خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
٨٣
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
٨٤
ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٨٥
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٨٦
-البقرة

البحر المحيط

الولدان: الأب والأمّ، وكل منهما يطلق عليه والد، وظاهر الإطلاق الحقيقة. قال:

وذي ولــد لــم يلــده أبــوان

ويقال للأم: والد ووالدة، وقيل: الوالد للأب وحده، وثنياً تغليباً للمذكر. الإحسان: النفع بكل حسن. ذو: بمعنى صاحب، وهو من الأسماء الستة التي ترفع، وفيها الواو، وتنصب وفيها الألف، وتجرّ وفيها الياء. وأصلها عند سيبويه، ذوي، ووزنها عنده: فعل، وعند الخليل: ذوّة، من باب خوّة، وقوّة، ووزنها عنده فعل، وهو لازم الإضافة، وتنقاس إضافته إلى اسم جنس، وفي إضافته إلى مضمر خلاف، وقد يضاف إلى العلم وجوباً، إذا اقترنا وضعاً، كقولهم: ذو جدن، وذو يزن، وذو رعين، وذو الكلاع، وإن لم يقترنا وضعاً، فقد يجوز، كقولهم: في عمرو، وقطري: ذو عمرو، وذو قطري، ويعنون به صاحب هذا الإسم. وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع، وكذلك: أنا ذوبكة، واللهم صلّ على محمد وعلى ذويه. ومما أضيف إلى العلم، وأريد به معنى: ذي مال، ومما أضيف إلى ضمير العلم، وأضيف أيضاً إلى ضمير المخاطب، قال الشاعر:

وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما رجونا قدماً من ذويك الأفاضل

وقد أتت ذو في لغة طيّ موصولة، ولها أحكام في النحو. القربى: مصدر كالرجعى، والألف فيه للتأنيث، وهي قرابة الرحم والصلب، قال طرفة:

وقربت بالقربى وجدك أنه متى يك أمرٌ للنكيثة أشهد

وقال أيضاً:

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند

اليتامى: فعالى، وهو جمع لا ينصرف، لأن الألف فيه للتأنيث، ومفرده: يتيم، كنديم، وهو جمع على غير قياس، وكذا جمعه على أيتام. وقال الأصمعي: اليتم في بني آدم من قبل الأب، وفي غيرهم من قبل الأم. وحكى الماوردي: إن اليتم في بني آدم يقال: من فقد الأم، والأوّل هو المعروف، وأصله الانفراد. فمعنى صبي يتيم: أي منفرد عن أبيه، وسميت الدرّة التي لا مثيل لها: يتيمة لانفرادها، قاله ثعلب. وقيل: أصل اليتم: الغفلة، وسمي الصبي يتيماً، لأنه يتغافل عن بره. وقيل: أصل اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطىء عنه، قاله أبو عمرو. المساكين: جمع مسكين، وهو مشتق من السكون، فالميم زائدة، كمحضير من الحضر. وقد روي: تمسكن فلان، والأصح في اللغة تسكن، أي صار مسكيناً، وهو مرادف للفقير، وهو الذي لا شيء له. وقيل: هو الذي له أدنى شيء. الحسن والحسن، قيل: هما لغتان: كالبخل والبخل. والحسن: مصدر حسن، كالقبح مصدر قبح، مقابل حسن. القليل: اسم فاعل من قلّ، كما أن كثيراً مقابله اسم فاعل من كثر. يقال: قل يقل قلة وقلا وقلاً، الإعراض: التولي، وقيل: التولي بالجسم، والإعراض بالقلب. والعرض: الناحية، فيمكن أن يكون قولك: أعرض زيد عن عمرو، أي صار في ناحية منه، فتكون الهمزة فيه للصيرورة. الدم: معروف، وهو محذوف اللام، وهي ياء، لقوله:

جــرى الدميــان بالخبــر اليقيــن

أو: واو، لقولهم: دموان، ووزنه فعل. وقيل: فعل، وقد سمع مقصوراً، قال:

غفلت ثم أتت تطلبه فإذا هي بعظام ودما

وقال:

ولكـن علـى أعقـابنـا يقطـر الدمـا

في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدّد الميم، قال الشاعر:

أهان دمّك فرغاً بعد عزته يا عمرو نعيك إصراراً على الحسد

الديار: جمع دار، وهو قياس في فعل الاسم، إذا لم يكن مضاعفاً، ولا معتل لام نحو: طلل، وفنى. والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو، إذ أصله دوار، وهو قياس، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعاً لواحد معتل العين، كثوب وحوض ودار، بشرط أن يكون فعالاً صحيح اللام. فإن كان معتله، لم يبدل نحو: واو، قالوا: في جمع طويل: طوال وطيال. أقرّ بالشيء: اعترف به. تظاهرون: تتعاونون، كأنّ المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهره إلى صاحبه، والظهر: المعين. الإثم: الذنب، جمعه آثام. الأسرى: جمع أسير، وفعلى مقيس في فعيل، بمعنى: ممات، أو موجع، كقتيل وجريح. وأما الأسارى فقيل: جمع أسير، وسمع الأسارى بفتح الهمزة، وليست بالعالية. وقيل: أسارى جمع أسرى، فيكون جمع الجمع، قاله المفضل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى: من في اليد، والأسارى: من في الوثاق، والأسير: هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة. الفداء: يكسر أوله فيمد، كما قال النابغة:

مهلاً فداء لك الأقوام كلهم وما أثمروا من مال ومن ولد

ويقصر، قال:

فـدا لـك مـن رب طريفـي وتـالدي

وإذا فتح أوّله قصر، يقال: قم فدا لك أبي، قاله الجوهري. ومعنى فدى فلان فلاناً: أي أعطى عوضه. المحرّم: اسم مفعول من حرم، وهو راجع إلى معنى المنع. تقول: حرمه يحرمه، إذا منعه. الجزاء: المقابلة، ويطلق في الخير والشر. الخزي: الهوان. قال الجوهري: خزي، بالكسر، يخزى خزياً. وقال ابن السكيت: معنى خزي: وقع في بلية، وأخزاه الله أيضاً، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية، إذا استحيا، وهو خزيان، وقوم خزايا، أو امرأة خزيا. الدنيا: تأنيث الأدنى، ويرجع إلى الدنو، ويرجع إلى الدنو، بمعنى القرب. والألف فيه للتأنيث، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر، نحو قوله:

في سعـي دنيـا طـالما قـد مـدّت

والدنيا تارة تستعمل صفة، وتارة تستعمل استعمال الأسماء، فإذا كانت صفة، فالياء مبدلة من واو، إذ هي مشتقة من الدنو، وذلك نحو: العليا. ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله: { { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } [يونس: 24]، فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمال الأسماء، فكذلك. وقال أبو بكر بن السرّاج: في (المقصور والممدود) له الدنيا مؤنثة مقصورة، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دنوى، مثل: شروى، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء، لأنهم يستثقلون الضمة والواو.

{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله } الآية، هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله، وإفراده تعالى بالعبادة، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين، والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي: ثم ذكر توليهم عن ذلك، ونقضهم لذلك الميثاق، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم. وإذ: معطوف على الظروف السابقة قبل هذا. والميثاق: هو الذي أخذه تعالى عليهم، وهم في صلب آبائهم كالذرّ، قاله: مكي، وضعف بأن الخطاب قد خصص ببني إسرائيل، وميثاق الآية فيهم، أو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم، قاله ابن عطية. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، بأن يعبدوه، إلى آخر الآيات. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لا يعبدون، بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق. وقرأ أبيّ وابن مسعود: لا يعبدوا، على النهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوهاً.

أحدها: أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة، وهو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز على الصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولاً في المعنى لميثاق، إذ يحتمل أن يكون مصدراً، أو حكمه حكم المصدر. وإذا كان كذلك، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلاً في المعنى، أو مفعولاً لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل، وهنا ليس المعنى على أن ينحل، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح، بل لو فرضنا كونه مصدراً حقيقة: لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد، لم ينحل لحرف مصدري والفعل: لا يقال: أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ولا كان من ضربا زيداً، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية: أن يتقدر المصدّر بحرف مصدري والفعل، وردّ ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالاً بالمبرد وقطرب، قالوا: ويجوز أن يكون حالاً مقارنة، وحالاً مقدرة. الوجه الثاني: أن تكون الجملة جواباً لقسم محذوف دل عليه قوله: { أخذنا ميثاق بني إسرائيل }، أي استحلفناهم والله لا يعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد. الوجه الثالث: أن تكون أن محذوفة، وتكون أن وما بعدها محمولاً على إضمار حرف جر، التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر، إذ حذفه مع أن، وأن جائز مطرد، إذ لم يلبس، ثم حذف بعد ذلك، أن، فارتفع الفعل، فصار لا تعبدون، قاله الأخفش، ونظيره من نثر العرب: مره بحفرها، ومن نظمها قوله:

ألا أيهـذا الزّاجـري احضـر الوغـى

أصله: مره بأن يحفرها. وعن: أن أحضر الوغى، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه. وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه، فمن النحويين من منعه، وعلى ذلك متأخرو وأصحابنا. وذهب جماعة من النحويين إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع. ثم اختلفوا فقيل: يجب رفع الفعل إذ ذاك، وهذا مذهب أبي الحسن. ومنهم من قال بنفي العمل، وهو مذهب المبرد والكوفيين. والصحيح: قصر ما ورد من ذلك على السماع، وما كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه، لأن فيه حذف حرف مصدري، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها. الوجه الرابع: أن يكون التقدير: أن لا تعبدوا، فحذف أن وارتفع الفعل، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله: { ميثاق بني إسرائيل }. وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه. الوجه الخامس: أن تكون محكية بحال محذوفة، أي قائلين لا تعبدون إلا الله، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله، قاله الفراء، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود، والعطف عليه قوله: { وقولوا للناس حسناً }.

الوجه السادس: أن يكون المحذوف القول، أي وقلنا لهم: { لا تعبدوا إلا الله }، وهو نفي في معنى النهي أيضاً. قال الزمخشري: كما يقول تذهب إلى فلان، تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه. انتهى كلامه، وهو حسن.

الوجه السابع: أن يكون التقدير أن لا تعبدون، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة، لأن في قوله: { أخذنا ميثاق بني إسرائيل } معنى القول، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر. وفي جواز حذف أن المفسرة نظر.

الوجه الثامن: أن تكون الجملة تفسيرية، فلا موضع لها من الإعراب، وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق، فمن قرأ بالياء، فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة، ومن قرأ بالتاء، فهو التفات، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب، ليكون أدعى للقبول، وأقرب للامتثال، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب. ومع جعل الجملة مفسرة، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي، إذ تبعد حقيقة الخبر فيه.

إلا الله: استثناء مفرّع، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله، وفيه التفات. إذ خرج من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب. ألا ترى أنه لو جرى على نسق واحد لكان نظم الكلام لا تعبدون إلا إيانا؟ لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة، والدلالة على سائر الصفات، والتفرّد بالتسمية به، ما ليس في المضمر، ولأن ما جاء بعده من الأسماء، إنما هي أسماء ظاهرة، فناسب مجاورة الظاهر الظاهر.

{ وبالوالدين إحساناً }، المعنى: الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما وإكرامهما. وقد تضمنت آي من القرآن وأحاديث كثيرة ذلك، حتى عد العقوق من الكبائر، وناهيك احتفالاً بهما كون الله قرن ذلك بعبادته تعالى، ومن غريب الحكايات: أن عمر رأى امرأة تطوف بأبيها على ظهرها، وقد جاءت به على ظهرها من اليمن، فقال لها: جزاك الله خيراً، لقد وفيت بحقه، فقالت: ما وفيته ولا أنصفته، لأنه كان يحملني ويود حياتي، وأنا أحمله وأود موته. واختلفوا فيما تتعلق به الباء في قوله: { وبالوالدين }، وفي انتصاب { إحساناً } على وجوه: أحدها: أن يكون معطوفاً على لا تعبدون، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل، إذ التقدير عند هذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي وببر الوالدين، أو بإحسان إلى الوالدين، ويكون انتصاب إحساناً على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، فالعامل فيه الميثاق، لأنه به يتعلق الجار والمجرور، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات. الوجه الثاني: أن يكون متعلقاً بإحساناً، ويكون إحساناً مصدراً موضوعاً موضع فعل الأمر، كأنه قال: وأحسنوا بالوالدين. قالوا: والباء ترادف إلى في هذا الفعل، تقول: أحسنت به وإليه بمعنى واحد، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف، أي وأحسنوا ببر الوالدين، المعنى: وأحسنوا إلى الوالدين ببرهما. وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظاً به. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض، إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول، نحو: ضربا زيداً، وليس بشيء، لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولاً بأن ينحل لحرف مصدري والفعل، أما إذا كان غير موصول، فلا يمتنع تقديمه عليه. فجائز أن تقول: ضربا زيداً، وزيداً ضربا، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر، أو للمصدر النائب عن الفعل، لأن ذلك الفعل هو أمر، والمصدر النائب عنه أيضاً معناه الأمر. فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم. الوجه الثالث: أن يكون العامل محذوفاً، ويقدر: وأحسنوا، أو ويحسنون بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف، فتقديره: وأحسنوا، مراعاة للمعنى، لأن معنى لا تعبدون: لا تعبدوا، أو تقديره؛ ويحسنون، مراعاة للفظ لا تعبدون، وإن كان معناه الأمر. وبهذين قدر الزمخشري هذا المحذوف. الوجه الرابع: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: واستوصوا بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مفعول، قاله المهدوي: الوجه الخامس: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: ووصيناهم بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مفعول من أجله، أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً منا، أي لأجل إحساننا، أي أن التوصية بهما سببها إحساننا، إما لأن من شأننا الإحسان، أو إحساناً منا للموصين، إذ يترتب لهم على امتثال ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم، أو إحساناً منا للموصى بهم. وقد جاء هذا الفعل مصرّحاً به في قوله تعالى: { { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } [العنكبوت: 8]. والمختار، الوجه الثاني: لعدم الإضمار فيه، ولا طراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر.

{ وذي القربى واليتامى والمساكين }: معطوف على قوله: وبالوالدين. وكان تقديم الوالدين لأنهما آكد في البر والإحسان، وتقديم المجرور على العامل اعتناء بمتعلق الحرف، وهما الوالدان، واهتماماً بأمرهما. وجاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد. فبدأ بالوالدين، إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما، ثم بذي القربى، لأن صلة الأرحام مؤكدة أيضاً، ولمشاركته الوالدين في القرابة، ثم باليتامى، لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب، وقد جاء: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" وغير ذلك من الآثار، ثم بالمساكين لما في الإحسان إليهم من الثواب. وتأخرت درجة المساكين، لأنه يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام، ويصلح معيشته، بخلاف اليتامى، فإنهم لصغرهم لا ينتفع بهم، وهم محتاجون إلى من ينفعهم. وأول هذه التكاليف هو إفراد الله بالعبادة، ثم الإحسان إلى الوالدين، ثم إلى ذي القربى، ثم إلى اليتامى، ثم إلى المساكين. فهذه خمسة تكاليف تجمع عبادة الله، والحض على الإحسان للوالدين، والمواساة لذي القربى واليتامى والمساكين، وأفرد ذا القربى، لأنه أراد به الجنس، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة.

{ وقولوا للناس حسناً }: لما ذكر بعد عبادة الله الإحسان لمن ذكر، وكان أكثر المطلوب فيه الفعل من الصلة والإطعام والافتقاد، أعقب بالقول الحسن، ليجمع المأخوذ عليه الميثاق امتثال أمر الله تعالى في الأفعال والأقوال، فقال تعالى: { وقولوا للناس حسناً }. ولما كان القول سهل المرام، إذ هو بدل لفظ، لا مال، كان متعلقه بالناس عموماً إذ لا ضرر على الإنسان في الإحسان إلى الناس بالقول الطيب. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسناً بفتح الحاء والسين. وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر: حسناً بضمهما. وقرأ أبي وطلحة بن مصرّف: حسنى، على وزن فعلى. وقرأ الجحدري: إحساناً. فأما قراءة الجمهور حسناً، فظاهره أنه مصدر، وأنه كان في الأصل قولاً حسناً، أما على حذف مضاف، أي ذا حسن، وأما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه، وقيل: يكون أيضاً صفة، لا أن أصله مصدر، بل يكون كالحلو والمرّ، فيكون الحسن والحسن لغتين، كالحزن والحزن، والعرب والعرب. وقيل: انتصب على المصدر من المعنى، لأن المعنى: وليحسن قولكم حسناً. وأما من قرأ: حسناً بفتحتين، فهو صفة لمصدر محذوف، أي وقولوا للناس قولاً حسناً. وأما من قرأ بضمتين، فضمة السين إتباع لضمة الحاء. وأما من قرأ: حسنى، فقال ابن عطية: رده سيبويه، لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدراً، كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى كلامه. وفي كلامه ارتباك، لأنه قال: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، وليس على ما ذكر. أما أفعل فله استعمالات: أحدها: أن يكون بمن ظاهرة، أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، فهذا لا يتعرف بحال، بل يبقى نكرة. والاستعمال الثاني: أن يكون بالألف واللام، فإذ ذاك يكون معرفة بهما. الثالث: أن يضاف إلى معرفة، وفي التعريف بتلك الإضافة خلاف، وذلك نحو: أفضل القوم. وأما فعلى فلها استعمالان: أحدهما: بالألف واللام، ويكون معرفة بهما. والثاني: بالإضافة إلى معرفة نحو: فضلى النساء. وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل، فقول ابن عطية: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، ليس بصحيح. وقوله: إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل، إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدراً، وليس كذلك، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدراً إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة. فلا يجوز أن يعتقد في فعلى، التي مذكرها أفعل، أنها تصير مصدراً إذا زال منها معنى التفضيل. ألا ترى أن كبرى وصغرى وجلى وفضلى، وما أشبه ذلك، لا ينقاس جعل شيء منها مصدراً بعد إزالة معنى التفضيل؟ بل الذي ينقاس على رأي أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل، صارت بمعنى: كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة. كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنى التفضيل، كان أكبر بمعنى كبير، وأفضل بمعنى فاضل، وأطول بمعنى طويل. ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائداً إلى حسنى، لا إلى فعلى، ويكون استثناء منقطعاً، كأنه قال: إلا أن يزال عن حسنى، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدراً، كالعقبى. ومعنى قوله: وهو وجه القراءة بها، أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين: أحدهما: المصدر، كالبشرى، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول: حسن حسنى، كما تقول: رجع رجعى، وبشر بشرى، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدراً لا ينقاس. والوجه الثاني: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أي وقولوا للناس كلمة حسنى، أو مقالة حسنى. وفي الوصف بها وجهان: أحدهما: أن تكون باقية على أنها للتفضيل، واستعمالها بغير ألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر، وقد جاء ذلك في الشعر، قال الشاعر:

وإن دعوت إلى جلى ومكرمة يوماً كرام سراة الناس فادعينا

فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة. والوجه الثاني: أن تكون ليست للتفضيل، فيكون معنى حسنى: حسنة، أي وقولوا للناس مقالة حسنة، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته في معنى: حسن إخوته. وأما من قرأ: إحساناً فيكون نعتاً لمصدر محذوف، أي قولاً إحساناً، وإحساناً مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي قولاً ذا حسن، كما تقول: أعشبت الأرض إعشاباً، أي صارت ذات عشب. واختلف المفسرون في معنى قوله: { وقولوا للناس حسناً }، فقال ابن عباس: قولوا لهم لا إله إلا الله، ومروهم بها. وقال ابن جريج: قولوا لهم حسناً في الإعلام بما في كتابكم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو العالية: قولوا لهم القول الطيب، وجاوبوهم بأحسن ما تحبون أن تجاوبوا به. وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. وقال ابن عباس أيضاً صدقاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في المخاطب بقوله: وقولوا للناس حسناً، من هو؟.

فالظاهر أنه من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل: أن لا تعبدوا إلا الله، وأن تقولوا للناس حسناً. وعلى قراءة من قرأ: لا يعبدون بالياء، يكون التفاتاً، إذ خرج من الغيبة إلى الخطاب. وقيل: المخاطب الأمة، والأول أقرب لتكون القصة واحدة مشتملة على مكارم الأخلاق، ولتناسب الخطاب الذي بعد ذلك من قوله: { ثم توليتم }، إلى آخر الآيات فإنه، لا يمكن أن يكون في بني إسرائيل. وظاهر الآية يدل على أن الإحسان للوالدين، ومن عطف عليه، والقول الحسن للناس، كان واجباً على بني إسرائيل في دينهم، لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب، وكذا ظاهر الأمر، وكأنه ذمهم على التولي عن ذلك. وروي عن قتادة أن قوله: { وقولوا للناس حسناً } منسوخ بآية السيف، وهذا لا يتأتى إلا إذا قلنا إن المخاطب بها هذه الأمة، ومن الناس من خصص هذا العموم بالمؤمنين، أو بالدعاء إلى الله تعالى بما في الأمر بالمعروف، فيكون تخصيصاً بحسب المخاطب، أو بحسب الخطاب. وزعم أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره، وأنه لا حاجة إلى التخصيص. قيل: وهذا هو الأقوى. والدليل عليه، أن هارون وموسى، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، أمرا بالرفق مع فرعون، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له: { { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [النحل: 125]، وقال تعالى: { { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } [الأنعام: 108]، { { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [الفرقان: 72]، { { وأعرض عن الجاهلين } [الأعراف: 199]. ومن قال: لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق، استدل بأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم، وبقوله تعالى: { { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم } [النساء: 148] .

{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }: إن كان هذا الخطاب للمؤمنين، فيكون من تلوين الخطاب. وقد تقدم الكلام على تفسير هاتين الجملتين. وإن كان هذا الخطاب لبني إسرائيل، وهو الظاهر، لأن ما قبله وما بعده يدل عليه، فالصلاة هي التي أمروا بها في التوراة، وهم إلى الآن مستمرون عليها. وروي عن ابن عباس: أن زكاة أموالهم كانت قرباناً تهبط إليهم نار فتحملها، فكان ذلك تقبله، وما لا تفعل النار ذلك به، كان غير متقبل. وقيل: الصلاة هي هذه المفروضة علينا، والخطاب لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبناء اليهود، ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون أمرهم بالصلاة والزكاة أمراً بالإسلام. والثاني: على قول من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان والزكاة هي هذه المفروضة، وقيل: الصلاة والزكاة هنا الطاعة لله وحده. ومعنى هذا القول أنه كنى عن الطاعة لله تعالى بالصلاة والزكاة اللتين هما أعظم أركان الإسلام.

{ ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون }: ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل الذين أخذ الله عليهم الميثاق. وقيل: هو خطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره. والمعنى: ثم توليتم عما أخذ عليكم من الميثاق، والمعنيُّ بالقليل القليل في عدد الأشخاص. فقيل: هذا القليل هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: من آمن قديماً من أسلافهم، وحديثاً كعبد الله بن سلام وغيره. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان، أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى. انتهى كلامه، وهو احتمال بعيد من اللفظ، إذ الذي يتبادر إليه الفهم إنما هو استثناء أشخاص قليلين من الفاعل الذي هو الضمير في توليتم، ونصب: قليلاً، على الاستثناء، وهو الأفصح، لأن قبله موجب. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: إلا قليل، بالرفع. وقرأ بذلك أيضاً قوم، قال ابن عطية: وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم، وجاز ذلك، يعني البدل، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي، لأن توليتم معناه النفي، كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل، انتهى كلامه. والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز، لو قلت: قام القوم إلا زيد، بالرفع على البدل، لم يجز، قالوا: لأن البدل يحلّ محلّ المبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب. وأما ما اعتلّ به من تسويغ ذلك، لأن معنى توليتم النفي، كأنه قيل: لم يفوا إلا قليل، فليس بشيء، لأن كل موجب، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضدّه، كان كذلك، فليجز: قام القوم إلا زيد، لأنه يؤوّل بقولك: لم تجلسوا إلا زيد. ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل، فتبني عليه كلامها، وإنما أجاز النحويون: قام القوم إلا زيد بالرفع، على الصفة. وقد عقد سيبويه في ذلك باباً في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل. وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، { { ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22].

وقليـل بهـا الأصوات إلا بغـامهـا

وسوى بين هذا، وبين قراءة من قرأ: { { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } [النساء: 95]، برفع غير، وجوّز في نحو: ما قام القوم إلا زيد، بالرفع البدل والصفة، وخرّج على ذلك قول عمرو بن معدى كرب:

وكلّ أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال: كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال الشماخ:

وكل خليل غيرها ضم نفسه لوصل خليل صارم أو معارز

ومما أنشده النحويون:

لدم ضائع نأت أقربوه عنه إلا الصبا وإلا الجنوب

وأنشدوا أيضاً:

وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النؤى والوتد

قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره، من حيث أنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر. وقال أيضاً: وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا: عطف البيان. وقال غيره: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس. وقال المبرد: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل، وتحرير ذلك نتكلم عليه في علم النحو، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه ابن عطية في تخريج هذه القراءة، لم يذهب إليه نحوي. ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف، كأنه قال: امتنع قليل أن يكون توكيداً للمضمر المرفوع المستثنى منه. ولولا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما. وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: إلا قليل منكم لم يتول، كما قالوا: ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه. وهذه أعاريب من لم يمعن في النحو.

وأنتم معرضون: جملة حالية، قالوا: مؤكدة. وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه، ومن خالف بينهما تكون الحال مبينة، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض، كما قال بعضهم؛ إن معناه: ثم توليتم عن عهد ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم. وجاءت الجملة الحالية اسمية مصدرة بأنتم، لأنها آكد. وكان الخبر اسماً، لأنه أدل على الثبوت، فكأنه قيل: وأنتم عادتكم الإعراض عن الحق والتولية عنه. وفي المواجهة بأنتم تقبيح لفعلهم وكونهم ارتكبوا ذلك الفعل القبيح الذي من شأنه أن لا يقع، كقولك: يحسن إليك زيد وأنت مسيء إليه، فكان المعنى: أن من واثقه الله وأخذ عليه العهد في أشياء بها انتظام دينه ودنياه، جدير أن يثبت على العهد، وأن لا ينقضه، ولا يعرض عنه. وقيل: التولي والإعراض مأخوذ من سلوك الطريق، ومن ترك سلوك الطريق فله حالتان: إحداهما: أن يرجع عوده على بدئه، وذلك هو التولي، والثانية: أن يأخذ في عرض الطريق، وذلك هو الإعراض. وعلى هذا التفسير في التولي والإعراض لا يكون في الآية دليل على الاختلاف، إلا إن قصد أن ناساً تولوا وناساً أعرضوا، وجمع ذلك لهم، أو يتولون في وقت، ويعرضون في وقت.

وقال القشيري: التعبد بهذه الخصال حاصل لنا في شرعنا، وأولها التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة والطاعة، ثم ردّك إلى مراعاة حق مثلك، إظهاراً أن من لا يصلح لصحبة شخص مثله، كيف يقوم بحق معبود ليس كمثله شيء؟ فإذا كانت التربية المتضمنة حقوق الوالدين توجب عظيم هذا الحق، فما حق تربية سيدك لك؟ كيف تؤدي شكره؟ ثم ذكر عموم رحمته لذي القربى، واليتامى والمساكين، وأن يقول للناس حسناً. وحقيقة العبودية الصدق مع الحق، والرفق مع الخلق. انتهى، وبعضه مختصر.

وقال بعض أهل الإشارات: الأسباب المتقرّب بها إلى الله تعالى: اعتقاد وقول وعمل ونية. فنبه بقوله: { لا تعبدون إلا الله }، على مقام التوحيد، واعتقاد ما يجب له على عباده من الطاعات والخضوع منفرداً بذلك، ومالية محضة وهي: الزكاة، وبدنية محضة وهي: الصلاة، وبدنية ومالية وهو: برّ الوالدين والإحسان إلى اليتيم والمسكين.

{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم }: الكلام على: { تسفكون }، كالكلام على: { لا تعبدون إلا الله } من حيث الإعراب. وقرأ الجمهور: بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة؛ كذلك، إلا أنهما ضما الفاء. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز: بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة. وقرأ ابن أبي إسحاق: كذلك، إلا أنه سكن السين وخفف الفاء، وظاهر قوله: { لا تسفكون دماءكم }، أي لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدّة تصيبكم وحنق يلحقكم. وقد جاء في الحديث أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار. وصح من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. وتظافرت على تحريم قتل النفس الملل. وقال تعالى: { { ولا تقتلوا أنفسكم } [النساء: 29]. وقيل معناه: لا تسفكوا دماء الناس، فإن من سفك دماءهم سفكوا دمه، وقال:

سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

وقيل: معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك، كالارتداد والزنا بعد الإحصان والمحاربة، وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك، مما يزيل عصمة الدماء. وقيل: معناه لا يسفك بعضكم دماء بعض، وإليه أشار بقوله: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" ، وكل أهل دين كنفس واحدة، قاله قتادة، واختاره الزمخشري. قال ابن عطية: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا ينفيه، ولا يسترقه، ولا يدعه يسترق، إلى غير ذلك من الطاعات. والخطاب في أخذنا ميثاقكم لعلماء اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مع أسلافهم.

{ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } معناه: لا يخرج بعضكم بعضاً، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التي هي داركم، أو لا تخرجون أنفسكم، أي إخوانكم، لأنكم كنفس واحدة، أو لا تفسدوا، فيكون سبباً لإخراجكم من دياركم، كأنه يشير إلى تغريب الجاني، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين، فيكتب عليكم الجلاء. أقوال ستة. { ثم أقررتم }: أي بالميثاق، واعترفتم بلزومه، أو اعترفتم بقبوله، أو رضيتم به، كما قال البعيث:

ولست كليبياً إذا سيم خطة أقر كإقرار الحليلة للبعل

{ وأنتم تشهدون }: أي تعلمون أن الله أخذه عليكم، وأراد على قدماء بني إسرائيل، إن كان الخطاب وارداً عليهم، وإن كان على معاصريه، صلى الله عليه وسلم من أبنائهم، فمعناه: وأنتم تشهدون على أسلافكم بما أخذه الله عليهم من العهد، إما بالنقل المتواتر، وإما بما تتلونه من التوراة. وإن كان معنى الشهادة الحضور، فيتعين أن يكون الخطاب لأسلافهم. وقال بعض المفسرين: ثم أقررتم عائد إلى الخلف، وأنتم تشهدون عائد إلى السلف، لأنهم عاينوا سفك دماء بعضهم بعضاً. وقال: وأنتم تشهدون لأن الأوائل والأصاغر صاروا كالشيء الواحد، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة. وقيل: إن قوله وأنتم تشهدون للتأكيد، كقولك، فلان مقرّ على نفسه بكذا، شاهد عليها.

{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم }: هذا استبعاد لما أخبر عنهم به من القتل والإجلاء والعدوان، بعد أخذ الميثاق منهم، وإقرارهم وشهادتهم. واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة، فالمختار أن أنتم مبتدأ، وهؤلاء خبر، وتقتلون حال. وقد قالت العرب: ها أنت ذا قائماً، وها أنا ذا قائماً. وقالت أيضاً: هذا أنا قائماً، وها هو ذا قائماً، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ، وكأنه قال: أنت الحاضر، وأنا الحاضر، وهو الحاضر. والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال. ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوباً على الحال، فيما قلناه من قولهم: ها أنت ذا قائماً ونحوه. قال الزمخشري: والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين، تنزيلاً لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله: { تقتلون } بيان لقوله: { ثم أنتم هؤلاء }. انتهى كلامه. والظاهر أن المشار إليه بقوله: { ثم أنتم هؤلاء }، هم المخاطبون أوّلاً، فليسوا قوماً آخرين. ألا ترى أن هذا التقدير الذي قدّره الزمخشري من تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات لا يتأتى في نحو: ها أنا ذا قائماً ولا في ها أنتم أولاء؟ بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغير.

قال ابن عطية: وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد: شيخنا، هؤلاء: رفع بالابتداء، وأنتم خبر مقدّم، وتقتلون حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود، فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول: هذا زيد منطلقاً، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه، لا الإخبار بأن هذا هو زيد. انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا غرناظة، يعرف بابن الباذش، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد، مؤلف (كتاب الإقناع في القراءات)، وله اختيارات في النحو، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، وعلق عنه في النحو على (كتاب الجمل والإيضاح) ومسائل من كتاب سيبويه. توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ، وهؤلاء الخبر، إلى عكس هذا. والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل. قالوا: وهو حال منه، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها. وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب منهج السالك) من تأليفنا، فيطالع هناك، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء، ونقل جوازه عن الفراء، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره، جنوحاً إلى مذهب الفراء، فيكون على هذا القول يقتلون خبراً عن أنتم. وفصل بين المبتدأ والخبر بالنداء. والفصل بينهما بالنداء جائز، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر. وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة، وقد أنشدوا أبياتاً حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة، من ذلك قول رجل من طيء:

إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً

وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ، ويقتلون الخبر، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون، فيكون إذ ذاك منصوباً بأعني. وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات، ولا بأسماء الإشارة. والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أياً نحو: اللهم اغفر لنا، أيتها العصابة، أو معرّفاً بالألف واللام نحو: نحن العرب أقرى الناس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقد يكون علماً، كما أنشدوا:

بنــا تمـيمــاً يكشـف الضبــاب. اهـ.

وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم، كما مثلناه. وقد جاء بعد ضمير مخاطب، كقولهم: بك الله نرجو الفضل. وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي، وهو خبر عن أنتم، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو. وقرأ الجمهور: يقتلون، من قتل مخففاً. وقرأ الحسن: تقتلون من قتل مشدّداً. هكذا في بعض التفاسير، وفي تفسير المهدوي إنها قراءة أبي نهيك، قال والزهري والحسن: تقتلون أنبياء الله، من قتل يعني مشدّداً، والله أعلم بصواب ذلك.

{ وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم }: هذا نزل في بني قينقاع، وبني قريظة، والنضير من اليهود. كان بنو قينقاع أعداء قريظة والنضير، والأوس والخزرج إخوان، والنضير وقريظة أيضاً أخوان، ثم افترقوا. فصارت النضير حلفاء الخزرج، وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب، فيفدون أسرارهم، فعيرهم الله بذلك، قاله المهدوي. قال الزمخشري: فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين، جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم، ولكنا نستحي أن نذلّ حلفاءنا.

{ تظاهرون عليهم بالإثم }: قرأ بتخفيف الظاء، عاصم وحمزة والكسائي، وأصله: تتظاهرون، فحذف التاء، وهي عندنا الثانية لا الأولى، خلافاً لهشام، إذ زعم أن المحذوف هي التي للمضارعة، الدالة في مثل هذا على الخطاب، وكثيراً جاء في القرآن حذف التاء. وقال:

تعاطسون جميعاً حول داركم فكلكم يا بني حمدان مزكوم

يريد: تتعاطسون. وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء، أي بإدغام الظاء في التاء. وقرأ أبو حيوة: تظاهرون، بضم التاء وكسر الهاء. وقرأ مجاهد وقتادة باختلاف عنهما: تظهرون، بفتح التاء، والظاء والهاء مشددين دون ألف، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ بعضهم: تتظاهرون على الأصل. فهذه خمس قراءات، ومعناها كلها التعاون والتناصر. وروى أبو العالية قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعفوا قوماً أخرجوهم من ديارهم. عليهم بالإثم: فيه قولان: أحدهما: أنه الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذمّ واللوم، الثاني: أنه الذي تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب. وفي حديث النوّاس: "الإثم ما حاك في صدرك" . وقيل: المعنى تظاهرون عليهم بما يوجب الإثم، وهذا من إطلاق السبب على مسببه، ولذلك سميت الخمر إثماً، كما قال:

شــربت الإثــم حـتى ضــل عقلـي

{ والعدوان }: هو تجاوز الحدّ في الظلم. { وإن يأتوكم أسارى }: قراءة الجمهور بوزن فعالى، وحمزة بوزن فعلى. { تفادوهم }: قرأه نافع وعاصم والكسائي من فادي، وقرأ الباقون: من فدى. قال ابن عطية: وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج، يعني: أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أن تحسنوا إليهم بالفداء، ومعنى تفادوهم: تفدوهم، إذ المفاعلة تكون من اثنين، ومن واحد. ففاعل بمعنى: فعل المجرد، وهو أحد معانيها. وقيل: معنى فادى: بادل أسيراً بأسير، ومعنى فدى: دفع الفداء، ويشهد للأوّل قول العباس: فاديت نفسي وفاديت عقيلاً. ومعلوم أنه ما بادل أسيراً بأسير. وقيل: معنى تفدوهم بالصلح، وتفادوهم بالعنف. وقيل تفادوهم: تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم، ومنه قوله:

قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعا

وتفدوهم: تعطوا فديتهم. وقال أبو علي معنى تفادوهم في اللغة، تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنه شيئاً. وفاديت نفسي: أي أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً. وفادى وفدى يتعدّيان إلى مفعولين، الثاني بحرف جر، وهو هنا به محذوف. { وهو محرّم عليكم إخراجهم }: تقدّمت أربعة أشياء: قتل النفس، والإخراج من الديار، والتظاهر، والمفاداة، وهي محرّمة. واختص هذا القسم بتأكيد التحريم، وإن كانت كلها محرّمة، لما في الإخراج من الديار من معرّة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره إلا بالموت، وذلك بخلاف القتل، لأن القتل، وإن كان من حيث هو هدم البنية، أعظم، لكن فيه انقطاع الشر، وبخلاف المفاداة بها، فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر، لأنه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم، ما وقعوا في قيد الأسر. وقد يكون أيضاً مما حذف فيه من كل جملة ذكر التحريم، ويكون التقدير: تقتلون أنفسكم، وهو محرّم عليكم، وكذا باقيها. وارتفاع هو على الابتداء، وهو إما ضمير الشأن، والجملة بعده خبر عنه، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبراً، وفيه ضمير عائد على الإخراج، إذ النية به التأخير. ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذاكان متحملاً ضميراً مرفوعاً. فلا يجيزون: قائم زيد، على أن يكون قائم خبراً مقدّماً، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم، وإخراجهم مرفوع به مفعولاً لم يسم فاعله، وتبعهم على هذا المهدوي. ولا يجيز هذا الوجه البصريون، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها، وإذا جعلت قوله محرّم خبراً عن هو، وإخراجهم مرفوعاً به، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة. وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا. وأجازوا أيضاً أن يكون هو مبتدأ، ليس ضمير الشأن، بل هو عائد على الإخراج، ومحرّم خبر عنه، وإخراجهم بدل. وهذا فيه خلاف. منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل، ومنهم من منع. وأجازه الكسائي، وفي بعض النقول. وأجاز الكوفيون أن يكون هو عماداً، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل، وقد تقدّم مع الخبر. والتقدير: وإخراجهم هو محرّم عليكم، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ، قدم معه الفصل. قال الفراء: لأن الواو ها هنا تطلب الاسم، وكل موضع تطلب فيه الاسم، فالعماد فيه جائز. ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم: أحدهما: وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة، إذ التقدير: وإخراجهم هو محرّم، فمحرّم نكرة لا تقارب المعرفة. الثاني: أن فيه تقديم الفصل، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطاً بين المبتدأ والخبر، أو بين ما هما أصله، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو.

ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد، وهو أنه قال: قيل في هو إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرّم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو. انتهى ما نقله في هذا القول، وهذا خطأ من وجهين. أحدهما: أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي. أما البصري، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة، وأما الكوفي، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى، نحو قولك: ظننته قائماً الزيدان. والثاني: أنه جعل إخراجهم بدلاً من ضمير الأمر، وضمير الأمر لا يعطف عليه، ولا يبدل منه، ولا يؤكد. قال ابن عطية: وقيل هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفي، وليست هنا بالتي هي عماد، ومحرم على هذا ابتداء، وإخراجهم خبر. انتهى ما نقله في هذا القول. والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر على المبتدأ، فإعراب محرم عندهم خبر مقدم، وإخراجهم مبتدأ، وهو المناسب للقواعد، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة، ولا مسوغ لها، ويكون الخبر معرفة، بل المستقر في لسانهم عكس هذا، إلا إن كان يرد في شعر، فيسمع ولا يقاس عليه. قال ابن عطية: وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر. انتهى ما نقله في هذا القول. وهذا القول ضعيف جداً، إذ لا موجب لتقدّم الضمير، ولا لبروزه بعد استتاره، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير، إذ على هذا القول يكون محرّم خبراً مقدّماً، وإخراجهم مبتدأ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عارياً من الضمير، إلا إذا رفع الظاهر. ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ، ولا جائز أن يكون فاعلاً مقدّماً. قال ابن عطية: وقيل هو ضمير الإخراج، تقديره: وإخراجهم محرم عليكم. انتهى ما نقله في هذا القول، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم، ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره، ويكون إخراجهم تفسيراً لذلك المضمر، إلا على أن يكون إخراجهم بدلاً من الضمير. وقد تقدم أن في ذلك خلافاً، منهم من أجاز ومنهم من منع.

{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }: هذا استفهام معناه التوبيخ والإنكار. ولم يذمّهم على الفداء، بل على المناقضة، إذ أتوا ببعض الواجب، وتركوا بعضاً. وتكون المناقضة آكد في الذمّ، ولا يقال الإخراج معصية. فلم سماها كفراً؟ لأنا نقول: لعلهم صرّحوا بأن ترك الإخراج غير واجب، مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه. والبعض الذي آمنوا به، إن كان المراد بالكتاب التوراة، فيكون عامًّا فيما آمنوا به من أحكامها، وفداء الأسير من جملته. والبعض الذي كفروا به: هو قتل بعضهم بعضاً، وإخراج بعضهم من ديارهم، والمظاهرة بالإثم والعدوان، من جملة ما كفروا به من التوراة. وقيل: معناه يستعملون البعض ويتركون البعض، تفادون أسرى قبيلتكم، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم. وقيل: إن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب، ولا يفادي من وقع عليه الحرب. قال: فقال ابن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلهنّ. وقال مجاهد: معناه إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك. وقيل: المراد التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوّة موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع أن الحجة في أمرهما سواء، فجروا مجرى سلفهم، أن يؤمنوا ببعض، ويكفروا ببعض. قالوا: ويجوز أن يراد بالكتاب هنا المكتوب عليهم من هذه الأحكام الأربعة، أي المفروض، والذي آمنوا به منها فداء الأسرى، والذي كفروا به باقي الأربعة.

{ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا }: الجزاء يطلق في الخير والشر. قال: { { وجزاهم بما صبروا } [الإنسان: 12]، وقال: { { فجزاؤه جهنم } [النساء: 93]. والخزي هنا: الفضيحة، والعقوبة، والقصاص فيمن قتل أو ضرب الجزية غابر الدهر، أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا، وأذرعات، أو غلبة العدوّ، أقوال خمسة. ولا يتأتى القول بالجزية ولا الجلاء إلا إن حملنا الآية على الذين كانوا معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن يكون المراد هو الذمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص. وإلاّ خزي: استثناء مفرّغ، وهو خبر المبتدأ. ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة، وتفصيل وذلك: أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلاّ، فإما أن يكون هو الأوّل، أو منزلاً منزلته، أو وصفاً، إن كان الأول في المعنى، أو منزلاً منزلته، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور. وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأوّل، وإن كان وصفاً أجاز الفراء فيه النصب، ومنعه البصريون. ونقل عن يونس: إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائناً ما كان، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس، قال: لا خلاف بين النحويين في قولك: ما زيد إلا أخوك، إنه لا يجوز إلا بالرفع. قال: فإن قلت ما أنت إلا لحيتك، فالبصريون يرفعون، والمعنى عندهم: ما فيك إلا لحيتك، وكذا: ما أنت إلا عيناك. وأجاز في هذا الكوفيون النصب، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر، إلا أن يعرف المعنى، فتضمر ناصباً نحو: ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى، وما أنت إلا عمامتك تحسيناً ورداءك تزييناً.

{ ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب }: يوم القيامة عبارة عن زمان ممتد إلى أن يفصل بين العباد، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. ومعنى يردّون: يصيرون، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشدّ العذاب، أو يراد بالردّ: الرجوع إلى شيء كانوا فيه، كما قال تعالى: { { فرددناه إلى أمه } [القصص: 13]، وكأنهم كانوا في الدنيا في أشدّ العذاب أيضاً، لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء وأنواع من العذاب. وقرأ الجمهور: يردّون بالياء، وهو مناسب لما قبله من قوله: { من يفعل }. ويحتمل أن يكون التفاتاً، فيكون راجعاً إلى قوله: { أفتؤمنون }، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما: تردّون بالتاء، وهو مناسب لقوله: { أفتؤمنون }. ويحتمل أن يكون التفاتاً بالنسبة إلى قوله { من يفعل ذلك }، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. وأشد العذاب: الخلود في النار، وأشدّيته من حيث أنه لا انقضاء له، أو أنواع عذاب جهنم، لأنها دركات مختلفة، وفيها أودية وحيات، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روح مع اليأس من التخلص، أو الأشدّية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا، أو الأشدّية بالنسبة إلى عذاب عامتهم، لأنهم الذين أضلوهم ودلسوا عليهم، أقوال خمسة. { وما الله بغافل عما تعملون }: تقدّم الكلام على تفسير هذا الكلام، إذ وقع قبل { أفتطمعون }. وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء، والباقون بالتاء من فوق. فبالياء ناسب يردّون قراءة الجمهور، وبالتاء تناسب قراءة تردّون بالتاء، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطباً في الآية. قيل: ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم. فقد روي عن عمر بن الخطاب قال: إن بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم الذين تعنون بهذا يأمّة محمد، وبما يجري مجراه، وهذه الآية من أوعظ الآيات، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص.

{ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون }: قال ابن عباس: نزلت في اليهود، الذين تقدّم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة. وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله: { { أولئك على هدى من ربهم } [البقرة: 5]، وأنه إذا عدّدت أوصاف لموصوف، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيهاً على أنه هو جامع تلك الأوصاف. والذين: خبر عن أولئك، وتقدّم الكلام في قوله: { اشتروا }، وتقدّم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضاً ومعوّضاً أعياناً. فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء، إيثاراً للعاجل الفاني على الآجل الباقي، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل.

قال بعض أرباب المعاني: إن الدنيا: ما دنا من شهوات القلب، والآخرة: ما اتصلت برضا الرب. فلا يخفف معطوف على الصلة، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً، تقول: جاءني الذي قتل زيداً بالأمس، وسيقتل غداً أخاه، إذ الصلاة هي جمل، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضياً أو غيره، وعلى اختيار التوافق في الصيغة، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ والذين بصلته خبراً. وفلا: يخفف خبر بعد خبر، وعلل دخول الفاء لأن الذين، إذا كانت صلته فعلاً، كان فيها معنى الشروط، وهذا خطأ، لأن الموصول هنا أعربه خبراً عن أولئك، فليس قوله فلا يخفف خبراً عن الموصول، إنما هو خبر عن أولئك، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبراً عنه. وجوز أيضاً أن يكون أولئك مبتدأ، والذين مبتدأ ثان، وفلا يخفف خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك. قيل: ولم يحتج إلى عائد، لأن الذين هم أولئك، كما تقول: هذا زيد منطلق، وهذا خطأ، لأن كل جملة وقعت خبراً لمبتدأ فلا بد فيها من رابط، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط. وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره، فلا بد من الرابط. وليس نظير ما مثل به من قوله: هذا زيد منطلق، لأن زيد منطلق خبران عن هذا، وهما مفردان، أو يكون زيد بدلاً من هذا، ومنطلق خبراً. وأما أن يكون هذا مبتدأ، وزيد مبتدأ ثانياً، ومنطلق خبراً عن زيد، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا، فلا يجوز لعدم الرابط. وأيضاً فلو كان هنا رابط، لما جاز هذا الإعراب، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه، فلا يشبه اسم الشرط، إذ يزول العموم باختصاصه، ولأن صلة الذين ماضية لفظاً ومعنى. ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً. والتخفيف هو التسهيل، وقد حمل نفي التخفيف على الانقطاع، وحمل أيضاً على التشديد. والأولى حمله على نفي التخفيف بالانقطاع، أو بالتقليل منه، أو في وقت، أو في كل الأوقات، لأنه نفي للماهية، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها. والظاهر من النفي بلا والكثير فيها أنه نفي في المستقبل. وقد فسر الزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بنقصان الجزية، وكذلك نفى النصر في الدنيا والآخرة. ومعنى نفى النصر: أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله.

{ ولا هم ينصرون }: جملة إسمية معطوفة على جملة فعلية، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال، فيكون هم مرفوعاً بفعل محذوف يفسره ما بعده، على حدّ قوله:

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله: { فلا يخفف }، وهو جملة فعلية، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل، لا اختصاصاً ولا أولوية، فتكون كان والهمزة خلافاً لأبي محمد بن السيد، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا، أولى من الابتداء، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل، لأنه أعم، إلا إن جعل الفاعل عاماً، فيكون ولا هم ينصرهم أحد، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد، ويفوت الإيجاز، مع أن قوله: { ولا هم ينصرون } يفيد ذلك، أعني العموم.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أخبار الله تعالى، أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وبالقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنهم نقضوا الميثاق بتوليهم وإعراضهم، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم، وأنهم أقروا والتزموا ذلك. فكان الميثاق الأول يتضمن الأوامر، والميثاق الثاني يتضمن النواهي، لأن التكاليف الإلۤهية مبنية على الأوامر والنواهي. وكان البدء بالأوامر آكد، لأنها تتضمن أفعالاً، والنواهي تتضمن تروكاً، والأفعال أشق من التروك. وكان من الأوامر الأمر بإفراد الله بالعبادة، وهو رأس الإيمان، إذ متعلقة أشرف المتعلقات، فكان البدء به أولى. ثم نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه، وإن كان قد تقدم أخباره أنهم خالفوا في الأمر بقوله: { ثم توليتم }، لأن فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات، لأنها تروك كما ذكرنا. ثم قرّعهم بمخالفة نواهي الله، وأنهم مستعينون في ذلك بغير الحق، بل بالإثم والعدوان. ثم ذكر تناقض آرائهم وسخف عقولهم، بفداء من أتى إليهم منهم، مع أنهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم، مع علمهم بتحريم إخراجهم، وبذكر أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. هذا مع أنه كله حق وصدق، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض، والإيمان ببعض. ثم ذكر أن الجزاء لفاعل ذلك هو الخزي في الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة، وأن الله تعالى لا يغفل عما عملوه، فيجازيهم على ذلك. ثم أشار إلى من تحلى بهذه الأوصاف الذميمة، وخالف أمر الله ونهيه، هو قد اشترى عاجلاً تافهاً بآجل جليل، وآثر فانياً مكدراً على باق صاف. وأن نتيجة هذا الشراء أن لا يخفف عنهم ما حل بهم من العذاب، ولا يجدوا ناصراً يدفع عنهم سوء العقاب. لقد خسروا تجارة، وبدلوا بالنعيم السرمدي ناراً وقودها الناس والحجارة. وإذا كان التخفيف قد نفى، فالرفع أولى. وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؟.