في كلام العرب، يعني مفتوحة مفتوحاً ما قبلها، هذا الذي ذكر فيه تفصيل، وذلك أن الحركة قبلها إما أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة، إن كانت ضمة فإما أن يكون ذلك في فعل أو اسم، إن كان في فعل فليس ذلك بقليل، بل جميع المضارع إذا دخل عليه الناصب، أو لحقه نون التوكيد، على ما أحكم في بابه، ظهرت الفتحة فيه نحو: لن يغزو، وهل يغزون، والأمر نحو: اغزون، وكذلك الماضي على فعل نحو: سَرَوَ الرجل، حتى ما بني من ذوات الباء على فعل تقول فيه: لقضوَ الرجل، ولرَموَتِ اليد، وهو قياس مطرد على ما أحكم في بابه؛ وإن كان في اسم فإما أن يكون مبنياً على هاء التأنيث، أو لا. إن كان مبنياً على هاء التأنيث فجاء كثيراً نحو: عرقوة، وترقوة، وقمحدوة، وعنصوة، وتبنى عليه المسائل في علم التصريف، وإن كانت الحركة فتحة فهو قليل، كما ذكره الخليل، وإن كانت كسرة انقلبت الواو فيه ياء، نحو الغازي، والغازية، والعريقية، وشذ من ذلك: أقروَه جمع قرو، وهي ميلغة الكلب، و: سواسوة وهم: المستوون في الشر، و: مقاتوه جمع مقتو، وهو السايس الخادم.

والألف واللام في النكاح للعهد أي عقدة لها، قال المغربي: وهذا على طريقة البصريين، وقال غيره الألف واللام بدل الإضافة أي: نكاحه، قال الشاعر:

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الناس والأحلام غير عوازب

أي: وأحلامهم، وهذا على طريقة الكوفيين.

{ وأن تعفوا أقرب للتقوى }. هذا خطاب للزوج والزوجة، وغلب المذكر، قاله ابن عباس. وقال ابن عطية: خاطب تعالى الجميع تأدباً بقوله: { وأن تعفوا أقرب للتقوى } أي: يا جميع الناس. إنتهى كلامه.

والذي يظهر أنه خطاب للأزواج فقط، وقاله الشعبي، إذ هم المخاطبون في صدر الآية، فيكون ذلك من الالتفات، إذ رجع من ضمير الغائب، وهو الذي بيده عقدة النكاح على ما اخترناه في تفسيره، إلى الخطاب الذي استفتح به صدر الآية، وكون عفو الزوج أقرب للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها، إذ كان قد فاتها منه صحبته، فلا يفوتها منه نحلته، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردّها إليه، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب فيها، فانجبرت بذلك.

وقرأ الشعبي، وأبو نهيك: وأن يعفوا، بالياء باثنتين من تحتها، جعله غائباً، وجمع على معنى: الذي بيده عقدة النكاح، لأنه للجنس لا يراد به واحد، وقيل: هذه القراءة تؤيد أن العفو مسند للأزواج، قيل: والعفو أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه. وقيل: لاتقاء معاصي الله.

و: أقرب، يتعدّى بالَّلام كهذه، ويتعدّى بإلى كقوله: { ونحن أقرب إليه } [ق: 16، الواقعة: 85] ولا يقال: إن اللام بمعنى إلى، ولا إن اللام للتعليل، بل على سبيل التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر، فمعنى اللام ومعنى إلى متقاربان من حيث التعدية، وقد قيل: بأن اللام بمعنى إلى، فيكون ذلك من تضمين الحروف، ولا يقول به البصريون. وقيل أيضاً: إن اللام للتعليل، فيدل على علة ازدياد قرب العفو على تركه، والمفضل عليه في القرب محذوف، وحسن ذلك كون أفعل التفضيل وقع خبراً للمبتدأ، والتقدير: والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو.

{ ولا تنسوا الفضل بينكم } الخطاب فيه من الخلاف ما في قوله: { وأن تعفوا }.

والنسيان هنا الترك مثل: { نسوا الله فنسيهم } [التوبة: 67] والفضل: هو فعل ما ليس بواجب من البر، فهو من الزوج تكميل المهر، ومن الزوجة ترك شطره الذي لها، قاله مجاهد، وإن كان المراد به الزوج فهو تكميل المهر.

ودخل جبير بن مطعم على سعد بن أبي وقاص، فعرض عليه بنتاً له، فتزوّجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملاً، فقيل له: لم تزوّجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت ردّه، قيل: فلم بعثت بالصداق كاملاً؟ قال: فأين الفضل؟.

وقرأ علي، ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: ولا تناسوا الفضل. قال ابن عطية وهي قراءة متمكنة المعنى، لأنه موضع تناسٍ لا نسيان إلاّ على التشبيه. إنتهى.

وقرأ يحيى بن يعمر: ولا تنسوا الفضل، بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، تشبيهاً للواو التي هي ضمير بواو ولو في قوله تعالى: { لو استطعنا } [التوبة: 42] كما شبهوا: واو: لو، بواو الضمير، فضموها، قرأ { لو استطعنا } [التوبة: 42] بضم الواو.

وانتصاب: بينكم، بالفعل المنهي عنه و: بين، مشعر بالتخلل والتعارف، كقوله: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [البقرة: 188] فهو أبلغ من أن يأتي النهي عن شيء لا يكون بينهم، لأن الفعل المنهي عنه لو وقع لكان ذلك مشتهراً بينهم، قد تواطأوا عليه وعلموا به، لأن ما تخلل أقواماً يكون معروفاً عندهم.

{ إن الله بما تعملون بصير } ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات، لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين، وهو أن يدفع شطر ما قبضن أو يكملون لهنّ الصداق، هو مشاهد مرئي، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات.

ولما كان آخر قوله: { والذين يتوفون منكم } الآية قوله: { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ } مما يدرك بلطف وخفاء، ختم ذلك بقوله: { والله بما تعملون خبير } وفي ختم هذه الآية بقوله: { إن الله بما تعملون بصير } وعد جميل للمحسن وحرمان لغير المحسن.

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة والتي قبلها أنواعاً من الفصاحة، وضروباً من علم البيان والبلاغة.

الكناية في: أن تمسوهنّ، والتجنيس المغاير، في: فرضتم لهنّ فريضة، والطباق في: الموسع والمقتر، والتأكيد بالمصدرين في: متاعاً وحقاً، والاختصاص: في: حقاً على المحسنين، ويمكن أن يكون من: التتميم، لما قال: حقاً، أفهم الإيجاب، فلما قال: على المحسنين تمم المعنى، وبيَّن أنه من باب التفضل والإحسان لا من باب الإيجاب، فلما قال: على المحسنين تمم التعميم، وبين أنه من باب التفضل والإحسان، لا من باب الإيجاب؛ والالتفات: في: وأن تعفوا، ولا تنسوا؛ والعدول عن الحقيقة إلى المجاز في: الذي بيده عقدة النكاح، عبر عن الإيجاب والقبول بالعقدة التي تعقد حقيقة، لما في ذلك القول من الارتباط لكل واحد من الزوجين بالآخر.

{ حافظوا على الصلوات } قالوا: هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها، والمطلقات، وهي متقدّمة عليهنّ في النزول، متأخرة في التلاوة ورسم المصحف، وشبهوها بقوله: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } [البقرة: 67] وبقوله: { وإذ قتلتم نفساً } [البقرة: 72] قالوا: فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات التي ذكر فيها القتال، لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف، قالوا: وجاء ما هو متعلق بأبعد من هذا، زعموا أن قوله تعالى: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } [النساء: 123] رداً لقوله: { { وقالوا لن يدخل الجنة إلاَّ من كان هوداً أو نصارى } [البقرة: 111] قالوا: وأبعد منه: { سأل سائل بعذاب واقع } [المعارج: 1] راجع إلى قوله: { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } [الأنفال: 32] الآية قالوا: أو يجوز أن يكون حدث خوف قبل إنزال إتمام أحكام المطلقات، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى بيانه، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات.

قالوا: ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف، متأخرة في النزول قبل هذه الآيات، على قوله بعد هذه الآية: { وقاتلوا في سبيل الله } [البقرة: 190، 244] وهذه كلها أقوال كما ترى.

والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى، لما ذكر تعالى جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات، وأحكامهم في النكاح والوطء، والإيلاء والطلاق، والرجعة، والإرضاع والنفقة والكسوة، والعدد والخطبة، والمتعة والصداق والتشطر، وغير ذلك، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت، ويبلغ منه الجهد، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلاَّ لمن وفقه الله تعالى، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق، ولذلك جاء: "فدين الله أحق أن يقضى" فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهنّ عن أداء ما فرض الله عليكم، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة، حتى في حالة الخوف، فلا بد من أدائها رجالاً وركباناً، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جداً لا بد معها من الصلاة، فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء.

وقيل: مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فيكون ذلك عوناً لهم على امتثالها، وصوناً لهم عن مخالفتها، وقيل: وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها، أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على حقوق الخلق بقوله: { ولا تنسوا الفضل بينكم } ناسب أن يأمر بالمحافظة على حقوق الحق، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة، وقد ذكره، ومنها ما يتعلق بالممات، ذكره بعده، في قوله: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية } [البقرة: 240] الآية.

والخطاب: بـ{ حافظوا } لجميع المؤمنين، وهل يعم الكافرين؟ فيه خلاف. و: حافظوا، من باب: طارقت النعل، ولما ضمن المعنى التكرار والمواظبة عدى بعلى، وقد رام بعضهم أن يبقى فاعل على معناها الأكثر فيها من الاشتراك بين اثنين، فجعل المحافظة بين العبد وبين الرب، كأنه قيل: احفظ هذه الصلاة يحفظك الله الذي أمر بها، ومعنى المحافظة هنا: دوام ذكرها، أو الدوام على تعجيلها في أول أوقاتها، أو: إكمال فروضها وسننها، أو جميع ما تقدّم. أقوال أربعة.

والألف واللام فيها للعهد، وهي: الصلوات الخمس. قالوا: وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة، فالمراد بها الصلوات الخمس.

{ والصلاة الوسطى } الوسطى فعلى مؤنثة الأوسط، كما قال أعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم وأكرم الناس أمَّاً برّة وأبا

وهو خيار الشيء وأعدله، كما يقال: فلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهل سميت: الوسطى، لكونها بين شيئين من: وسط فلان يسط، إذا كان وسطاً بين شيئين؟ أو: من وسط قومه إذا فضلهم؟ فيه قولان، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى مؤنث الأوسط، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل، كالبيت الذي أنشدناه: يا أوسط الناس، وذكر أن أفعل التفضيل لا يبنى إلاَّ مما يقبل الزيادة والنقص، وكذلك فعل التعجب، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ألا ترى أنك لا تقول زيد أموت الناس؟ ولا: ما أموت زيداً؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص، وإذا تقرر هذا فكون الشيء وسطاً بين شيئين لا يقبل الزيادة ولا النقص، فلا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل، لأنه لا تفاضل فيه، فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل، لأن ذلك معنى يقبل التفاوت، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر، وان كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها، تنبيهاً على فضلها على غيرها من الصلوات، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله: { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } [البقرة: 98] وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } [الأحزاب: 7] الآية، وعلى فضل النخل والرمان في قوله: { فيهما فاكهة ونخل ورمان } [الرحمن: 68] وقد تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله: { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } [البقرة: 98].

وكثر اختلاف العلماء، من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم، في المراد بالصلاة الوسطى، ولهذا قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه.

والذي تلخص فيه أقوال:

أحدها: أنها العصر، قاله عليّ، وابن مسعود، وأبو أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبو هريرة، وابن عباس في رواية عطية، وأبو سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وحفصة، والحسن بن المسيب، وابن جبير، وعطاء في رواية، وطاووس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن حميد، وزر بن حبيش، وقتادة، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي في قول، وعبد الملك بن حبيب، من أصحاب مالك، وهو اختيار الحافظ أبي بكر بن العربي في كتابه المسمى (بالقبس في شرح موطأ مالك بن أنس) واختيار أبي محمد بن عطية في تفسيره، وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً" . وقال عليّ: كنا نراها الصبح حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فعرفنا أنها العصر.

وروى أبو مالك الاشعري، وسمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" ، وفي مصحف عائشة، وإملاء حفصة؛ والصلاة الوسطى وهي العصر، ومن روى: وصلاة العصر، أول على أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى.

وقرأ أبيّ، وابن عباس، وعبيد بن عمير: والصلاة الوسطى، صلاة العصر، على البدل.

الثاني: أنها الفجر، روي ذلك عن عمر، وعلي في رواية، وأبي موسى ومعاذ، وجابر، وأبي أمامة، وابن عمر في رواية مجاهد، وأنس، وجابر بن زيد، وعطاء، وعكرمة، وطاووس في رواية ابنه، ومجاهد، وعبد الله بن شدّاد، ومالك، والشافعي في قول: وقد قال أبو العالية: صليت مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغداة، فقلت لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل. ورووا عن أبي رجاء العطاردي قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فقنت فيها قبل الركوع، ورفع يديه، فلما فرع قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا بها أن نقوم فيها قانتين" .

الثالث: أنها الظهر، روي ذلك عن ابن عمر، وزيد، وأسامة، وأبي سعيد، وعائشة. وفي رواية قالوا: وروى زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الهاجرة والناس في هاجرتهم، فلم يجتمع إليه أحد فتكلم في ذلك" . فانزل الله تعالى: { والصلاة الوسطى } يريد الظهر، وقد روي أنه لا يكون وراءه إلاَّ الصف والصفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم" فنزلت هذه الآية: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى }.

الرابع: أنها المغرب، روي ذلك عن ابن عباس، وقبيصة بن ذؤيب.

الخامس: أنها العشاء الآخرة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في تفسيره، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن فرقة.

السادس: أنها الصلوات الخمس، قاله معاذ بن جبل.

السابع: أنها احدى الصلوات الخمس، لا بعينها. وبه قال: سعيد بن المسيب، وأبو بكر الوراق، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء، وساعة الإجابة في يوم الجمعة، وقد رواه نافع عن ابن عمر، وقاله الربيع بن خيثم، وقد روي أنه نزلت: والصلاة الوسطى، صلاة العصر، ثم نسخت فنزلت: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فيلزم من هذا نسخ تعيينها، وأبهمت بعد أن عينت. قال القرطبي المفسر: وهو الصحيح إن شاء الله لتعارض الأدلة وعدم الترجيح، فلم يبق إلاَّ المحافظة على جميعها وأدائها.

الثامن: أنها الجمعة، وفي سائر الأيام الظهر. روي ذلك عن علي، ذكره ابن حبيب.

التاسع: أنها العتمة والصبح، قاله عمر وعثمان.

العاشر: أنها الصبح والعصر معاً، قاله أبو بكر الأبهري من فقهاء المالكية.

ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها: أن الوسطى هي كذا، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة، ورُجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا، ولا حجة في شيء من ذلك، لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنها التي أراد الله بقوله: { والصلاة الوسطى } ولأن كونها وسطاً بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل، كما بيناه قبل.

وقد صنف شيخنا الإمام المحدّث، أوحد زمانه وحافظ أوانه، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتاباً في هذا المعنى سماه (كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى) قرأناه عليه، ورجح فيه أنها صلاة العصر، وأن ذلك مروي نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ذلك عنه: عليّ بن أبي طالب، واستفاض ذلك عنه، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة. وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها، وزاد سبعة أقاويل:

أحدها: أنها الجمعة خاصة. الثاني: أنها الجماعة في جميع الصلوات. الثالث: أنها صلاة الخوف. الرابع: أنها الوتر، واختاره أبو الحسن عليّ بن محمد السخاوي النحوي المقري. الخامس: أنها صلاة عيد الأضحى. السادس: أنها صلاة العيد يوم الفطر. السابع: أنها صلاة الضحى، حكاه بعضهم وتردد فيه.

فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولاً، والذي ينبغي أن نعوّل عليه منها هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: أنها صلاة العصر، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد،رحمه الله ، أخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر اسماعيل بن عبد المحسن الدمشقي، بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر، حرسها الله، عن أبي الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري، قال: أخبرنا فقيه الحرم: أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي، قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار الفارسي (ح).

وأخبرنا أستادنا العلامة أبو جعفر، أحمد بن إبراهيم بن الزبير بالثقفي، بقراءتي عليه بغرناطة، من جزيرة الاندلس، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الفارقي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث (ح).

وأخبرنا القاضي أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص، مناولة عن أبي القاسم أحمد بن عمر بن أحمد الخزرجي، وهو آخر من حدّث عنه، ولم يحدّثنا عنه من شيوخنا غيره، عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن موهب الجذامي، وهو آخر من حدّث عنه عن أبي العباس بن دلهاث، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن مندار بمكة قالا، أعني عبد الغفار، وابن مندار: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي، قال: أخبرنا أبو اسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، أخبرنا الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، قال: وحدّثنا عون بن سلام الكوفي، حدّثنا محمد بن طلحة اليامي، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس، أو اصفرّت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً" ، أو: "حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً" ..

وقرأ عبد الله، وعلي: { الصلاة الوسطى } باعادة الجار على سبيل التوكيد، وقرأت عائشة: والصلاة، بالنصب، ووجه الزمخشري على أنه نصب على المدح والاختصاص، ويحتمل أن يراعى موضع: على الصلاة، لأنه نصب كما تقول: مررت بزيد وعمرا، وروي عن قالون أنه قرأ: الوصطى، بالصاد أبدلت السين صاداً لمجاورة الطاء، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله: الصراط.

{ وقوموا لله قانتين } أي: مطيعين قاله الشعبي، وجابر بن زيد، وعطاء، وابن جبير، والضحاك، والحسن. أو: خاشعين، قاله مجاهد، أو: مطيلين القيام، قاله ابن عمر، والربيع. أو: داعين، قاله ابن عباس، أو: ساكتين، قاله السدّي، أو: عابدين، أو: مصلين، أو: قارئين، روي هذا عن ابن عمر، أو: ذاكرين الله في القيام، قاله الزمخشري أو: راكدين كافي الأيدي والأبصار، قاله مجاهد، وهو الذي عبر عنه قبل بالخشوع.

والأظهر حمله على السكوت، إذ صح أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة، حتى نزلت: { وقوموا لله قانتين } فأمروا بالسكوت. والمعنى: وقوموا في الصلاة.

وروي أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره، أو يلتفت، أو يقلب الحصا، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا، وإذا كان القنوت في الآية هو السكوت على ما جاء في الحديث، فأجمعوا على أنه: لو تكلم عامداً وهو يعلم أنه في الصلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته، فسدت صلاته إلاَّ ما روي عن الأوزاعي: أن الكلام لإحياء نفس، أو مثل ذلك من الأمور الجسام، لا يفسد الصلاة.

أو: ساهياً، فقال مالك والشافعي: لا تفسد، وعن مالك في بعض صور الكلام خلاف بينه وبين أصحابه، وقال أبو حنيفة، والثوري: تفسد كالعمد، لإصلاح صلاة كان أو لغيره، وهو قول النخعي، وعطاء، والحسن، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان.

واختلف قول أحمد فنقل الخرقي كقول أبي حنيفة، ونقل الأثرم عنه: إن تكلم لإصلاحها لم تفسد، أو لغيره فسدت، وهذا قول مالك.

وفي قوله: { وقوموا لله قانتين } دليل على مطلوبية القيام، وأجمعوا على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، كان منفرداً أو إماماً؟ واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي خلف إمام مريض قاعداً ولا يستطيع القيام، فأجاز ذلك جمهور العلماء: جابر بن زيد، والأوزاعي، ومالك، وأحمد، واسحاق، وأبو أيوب، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو خيثمة، وابن أبي شيبة، ومحمد بن اسماعيل، ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل: محمد بن نصر، ومحمد بن اسحاق بن خزيمة: فيصلي وراءه جالساً على مذهب هؤلاء، وأفتى به من الصحابة: جابر، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن فهر. وروى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنس، وعائشة، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر، وأبو أمامة الباهلي.

وأجازت طائفة صلاة القائم خلف صلاة المريض قاعداً، وإلى هذا ذهب: الشافعي، وداود، وزفر، وجماعة بالمدينة، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك وهي رواية غريبة عنه. والمشهور عن مالك أنه لا يؤم أحد جالساً، فإن فعل بطلت صلاته وصلاتهم إلا إن كان عليلاً، فتصح صلاته وتفسد صلاتهم، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن، قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: وأول من أبطل صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه جالساً المغيرة بن مقسم صاحب النخعي، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة، وتبعه عليه من بعده من أصحابه.

{ فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً } لما ذكر المحافظة على الصلوات، وأمر بالقيام فيها قانتين، كان مما يعرض للمصلين حالة يخافون فيها، فرخص لهم في الصلاة ماشين على الأقدام، وراكبين.

والخوف يشمل الخوف من: عدّو، وسبع، وسيل وغير ذلك، فكل أمر يخاف منه فهو مبيح ما تضمنته الآية هذه.

وقال مالك: يستحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن، وأكثر الفقهاء على تساوي الخوف.

و: رجالاً، منصوب على الحال، والعامل محذوف، قالوا تقديره: فصلوا رجالاً، ويحسن أن يقدر من لفظ الأول، أي: فحافظوا عليها رجالاً، ورجالاً جمع راجل، كقائم وقيام، قال تعالى: { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً } [الحج: 27] وقال الشاعر:

وبنو غدانة شاخص أبصارهم يمشون تحت بطونهنّ رجالاً

والمعنى: ماشين على الأقدام، يقال منه: رجل يرجل رجلاً، إذا عدم المركوب، ومشى على قدميه، فهو راجل ورجل ورجل، على وزن رجل مقابل امرأة. وهي لغة أهل الحجاز، يقولون: مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً، ويقال رجلان ورجيل ورجل، قال الشاعر:

عليّ إذا لاقيتُ ليلى بخلوة أن ازدار بيت الله رجلان حافياً

قالوا: ويجمع على: رجال ورجيل ورُجالي ورجالى ورجالة ورجلان ورَجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل؛ قرأ عكرمة، وأبو مجلز: فرُجَّالاً، بضم الراء وتشديد الجيم، وروي عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء، وقرىء: فرجلاً، بضم الراء وفتح الجيم مشدودة بغير ألف؛ وقرىء: فرجلا، بفتح الراء وسكون الجيم.

وقرأ بديل بن ميسرة: فرجالاً فركباناً بالفاء، وهو جمع راكب. قال الفضل: لا يقال راكب إلاَّ لصاحب الجمل، وأما صاحب الفرس فيقال له فارس، ولراكب الحمار حمَّار، ولراكب البغل بغَّال، وقيل: الأفصح أن يقال: صاحب بغل، وصاحب حمار.

وظاهر قوله: { فإن خفتم } حصول مطلق الخوف، وأنه بمطلق الخوف تباح الصلاة في هاتين الحالتين.

وقالوا: هي صلاة الغداة للذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حالة المسايفة أو ما يشبهه، وأما صلاة الخوف بالإمام، وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية.

وقيل: فرجالاً، مشاة بالجماعة لأنهم يمشون إلى العدو في صلاة الخوف، أو ركباناً أي: وجداناً بالإيماء.

وظاهر قوله: فرجالاً، أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون، فيصلون على كل حال، والركب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة، وهو قول الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف.

ولم تتعرض الآية لعدد الركعات في هذا الخوف، والجمهور أنها لا تقصر الصلاة عن عدد صلاة المسافر إن كانوا في سفر تقصر فيه، وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما: تصلى ركعة إيماء. وقال الضحاك بن مزاحم: تصلى في المسايفة وغيرها ركعة، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين. وقال إسحاق: فإن لم يقدر إلاَّ على تكبيرة واحدة أجزأت عنه، ولو رأوا سواداً فظنوه عدوّاً ثم تبين أنه ليس بعدو، فقال أبو حنيفة: يعيدون.

وظاهر الآية: أنه متى عرض له الخوف فله أن يصلي على هاتي الحالتين، فلو صلى ركعة آمناً ثم طرأ له الخوف ركب وبنى، أو عكسه: أتم وبنى، عند مالك، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني.

وقال أبو حنيفة: إذا استفتح آمناً ثم خاف، استقبل ولم يبن فإن صلى خائفاً ثم أَمن بنى؛ وقال أبو يوسف: لا يبنى في شيء من هذا كله.

وتدل هذه الآية على عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء، وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها.

{ فإذا أمنتم } قال مجاهد أي: خرجتم من السفر إلى دار الإقامة، ورده الطبري، قيل: ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن لأن الإنسان إذا رجع من سفره وحل دار اقامته أمن، فكان السفر مظنة الخوف، كما أن دار الإقامة محل الأمن. وقيل: معنى فإذا أمنتم أي: زال خوفكم الذي ألجاكم إلى هذه الصلاة. وقيل: فإذا كنتم آمنين، أي: متى كنتم على أمن قبل أو بعد..

{ فاذكروا الله } بالشكر والعبادة { كما علمكم } أي: أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمَن.

و: ما، مصدرية، و: الكاف، للتشبيه.

أمر أن يذكروا الله تعالى ذكراً يعادل ويوازي نعمة ما علمهم، بحيث يجتهد الذاكر في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك.

ومعنى: كما علمكم، كما أنعم عليكم فعلمكم، فعبر بالمسبب عن السبب، لأن التعليم ناشىء عن إنعام الله على العبد وإحسانه له.

وقد تكون الكاف للتعليل، أي: فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي: يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم.

{ ما لم تكونوا تعلمون } ما: مفعول ثان لعلمكم، وفيه الامتنان بالتعليم على العبد، وفي قوله: { ما لم تكونوا تعلمون } إفهام أنكم علمتم شيئاً لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لولا أنه تعالى علمكموه، أي: أنكم لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا.

وحكى النقاش وغيره أن معنى: { فاذكروا الله } أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها، أي: صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها وتكون: ما، في: { كما علمكم } موصولة أي: فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم، وعبر بالذكر عن الصلاة والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين: الصلاة التي كانت أولاً قبل الخوف، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن.

قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل: { ما لم تكونوا } بدل من: ما، التي في قوله: كما، وإلاَّ لم يتسق لفظ الآية. انتهى. وهو تخريج يمكن، وأحسن منه أن يكون بدلاً من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما، إذ التقدير علمكموه، أي: علمكم ما لم تكونوا تعلمون.

وقد أجاز النحويون: جاءني الذي ضربت أخاك، أي ضربته أخاك، على البدل من الضمير المحذوف.