خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٤٢
يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ
٤٣
ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
٤٤
إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٤٥
وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٤٦
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
٤٧
وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٤٨
وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٤٩
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
٥٠
إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٥١
-آل عمران

البحر المحيط

القلم: معروف وهو الذي يكتب به، وجمعه أقلام ويقع على السهم الذي يقترع به، وهو فعل بمعنى مفعولاً لأنه يقلم أي: يبرى ويسوى وقيل: هو مشتق من القلامة، وهي نبت ضعيف لترقيقه، والقلامة أيضاً ما سقط من الظفر إذا قلم، وقلمت أظفاره أخذت منها وسويتها قال زهير:

لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم

وقال بعض المولدين:

يشبه بالهلال وذاك نقص قلامة ظفره شبه الهلال

الوحي: إلقاء المعنى في النفس في خفاء، فقد يكون بالملك للرسل وبالإلهام كقوله: { { وأوحى ربك إلى النحل } [النحل: 68] وبالإشارة كقوله.

لأوحت إلينا والأنامل رسلها

{ { فأوحى إليهم أن سبحوا } [مريم: 11] وبالكتابة: قال زهير:

أتى العجم والآفاق منه قصائد بَقِينَ بقاء الوَحْيِ في الحَجَرِ الأَصَمّ

والوحي: الكتاب قال:

فمدافع الرّيان عرّى رسمهاخلقا كما ضمن الوحيّ سلامها

وقيل: الوحي جمع: وحي، وأما الفعل فيقال أوحى ووحي.

المسيح: عبراني معرب، وأصله بالعبراني مشيحا، بالشين عرب بالسين كما غيرت في موشى، فقيل: موسى، قاله أبو عبيد وقال الزمخشري: ومعناه المبارك، كقوله { { وجعلني مباركاً أينما كنت } [مريم: 31] وهو من الألقاب المشرّفة، كالصدّيق، والفاروق، انتهى. وقيل: المسيح عربي، واختلف: أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلاً؟ أو من المسيح فيكون وزنه فعيلاً؟ وهل يكون بمعنى مفعول أو فاعل خلاف، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك.

الكهل: الذي بلغ سن الكهولة وآخرها ستون وقيل: خمسون وقيل: اثنان وخمسون، ثم يدخل سن الشيخوخة.

واختلف في أوّلها فقيل: ثلاثون وقيل: اثنان وثلاثون وقيل: ثلاثة وثلاثون. وقيل: خمسة وثلاثون وقيل: أربعون عاماً.

وهو من اكتهل النبات إذا قوي وعلا، ومنه: الكاهل، وقال ابن فارس: اكتهل الرجل وخطه الشيب، من قولهم: اكتهلت الروضة إذا عمها النور، ويقال للمرأة: كهلة. انتهى.

ونقل عن الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله: أنه في الرحم: جنين، فإذا ولد: فوليد، فإذا لم يستتم الأسبوع: فصديع، وإذا دام يرضع: فرضيع، وإذا فطم: ففطيم، وإذا لم يرضع: فجحوش، فإذا دب ونما: فدارج، فإذا سقطت رواضعه: فثغور، فإذا نبتت بعد السقوط: فمثغر، بالتاء والثاء. فإذا كان يجاوز العشر: فمترعرع وناشىء، فإذا كان يبلغ الحلم: فيافع، ومراهق، فإذا احتلم: فمحزور، وهو في جميع هذه الأحوال: غلام. فإذا اخضر شاربه وسال عذاره: فباقل، فإذا صار ذاقناً: ففتى وشارخ، فإذا كملت لحيته: فمجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين: فهو شاب، ثم هو كهل: إلى أن يستوفي الستين. هذا هو المشهور عند أهل اللغة.

الطين: معروف، ويقال طانه الله على كذا، وطامه بابدال النون ميماً، جبله وخلقه على كذا، ومطين لقب لمحدث معروف.

الهيئة: الشكل والصورة، وأصله مصدر يقال: هاء الشيء بهاء هيأ وهيئة إذا ترتب واستقر على حال مّا، وتعديه بالتضعيف، فتقول: هيأته، قال { ويهيىء لكم } [الكهف: 16].

النفخ: معروف.

الإبراء: إزالة العلة والمرض، يقال: برىء الرجل وبرأ من المرض، وأما من الذنب ومن الدّين فبريء.

الكمه: العمى يولد به الإنسان وقد يعرض، يقال: كمه يكمه كمهاً: فهو أكمه. وكمهتها أنا أعميتها قال سويد:.

كمهت عيناه حتى ابيضتا

وقال رؤبة.

فارتد عنها كارتداد الأكمه

البرص: داء معروف وهو بياض يعتري الجلد، يقال منه: برص فهو أبرص، ويسمى القمر أبرص لبياضه، والوزغ سام أبرص للبياض الذي يعلو جلده.

ذخر: الشيء يذخره خبأه، والذخر المذخور قال:

لها أشارير من لخم تثمره من الثعالي وذخر من أرانبها

{ وإذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك } لما فرغ من قصة زكريا، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها، رجع إلى قصة مريم، وهكذا عادة أساليب العرب، متى ذكروا شيئاً استطردوا منه إلى غيره ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه، والمقصود تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود، وإظهار استحالة أن يكون عيسى إلهاً، فذكر ولادته.

وظاهر قوله الملائكة أنه جمع من الملائكة وقيل: المراد جبريل ومن معه من الملائكة، لأنه نقل أنه: لا ينزل لأمر إلاَّ ومعه جماعة من الملائكة وقيل: جبريل وحده.

وقرأ ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو: وإذ قال الملائكة، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها ومعمول القول الجملة المؤكدة: بإن.

والظاهر مشافهة الملائكة لها بالقول قال الزمخشري: روي أنهم كلموها شفاهاً معجزة لزكريا، أو إرهاصاً لنبوّة عيسى. انتهى. يعني: بالارهاص التقدّم، والدلالة على نبوّة عيسى وهذا مذهب المعتزلة، لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلاَّ إن كان في وقته نبي، أو انتظر بعث نبي، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي.

{ وطهرك } التطهير هنا من الحيض، قاله ابن عباس قال السدي: وكانت مريم لا تحيض. وقال قوم: من الحيض والنفاس وروي عن ابن عباس: من مس الرجال وعن مجاهد: عما يصم النساء في خلق وخلق ودين، وعنه أيضاً: من الريب والشكوك.

{ واصطفاك على نساء العالمين } قيل: كرر على سبيل التوكيد والمبالغة وقيل: لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى، لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء وقيل: الاصطفاء الأول: اختيار وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، والثاني: اصطفاء على نساء العالمين. وقيل: لما أطلق الاصطفاء الأول بيّن بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال وقال الزمخشري: اصطفاك أوّلاً حين تقبلك من أمّك ورباك، واختصك بالكرامة السنية، وطهرك مما يستقذر من الأفعال، ومما قذفك به اليهود، واصطفاك آخراً على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. انتهى. وهو كلام حسن، ويكون: نساء العالمين، على قوله عاماً، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى وقيل: هو خدمة البيت وقيل: التحرير ولم تحرر أنثى غير مريم وقيل: سلامتها من نخس الشيطان وقيل: نبوتها، فإنه قيل إنها نبئت، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة الله لها، وكان زكريا يسمع ذلك، فيقول: إن لمريم لشأناً. والجمهور على أنه لم ينبأ امرأه، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين هو شيء يخصها، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص وقيل: نساء العالمين، خاص بنساء عالم زمانها، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاماً، قاله ابن جريج.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير نساء الجنة مريم بنت عمران" . وروي: "خير نسائها مريم بنت عمران" وروي: "خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد" وروي: "فضلت خديجة على نساء أمّتي كما فضلت مريم على نساء العالمين" وروي: "أنها من الكاملات من النساء" .

وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل قال بعض شيوخنا: والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء، أنهم ينقلون عن أشياخهم: أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.{ يا مريم اقنتي لربك } لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدّم ذكرهم على الخلاف المذكور، والمراد بالقنوت هنا: العبادة، قاله الحسن، وقتادة. أو: طول القيام في الصلاة، قاله مجاهد، وابن جريج، والربيع، أو: الطاعة، أو: الإخلاص، قاله ابن جبير.

وفي قوله: لربك، إشارة إلى أن تفرّده بالعبادة وتخصصه بها، والجمهور على ما قاله مجاهد، وهو المناسب في المعنى لقوله: { واسجدي واركعي } وروى مجاهد أنها: لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها. وقال الأوزاعي: قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها. وروي: أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها.

{ واسجدي واركعي مع الراكعين } أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات الصلاة، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو، والواو لا ترتب، فلا يسأل لم قدم السجود على الركوع إلاَّ من جهة علم البيان.

والجواب: أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم، وإن كانت متأخراً في الفعل على الركوع، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف. وقيل: كان السجود مقدّماً على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم، ذكره أبو موسى الدمشقي. وقيل: في كل الملل إلاَّ ملة الإسلام، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع، فيكون إذ ذاك التقديم زمانياً من حيث الوقوع، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون، وكذلك التقديم الذي قبله، وتوارد الزمخشري، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات.

فقال الزمخشري: أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها، ثم قيل لها { واركعي مع الراكعين } المعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة، أي وانظمي نفسك في جملة المصلين، وكوني معهم وفي عدادهم، ولا تكون في عداد غيرهم.

وقال ابن عطية: القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين من معالم الصلاة، وهما: طول القيام والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة. وهذان يختصان بصلاتها منفردة، وإلاَّ فمن يصلي وراء إمام لا يقال له: أطل قيامك، ثم أمرت بعدُ بالصلاة في الجماعة، فقيل لها: { واركعي مع الراكعين } وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ. ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة. انتهى كلامه. ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره.

وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع، وقد استشكل ابن عطية هذا، فقال: وهذه الآية أشد إشكالاً من قولنا: قام زيد وعمرو، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة، وقد علم أن السجود بعد الركوع، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية؟ انتهى. وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق.

وذكر الزمخشري توجيهاً آخر في تأخير الركوع عن السجود، فقال: ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع، وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين، ولا تكون مع من لا يركع. انتهى. فكأنه قيل: لا تقتصري على القيام والسجود، بل أضيفي إلى ذلك الركوع.

وقيل: المراد: باقنتي: أطيعي، وباسجدي: صلي، ومنه { { وأدبار السجود } [ق: 40] أي: الصلوات، و: باركعي: أشكري مع الشاكرين، ومنه: { { وخرّ راكعاً وأناب } [ص: 24] ويقوي هذا المعنى، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلاَّ والركوع فيها مقدّم على السجود، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوّها من الركوع، ويبعد أن يراد بالركوع الإنحناء الذي يتوصل منه إلى السجود، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم.

و: مع، في قوله: مع الراكعين، تقتضي الصحبة والإجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة، ويحتمل أن يتجوز في: مع، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع، أي: إفعلي كفعلهم، وإن لم توقعي الصلاة معهم، فإنها كانت تصلي في محرابها. وجاء: مع الراكعين، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة.

قال الماتريدي: ولم تكره لها الصلاة في الجماعة، وإن كانت شابة، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها. انتهى.

{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } الإشارة إلى ما تقدّم من قصص امرأة عمران، وبنتها مريم، وزكريا، ويحيـى، والمعنى: أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب، ولا صحب من يعرف ذلك، وهو من قوم أمّيين، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله كما قال في الآية الأخرى، وقد ذكر قصة أبعد الناس زماناً من زمانه، صلى الله عليه وسلم. وهو نوح عليه السلام، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } [هود: 49] وفي هذا دليل على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلاَّ من شاهدها، أو: من قرأها في الكتب السابقة، أو: من أوحي الله إليه بها. وقد انتفى العيان والقراءة، فتعين الثالث وهو الوحي من الله تعالى.

والكاف في: ذلك، و: إليك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والأحسن في الإعراب أن يكون: ذلك، مبتدأ و: من أنباء الغيب، خبره. وأن يكون: نوحيه، جملة مستأنفة، ويكون الضمير في: نوحيه، عائداً على الغيب، أي: شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ولذلك أتى بالمضارع، ويكون أكثر فائدة من عوده على: ذلك، إذ يشتمل ما تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل، إذ يصير نظير: زيد يطعم المساكين، فيكون إخباراً بالحالة الدائمة. والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع، وإذ يلزم من عوده على: ذلك، أن يكون: نوحيه، بمعنى: أوحيناه إليك، لأن الوحي به قد وقع وانفصل، فيكون أبعد في المجاز منه إذا كان شاملاً لهذه القصص وغيرها مما سيأتي، وجوّزوا أن يكون: نوحيه، خبراً: لذلك، و: من أنباء، حال من: الهاء، في: نوحيه، أو متعلقاً: بنوحيه.

{ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى، والمعلم به قصتان: قصة مريم، وقصة زكريا. فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالإخبار أولاً، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد، ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل، فما خلت من تنبيه على قصة.

ومعنى: { وما كنت لديهم } أي: ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم. ونفي المشاهدة، وإن كانت منتفية بالعلم ولم تنتف القراءة والتلقي، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من الله تعالى إليه، ونظيره في قصة موسى: { { وما كنت بجانب الغربي } [القصص: 44] { { وما كنت بجانب الطور } [القصص: 46] وفي قصة يوسف { { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم } [يوسف: 102].

والضمير، في: لديهم، عائد على غير مذكور، بل على ما دل عليه المعنى، أي: وما كنت لدى المتنازعين، كقوله: { فأثرن به نقعاً } [العاديات: 4] أي: بالمكان.

والعامل في: إذ، العامل في: لديهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في: إذ، كنت. إنتهى. ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة. لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا، فكيف يعمل في ظرف؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه، والمضارع بعد: إذ، في معنى الماضي، أي: إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة. وقيل: كانوا يكتبون بها التوراة، فاختاروها للقرعة تبركاً بها. وقيل: الأقلام هنا الأزلام، وهي: القداح، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه، ولا كيفية حال الإلقاء، كيف خرج قلم زكريا. وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من ذلك عن المفسرين، والله أعلم بالصحيح منها. وقال أبو مسلم: كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة، فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بها الجزور.

وارتفع { أيهم يكفل مريم } على الابتداء والخبر، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف، أي: يقولون أيهم يكفل مريم، وإما بعلة محذوفة أي: ليعلموا أيّهم يكفل، وإما بحال محذوفة أي: ينظرون أيّهم يكفل، ودل على المحذوف: { يلقون أقلامهم } وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه.

{ وما كنت لديهم إذ يختصمون } أي: بسبب مريم، ويحتمل أن يكون هذا الاختصام هو الاقتراع، وأن يكون اختصاماً آخر بعده، والمقصود شدّة رغبتهم في التكفل بشأنها. والعامل في: اذ، العامل في: لديهم، أو، كنت، على قول أبي علي في: إذ يلقون.

وتضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة: التكرار في: اصطفاك، وفي: يا مريم، وفي: ما كنت لديهم. قيل: والتقديم والتأخير في: واسجدي واركعي، على بعض الأقوال. والاستعارة، فيمن جعل القنوت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة، والإشارة بذلك من أنباء الغيب، والعموم المراد به الخصوص في نساء العالمين على أحد التفسيرين، والتشبيه في أقلامهم، إذا قلنا إنه أراد القداح. والحذف في عدة مواضع.

{ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } العامل في: إذ، اذكر أو: يختصمون، أو إذ، بدل من إذ، في قوله: إذ يختصمون، أو من: وإذ قالت الملائكة، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة، وهو بعيد، وهو قول الزجاج. ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ.

والخلاف في الملائكة: أَهُمْ جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من الله، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها، ولا يجري لأمرأة بعدها، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها، وكان جرى ذلك الخارق من رزق الله لها أيضاً تأنيساً لهذا الخارق.

وقرأ ابن مسعود، وابن عمر: وإذ قالت الملائكة.

والكلمة من الله هو عيسى عليه السلام، سمي كلمة لصدوره بكلمة: كن، بلا أب. قاله قتادة. وقيل: لتسميته المسيح، وهو كلمة من الله أي: من كلام الله. وقيل: لوعد الله به في كتابه التوراة والكتب السابقة. وفي التوراة: أتانا الله من سيناء، وأشرق من ساعر، واستعلن من جبال فاران. وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح. وقيل: لأن الله يهدي بكلمته. وقيل: لأنه جاء على وفق كلمة جبريل، وهو: { { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } [مريم: 19] فجاء على الصفة التي وصف. وقيل: سماه الله بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء، فيكون على هذا علماً موضوعاً له لم تلحظ فيه جهة مناسبة. وقيل: الكلمة هنا لا يراد بها عيسى، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى. وقيل: بشارة النبي لها.

{ اسمه المسيح عيسى بن مريم } الضمير في اسمه، عائد على: الكلمة، على معنى: نبشرك بمكون منه، أو بموجود من الله. وسمي: المسيح، لأنه مسح بالبركة، قاله الحسن، وسعيد، وشمر. أو: بالدهن الذي يمسح به الأنبياء، خرج من بطن أمّه ممسوحاً به، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي. أو: بالتطهير من الذنوب، أو: بمسح جبريل له بجناحه أو: لمسح رجليه فليس فيهما خمص، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له. قال الشاعر:

بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم

أو: لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه، كما قال الشاعر:

على وجه مي مسحة من ملاحة

أو: لمسحة من الأقذار التي تنال المولودين، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس. أقوال سبعة، ويكون: فعيل، فيها بمعنى مفعول، والألف واللام في: المسيح، للغلبة مثلها في: الدبران والعيوق. وقال ابن عباس: سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلاَّ بريء، فعلى هذا يكون: فعيل، مبنياً للمبالغة: كعليم، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة. وقيل: من المساحة، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها. وقيل: هو مفعل من ساح يسيح من السياحة. وقال مجاهد، والنخعي: المسيح: الصديق. وقال ابن عباس، وابن جبير: المسيح: الملك، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات. وقال أبو عبيد: أصله بالعبرانية مشيحاً، فغير، فعلى هذا يكون أسماً مرتجلاً ليس هو مشتقاً من المسح ولا من السياحة { عيسى ابن مريم } الأبناء ينسبون إلى الآباء، ونسب إليها. وإن كان الخطاب لها إعلاماً أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها.

والظاهر أن اسمه: المسيح، فيكون: اسمه المسيح، مبتدأ وخبراً، و: عيسى، جوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون بدلاً، وأن يكون عطف بيان. ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر، وقال: كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى، أو أسماها على لفظ الكلمة، ويجوز أن يكون: عيسى، خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو عيسى ابن مريم. قال ابن عطية: ويدعو إلى هذا كون قوله: ابن مريم، صفة: لعيسى، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف. وأما على البدل، أو عطف البيان، فلا يجوز أن يكون: ابن مريم، صفة: لعيسى، لأن الأسم هنا لم يرد به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظر. إنتهى كلامه.

وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل: { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } وهذه ثلاثة أشياء الأسم منها: عيسى، وأما: المسيح و: الابن، فلقب وصفة؟.

قلت: الاسم للمسمى علامة يعرف بها، ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة. إنتهى كلامه. ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله: اسمه، ويكون من باب: هذا حلو حامض، و: هذا أعسر يسر. فلا يكون أحدها على هذا مستقلاً بالخبرية. ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر:

كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الكريم؟

أي: مجموع هذا مما يزرع الود، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع، كذلك يجوز في الخبر. وأجاز أبو البقاء أن يكون: ابن مريم، خبر مبتدأ محذوف أي: هو ابن مريم، ولا يجوز أن يكون بدلاً مما قبله، ولا صفة لأن: ابن مريم، ليس باسم. ألا ترى أنك لا تقول: اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه؟ إنتهى.

قال بعضهم: ومن قال إن المسيح صفة لعيسى، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره: اسمه عيسى المسيح، لأن الصفة تابعة لموصوفها. إنتهى. ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة، لأن المخبر به على هذا اللفظ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال، إذ لفظ عيسى ليس المسيح.

ومن قال: إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته. قال ابن الأنباري: وإنما بدأ بلقبه لأن: المسيح، أشهر من: عيسى، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه، وعيسى قد يقع على عدد كثير، فقدمه لشهرته. ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم؟ وهذا يدل على أن المسيح عند أبن الأنباري لقب لا اسم.

قال الزجاج: وعيسى معرب من: ايسوع، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث، ويكون مشتقاً من: عاسه يعوسه، إذا ساسه وقام عليه.

وقال الزمخشري: مشتق من العيس كالرقم في الماء.

{ وجيهاً في الدنيا والآخرة } قال ابن قتيبة: الوجيه ذو الجاه، يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة. وقال ابن دريد: الوجيه المحب المقبول. وقال الأخفش: الشريف ذو القدر والجاه. وقيل: الكريم على من يسأله، لأنه لا يرده لكرم وجهه.

ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته، وفي الآخرة بعلو درجته. وقيل: في بالدنيا بالطاعة، وفي الآخرة بالشفاعة. وقيل: في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وفي الآخرة بالشفاعة. وقيل: في الدنيا كريماً لا يرد وجهه، وفي الآخرة في علية المرسلين. وقال الزمخشري: الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة. وقال ابن عطية: وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته.

{ ومن المقربين } معناه من الله تعالى. وقال الزمخشري: وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة. وقال قتادة: ومن المقربين عند الله يوم القيامة. وقيل: من الناس بالقبول والإجابة، قاله الماوردي. وقيل: معناه: المبالغ في تقريبهم، لأن فعل من صيغ المبالغة، فقال: قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه إنتهى. وليس فعل هنا من صيغ المبالغة، لأن التضعيف هنا للتعدية، إنما يكون للمبالغة في نحو: جرّحت زيداً و: موّت الناس.

{ ومن المقربين } معطوف على قوله: وجيهاً، وتقديره: ومقرباً من جملة المقربين.

أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين، وأن عيسى منهم. ونظير هذا العطف قوله تعالى: { { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل } [الصافات: 137 ـ 138] فقوله: وبالليل، جار ومجرور في موضع الحال، وهو معطوف على: مصبحين، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل، فلو جاء: ومقرباً، لم تكن فاصلة، وأيضاً فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين، والتقريب صفة جليلة عظيمة. ألا ترى إلى قوله: { { ولا الملائكة المقربون } [النساء: 172]؟ وقوله: { فأما إن كان من المقربين * فروح } [الواقعة: 88 ـ 89] وهو تقريب من الله تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة.

{ ويكلم الناس في المهد وكهلاً } وعطف: ويكلم، وهو حال أيضاً على: وجيهاً، ونظيره: { { إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن } [الملك: 19] أي: وقابضات. وكذلك: ويكلم، أي: ومكلماً. وأتى في الحال الأول بالاسم لأن الاسم هو للثبوت، وجاءت الحال الثانية جاراً ومجروراً لأنه يقدر بالاسم. وجاءت الحالة الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة. ألا ترى أن الحال وصف في المعنى؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالاسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. كقوله تعالى: { { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه } [غافر: 28] فكذلك الحال، بدىء بالاسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد، كما أن الأسم يشعر بالثبوت، ويتعلق: في المهد، بمحذوف إذ هو في موضع الحال، التقدير: كائنا في المهد وكهلاً، معطوف على هذه الحال، كأنه قيل: طفلاً وكهلاً، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال. ونظيره عكساً: { { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل } [الصافات: 137 ـ 138] ومن زعم أن: وكهلاً، معطوف على: وجيهاً، فقد أبعد.

والمهد: مقر الصبي في رضاعه، وأصله مصدر سمي به يقال: مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها، أي: وطأت، ويقال: أمهد الشيء ارتفع.

وتقدم تفسير: الكهل لغة. وقال مجاهد: الكهل الحليم، وهذا تفسير باللازم غالباً، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته، فلا يكون في ذلك كالشارخ، والعرب تتمدح الكهولة، قال:

وما ضر من كانت بقاياه مثلنا شباب تسامى للعلى وكهول

ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي، وفي قوله: وكهلاً، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة، قاله الربيع، ويقال: إن مريم ولدته لثمانية أشهر، ومن ولد لذلك لم يعش، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن. وقيل: كانت العادة أن من تكلم في المهد مات، وفي قوله: { في المهد وكهلاً } إشارة إلى تقلب الأحوال عليه، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته. وقال ابن كيسان: ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاماً به أنه يكتهل، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب. واختلف في كلامه: في المهد، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق؟ أو كان يتكلم دائماً في المهد حتى بلغ إبان الكلام؟ قولان: الأول: عن ابن عباس.

ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو مرضع، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في المهد نبياً لقوله: { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً } [مريم: 30] ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها. وقيل: لم يكن نبياً في ذلك الوقت، وإنما كان الكلام تأسيساً لنبوته، فيكون قوله: { { وجعلني نبياً } [مريم: 31] إخباراً عما يؤول إليه بدليل قوله: { { وأوصاني بالصلاة والزكاة } [مريم: 31] ولم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلاً، فقيل: كلامه قبل رفعه إلى السماء كلمهم بالوحي والرسالة.

وقيل: ينزل من السماء كهلاً ابن ثلاث وثلاثين سنة، فيقول لهم: إني عبد الله، كما قال في المهد، وهذه فائدة قوله: وكهلاً، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلاً، قاله ابن زيد. وقال الزمشخري: معناه: ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء. إنتهى.

قيل: وتكلم في المهد سبعة: عيسى، ويحيى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج. وصبي ماشطة امرأة فرعون، وصاحب الجبار، وصاحب الأخدود، وقصص هؤلاء مروية، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعاً في ثلاثة، لأن ذلك كان إخباراً قبل أن يعلم بالباقين، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولاً، ثم أعلم بالباقين.

{ ومن الصالحين } أي: وصالحاً من جملة الصالحين، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء.

وانتصاب: وجيهاً، وما عطف عليه على الحال من قوله: بكلمة منه، وحسن ذلك، وإن كان نكرة، كونه وصف بقوله: منه، وبقوله: منه، وبقوله: اسمه المسيح.

{ قالت رب أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } لما أخبرتها الملائكة أن الله بشرها بالمسيح، نادت ربها، وهو الله، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب، وهذه القضية أعجب من قضية زكريا، لأن قضية زكريا حدث منها الولد بين رجل وامرأة، وهنا حدث من امرأة بغير واسطة بشر، ولذلك قالت: { ولم يمسسني بشر }.

وقيل: استفهمت عن الكيفية، كما سأل زكريا عن الكيفية، تقديره: هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء؟ أَمْ بأمر من قدرة الله؟.

وقال الانباري: لما خاطبها جبريل ظنته آدمياً يريد بها سوءاً، ولهذا قالت: { { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً } [مريم: 18] فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك، فقال: { رب أنَّى يكون لي ولد }؟

ومن ذهب إلى أن قولها: رب، وقول زكريا: رب، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما، ومعناه: يا سيدي فقد أبعد وقال الزمخشري: هو من بدع التفاسير، و: يكون، يحتمل أن تكون الناقصة والتامة، كما سبق في قصة زكريا. و: لم يمسسني بشر، جملة حالية، والمسيس هنا كناية عن الوطء، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوّج أو غيره، والبشر يطلق على الواحد والجمع، والمراد هنا النفي العام، وسمي بشراً لظهور بشرته وهو جلده، وبشرت الأديم قشرت وجهه، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره.

{ قال كذلك الله يخلق ما يشاء } تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا، إلاَّ أن في قصته { يفعل ما يشاء } [آل عمران: 40] من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف، وإن قل، وفي قصة مريم: يخلق، لأنه لا يتعارف مثله، وهو وجود ولد من غير والد، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي، فلذلك جاء بلفظ: يخلق، الدال على هذا المعنى.

وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال:

ألا رب مولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان

يريد: عيسى وآدم.

{ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة: لغةً وتفسيراً وقراءةً وإعراباً، فأغنى ذلك عن إعادته.

{ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } الكتاب: هنا مصدر، أي: يعلمه الخط باليد، قاله ابن عباس، وابن جريج وجماعة وقيل: الكتاب هو كتاب غير معلوم، علمه الله عيسى مع التوراة والإنجيل وقيل: كتب الله المنزلة. والألف واللام للجنس وقيل: هو التوراة والإنجيل.

قالوا: وتكون الواو في: والتوراة، مقحمة، والكتاب عبارة عن المكتوب، وتعليمه إياها قيل: بالإلهام، وقيل: بالوحي، وقيل: بالتوفيق والهداية للتعلم والحكمة. تقدم تفسيرها، وفسرت هنا: بسنن الأنبياء، وبما شرعه من الدين، وبالنبوة، وبالصواب في القول والعمل وبالعقل، وبأنواع العلم. وبمجموع ما تقدم أقوال سبعة.

روي أن عيسى كان يستظهر التوراة، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى.

وذكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء، وأنه سينزل.

وقرأ نافع، وعاصم، ويعقوب، وسهل: ويعلمه، بالياء وقرأ الباقون: بالنون، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة، وذلك إن قوله: قال كذلك، الضمير في: قال، عائد على الرب، والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ الله مبتدأ، وخبره فيما قبله، لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في: { قال كذلك الله يفعل ما يشاء } فيكون هذا من المقول لمريم، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده الله منها، ويجوز أن يكون معطوفاً على: يخلق، سواء كانت خبراً عن الله أم تفسيراً لما قبلها، إذا أعربت لفظ: الله مبتدأ وما قبله الخبر، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء. وأما على قراءة النون، فيكون من باب الإلتفات، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة.

وقال أبو علي: وجوزه الزمخشري، وغيره عطف: ويعلمه، على: يبشرك، وهذا بعيد جداً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. وأجاز ابن عطية وغيره أن يكون معطوفاً على: ويكلم، وأجاز الزمخشري أن يكون معطوفاً على: وجيهاً، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال. وفيما أجازه أبو علي والزمخشري في موضع رفع لأنه معطوف على خبر إن، وهذا القولان بعيدان أيضاً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثله في لسان العرب.

وقال بعضهم: ونعلمه، بالنون حمله على قوله { نوحيه إليك } فإن عنى بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير، وإن عنى بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح وقال الزمخشري: أو هو كلام مبتدأ يعنى أنه لا يكون معطوفاً على شيء من هذه التي ذكرت، فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من الله، على اختلاف القراءتين، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلاَّ أن يدعى زيادة الواو في: ويعلمه، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك.

وقال الطبري: قراءة الياء عطف على قوله { يخلق ما يشاء } وقراءة النون عطف على قوله { نوحيه إليك } قال ابن عطية: وهذا القول الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى. انتهى. ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على: نوحيه، من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط، وتعقيد التركيب، وتنافر الكلام. وأما من حيث المعنى فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي: إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران، وولادتها لمريم، وكفالة زكريا، وقصته في ولادة يحيـى له، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير، كل ذلك من أخبار الغيب، نعلِّمه، أي: نعلم عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله.

وأما قراءة الياء وعطف: ويعلمه، على: يخلق، فليست مفسدة للمعنى، بل هو أولى وأصح ما يحمل عليه عطف: ويعلمه، لقرب لفظه وصحة معناه. وقد ذكرنا جوازه قبل، ويكون الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجرِ بها عادة، مثل ما خلق لك ولداً من غير أب، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس من بني إسرائيل، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه تعالى من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف: ويعلمه.

{ ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم } اختلفوا في: رسولاً، هنا فقيل: هو وصف بمعنى المرسل على ظاهر ما يفهم منه وقيل: هو مصدر بمعنى رسالة، إذ قد ثبت أن رسولاً يكون بمعنى رسالة، وممن جوز ذلك فيه هنا الحوفي، وأبو البقاء، وقالا: هو معطوف على الكتاب، أي: ويعلمه رسالة إلى بني اسرائيل، فتكون: رسالة، داخلاً في ما يعلمه الله عيسى. وأجاز أبو البقاء في هذا الوجه أن يكون مصدراً في موضع الحال. وأما الوجه الأول فقالوا في إعرابه، وجوها.

أحدها: أن يكون منصوباً بإضمار فعل تقديره: ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، قالوا: فيكون مثل قوله:

يا ليت زوجك قد غدا متقلداً سيفاً ورمحاً

أي: ومعتقلاً رمحاً. لما لم يمكن تشريكه مع المنصوبات قبله في العامل الذي هو: يعلمه، أضمر له فعل ناصب يصح به المعنى، قاله ابن عطية وغيره.

الثاني: أن يكون معطوفاً على: ويعلمه، فيكون: حالاً، إذ التقدير: ومعلماً الكتاب، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله: وجيهاً، قاله الزمخشري، وثنى به ابن عطية، وبدأ به وهو مبني على إعراب: ويعلمه وقد بينا ضعف إعراب من يقول: إن: ويعلمه، معطوف على: وجيهاً، للفصل المفرط بين المتعاطفين.

الثالث: أن يكون منصوباً على الحال من الضمير المستكن في: ويكلم، فيكون معطوفاً على قوله: وكهلاً، أي: ويكلم الناس طفلاً وكهلاً ورسولاً إلى بني إسرائيل، قاله ابن عطية، وهو بعيد جداً لطول الفصل بين المتعاطفين.

الرابع: أن تكون الواو زائدة، ويكون حالاً من ضمير: ويعلمه، قاله الأخفش، وهو ضعيف لزيادة الواو، لا يوجد في كلامهم: جاء زيد وضاحكاً، أي: ضاحكاً.

الخامس: أن يكون منصوباً على إضمار فعل من لفظ رسول، ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول من عيسى، التقدير: وتقول أرسلت رسولاً إلى بني إسرائيل، واحتاج إلى هذا التقدير كله، لقوله: { أني قد جئتكم } وقوله: { ومصدقاً لما بين يدي }، إذ لا يصح في الظاهر حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر، لأن ما قبله ضمير غائب، وهذان ضميرا متكلم، فاحتاج إلى هذا الإضمار لتصحيح المعنى. قاله الزمخشري، وقال: هو من المضايق، يعني من المواضع التي فيها إشكال. وهذا الوجه ضعيف، إذ فيه إضمار القول ومعموله الذي هو: أرسلت، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة، إذ يفهم من قوله: وأرسلت، أنه رسول، فهي على هذا التقدير حال مؤكدة.

فهذه خمسة أوجه في إعراب: ورسولاً، أولاها الأول، إذ ليس فيه إلاَّ إضمار فعل يدل عليه المعنى، أي: ويجعله رسولاً، ويكون قوله { أني قد جئتكم } معمولاً لرسول، أي ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة الجمهور، ومعمولاً لقول محذوف على قراءة من كسر الهمزة، وهي قراءة شاذة، أي: قائلاً إني قد جئتكم، ويحتمل أن يكون محكياً بقوله: ورسولاً، لأنه في معنى القول، وذلك على مذهب الكوفيين.

وقرأ اليزيدي: ورسولٍ، بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه معطوف على: بكلمة منه، وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين المعطوف عليه والمعطوف.

وأرسل عيسى إلى بني إسرائيل مبيناً حكم التوراة، وداعياً إلى العمل بها، ومحللاً أشياء مما حرم فيها: كالثروب، ولحوم الإبل، وأشياء من الحيتان. والطير، وكان عيسى قد هربت به أمّه من قومها إلى مصر حين عزلوا أولادهم، ونهوهم عن مخالطته، وحبسوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليسوا ها هنا، فقال ما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير، قال: كذلك يكونون، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير. ففشا ذلك في بني إسرائيل، فهموا به، فهربت به أمّه إلى أرض مصر. فلما بلغ اثنتي عشرة سنة أوحى الله إليها: أن انطلقي إلى الشام، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة جاءه الوحي على رأس الثلاثين، فكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه. وكأن أول أنبياء بني إسرائيل: يوسف، وقيل: موسى، وآخرهم عيسى.

والظاهر أن قوله: { أني قد جئتكم بآية } إلى قوله { مستقيم } متعلق بقوله { ورسولاً إلى بني إسرائيل } ومعمول له، فيكون ذلك مندرجاً تحت القول السابق. والخطاب لمريم بقوله: قال كذلك الله، فتكون مريم قد بشرت بأشياء مما يفعلها الله لولدها عيسى: من تعليمه ما ذكر، ومن جعله رسولاً ناطقاً بما يكون منه إذا أرسل: من مجيئه بالآيات، وإظهار الخوارق على يديه، وغير ذلك مما ذكر إلى قوله: مستقيم. ويكون بعد قوله: مستقيم.

وقيل: قوله: فلما أحس، محذوف يدل عليه وتضطر إلى تقديره، المعنى، تقديره: فجاء عيسى بني إسرائيل ورسولاً، فقال لهم ما تقدّم ذكره، وأتى بالخوارق التي قالها، فكفروا به وتمالأوا على قتله وإذايته، فلما أحس عيسى منهم الكفر.

وقيل: يحتمل أن يكون الكلام تم عند قوله { ورسولاً إلى بني إسرائيل } ولا يكون { أني قد جئتكم } متعلقاً بما قبله، ولا داخلاً تحت القول والخطاب لمريم، ويكون المحذوف هنا: لا بعد قوله: مستقيم، والتقدير: فجاء عيسى كما بشر الله رسولاً إلى بني اسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم.

وقرأ الجمهور: بأنه، على الإفراد، وكذلك في { وجئتكم بآية من ربكم } وفي مصحف عبد الله: بآيات، على الجمع في الموضعين. ويجوز أن يكون: من ربكم، في موضع الصفة، لأنه يتعلق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق: بجئتكم، أي: جئتكم من ربكم بآية.

{ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله } قرأ الجمهور: أني أخلق، بفتح الهمزة على أن يكون بدلاً من: آية، فيكون في موضع جر، أو بدلاً من قوله: أني قد جئتكم، فيكون في موضع نصب أو جر على الخلاف، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي، أي: الآية أني أخلق، فيكون في موضع رفع. وقرأ نافع بالكسر على الاستئناف، أو على إضمار القول، أو على التفسير للآية. كما فسر المثل في قوله: { كمثل آدم } [آل عمران: 59] بقوله: { { خلقه من تراب } [آل عمران: 59] ومعنى: أخلق: أقدّر وأهيء، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود. وهذا لا يكون إلاَّ لله تعالى. ويكون بمعنى: التقدير والتصوير، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه: الخالق، لأنه يقدّر، وأصله في الإجرام، وقد نقلوه إلى المعاني قال تعالى { { وتخلقون إفكاً } [العنكبوت: 17] ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون: 14] أي المقدّرين. وقال الشاعر:

ولأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

واللام في: لكم، معناها التعليل، و: من الطين، تقييد بأنه لا يوجد من العدم الصرف، بل ذكر المادة التي يشكل منها صورة.

وقرأ الجمهور: كهيئة، على وزن: جيئة، وقرأ الزهري: كهية، بكسر الهاء وياء مشددة مفتوحة بعدها تاء التأنيث، و: الكاف، من: كهيئة، اسم على مذهب أبي الحسن، فهي مفعولة: بأخلق، وعلى قول الجمهور: يكون، صفة لمفعول محذوف تقديره: هيئة مثل هيئة، ويكون: هيئة، مصدراً في معنى المفعول، أي: مثالاً مهيأً مثل.

وقرأ الجمهور: الطير، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: كهيئة الطائر، والمراد به الجنس: فأنفخ فيه الضمير في: فيه، يعود على: الكاف، أو على موصوفها على القولين المذكورين. وقرأ بعض القراء: فأنفخها، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة، إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو: على الكاف على المعنى، إذ هي بمعنى: مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله: { { فتنفخ فيها } [المائدة: 110] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجرّ. كما قال:

ما شق جيب ولا قامتك نائحة ولا بكتك جياد عند إسلاب

يريد: ولا قامت عليك، وهي قراءة شاذة نقلها الفراء. وقال النابغة:

كالهبرقيّ تنحَّى ينفخ الفحما

فعدى: نفخ، لمنصوب، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر، ويمكن أن يكون على التضمين، أي: يضرم بالنفخ الفحم، فيكون هنا ناقصة على بابها، أو بمعنى: تصير.

وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة: طائراً، وقرأ الباقون: طيراً، وانتصابه على أنه خبر: يكون، ومن جعل: يكون، هنا تامّة، و: طائراً، حالاً فقد أبعد. وتعلق بإذن الله، قيل: بيكون. وقيل: بطائر، ومعنى: بإذن الله، أي بتمكينه وعلمه بأني أفعل، وتعاطي عيسى التصوير بيده والنفخ في تلك الصورة تبيين لتلبسه بالمعجزة، وتوضيح أنها من قبله، وأما خلق الحياة في تلك الصورة الطينية فمن الله وحده.

وظاهر الآية يدل على أن خلقه لذلك لم يكن باقتراح منهم، بل هذه الخوارق جاءت تفسيراً لقوله: { أني قد جئتكم بآية من ربكم } وقيل: كان ذلك باقتراح منهم، طلبوا منه أن يخلق لهم خفاشاً على سبيل التعنت جرياً على عاداتهم مع أنبيائهم، وخصوا الخفاش لأنه عجيب الخلق، وهو أكمل الطير خلقاً، له: ثدي، وأسنان، وآذان، وضرع، يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، إنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويطير بغير ريش، وتحيض أنثاه وتلد.

روي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفاش. فسألوه أشد الطير خلقاً لأنه يطير بغير ريش، ويقال: ما صنع غير الخفاش، ويقال: فعل ذلك أولاً وهو مع معلمه في الكتاب، وتواطأ النقل عن المفسرين أن الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق، وكان بنو إسرائيل مع معاينتهم لذلك الطائر يطير يقولون في عيسى: هذا ساحر.

{ وأبرئ الأكمه والأبرص } تقدّم تفسيرهما في المفردات. وقال مجاهد: الأكمه هو الأعشى. وقال عكرمة: هو الأعمش. وقال الزمخشري: هو الذي ولد أعمى. وقيل: هو الممسوح العين، ولم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وقال ابن عباس، والحسن، والسدّي: هو الأعمى على الإطلاق. وحكى النقاش: أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يُفهم، الميت الفؤاد، وقال ابن عباس أيضاً، وقتادة: هو الذي يولد أعمى مضموم العينين.

قيل: وقد كان عيسى يبرىء بدعائه، والمسح بيده، كل علة. ولكن لا يقوم الحجة على بني إسرائيل في معنى النبوة إلاَّ بالإبراء من العلل التي يعجز عن إبرائها الأطباء، حتى يكون فعله ذلك خارقاً للعادات. والإبراء من العشي والعمش ليس بخارق، وأما العمى فالأبلغ الإبراء من عمى الممسوح العين.

روي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى، من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى، وما كانت مداواته إلاَّ بالدعاء وحده، وخص بالذكر الكمه والبرص لأنهما داءان معضلان لا يقدر على الإبراء منهما، إلاَّ الله تعالى، وكان الغالب على زمان عيسى الطب، فأراهم الله المعجزة في جنس علمهم، كما أرى قوم موسى، إذ كان الغالب عليهم السحر، المعجزة بالعصا واليد البيضاء، وكما أرى العرب، إذ كان الغالب عليهم البلاغة، المعجزة بالقرآن.

روي أن جالينوس كان في زمان عيسى، وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه، فمات في طريقه.

{ وأحيي الموتى بإذن الله } نقل أئمة التفسير أنه أحيا أربعة: عازر، وكان صديقاً له، بعد ثلاثة أيام. فقام من قبره يقطر ودكه، وبقي إلى أن ولد له. و: ابن العجوز، وهو على سريره، فنزل عن أعناق الرجال وحمل سريره وبقي إلى أن ولد له، و: بنت العاشر، متعت بولدها بعد ما حييت، وسألوه أن يحيى سام بن نوح ليخبرهم عن حال السفينة، فخرج من قبره فقال: أَقَدْ قامت الساعة؟ وقد شاب نصف رأسه، وكان شاباً ابن خمسمائة، فقال: شيبني هول يوم القيامة.

وروي أنه في إحيائه الموتى كان يضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة، فيحيـي الإنسان ويكلمه ويعيش. وقيل: تموت سريعاً.

وروي عن الزهري أنه قال: بلغني أن عيسى خرج هو ومن معه من حوارييه حتى بلغ الأندلس، وذكر قصة فيها طول، مضمونها: أنه أحيا بها ميتاً، وسألوه فإذا هو من قوم عاد. ووردت قصص في إحياء خلق كثير على يد عيسى، وذكروا أشياء مما كان يدعو بها إذا أحيا، الله أعلم بصحتها.

{ وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم } قال السدّي، وابن جبير، ومجاهد، وعطاء، وابن إسحاق: كان عيسى من لدن طفوليته، وهو في الكتاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم، وبما يؤكل من الطعام، وما يدخر إلى أن نبىء، ويقول لمن سأله: أكلت البارحة كذا، وادّخرت. وقيل: كان ذلك بعد النبوة لما أحيا لهم الموتى، طلبوا منه آية أخرى، وقالوا: أخبرنا بما نأكل وما ندّخر للغد، فأخبرهم. وقال قتادة: كان ذلك في نزول المائدة، عهد إليهم أن يأكلوا منها ولا يخبأوا ولا يدخروا، فخالفوا، فكان عيسى يخبرهم بما أكلوه وما ادّخروا في بيوتهم، وعوقبوا على ذلك.

وأتى بهذه الخوارق الأربع مصدرة بالمضارع الدال على التجدد، والحالة الدائمة: وبدأ بالخلق إذ هو أعظم في الإعجاز، وثنى بإبراء الأكمه والأبرص، وأتى ثالثاً بإحياء الموتى، وهو خارق شاركه فيه غيره بإذن الله تعالى، وكرر: بإذن الله، دفعاً لمن يتوهم فيه الالُوهية، وكان، بإذن الله، عقب قوله: أني أخلق، وعطف عليه: وأبرىء الأكمه والأبرص، ولم يذكر: بإذن الله، اكتفاء به في الخارق الأعظم، وعقب قوله: وأحيي الموتى، بقوله: بإذن الله، وعطف عليه: وأنبئكم، ولم يذكر فيه، بإذن الله، لأن إحياء الأموات أعظم من الإخبار بالمغيبات، فاكتفى به في الخارق الأعظم أيضاً، فكل واحد من الخارقين الأعظمين قيد بقوله: بإذن الله، ولم يحتج إلى ذلك فيما عطف عليهما اكتفاء بالأول إذ كل هذه الخوارق لا تكون إلا بإذن الله.

و: ما، في: ما تأكلون وما تدخرون، موصولة اسمية، وهو الظاهر. وقيل: مصدرية.

وقرأ الجمهور: تدخرون، بدال مشددة، وأصله: إذتخر، من الذخر، أبدلت التاء دالاً، فصار: إذدخر، ثم أدغمت الذال في الدال، فقيل: ادّخر، كما قيل: ادكره. وقرأ مجاهد، والزهري، وأيوب السختياني، وأبو السمال: تذخرون، بذال ساكنة وخاء مفتوحة. وقرأ أبو شعيب السوسي، في رواية عنه: وما تذدخرون، بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام، وهذا الفك جائز. وقراءة الجمهور بالإدغام أجود، ويجوز جعل بالدال ذالاً، والإدغام فتقول: اذخر، بالذال المعجـمة المشددة.

{ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } ظاهر هذه الجملة أنها من كلام عيسى لاحتفافها بكلامه من قبلها ومن بعدها، حكاه الله عنه. وقيل: هو من كلام الله تعالى، استئناف صيغته صيغة الخبر، ومعناه التوبيخ والتقريع، وأشير بذلك إلى ما تقدم من جعل الطين طائراً، والإبراء والإحياء والإنباء.

وتقدم أن في مصحف ابن مسعود: آيات، على الجمع، فمن أفرد أراد الجنس وهو صالح للقليل والكثير، ويعين المراد القرائن: اللفظية، والمعنوية، والحالية، ومن جمع فعلى الأصل، إذ هي: آيات، وهي: آية في نفسها، آمنوا أو كفروا، فيحتمل أن يكون ثَمَّ صفة محذوفة حتى يتجه التعليق بهذا الشرط، أي: لآية نافعة هادئة لكم إن آمنتم، ويكون خطاباً لمن لم يؤمن بعد، وإن كان خطاباً لم آمن فذلك على سبيل التثبيت وتطمين النفس وهزها. كما تقول لإبنك: أطعني إن كنت إبني، ومعلوم أنه ابنك، ولكن تريد أن تهزه بذكر ما هو محقق. ذكر ما جعل معلقاً به ما قبله على سبيل أن يحصل.

{ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة } عطف و: مصدقاً، على قوله: بآية إذ الباء فيه للحال، ولا تكون للتعدية لفساد المعنى، فالمعنى: وجئتكم مصحوباً بآية من ربكم، ومصدقاً لما بين يدي. ومنعوا أن يكون: ومصدقاً، معطوفاً على: رسولاً إلى بني إسرائيل، ولا على: وجيهاً، لما يلزم من كون الضمير في قوله: لما بين يدي، غائباً. فكان يكون: لما بين يديه، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله: ورسولاً، أن يكون منصوباً بإضمار فعل، أي: وأرسلت رسولاً، فعلى هذا التقدير يكون: ومصدقاً، معطوفاً على: ورسولاً. ومعنى تصديقه للتوراة الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالف في أشياء. قال وهب بن منبه: كان يسبت ويستقبل بيت المقدس.

{ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } قال ابن جريج: أحل لهم لحوم الابل والشحوم. وقال الربيع: وأشياء من السمك وما لا ضئضئة له من الطير، وكان ذلك في التوراة محرماً.

وقال بعض المفسرين: حرم عليكم، إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه، فكأن عيسى ردّ أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله. إنتهى كلامه.

واختلفوا في إحلاله لهم السبت. وقرأ عكرمة: ما حرم عليكم، مبنياً للفاعل، والفاعل ضمير يعود على: ما، من قوله: لما بين يدي، أو يعود على: الله، منزل التوراة، أو على: موسى، صاحب التوراة. والظاهر الأول لأنه مذكور. وقرأ: حرم، بوزن: كرم، إبراهيم النخعي، والمراد ببعض مدلولها المتعارف، وزعم أبو عبيدة أن المراد به هنا معنى كل خطأ، لأنه كان يلزم أن يحل لهم: القتل، والزنا، والسرقه، لأن ذلك محرم عليهم، واستدلاله على أن: بعضاً، تأتي بمعنى: كل، بقول لبيد:

ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها أو ترتبط بعض النفوس حمامها

ليس بصحيح، لأن بعضاً على مدلوله، إذ يريد نفسه، فهو تبعيض صحيح، وكذلك استدلال من استدل بقوله:

إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا

لصحة التبعيض، إذ ليس كل ما دبره الأحداث يكون فيه الخلل. وقال بعضهم: لا يقوم: بعض، مقام: كل إلا إذا دلت قرينة على ذلك، نحو قوله:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضناحنانيك بعض الشر أهون من بعض

يريد: بعض الشر أهون من كله. إنتهى. وفي ذلك نظر.

واللام في: ولأحل لكم، لام كي، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ، فقيل: هو معطوف على المعنى، إذ المعنى في: ومصدقاً، أي: لأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم. وهذا هو العطف على التوهم، وليس هذا منه، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحداً في المعطوف والمعطوف عليه. ألا ترى إلى قوله: { فأصدق وأكن } [المنافقون: 10] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض؟ وكذلك قوله:

تقي نقي لم يكثر غنيمة بنكهة ذي قربى ولا بحفلد

كيف اتحد معنى النفي في قوله: لم يكثر، ولا في قوله: ولا بحفلد؟ أي: ليس بمكثر ولا بحفلد. وكذلك ما جاء من هذا النوع. وقيل: اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى: أي وجئتكم لأحلّ لكم. وقيل: تتعلق اللام بقوله: وأطيعون، والمعنى: واتبعون لأحل لكم، وهذا بعيد جداً. وقال أبو البقاء: هو معطوف على محذوف تقديره: لأخفف عنكم، أو نحو ذلك.

وقال الزمخشري: ولأحل، ردّ على قوله: بآية من ربكم، أي: جئتكم بآية من ربكم، لأن: بآية، في موضع حال، و: لأحل، تعليل، ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعول به، أو ظرف، أو حال، أو تعليل، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف.

{ وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه } ظاهر اللفظ أن يكون قوله: { وجئتكم بآية من ربكم } للتأسيس لا للتوكيد، لقوله: قد جئتكم بآية من ربكم، وتكون هذه الآية قوله: { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القول آية وعلامة، لأنه رسول كسائر الرسل، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والأستدلال. وكسر: إن، على هذا القول لأن: قولاً، قبلها محذوف، وذلك القول بدل من الآية، فهو معمول للبدل. ومن قرأ بفتح: أن، فعلى جهة البدل من: آية، ولا تكون الجملة من قوله: إن، بالكسر مستأنفة على هذا التقدير من إضمار القول، ويكون قوله: { فاتقوا الله وأطيعون } جملة اعتراضية بين البدل والمبدل منه.

وقيل: الآية الأولى في قوله: { قد جئتكم بآية } هي معجزة. وفي قوله: { وجئتكم بآية } هي الآية من الإنجيل، فاختلف متعلق المجيء، ويجوز أن يكون { وجئتكم بآية من ربكم } كررت على سبيل التوكيد، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من: خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات، وبغيره من ولادتي من غير أب، ومن كلامي في المهد، وسائر الآيات. فعلى هذا من كسر: إن، فعلى الاستئناف، ومن فتح فقيل التقدير، لأن { الله ربي وربك فاعبدوه }، فيكون متعلقاً بقوله: فاعبدوه، كقوله: { { لإيلاف قريش } [قريش: 1] ثم قال: { { فليعبدوا } [قريش: 3] فقدم: أن، على عاملها. ومن جوز: أن تتقدم: أن، ويتأخر عنها العامل في نحو هذا غير مصيب، لا يجوز: أن زيداً منطلق عرفت، نص على ذلك سيبويه وغيره، ويجوز أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن الله ربي وربكم، وما بينهما اعتراض. وقال ابن عطية: التقدير: أطيعون لأن الله ربي وربكم. إنتهى. وليس قوله بظاهر.

والأمر بالتقوى والطاعة تحذير ودعاء، والمعنى أنه: تظاهر بالحجج والخوارق في صدقه، فاتقوا الله في خلافي، وأطيعون في أمري ونهيي. وقيل: اتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، وأطيعون فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم.

وتكرار: ربي وربكم، أبلغ في التزام العبودية من قوله: ربنا، وأدل على التبري من الربوبية.

{ هذا صراط مستقيم } أي: طريق واضح لمن يسلكه لا اعوجاج فيه، والإشارة بهذا إلى قوله: { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } أي إفراد الله وحده بالعبادة هو الطريق المستقيم، ولفظ العبادة يجمع الإيمان والطاعات.

وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبديع: إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله، في قوله: إن الله يبشرك، اذ هم المشافهون بالبشارة، والله الآمر بها. ومثله: نادى السلطان في البلد بكذا، وإطلاق اسم السبب على المسبب في قوله: بكلمة منه، على الخلاف الذي في تفسير: كلمة.

والاحتراس: في قوله: وكهلاً، من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة لا يعيش.

والكناية: في قوله: ولم يمسسني بشر، كنى بالمسّ عن الوطء، كما كنى عنه: بالحرث، واللباس، والمباشرة.

والسؤال والجواب في: قالت الملائكة وفي أنى يكون؟ والتكرار: في: جئتكم بآية. وفي: أنى أخلق لكم. و، في: الطير، وفي: بإذن الله، وفي: ربي وربكم، وفي: ما، في قوله: بما تأكلون وما.

والتعبير عن الجمع بالمفرد في: الآية، وفي: الأكمه والأبرص، وفي: إذا قضى أمراً.

والطباق في: وأحيي الموتى، وفي: لاحل وحرم والالتفات في: ونعلمه فيمن قرأ بالنون والتفسير بعد الإبهام في: من قال: الكتاب مبهم غير معين، والتوراة والإنجيل تفسير له والحذف في عدة مواضع.