خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ
٥٣
كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
٥٤
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ
٥٥
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ
٥٦
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ
٥٧
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى
٥٨
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى
٥٩
فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ
٦٠
قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ
٦١
فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ
٦٢
قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ
٦٣
فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ
٦٤
-طه

البحر المحيط

شت الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق، وأمر شتّ متفرّق؛ وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى، ومعناه متفرقة، وشتان اسم فاعل سحت: لغة الحجاز وأسحت لغة نجد وتميم، وأصله استقصاء الحلق للشعر. وقال الفرزدق وهو تميمي:

وعض زمان يا ابن مروان لم يك من المال إلا مسحت أو محلق

ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب. الخيبة: عدم الظفر بالمطلوب. الصف: موضع المجمع قاله أبو عبيدة، وسمي المصلى الصف وعن بعض العرب الفصحاء ما استطعت أن آتي الصف أي المصلى، وقد يكون مصدراً ويقال جاؤوا صفاً أي مصطفين. التخييل: إبداء أمر لا حقيقة له، ومنه الخيال وهو الطيف الطارق في النوم. قال الشاعر:

ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي

{ الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى }.

ولما ذكر موسى دلالته على ربوبية الله تعالى وثم كلامه عند قوله { ولا ينسى } [طه: 52] ذكر تعالى ما نبه به على قدرته تعالى ووحدانيته، فأخبر عن نفسه بأنه تعالى هو الذي صنع كيت وكيت، وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام الله تعالى لقوله تعالى { فأخرجنا } وقوله { كلوا وارعوا أنعامكم } وقوله { ولقد أريناه } فيكون قوله { فأخرجنا } و{ أريناه } التفاتاً من الضمير الغائب في { جعل } وسلك إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهب إلى أن الذي نعت لقوله { ربي } فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهما الحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله { فأخرجنا } { ولقد أريناه }.

وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون { فأخرجنا } من كلام موسى حكاية عن الله تعالى على تقدير يقول عز وجل { فأخرجنا } ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله { وأنزل من السماء ماء } ثم وصل الله كلام موسى بإخباره لمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالخطاب في لكم الخلق أجمع نبههم على هذه الآيات. وقرأ الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة والكسائي { مَهْداً } بفتح الميم وإسكان الهاء، وباقي السبعة مهاداً وكذا في الزخرف فقال المفضل: مصدران مهد مهداً ومهاداً. وقال أبو عبيد: مهاد اسم، ومهد الفعل يعني المصدر. وقال آخر { مهداً } مفرد ومهاد جمعه، ومعنى ذلك أنه تعالى جعلها لهم يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم، ونهج لكم فيها طرقاً لمقاصدكم حتى لا تتعذر عليكم مصالحكم. والضمير في { به } عائد على الماء أي بسببه.

{ أزواجاً } أي أصنافاً وهذا الالتفات في أخرجنا كهو في قوله { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا } [فاطر: 27] { أمّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا } [النمل: 60] { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } [الأنعام: 99] وفي هذا الالتفات تخصيص أيضاً بأنا نحن نقدر على مثل هذا، ولا يدخل تحت قدرة احد والأجود أن يكون { شتى } في موضع نصب نعتاً لقوله { أزواجاً } لأنها المحدث عنها.

وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة للنبات، والنبات مصدر سُمِّيَ به النابت كما سُمِّيَ بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع، يعني أنها { شتى } مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.

قالوا: من نعمته عز وجل أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله { كلوا وارعوا أنعامكم } أمر إباحة معمول لحال محذوفة أي { فأخرجنا } قائلين أي آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها، عُدِيّ هنا { وارعوا } ورعى يكون لازماً ومتعدياً تقول: رعت الدابة رعياً، ورعاها صاحبها رعاية إذا سامها وسرحها وأراحها قاله الزجاج. وأشار بقوله { إن في ذلك } للآيات السابقة من جعل الأرض مهداً وسلك سبلها وإنزال الماء وإخراج النبات. وقالوا { النُّهى } جمع نهية وهو العقل سُمِّيَ بذلك لأنه ينهى عن القبائح، وأجاز أبو علي أن يكون مصدراً كالهدى. والضمير في { منها } يعود على الأرض، وأراد خلق أصلهم آدم. وقيل: ينطلق الملك إلى تربة المكان الذي يدفن فيه من يخلق فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة معاً قاله عطاء الخراساني. وقيل: من الأغذية التي تتولد من الأرض فيكون ذلك تنبيهاً على ما تولدت منها الأخلاط المتولد منها الإنسان فهو من باب مجاز المجاز { وفيها نعيدكم } أي بالدفن بها أو بالتمزيق عليها { ومنها نخرجكم تارة } بالبعث { تارة } مرة { أخرى } يؤلف أجزاءهم المتفرقة ويردّهم كما كانوا أحياء. وقوله { أخرى } أي إخراجة أخرى لأن معنى قوله { منها خلقناكم } أخرجناكم.

{ ولقد أريناه آياتنا كلها } هذا إخبار من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن قوله { فأخرجنا } إنما هو خطاب له عليه السلام { أريناه آياتنا } هي المنقولة من رأي البصرية، ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل و{ آياتنا } ليس عاماً إذ لم يره تعالى جميع الآيات، وإنما المعنى آياتنا التي رآها، فكانت الإضافة تفيد ما تفيده الألف واللام من العهد. وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاء التوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة. وقيل: المعنى آيات بكمالها وأضاف الآيات إليه على حسب التشريف كأنه قال آيات لنا. وقيل: يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتي غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبي صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به { فكذب بها } جميعاً { وأبى } أن يقبل شيئاً منها انتهى. وقاله الزمخشري وفيه بعد لأن الإخبار بالشيء لا يسمى رؤية إلا بمجاز بعيد.

وقيل: { أريناه } هنا من رؤية القلب لا من رؤية العين، لأنه ما كان أراه في ذلك الوقت إلا العصا واليد البيضاء أي ولقد أعلمنا { آياتنا كلها } هي الآيات التسع. قيل: ويجوز أن يكون أراد بالآيات آيات توحيده التي أظهرها لنا في ملكوت السموات والأرض فيكون من رؤية العين. وقال ابن عطية وأُبيّ: يقتضي كسب فرعون وهذا الذي يتعلق به الثواب والعقاب، ومتعلق التكذيب محذوف فالظاهر أنه الآيات واحتمل أن يكون التقدير { فكذب } موسى { وأَبَى } أن يقبل ما ألقاه إليه من رسالته.

قيل: ويجوز أن يكون أراد وكذب أنها من آيات الله وقال: من سحر، ولهذا { قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى } ويبعد هذا القول قوله { { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ رب السماوات والأرض بصائر } [الإسراء: 102] وقوله { { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا } [النمل: 14] فيظهر أنه كذب لظلمه لا أنه التبس عليه أنها آيات سحر. وفي قوله { أجئتنا لتخرجنا } وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى إذ علم أنه على الحق وأنه غالبه على ملكه لا محالة، وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له جداً إذ الإخراج من الموطن مما يشق وجعله الله مساوياً للقتل في قوله { { أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم } [النساء: 66] وقوله { بسحرك } تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحراً لا يقدر أن يخرج ملكاًَ مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر، وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة، وأن المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما تتعذر معارضته فقال { فلنأتينك بسحر مثله } ويدل على أن أمر موسى عليه السلام كان قد قَوِيَ وكثر منعته من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس الناس، إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه، وأرضهم هي أرض مصر وخاطبه بقوله { بسحرك } لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرتا من قبله { فلنأتينك } جواب لقسم محذوف، أوهم الناس أن ما جاء به موسى إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك، فطلب ضرب موعد للمناظرة بالسحر. والظاهر أن { موعداً } هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله { قال موعدكم يوم الزينة } ومعنى { لا نخلفه } أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقدره بعضهم مكاناً معلوماً وينبوعه قوله { موعدكم يوم الزينة }.

وقال القشيري: الأظهر أنه مصدر ولذلك قال { لا نخلفه } أي ذلك الموعد والإخلاف أن يعد شيئاً ولا ينجزه. وقال الزمخشري: إن جعلته زماناً نظراً في قوله { موعدكم يوم الزينة } مطابق له لزمك شيئان أن نجعل الزمان مخلفاً وأن يعضل عليك ناصب { مكاناً } وإن جعلته مكاناً لقوله { مكاناً سُوى } لزمك أيضاً أن يقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله { موعدكم يوم الزينة } وقراءة الحسن غير مطابقة له { مكاناً } جميعاً لأنه قرأ { يوم الزينة } بالنصب فبقي أن يجعل مصدراً بمعنى الوعد، ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد. ويجعل الضمير في { نخلفه } و{ مكاناً } بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: كيف طابقته قوله { موعدكم يوم الزينة } ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظاً لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهراً باجتماعهم فيه في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان.

وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير، والمعنى إنجاز وعدكم يوم الزينة وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى، ويجوز أن يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى اجعل { بيننا وبينك } وعداً { لا نخلفه } فإن قلت: فبم ينتصب { مكاناً }؟ قلت: بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر، فإن قلت: كيف يطابقه الجواب؟ قلت: أما على قراءة الحسن فظاهر، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة.

ويجوز على قراءة الحسن أن يكون { موعدكم } مبتدأ بمعنى الوقت و{ ضحى } خبره على نية التعريف فيه لأنه قد وصف قبل العمل بقوله { لا نخلفه } وهو موصول، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم. وقوله و{ ضحى } خبره على نية التعريف فيه، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه، هو وإن كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة، وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالإضافة. ولو قلت: جئت يوم الجمعة بكراً لم ندع أن بكراً معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه.

وقرأ أبو جعفر وشيبة لا نَخلفْهُ بجزم الفاء على أنه جواب الأمر. وقرأ الجمهور برفعها صفة لموعد. وقال الحوفي { موعداً } مفعول اجعل { مكاناً } ظرف العامل فيه اجعل. وقال أبو علي { موعداً } مفعول أولا لاجعل و{ مكاناً } مفعول ثان، ومنع أن يكون { مكاناً } معمولاً لقوله { موعداً } لأنه قد وصف. قال ابن عطية: وهذه الأسماء العاملة عمل الفعل إذا نعتت أو عطف عليها أو أخبر عنها أو صغرت أو جمعت وتوغلت في الأسماء كمثل هذا لم تعمل ولا يعلق بها شيء هو منها، وقد يتوسع في الظروف فيعلق بعد ما ذكرنا لقوله عز وجل { { ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان } [غافر: 10] فقوله إذ متعلق بقوله لمقت. وهو قد أخبر عنه وإنما جاز هذا في الظروف خاصة ومنع قوم أن يكون { مكاناً } نصباً على المفعول الثاني لنخلفه، وجوزه جماعة من النحاة ووجهه أن يتسع في أن يخلف الموعد انتهى. وقوله إذا نعت هذا ليس مجمعاً عليه في كل عامل عمل الفعل، ألا ترى اسم الفاعل العاري عن أل إذا وصف قبل العمل في إعماله خلاف البصريون يمنعون والكوفيون يجوزون، وكذلك أيضاً إذا صغر في إعماله خلاف، وأما إذا جمع فلا يعلم خلاف في جواز إعماله، وأما المصدر إذا جمع ففي جواز إعماله خلاف، وأما استثناؤه من المعمولات الظروف فغيره يذهب إلى منع ذلك مطلقاً في المصدر، وينصب إذ بفعل يقدر بما قبله أي مقتكم إذ تدعون.

{ ولا أنت } معطوف على الضمير المستكن في { نخلفه } المؤكد بقوله { نحن }. وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب والحسن وقتادة وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وأبو حاتم وابن جرير { سُوًى } بضم السين منوناً في الوصل. وقرأ باقي السبعة بكسرها منوناً في الوصل. وقرأ الحسن أيضاً { سُوى } بضم السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل مجرى الوقف لا أنه منعه الصرف لأن فعلاً من الصفات متصرف كحطم ولبد. وقرأ عيسى سِوَى بكسر السين من غير تنوين في الحالين أجرى الوصل أيضاً مجرى الوقف، ومعنى { سُوًى } أي عدلاً ونصفة. قال أبو علي: كأنه قال قربه منكم قربه منا. وقال غيره: إنما أراد أن حالنا فيه مستوية فيعم ذلك القرآن، وأن تكون المنازل فيه واحدة في تعاطي الحق لا تعترضكم فيه الرئاسة وإنما يقصد الحجة. وعن مجاهد وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها، وهذا معنى ما تقدم من قول أبي عليّ قربه منكم قربه منا. وقال الأخفش { سوى } مقصور إن كسرت سينه أو ضممت، وممدود إن فتحتها ثلاث لغات ويكون فيها جميعاً بمعنى غير وبمعنى عدل، ووسط بين الفريقين. وقال الشاعر:

وإن أبانا كان حل بأهله سوى بين قيس قيس غيلان والفزر

قال: وتقول مررت برجل سواك وسواك وسواك أي غيرك، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر قاله النحاس. وقالت فرقة: معنى { مكاناً سُوًى } مستوياً من الأرض أي لا وَعر فيه، ولا جبل، ولا أكمة، ولا مطمئن من الأرض بحيث يسير ناظر أحد فلا يرى مكان موسى والسحرة وما يصدر عنهما، قال ذلك واثقاً من غلبة السحرة لموسى فإذا شاهدوا غلبهم إياه رجعوا عما كانوا اعتقدوا فيه. وقالت فرقة: معناه مكاناً سوى: مكاننا هذا وليس بشيء لأن سوى إذا كانت بمعنى غير لا تستعمل إلا مضافة لفظاً ولا تقطع عن الإضافة.

وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة والزعفراني يوم الزينة بنصب الميم وتقدم تخريج هذه القراءة في كلام الزمخشري وروي أن { يوم الزينة } كان عيداً لهم ويوماً مشهوداً وصادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت. وقيل: هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم. وقيل: يوم النيروز وكان رأس سنتهم. وقيل: يوم السبت فإنه يوم راحة ودعة. وقيل: يوم سوق لهم. وقيل: يوم عاشوراء.

وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن فائد وأن تحشر بتاء الخطاب أي يا فرعون وروي عنهم بالياء على الغيبة، والناس نصب في كلتا القراءتين. قال صاحب اللوامح { وأن يحشر } الحاشر { الناس ضحى } فحذف الفاعل للعلم به انتهى. وحذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين. وقال غيره { وأن يحشر } القوم قال ويجوز أن يكون فيه ضمير فرعون ذكره بلفظ الغيبة، إما على العادة التي تخاطب بها الملوك أو خاطب القوم لقوله { موعدكم } وجعل { يحشر } لفرعون ويجوز أن يكون { وأن يحشرْ } في موضع رفع عطفاً على { يوم الزينة } وأن يكون في موضع جر عطفاً على { الزينة } وانتصب { ضحًى } على الظرف وهو ارتفاع النهار، ويؤنث ويذكر والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر وهو عند ارتباع النهار الأعلى، وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه وكبت الكافر وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر. والظاهر أن قوله { قال موعدكم يوم الزينة } من كلام موسى عليه السلام لأنه جواب لقول فرعون { فاجعل بيننا وبينك موعداً } ولأن تعيين اليوم إنما يليق بالمحق الذي يعرف اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس. ولقوله { موعدكم } وهو خطاب للجميع، وأبعد من ذهب إلى أنه من كلام فرعون.

{ فتولى فرعون } أي معرضاً عن قبول الحق أو { تولّى } ذلك الأمر بنفسه أو فرجع إلى أهله لاستعداد مكائده، أو أدبر على عادة المتواعدين أن يولي كل واحد منهما صاحبه ظهره إذا افترقا. أقوال { فجمع كيده } أي ذوي كيده وهم السحرة. وكانوا عصابة لم يخلق الله أسحر منها { ثم أتى } للموعد الذي كانوا تواعدوه. وأتى موسى أيضاً بمن معه من بني إسرائيل قال لهم موسى { ويلكم لا تفتروا على الله كذباً } وتقدم تفسير ويل في سورة البقرة، خاطبهم خطاب محذر وندبهم إلى قول الحق إذ رأوه وأن لا يباهتوا بكذب. وعن وهب لما قال للسحرة { ويلكم } قالوا ما هذا بقول ساحر { فيسحتكم } يهلككم ويستأصلكم، وفيه دلالة على عظم الافتراء وأنه يترتب عليه هلاك الاستئصال، ثم ذكر أنه لا يظفر بالبغية ولا ينجح طلبه { من افترى } على الله الكذب.

ولما سمع السحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته { فتنازعوا أمرهم } أي تجاذبوه والتنازع يقتضي الاختلاف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن جرير { فَيُسْحِتَكُمْ } بضم الياء وكسر الحاء من أسحت رباعياً. وقرأ باقي السبعة ورويس وابن عباعي بفتحهما من سحت ثلاثياً. وإسرارهم النجوى خيفة من فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لم يكونوا مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم. وعن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه، وعن قتادة إن كان ساحراً فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر.

وقال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول، ثم { قالوا إن هذان لساحران } فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبتهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما انتهى. وحكى ابن عطية قريباً من هذا القول عن فرقة قالوا: إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا { إن هذان لساحران } والأظهر أن تلك قيلت علانية، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع. وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة إنّ بتشديد النون { هذان } بألف ونون خفيفة { لساحران } واختلف في تخريج هذه القراءة. فقال القدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن والتقدير إنه هذان لساحران، وخبر { إن } الجملة من قوله { هذان لساحران } واللام في { لساحران } داخلة على خبر المبتدأ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ.

وقال الزجاج: اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف، واستحسن هذا القول شيخه أبو العباس المبرد والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد. وقيل: ها ضمير القصة وليس محذوفاً، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها { إن هذان لساحران } وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف. وقيل { إنْ } بمعنى نعم، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و{ هذان لساحران } مبتدأ وخبر واللام في { لساحران } على ذينك التقديرين في هذا التخريج، والتخريج الذي قبله وإلى هذا ذهب المبرد وإسماعيل بن إسحاق وأبو الحسن الأخفش الصغير، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائماً وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب، ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حُكِي ذلك عن الكسائي، ولبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذرة. وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً.

وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير { إنْ } بتخفيف النون هذا بالألف وشدد نون { هذان } ابن كثير، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن أن هي المخففة من الثقيلة و{ هذان } مبتدأ و{ لساحران } الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين، يزعمون أن إن نافية واللام بمعنى إلاّ. وقرأت فرقة إن ذان لساحران وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها، وقرأت عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمرو إن هذين بتشديد نون إنّ وبالياء في هذين بدل الألف، وإعراب هذا واضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله { { فذانك برهانان } [القصص: 32] { إحدى ابنتي هاتين } [القصص: 27] بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً. وقال الزجاج: لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف. وقال أبو عبيد: رأيتها في الإمام مصحف عثمان هذن ليس فيها ألف، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها، وقالت جماعة منهم عائشة وأبو عمرو: هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب.

وقرأ عبد الله إن ذان إلا ساحران قاله ابن خالويه وعزاها الزمخشري لأُبَيّ. وقال ابن مسعود: إن هذان ساحران بفتح أن وبغير لام بدل من { النجوى } انتهى. وقرأت فرقة ما هذا إلاّ ساحران وقولهم { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما } تبعوا فيه مقالة فرعون { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك } ونسبوا السحر أيضاً لهارون لما كان مشتركاً معه في الرسالة وسالكاً طريقته، وعلقوا الحكم على الإرادة وهم لا اطلاع لهم عليها تنقيصاً لهما وحطاً من قدرهما، وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا ما يدل على صدقهما، وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك، والظاهر أن الضمير في { قالوا } عائد على السحرة خاطب بعضهم بعضاً. وقيل: خاطبوا فرعون مخاطبة التعظيم، والطريقة السيرة والمملكة والحال التي هم عليها. و{ المثلى } تأنيث الأمثل أي الفضلى الحسنى. وقيل: عبر عن السيرة بالطريقة وأنه يراد بها أهل العقل والسن والحجى، وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه أي سيدهم، وعن علي نحو ذلك قال: وتصرفات وجوه الناس إليهما. وقيل: هو على حذف مضاف أي { ويذهبا } بأهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى { أرسل معنا بني إسرائيل } بالغوا في التنفيرعنهما بنسبتهما إلى السحر، وبالطبع ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر ثم بإرادة الإخراج من أرضهم ثم بتغيير حالتهم من المناصب والرتب المرغوب فيها.

وحكى تعالى عنهم في متابعة فرعون في قوله { فجمع كيده } قوله { فأجمعوا كيدكم } وقيل: هو من كلام فرعون، والظاهر أنه من كلام السحرة بعضهم لبعض. وقرأ الجمهور { فأجمعوا } بقطع الهمزة وكسر الميم من أجمع رباعياً أي اعزموا واجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا ولا يتخلف واحد منكم كالمسألة المجمع عليها. وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم بوصل الألف وفتح الميم موافقاً لقوله { فتولى فرعون فجمع كيده } [طه: 60] وتقدم الكلام في جمع وأجمع في سورة يونس في قصة نوح عليه السلام.

وتداعوا إلى الإتيان { صفاً } لأنه أهيب في عيون الرائين، وأظهر في التمويه وانتصب { صفاً } على الحال أي مصطفين أو مفعولاً به إذ هو المكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم. وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه ثم ايتوا بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء تخفيفاً. قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم. وقال صاحب اللوامح: وذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في العامة كذلك { وقد أفلح اليوم } أي ظفر وفاز ببغيته من طلب العلوّ في أمره وسعى سعيه، واختلفوا في عدد السحرة اختلافاً مضطرباً جداً فأقل ما قيل أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر عصي وحبال، وأكثر ما قيل تسعمائة ألف.