عرى يُعَرَّى لم يكن على جلده شيء يقيه. قال الشاعر:وإن يعرين إن كسى الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف
ضحى يضحي: برز للشمس. قال عمرو بن أبي ربيعة:رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت فيضحي وأما بالعشي فيحضر
الضنك: الضيق والشدّة، ضنك عيشه يضنك ضناكة وضنكاً، وامرأة ضناك كثيرة اللحم صار جلدها به. { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإمّا يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى }.
تقدّمت قصة آدم في البقرة والأعراف والحجر والكهف، ثم ذكر ههنا لما تقدّم
{ { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } [طه: 99] كان من هذا الإنباء قصة آدم ليتحفظ بنوه من وسوسة الشيطان ويتنبهوا على غوائله، ومن أطاع الشيطان منهم ذكر بما جرى لأبيه آدم معه وأنه أوضحت له عداوته، ومع ذلك نسي ما عهد إليه ربه وأيضاً لما أمر بأن يقول { { رب زدني علماً } [طه: 114] كان من ذلك ذكر قصة آدم وذكر شيء من أحواله فيها لم يتقدّم ذكرها، فكان في ذلك مزيد علم له عليه السلام، والعهد عند الجمهور الوصية. والظاهر أن المضاف إليه المحذوف بعد قوله { من قبل } تقديره { من قبل } هؤلاء الذين صرف لهم من الوعيد في القرآن لعلهم يتقون، وهم الناقضو عهد الله والتاركو الإيمان. وقال الحسن: { من قبل } الرسول والقرآن. وقيل: { من قبل } أن يأكل من الشجرة. وقال الطبري: المعنى أن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس، فقدما فعل ذلك أبوهم آدم. قال ابن عطية: وهذا ضعيف وذلك أن كون آدم مثالاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء، وآدم عليه السلام إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضته عليه السلام، وإنما الظاهر في هذه الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه إنما هو لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبيّ قبله عهد إليه { فنسي } فعرف ليكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الزمخشري: يقال في أوامر الملوك ووصاياهم: تقدم الملك إلى فلان وأوغر عليه وعزم عليه وعهد إليه، عطف الله سبحانه وتعالى قصة آدم على قوله
{ { وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون } [طه: 113] والمعنى وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها وذلك { من قبل } وجودهم و{ من قبل } أن نتوعدهم فخالف إلى ما نُهي عنه وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون كأنه يقول: إن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه انتهى. والظاهر أن النسيان هنا الترك إن ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان انتهى. وقاله غيره. وقال ابن عطية: ونسيان الذهول لا يمكن هنا لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب انتهى. وقرأ اليماني والأعمش فَنُسِّيَ بضم النون وتشديد السين أي نسّاه الشيطان، والعزم التصميم والمضي. قال الزمخشري: أي على ترك الأكل وأن يتصلب في ذلك تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل له، والوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولاه { له عزماً } وأن يكون نقيض العدم كأنه قال وعد منا { له عزماً } انتهى. وقيل { ولم نجد له عزماً } على المعصية وهذا يتخرج على قول من قال إنه فعل نسياناً. وقيل: حفظاً لما أمر به. وقيل: صبراً عن أكل الشجرة. وقيل { عزماً } في الاحتياط في كيفية الاجتهاد.
وتقدم الكلام على نظير قوله { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى } و{ أبى } جملة مستأنفة مبينة أن امتناعه من السجود إنما كان عن إباء منه وامتناع، والظاهر حذف متعلق { أبى } وأنه يقدر هنا ما صرح به في الآية الأخرى
{ { أبى أن يكون مع الساجدين } [الحجر: 31] وقال الزمخشري { أبى } جملة مستأنفة كأنه جواب قائل قال: لمَ لمْ يسجد؟ والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله { اسجدوا } وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف وتثبط انتهى. و{ هذا } إشارة إلى إبليس و { عدو } يطلق على الواحد والمثنى والمجموع، عرف تعالى آدم عداوة إبليس له ولزوجته ليحذراه فلن يغنيَ الحذر عن القدر، وسبب العداوة فيما قيل إنّ إبليس كان حسوداً فلما رأى آثار نعم الله على آدم حسده وعاداه. وقيل: العداوة حصلت من تنافي أصليهما إذ إبليس من النار وآدم من الماء والتراب { فلا يخرجنكما } النهي له والمراد غيره أي لا يقع منكما طاعة له في إغوائه فيكون ذلك سبب خروجكما من الجنة، وأسند الإخراج إليه وإن كان المخرج هو الله تعالى لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج { فتشقى } يحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي، وأن يكون مرفوعاً على تقدير فأنت تشقى. وأسند الشقاء إليه وحده بعد اشتراكه مع زوجه في الإخراج من حيث كان هو المخاطب أولاً والمقصود بالكلام ولأن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله، وفي سعادته سعادتها فاختصر الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على الفاصلة.
وقيل: أراد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك راجع إلى الرجل. وعن ابن جبير: أهبط له ثور أحمر يحرث عليه فيأكل بكد يمينه وعرق جبينه. وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان { وإنك لا تظمأ } بكسر همزة وإنك. وقرأ الجمهور بفتحها فالكسر عطف على أن لك، والفتح عطف على المصدر المنسبك من أن لا تجوع، أي أن لك انتفاء جوعك وانتفاء ظمئك، وجاز عطف { أنك } على أن لاشتراكهما في المصدر، ولو باشرتها إن المكسورة لم يجز ذلك وإن كان على تقديرها ألا ترى أنها معطوفة على اسم إن، وهو أن لا تجوع لكنه يجوز في العطف ما لا يجوز في المباشرة، ولما كان الشبع والري والكسوة والسكن هي الأمور التي هي ضرورية للإنسان اقتصر عليها لكونها كافية له. وفي الجنة ضروب من أنواع النعيم والراحة ما هذه بالنسبة إليها كالعدم فمنها الأمن من الموت الذي هو مكدر لكل لذة، والنظر إلى وجه الله سبحانه ورضاه تعالى عن أهلها، وأن لا سقم ولا حزن ولا ألم ولا كبر ولا هرم ولا غل ولا غضب ولا حدث ولا مقاذير ولا تكليف ولا حزن ولا خوف ولا ملل، وذكرت هذه الأربعة بلفظ النفي لأثبات أضدادها وهو الشبع والري والكسوة والسكن، وكانت نقائضها بلفظ النفي وهو الجوع والعُري والظمأ والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.
قال ابن عطية: وكان عرف الكلام أن يكون الجوع مع الظمأ والعُري مع الضحاء لأنها تتضاد إذ العُري نفسه البرد فيؤذي والحر يفعل ذلك بالضاحي، وهذه الطريقة مهيع في كلام العرب أن يقرن النسب. ومنه قول امرىء القيس:
كأني لم أركب جواداً للذة ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الرق الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرىء القيس كافطاني للنسب، وأن ركوب الخيل للصيد وغيره من الملاذ يناسب تبطن الكاعب انتهى. وقيل: هذا الجواب على قدر السؤال لما أمر الله آدم بسكنى الجنة قال: إلهي ألي فيها ما آكل؟ ألي فيها ما ألبس؟ ألي فيها ما أشرب؟ ألي فيها ما أستظل به؟ وقيل: هي مقابلة معنوية، فالجوع خلو الباطن، والتعري خلو الظاهر، والظمأ إحراق الباطن، والضحو إحراق الظاهر فقابل الخلو بالخلو والإحراق بالإحراق. وقيل: جمع امرؤ القيس في بيتيه بين ركوب الخيل للذة والنزهة، وبين تبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما، وجمع بين سباء الرق وبين قوله لخيله كري لما فيهما من الشجاعة ولما عيب على أبي الطيب قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال هَزْمَى كليمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
فقال: إن كنت أخطأت فقد أخطأ امرؤ القيس. وتقدم الكلام في { فوسوس } والخلاف في كيفيتها في الأعراف، وتعدى وسوس هنا بإلى وفي الأعراف باللام، فالتعدي بإلى معناه أنهى الوسوسة إليه والتعدّي بلام الجر، قيل معناه: لأجله ولما وسوس إليه ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع، ثم عرض عليه ما يلقى بقوله { هل أدلك } على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنصح. ويؤثر قبول من يخاطبه كقول موسى { { هل لك إلى أن تزكى } [النازعات: 18] وهو عرض فيه مناصحة، وكان آدم قد رغبه الله تعالى في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله { فلا يخرجنكما } الآية ورغبة إبليس في دوام الراحة بقوله: { هل أدلك } فجاءه إبليس من الجهة التي رغبه الله فيها. وفي الأعراف { { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة } [الأعراف: 20] الآية. وهنا { هل أدلك } والجمع بينهما أن قوله { هل أدلك } يكون سابقاً على قوله { ما نهاكما } لما رأى إصغاءه وميله إلى ما عرض عليه انتقل إلى الإخبار والحصر. ومعنى { على شجرة الخلد } أي الشجرة التي مَن أكل منها خلد وحصل له ملك لا يخلق، وهذا يدل لقراءة الحسن بن عليّ وابن عباس إلا أن تكونا ملكين بكسر اللام { فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } تقدم الكلام على نحو هذه الآية في الأعراف { وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } قال الزمخشري عن ابن عباس: لا شبهة في أن آدم صلوات الله عليه لم يمتثل ما رسم الله له وتخطى فيه ساحة الطاعة، وذلك هو العصيان. ولما عصى خرج فعله من أن يكون رشداً وخيراً فكان غياً لا محالة لأن الغيَّ خلاف الرشد. ولكن قوله { عصى آدم ربه فغوى } بهذا الإطلاق وهذا التصريح، وحيث لم يقل وزل آدم وأخطأ وما أشبه ذلك مما يعبر به عن الزلات والفرطات فيه لطف بالمكلفين ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعتب على النبيّ المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة وبهذا اللفظ الشنيع، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر فضلاً عن أن تجسروا عن التورط في الكبائر، وعن بعضهم { فغوى } فسئم من كثرة الأكل، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى فنا وبقا، وهم بنو طيىء تفسير خبيث انتهى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عنه عليه السلام إلاّ إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى أو قول نبيه عليه السلام، فإما أن يبتدىء ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا المماثلين لنا، فكيف ففي أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبيّ المقدم الذي اجتباه الله وتاب عليه وغفر له. قال القرطبي: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز والإخبار عن صفات الله كاليد والرجل والأصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلاّ في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسول عليه السلام، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس: من وصف شيئاً من ذات الله مثل قوله تعالى
{ { وقالت اليهود يد الله مغلولة } [المائدة: 64] فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبه الله سبحانه بنفسه. { ثم اجتباه } أي اصطفاه وقربه وتاب عليه أي قبل توبته { وهدى } أي هداه للنبوة أو إلى كيفية التوبة، أو هداه رشده حتى رجع إلى الندم. والضمير في { اهبطا } ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء جعل هبوطهما عقوبتهما و{ جميعاً } حال منهما. وقال ابن عطية: ثم أخبرهما بقوله { جميعاً } أن إبليس والحية مهبطان معهما، وأخبرهما أن العداوة بينهم وبين أنسالهم إلى يوم القيامة انتهى. ولا يدل قوله { جميعاً } أن إبليس والحية يهبطان معهما لأن { جميعاً } حال من ضمير الاثنين أي مجتمعين، والضمير في { بعضكم لبعض } ضمير جمع. قيل: يريد إبليس وبنيه وآدم وبنيه. وقيل: أراد آدم وذريته، فالعداوة واقعة بينهم والبغضاء لاختلاف الأديان وتشتت الآراء. وقيل: آدم وإبليس والحية. وقال أبو مسلم الأصبهاني: الخطاب لآدم عليه السلام ولكونهما جنسين صح قوله { اهبطا } ولأجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله { فإما يأتينكم مني هدى }.
وقال الزمخشري: لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلي البشر والسببين اللذين منهما نشؤوا وتفرعوا جعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم، فقيل { فإما يأتينكم } على لفظ الجماعة، ونظيره إسنادهم الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب انتهى. و{ هدى } شريعة الله. وعن ابن عباس ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } [طه: 123] والمعنى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه. وعن ابن جبير من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب. وقال أبو عبد الله الرازي: وهذه الآية تدل على أن المراد بالهدى الذي ذكره الله تعالى اتباع الأدلة واتباعها لا يتكامل إلاّ بأن يستدل بها، وبأن يعمل بها، ومن هذه حاله فقد ضمن تعالى أن لا يضل ولا يشقى في الآخرة لأنه تعالى يهديه إلى الجنة. وقيل { لا يضل ولا يشقى } في الدنيا. فإن قيل: المنعم بهدى الله قد يلحقه الشقاء في الدنيا. قلنا: المراد لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين فإن حصل بسبب آخر فلا بأس انتهى.
ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره، والذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية. وضنك: مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب ربحوها. ومنه قول عنترة:
إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وعن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وقال الحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين، ولا يموتون فيها ولا يحيون، وقال عطاء: المعيشة الضنك معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب. وقال ابن جبير: يسلب القناعة حتى لا يشبع. وقال أبو سعيد الخدري والسدّي: هو عذاب القبر، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الجوهري: المعيشة الضنك في الدنيا، والمعنى أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة وامتناع صفاء العيش لذلك ما تصير معيشته ضنكاً وقالت فرقة { ضنكاً } بأكل الحرام. ويستدل على أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة { ونحشره يوم القيامة أعمى } وقوله: { ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى } [طه: 127] فكأنه ذكر نوعاً من العذاب، ثم ذكر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى، وحسن قول الجمهور الزمخشري فقال: ومعنى ذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة فيعيش عيشاً طيباً كما قال تعالى
{ { فلنحيينه حياة طيبة } [النحل: 97] والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطيح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة انتهى. وقرأ الحسن ضنكي بألف التأنيث ولا تنوين وبالإمالة بناؤه صفة على فعلى من الضنك. وقرأ الجمهور { ضنكاً } بالتنوين وفتحة الكاف فتحة إعراب. وقرأ الجمهور { ونحشره } بالنون، وفرقة منهم أبان بن تغلب بسكون الراء فيجوز أن يكون تخفيفاً، ويجوز أن يكون جزماً بالعطف على موضع { فإن له معيشة ضنكاً } لأنه جواب الشرط، وكأنه قيل { ومن أعرض عن ذكري } تكن له معيشة ضنك { ونحشره } ومثله
{ { من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم } [الأعراف: 186] في قراءة من سكن ويذرهم. وقرأت فرقة ويحشره بالياء. وقرىء ويحشره بسكون الهاء على لفظ الوقف قاله الزمخشري. ونقل ابن خالويه هذه القراءة عن أبان بن تغلب والأحسن تخريجه على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء. وقرىء { { لربه لكنود } [العاديات: 6] والظاهر أن قوله { أعمى } المراد به عمى البصر كما قال { { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } [الإسراء: 97] وقيل: أعمى البصيرة. قال ابن عطية: ولو كان هذا لم يحس الكافر بذلك لأنه مات أعمى البصيرة ويحشر كذلك. وقال مجاهد والضحاك ومقاتل وأبو صالح وروي عن ابن عباس: { أعمى } عن حجته لا حجة له يهتدي بها. وعن ابن عباس يحشر بصيراً ثم إذا استوى إلى المحشر { أعمى }. وقيل: { أعمى } عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. وقيل { أعمى } عن كل شيء إلاّ عن جهنم. وقال الجبائي: المراد من حشره { أعمى } لا يهتدي إلى شيء. وقال إبراهيم بن عرفة: كل ما ذكره الله عز وجل في كتابه فذمه فإنما يريد عَمَى القلب قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وقال مجاهد: معنى { لم حشرتني أعمى } أي لا حجة لي وقد كنت عالماً بحجتي بصيراً بها أحاجّ عن نفسي في الدنيا انتهى. سأل العبد ربه عن السبب الذي استحق به أن يحشر أعمى لأنه جهله، وظن أنه لا ذنب له فقال له جل ذكره { كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } أي مثل ذلك أنت، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر، ولم تتبصر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك قاله الزمخشري. والنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الذهول، ومعنى { تُنْسَى } تترك في العذاب { وكذلك نجزي } أي مثل ذلك الجزاء { نجزي من أسرف } أي من جاوز الحد في المعصية ثم أخبر تعالى أن عذاب الآخرة أشد أي من عذاب الدنيا لأنه أعظم منه { وأبقى } أي منه لأنه دائم مستمر وعذاب الدنيا منقطع. وقال الزمخشري: والحشر على العمى الذي لا يزوال أبداً أشد من ضيق العيش المنقضي، أو أراد ولتركنا إياه في العمى { أشد وأبقى } من تركه لآياتنا.