لما فرغ من قصص هذه السورة، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بحمده تعالى والسلام على المصطفين، وأخذ في مباينة واجب الوجود، الله تعالى، ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع الله وعبدوها. وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة، وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة. وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف كتبهم وخطبهم ووعظهم، فافتتحوا بتحميد الله، والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم المترسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر الرسول عليه السلام بتحميد الله على هلاك الهالكين من كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين.
وقيل: { قل }، خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه، ويسلم { على عباده الذين اصطفى }. وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال: هذه عجمة من الفراء. وقرأ أبو السماك: { قل الحمد لله }، وكذا: قل الحمد لله سيريكم، بفتح اللام، وعباده المصطفون، يعم الأنبياء وأتباعهم. وقال ابن عباس: العباد المسلم عليهم هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، اصطفاهم لنبيه، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من الكفار. وقال أبو عبد الله الرازي: لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء، وأن من كذبهم استؤصل بالعذاب، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول، أمره تعالى بحمده على ما خصه من هذه النعمة، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. انتهى، وفيه تلخيص.
وقوله: { آلله خير أمّا يشركون }: استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم، وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة في الخيرية بين الله تعالى وبينهم، وكثيراً ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطأ مرتكبه. والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خيرية الذوات، فقيل: جاء على اعتقاد المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيراً بوجه مّا، وقيل: في الكلام حذف في موضعين، التقدير: أتوحيد الله خير أم عبادة ما يشركون؟ فما في أم ما بمعنى الذي. وقيل: ما مصدرية، والحذف من الأول، أي أتوحيد الله خير أم شرككم؟ وقيل: خير ليست للتفضيل، فهي كما تقول: الصلاة خير، يعني خيراً من الخيور. وقيل: التقدير ذو خير. والظاهر أن خيراً أفعل التفضيل، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم، وتنبيهه على خطئه، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد، وانتفائه عن الآخر، وقرأ الجمهور: تشركون، بتاء الخطاب؛ والحسن، وقتادة، وعاصم، وأبو عمرو: بياء الغيبة. وأم في أم ما متصلة، لأن المعنى: أيهما خير؟ وفي { أم من خلق } وما بعده منفصلة. ولما ذكر الله خيراً، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في غير موضع من كتابه، توقيفاً لهم على ما أبدع من المخلوقات، وأنهم لا يجدون بداً من الإقرار بذلك لله تعالى.
وقرأ الجمهور: { أمّن خلق }، وفي الأربعة بعدها بشد الميم، وهي ميم أم أدغمت في ميم من. وقرأ الأعمش: بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام، أدخلت على من، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره. قال ابن عطية: تقديره: يكفر بنعمته ويشك به، ونحو هذا من المعنى. وقدره الزمخشري: خير أما يشركون، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول؛ بدأ أولاً في الاستفهام باسم الذات، ثم انتقل فيه إلى الصفات. وقال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له: ولا بد من إضمار جملة معادلة، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه. وتقدير تلك الجملة: أمن خلق السموات كمن لم يخلق، وكذلك أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى:
{ { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [النمل: 17]. انتهى. وتسمية هذا المقدّر جملة، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك، بل هو مضمر من قبيل المفرد. وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال: { لكم }، أي لأجلكم، على سبيل الامتنان، وأن ذلك من أجلكم. ثم قال: { فأنبتنا }، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالاً على اختصاصه بذلك، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى. وقد رشح هذا الاختصاص بقوله: { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها }. ولما كان خلق السموات والأرض، وإنزال الماء من السماء، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة، ويسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله: { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها }. ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته، فكيف يكون فاعلاً لها؟ والبهجة: الجمال والنضرة والحسن، لأن الناظر فيها يبتهج، أي يسر ويفرح. وقرأ الجمهور: { ذات }، بالإفراد، { بهجة }، بسكون الهاء، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة، كقوله:
{ { أزواج مطهرة } [البقرة: 25، النساء: 57]، وهو على معنى جماعة. وقرأ ابن أبي عبلة، ذوات، بالجمع، بهجة بتحريك الهاء بالفتح. { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها }: قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا، أو لامتناع وقوعه شرعاً، أو لنفي الأولوية. والمعنى هنا: أن إنبات ذلك منكم محال، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى. ولما ذكر منته عليهم، خاطبهم بذلك؛ ثم لما ذكر ذمّهم، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال: { بل هم قوم يعدلون }، إما التفاتاً، وإما إخباراً للرسول صلى الله عليه وسلم بحالهم، أي يعدلون عن الحق، أو يعدلون به غيره، أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً. وقرىء: إلهاً، بالنصب، بمعنى: أتدعون أو أتشركون؟ وقرىء: أإله، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية، والفصل بينهما بألف. ولما ذكر تعالى أنه منشىء السموات والأرض، ذكر شيئاً مشتركاً بين السماء والأرض، وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض، ذكر شيئاً مختصاً بالأرض، وهو جعلها قراراً، أي مستقراً لكم، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها، ولا يديرها الفلك، قيل: لأنها مضمحلة في جنب الفلك، كالنقطة في الرحى.
{ وجعل خلالها }: أي بين أماكنها، في شعابها وأوديتها، { أنهاراً وجعل لها رواسي }: أي جبالاً ثوابت حتى لا تتكففأ بكم وتميد. والبحران: العذب والملح، والحاجز: الفاصل، من قدرته تعالى، قاله الضحاك. وقال مجاهد: بحر السماء والأرض، والحاجز من الهواء. وقال الحسن: بحر فارس والروم، وقال السدّي: بحر العراق والشام، والحاجز من الأرض. قال ابن عطية: مختاراً لهذا القول في الحاجز: هو ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها، على رقتها في بعض المواضع، ولطافتها التي لولا قدرته لبلع الملح العذب. وكان ابن عطية قد قدم أن البحرين: العذب بجملته، والماء الأجاج بجملته؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة مستقلة، تكرر فيها العامل في قوله: { وجعل }، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان، ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات. ولأبي عبد الله الرازي في ذكر هذه الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة، والحكماء على زعمه، خارج عن مذاهب العرب، يوقف عليه في كتابه. والمضطر: اسم مفعول، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه. وقال ابن عباس: هو المجهود. وقال السدّي: هو الذي لا حول ولا قوة له. وقيل: هو المذنب إذا استغفر، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى، فليس كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به. وقال الزمخشري: الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطاً فيه المصلحة. انتهى، وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى.
{ ويكشف }: هو كل ما يسوء، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر، وهو خاص إليّ أعم، وهو ما يسوء، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها. وخلفاء: أي الأمم السالفة، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، أو خلفاء الكفار في أرضهم، أو الملك والتسلط، أقوال. وقرأ الحسن في رواية: ونجعلكم بنون المتكلم، كأنه استئناف إخبار ووعد، كما قال تعالى:
{ { ليستخلفنهم في الأرض } [النور: 55]. وقوله: { ويجعلكم خلفاء الأرض }: انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار، وهي حالة الخلافة، فهما ظرفان. وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكاً متسلطاً. وقرأ الجمهور: تذكرون، بتاء الخطاب؛ والحسن، والأعمش، وأبو عمرو: بياء الغيبة، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها. وقرأ أبو حيوة: تتذكرون، بتاءين. وظلمة البر هي ظلمة الليل، وهي الحقيقة، وتنطلق مجازاً على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال: أظلم عليّ الأمر. وقال الشاعر:
تجلت عمـايـات الرجـال عـن الصبـا
أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات، وهداية البحر بالنجوم. { ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته }: تقدم تفسير نظير هذه الجملة. وقرىء: عما تشركون، بتاء الخطاب. { أمن يبدأ الخلق }: الظاهر أن الخلق هو المخلوق، وبدؤه: اختراعه وإنشاؤه. ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك، لا عموم المخلوق. وقال ابن عطية: والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، والإعادة البعث من القبور، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان، كما تقول: فلان يبدىء ويعيد في أمر كذا إذا كان يتقنه. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة؟ قلت: قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار. انتهى.
ولما كان إيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإحساناً، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال: { ومن يرزقكم من السماء } بالمطر، { والأرض } بالنبات؟ { قل هاتوا برهانكم }: أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره { إن كنتم صادقين } في أن مع الله إلهاً آخر. فأين دليلكم عليه؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه.
لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة، فختم بقوله: { بل هم قوم يعدلون }، أي عن عبادته، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع. ولما ذكر جعل الأرض مستقراً، وتفجير الأنهار، وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيهاً على تعقل ذلك والفكر فيه، ختم بقوله: { بل أكثرهم لا يعلمون }، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك. ولما ذكر إجابة دعاء المضطر، وكشف السوء، واستخلافهم في الأرض، ناسب أن يستحضر الإنسان دائماً هذه المنة، فختم بقوله: { قليلاً ما تذكرون }، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه، كما قال:
{ { نسي ما كان يدعوا إليه من قبل } [الزمر: 8]. ولما ذكر الهداية في الظلمات، وإرسال الرياح نشراً، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل، وهم يشركون بها الله، قال تعالى: { عما يشركون }. واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: { أإله مع الله }، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى. قيل: سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وألحوا عليه، فنزل: { قل لا يعلم من في السموات والأرض }، الآية. والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم، والغيب مفعول، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من، وجاء مرفوعاً على لغة تميم، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب. وعن عائشة، رضي الله عنها: من زعم أن محمداً يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول: { قل لا يعلم من في السموات والأرض إلا الله }، ولا يقال: إنه مندرج في مدلول من، فيكون في السموات إشارة إلى ظرفاً حقيقياً للمخلوقين فيهما، ومجازياً بالنسبة إليه تعالى، أي هو فيها بعلمه، لأن في ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز، وأكثر العلماء ينكر ذلك، وإنكاره هو الصحيح. ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلاً، وارتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء، لأنه استثناء من نفي متقدم، والظاهر عموم الغيب. وقيل: المراد غيب الساعة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ يعني في كونه استثناء منقطعاً، إذ ليس مندرجاً تحت من، ولم أختر الرفع على لغة تميم، ولم نختر النصب على لغة الحجاز، قال: قلت: دعت إلى ذلك نكتة سرية، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلا اليعافير، بعد قوله: ليس بها أنيس، ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان الله ممن في السموات والأرض، فهم يعلمون الغيب، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم. كما أن معنى: ما في البيت إن كانت اليعافير أنيساً، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس. انتهى. وكان الزمخشري قد قدم قوله: فإن قلت: لم أرفع اسم الله، والله سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت: جاء على لغة بني تميم، حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، كان أحداً لم يذكر، ومنه قوله:
عشية ما تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرفي المصمم
وقوله: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. انتهى. وملخصه أنه يقول: لو نصب لكان مندرجاً تحت المستثنى منه، وإذا رفع كان بدلاً، والمبدل منه في نية الطرح، فصار العامل كأنه مفرغ له، لأن البدل على نية تكرار العامل، فكأنه قيل: قل لا يعلم الغيب إلا الله. ولو أعرب من مفعولاً، والغيب بدل منه، وإلا الله هو الفاعل، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم، وهم لا يعلمون بحدوثها، أي لا يسبق علمهم بذلك، لكان وجهاً حسناً، وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم. وأيان: تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به. وقرأ السلمي: إيان، بكسر الهمزة، وهي لغة قبيلته بني سليم. ولما نفي علم الغيب عنهم على العموم، نفى عنهم هذا الغيب المخصوص، وهو وقت الساعة والبعث، فصار منتفياً مرتين، إذ هو مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه. وقرأ الجمهور: { بل ادّارك }، أصله تدارك، فأدغمت التاء في الدال فسكنت، فاجتلبت همزة الوصل. وقرأ أبي: أم تدارك، على الأصل، وجعل أم بدل. وقرأ سليمان بن يسار أخوه: بل ادّرك، بنقل حركة الهمزة إلى اللام، وشدّ الدال بناء على أن وزنه افتعل، فأدغم الدال، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالاً، فصار قلب الثاني للأول لقولهم: اثرد، وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام، أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل، ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل. وقرأ أبو رجاء والأعرج، وشيبة، وطلحة، وتوبة العنبري: كذلك، إلا أنهم كسروا لام بل؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعاصم، والأعمش. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأهل مكة: بل أدرك، على وزن أفعل، بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر، عن عاصم. وقرأ عبد الله في رواية، وابن عباس في رواية، وابن أبي جمرة، وغيره عنه، والحسن، وقتادة، وابن محيصن: بل آدرك، بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك، فقلب الثانية ألفاً تخفيفاً، كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه الرواية ووجهها. وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد بل، لأن بل إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى: لم يكن كقوله تعالى:
{ { أشهدوا خلقهم } [الزخرف: 19]، أي لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معاً للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار. انتهى. وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد بل، وشبهه بقول القائل: أخبزاً الكت بل أماء شربت؟ على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني. وقرأ مجاهد: أم أدرك، جعل أم بدل بل، وأدرك على وزن أفعل. وقرأ ابن عباس أيضاً: بل إدّارك، بهمزة داخلة على ادارك، فيسقط همزة الوصل المجتلبة، لأجل الإدغام والنطق بالساكن. وقرأ ابن مسعود أيضاً: بل أأدرك، بهمزتين، همزة الاستفهام وهمزة أفعل. وقرأ الحسن أيضاً، والأعرج: بل أدرك، بهمزة وإدغام فاء الكلمة، وهي الدال في تاء افتعل، بعد صيرورة التاء دالاً. وقرأ ورش في رواية: بل ادّرك، بحذف همزة أدرك ونقل حركتها إلى اللام. وقرأ ابن عباس أيضاً: بلى ادرك، بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي. وقرىء: بل آأدرك، بألف بين الهمزتين. فأما قراءة من قرأ بالاستفهام، فقال ابن عباس: هو للتقريع بمعنى لم يدرك علمهم على الإنكار عليهم. وقال الزمخشري: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك قراءة من قرأ: أم ادّرك، وأم تدارك، لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة. انتهى. وقال ابن عطية: هو على معنى الهزء بالكفرة والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم، أي اعلموا أمر الآخرة وادّركها علمهم. وأما قراءة من قرأ على الخبر، فقال ابن عباس: المعنى: بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا، أي علموه في الآخرة، بمعنى: تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم، لمشاهدتهم عياناً في الآخرة ما وعدوا به غيباً في الدنيا، وكونه بمعنى المضي، ومعناه الاستقبال، لأن الإخبار به صدق، فكأنه قد وقع. وقال ابن عطية: يحتمل معنيين: أحدهما: أنه تناهي علمهم، كما تقول: أدرك النبات وغيره، أي تناهى وتتابع علمهم بالآخرة إلى أن يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة؛ أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً، وتكون في بمعنى الباء متعلقة بعلمهم، وقد تعدّى العلم بالباء، كما تقول: علمي بزيد كذا، ويسوغ حمل هذه القراءة على معنى التوقيف والاستفهام، وجاء إنكاراً لأنهم لم يدركوا شيئاً نافعاً. والثاني: أن أدرك: بمعنى يدرك، أي علمهم في الآخرة يدرك وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا فلا. وهذا تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، وفي على بابها من الظرفية متعلقة بتدارك. انتهى، وفيه بعض تلخيص وزيادة. وقال الزمخشري: هو على وجهين: أحدهما: أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون، وذلك قوله: { بل هم في شك منها بل هم منه عمون }، يريد المشركين ممن في السموات والأرض، لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله ناس منهم. والوجه الثاني: أن وصفهم باستحكامه وتكامله تهكم بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك، على سبيل الهزء به، وذلك حيث شكوا وعموا عن إتيانه الذي هو طريق إلى علم مشكوك، فضلاً عن أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته. وفي ادرك علمهم وادارك وجه آخر، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني، من قولهم: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسر الحسن باضمحل علمهم وتدارك، من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك. انتهى. وقال الكرماني: العلم هنا بمعنى الحكم والقول، أي تتابع منهم القول والحكم في الآخرة، وكثر منهم الخوض فيها، فنفاها بعضهم، وشك فيها بعضهم، واستبعدها بعضهم. وقال الفراء: بل ادرك، فيصير بمعنى الجحد، ولذلك نظائر؛ أي لم يعلموا حدوثها وكونها، ودل على ذلك { بل هم في شك منها }، فصارت { في } في الكلام بمعنى الباء، أي لم يدرك علمهم بالآخرة. قال الفراء: ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ: أدرك، بالاستفهام. انتهى. وأما قراءة من قرأ بلى بحرف الجواب بدل بل، فقال أبو حاتم: إن كان بلى جواباً لكلام تقدم، جاز أن يستفهم به، كأن قوماً أنكروا ما تقدم من القدرة، فقيل لهم: بلى إيجاباً لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: { بل هم في شك منها }، بمعنى: أم هم في شك منها، لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: { بل هم منها عمون }. انتهى. يعني أن المعنى: ادّرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم، عودل بها الهمزة، وهذا ضعيف جداً، وهو أن تكون بل بمعنى أم وتعادل همزة الاستفهام.
قال الزمخشري: فإن قلت: فمن قرأ بلى ادرك؟ قلت: لما جاء ببلى بعد قوله: { وما يشعرون }، كان معناه: بلى يشعرون، ثم فسر الشعور بقوله: ادرك علمهم في الآخرة، على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم، فكأنه قال: شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون، كونها، فيرجع إلى المبالغة في نفي الشعور على أبلغ ما يكون. وأما من قرأ: بلى أدّرك، على الاستفهام فمعناه: يشعرون متى يبعثون، ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن. فإن قلت: هذه الإضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، فلذلك عداه بمن دون عن، لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون. انتهى.