خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ
٢٢
وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٢٣
قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٢٥
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ
٢٦
قُلْ أَرُونِيَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ
٢٧
وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٨
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٩
قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ
٣٠
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
٣١
قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ
٣٢
وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٣٣
-سبأ

البحر المحيط

لما بين حال الشاكرين وحال الكافرين، وذكر قريشاً ومن لم يؤمن بمن مضى، عاد إلى خطابهم فقال: { قل }، يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم، { ادعوا الذين زعمتم }، وهم معبوداتهم من الملائكة والأصنام، وهو أمر بدعاء هو تعجيز وإقامة للحجة. وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشاً، أي ادعوهم ليكشفوا عنكم ما حل بكم، والجئوا إليهم فيما يعنّ لكم. وزعم: من الأفعال التي تتعدى إلى اثنين إذا كانت اعتقادية، والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على الذين، والثاني محذوف أيضاً لدلالة المعنى، ونابت صفته منابه، التقدير: الذي زعمتموهم آلهة من دونه؛ وحسن حذف الثاني قيام صفته مقامه، ولولا ذلك ما حسن، إذ في حذف إحدى مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً خلاف، منع ذلك ابن ملكوت، وأجازه الجمهور، وهو مع ذلك قليل، ولا يجوز أن يكون الثاني من دونه، لأنه لا يستقل كلاماً. لو قلت: هم من دونه، لم يصح، ولا الجملة من قوله: { لا يملكون مثقال ذرة }، لأنه لو كانت هذه النسبة مزعومة لهم لكانوا معترفين بالحق قائلين له. ولو كان ذلك توحيداً منهم، وأن آلهتهم ومعبوداتهم لا يملكون شيئاً باعترافهم. ثم أخبر عن آلهتهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة، وهو أحقر الأشياء، وإذا انتفى ملك الأحقر عنهم، فملك الأعظم أولى. ثم ذكر مقر ذلك المثقال، وهو السموات والأرض. ثم أخبر أنهم ما لهم في السموات ولا في الأرض من شركة، فنفى نوعي الملك من الاستبداد والشركة. ثم نفى الإعانة منهم له تعالى في شيء مما أنشأ بقوله: { وما له منهم من ظهير }، فبين عجز معبوداتهم من جميع الجهات.

ولما كان من العرب من يعبد الملائكة لتشفع له، نفى أن شفاعتهم تنفع، والنفي منسحب على الشفاعة، أي لا شفاعة لهم فتنفع، وليس المعنى أنهم يشفعون، ولا تنفع شفاعتهم، أي لا يقع من معبوداتهم شفاعة أصلاً. ولأن عابديهم كفار، فإن كان المعبودون أصناماً أو كفاراً، كفرعون، فسلب الشفاعة عنهم ظاهر، وإن كانوا ملائكة أو غيرهم ممن عبد، كعيسى عليه السلام، فشفاعتهم إذا وجدت تكون لمؤمن. و{ إلا لمن أذن له }: استثناء مفرغ، فالمستثنى منه محذوف تقديره: ولا تنفع الشفاعة لأحد { إلا لمن أذن له }. واحتمل قوله لأحد أن يكون مشفوعاً له، وهو الظاهر، فيكون قوله: { إلا لمن أذن له }، أي المشفوع، أذن لأجله أن يشفع فيه؛ والشافع ليس بمذكور، وإنما دل عليه المعنى. واحتمل أن يكون شافعاً، فيكون قوله: { إلا لمن أذن له } بمعنى: إلا لشافع أذن له أن يشفع، والمشفوع ليس بمذكور، إنما دل عليه المعنى. وعلى هذا الاحتمال تكون اللام في { أذن له } لام التبليغ، لا لام العلة. وقال الزمخشري: يقول: الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع، كما يقول: الكرم لزيد، وعلى معنى أنه المشفوع له، كما تقول: القيام لزيد، فاحتمل قوله: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } أن يكون على أحد هذين الوجهين، أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له، أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له، أي لشفيعه، أو هي اللام الثانية في قولك: أذن لزيد لعمرو، أي لأجله، وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، وهذا وجه لطيف، وهو الوجه، وهذا تكذيب لقولهم: { { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس: 18]. انتهى. فجعل { إلا لمن أذن له } استثناء مفرغاً من الأحوال، ولذلك قدره: إلا كائنة، وعلى ما قررناه استثناء من الذوات.

وقال أبو عبد الله الرازي: المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة: قائل: إن الله خلق السموات وجعل الأرض والأرضيات في حكمها، ونحن من جملة الأرضيات، فنعبد الكواكب والملائكة السماوية، وهم إلهنا، والله إلههم، فأبطل بقوله: { لا يملكون }، { في السماوات }، كما اعترفتم، { ولا في الأرض }، خلاف ما زعمتم. وقائل: السماوات من الله استبداداً، والأرضيات منه بواسطة الكواكب، فإنه تعالى خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات وحركات وطوالع، فجعلوا مع الله شركاء في الأرض، والأولون جعلوا الأرض لغيره، فأبطل بقوله: { وما لهم فيهما من شرك }، أي الأرض، كالسماء لله لا لغيره، ولا لغيره فيهما نصيب. وقائل: التركيبات والحوادث من الله، لكن فوض إلى الكواكب، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن، ويسلب عن المأذون له فيه، جعلوا السموات معينة لله، فأبطل بقوله: { وما له منهم من ظهير } وقائل: نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا، فأبطل بقوله: { ولا تنفع الشفاعة }، الجملة، وأل في الشفاعة الظاهر أنها للعموم، أي شفاعة جميع الخلق. وقيل: للعهد، أي شفاعة الملائكة التي زعموها شركاء وشفعاء. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال أبو البقاء: اللام في { لمن أذن له } يجوز أن تتعلق بالشفاعة، لأنك تقول: أشفعت له، وأنت تعلق بتنفع. انتهى، وهذا فيه قلة، لأن المفعول متأخر، فدخول اللام عليه قليل. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أذن بضم الهمزة؛ وباقي السبعة: بفتحها، أي أذن الله له. والظاهر أن الضمير في قوله: { قلوبهم } عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله: { لا يملكون }، وفي { ما لهم }، و{ ما لهم منهم }، وهم الملائكة الذين دعوهم آلهة وشفعاء، ويكون التقدير: إلا لمن أذن له منهم.

و{ حتى }: تدل على الغاية، وليس في الكلام عائد على أن حتى غاية له. فقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم، بل هم عبدة أو مسلمون أبداً، يعني منقادون، { حتى إذا فزع عن قلوبهم }. قال: وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن قوله: { حتى إذا فزع عن قلوبهم }، إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي، أي جبريل، وبالأمر يأمر الله به سمعت، كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة. وقيل: خوف أن تقوم الساعة، فإذا فزع ذلك عن قلوبهم، أي أطير الفزع عنها وكشف، يقول بعضهم لبعض ولجبريل: { ماذا قال ربكم }؟ فيقول المسؤلون: قال { الحق وهو العلي الكبير }، وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: { الذين زعمتم } لم تتصل له هذه الآية بما قبلها، فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار، بعد حلول الموت: ففزع عن قلوبهم بفقد الحياة، فرأوا الحقيقة، وزال فزعهم مما يقال لهم في حياتهم، فيقال لهم حينئذ: { ماذا قال ربكم }؟ فيقولون: قال الحق، يقرون حين لا ينفعهم الإقرار. وقالت فرقة: الآية في جميع العالم. وقوله: { حتى }، يريد في الآخرة، والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث، وهذا بعيد. انتهى. وإذا كان الضمير في { عن قلوبهم } لا يعود على { الذين زعمتم }، كان عائداً على من عاد عليه الضمير في قوله: { ولقد صدّق عليهم إبليس }، ويكون الضمير في { عليهم } عائداً على جميع الكفار، ويكون حتى غاية لقوله: { فاتبعوه }، ويكون التفزيع حالة مفارقة الحياة، أو يجعل اتباعهم إياه مستصحباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً.

والجملة بعد من قوله: { قل ادعوا } اعتراضية بين المغيا والغاية. قال ابن زيد: أقروا بالله حين لا ينفعهم الإقرار، فالمعنى: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم به، { قالوا ماذا قال ربكم }. وقال الحسن: وإنما يقال للمشركين { ماذا قال ربكم } على لسان الأنبياء، فأقروا حين لا ينفع. وقيل: { حتى } غاية متعلقة بقوله: { زعمتم }، أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم: قال الحق. انتهى. فيكون في الكلام التفاوت من خطاب في { زعمتم } إلى غيبة في { فزع عن قلوبهم }. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا أذن فزع ودام فزعه حتى إذا أزيل التفزيع عن قلوبهم. قال بعض الشافعين من الملائكة لبعض الملائكة: { ماذا قال ربكم } في قبول شفاعتنا؟ فيجيب بعضهم لبعض: قال أي الله الحق، أي القول الحق، وهو قبول شفاعتهم، إذا كان تعالى أذن لهم في ذلك، ولا يأذن إلا وهو مريد لقبول الشفاعة. وقال الزمخشري: فإن قلت بم اتصل قوله: { حتى إذا فزع عن قلوبهم }؟ ولا شيء وقعت حتى غاية له. قلت: بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظار الإذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص. ومثل هذه الحال دل عليه قوله، عز من قائل: { { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً * يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [النبأ: 37 - 38]، كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون ملياً فزعين وهلين.

{ حتى إذا فزع عن قلوبهم }: أي كشف الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن. تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضاً: { ماذا قال ربكم }؟ قال الحق، أي القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. انتهى. وتلخص من هذا أن حتى غائية إما لمنطوق وهو زعمتم، ويكون الضمير في { عن قلوبهم } التفاتاً، وهو للكفار، أو هو فاتبعوه، وفيه تناسق الضمائر لغائب. والفصل بالاعتراض والضمير أيضاً للكفار، والضمير في { قالوا } للملائكة، وضمير الخطاب في { ربكم }، والغائب في { قالوا } الثانية للكفار. وأما لمحذوف، فما قدره ابن عطية لا يصح أن يغيا، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وهم عبدة منقادون دائماً لا ينفكون عن ذلك، لا إذا فزع عن قلوبهم، ولا إذا لم يفزع، وحمل ذلك على الملائكة حال الوحي لا يناسب الآية، وكون النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة الوحي قال: "فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم" لا يدل على أن هذه الآية في الملائكة حالة تكلم الله بالوحي. والحديث رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ قال فيقول الحق، فينادون الحق" . وما قدره الزمخشري يحتمل، إلا أن فيه تخصيص الذين زعمتم من دونه بالملائكة، والذين عبدوهم ملائكة وغيرهم. وتخصيص من أذن له بالملائكة أيضاً، والمأذون لهم في الشفاعة الملائكة وغيرهم. ألا ترى إلى ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الشفاعة في قوله عز وجل؟.

وقرىء: فزع مشدداً، من الفزع، مبنياً للمفعول، أي أطير الفزع عن قلوبهم. وفعل تأتي لمعان منها: الإزالة، وهذا منه نحوه: قردت البعير، أي أزلت القراد عنه. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وطلحة، وأبو المتوكل الناجي، وابن السميفع، وابن عامر: مبنياً للفاعل من الفزع أيضاً، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في عن قلوبهم للملائكة، فهو الله، وإن كان للكفار، فالضمير لمغويهم. وقرأ الحسن: { فزع } من الفزع، بتخفيف الزاي، مبنياً للمفعول، و{ عن قلوبهم } في موضع رفع به، كقولك: انطلق يزيد. وقرأ الحسن أيضاً، وأبو المتوكل أيضاً، وقتادة، ومجاهد: فزع مشدداً، مبنياً للفاعل من الفزع. وقرأ الحسن أيضاً: كذلك، إلا أنه خفف الزاي. وقرأ عبد الله بن عمر، والحسن أيضاً، وأيوب السختياني، وقتادة أيضاً، وأبو مجلز: فرغ من الفراغ، مشدد الراء، مبنياً للمفعول. وقرأ ابن مسعود، وعيسى افرنقع: عن قلوبهم، بمعنى انكشف عنها، وقيل: تفرق. وقال الزمخشري: والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين، كما ركب قمطر من حروف القمط مع زيادة الراء. انتهى. فإن عني الزمخشري أن العين من حروف الزيادة، وكذلك الراء، وهو ظاهر كلامه، فليس بصحيح، لأن العين والراء ليستا من حروف الزيادة. وإن عنى أن الكلمة فيها حروف، وما ذكروا زائداً إلى ذلك العين والراء كمادة فرقع وقمطر، فهو صحيح لولا إيهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة، لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها سواد المصحف. وقالوا أيضاً في قوله تعالى: { حتى إذا فزع } أقوالاً غير ما سبق. قال كعب: إذا تكلم الله عز وجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرت فزعاً، قالوا فيما بينم: { ماذا قال ربكم قالوا الحق }. وقيل: إذا دعاهم إسرافيل من قبورهم، قالوا مجيبين ماذا، وهو من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ، كما قاله زهير:

إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل

وقيل: هو فزع ملائكة أدنى السموات عند نزول المدبرات إلى الأرض. وقيل: لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وبعث الله محمداً، أنزل الله جبريل بالوحي، فظنت الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة، وصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب. وقيل: الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله فانحدروا، سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجداً يصعقون، رواه الضحاك عن ابن مسعود.

وهذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه، وأقر بها عندي أن يكون الضمير في { قلوبهم } عائداً على من عاد عليه اتبعوه وعليهم، وممن هو منها في شك، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضاً. وقوله: { قالوا }، أي الملائكة، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال توبيخ: { ماذا قال ربكم }، على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم، فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله، وجاءت به أنبياؤه، وهو الحق، لا الباطل الذي كنا فيه من اتباع إبليس. وشكنا في البعث ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال، أي أي شيء قال ربكم، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة، أي ما الذي قال ربكم، وذا خبره، ومعمول قال ضمير محذوف عائد على الموصول. وقرأ ابن أبي عبلة: قالوا الحق، برفع الحق، خبر مبتدأ، أي مقوله الحق، { وهو العلي الكبير }، تنزيه منهم له تعالى وتمجيد. ثم رجع إلى خطاب الكفار فسألهم عمن يرزقهم، محتجاً عليهم بأن رازقهم هو الله، إذ لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض }، وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: { قل الله }، لأنهم قد لا يجيبون حباً في العناد وإيثاراً للشرك. ومعلوم أنه لا جواب لهم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله. { وإنا }: أي الموحدين الرازق العابدين، { أو إياكم }: المشركين العابدين الأصنام والجمادات. { لعلى هدى }: أي طريقة مستقيمة، أو في حيرة واضحة بينة. والمعنى: أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال. ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال. وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح، ونحوه قول العرب: أخزى الله الكاذب مني ومنك، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب، ونظيره قوله الشاعر:

فأني ماوأيك كان شراً فسيق إلى المقادة في هوان

وقال حسان:

أتهجوه ولست له بكفؤ فشركما لخيركما الفداء

وهذا النوع يسمى في علم البيان: استدراج المخاطب. يذكر له أمراً يسلمه، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله. وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه، فقال لهم بطريق الاستدلال: إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة، ولا تنفع ولا تضر، لأنها جماد، وهم يعلمون ذلك، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه. وقيل: معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء بهم، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئاً ولا تنفع ولا تضر، فأراد الله من نبيه، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف، إن كان ذلك أبلغ في استنقاصهم، كقولك: إن أحدنا لكاذب، وقد علمت أن من خاطبته هو الكاذب، ولكنك وبخته بلفظ غير مكشوف. وأوهنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين، أو الأشياء. وخبر { إنا أو إياكم } هو { لعلى هدى أو في ضلال مبين }، ولا يحتاج إلى تقدير حذف، إذ المعنى: أن أحدنا لفي أحد هذين، كقولك: زيد أو عمرو في القصر، أو في المسجد، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف، إذ معناه: أحد هذين في أحد هذين. وقيل: الخبر محذوف، فقيل: خبر لا وله، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه، أو إياكم، إذ هو على تقدير إنا، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير، وقيل: خبر الثاني، والتقدير: أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وحذف لدلالة خبر الأول عليه، وهو هذا المثبت { لعلى هدى أو في ضلال مبين }، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير معطوف بها، نحو: زيد أو عمرو قائم، كان يحتاج إلى هذا التقدير، وإن مع ما يصلح أن يكون خبراً لأن اسمها عطف عليه بأو، والخبر معطوف بأو، فلا يحتاج إليه. وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو، فيكون من باب اللف والنشر، والتقدير: وإنا لعلى هدى، وإياكم في ضلال مبين، فأخبر عن كل بما ناسبه، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها. وجاء في الهدى بعلى، لأن صاحبه ذو استعلاء، وتمكن مما هو عليه، يتصرف حيث شاء. وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه.

{ قل لا تسألون عما أجرمنا } هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول، وأكثر تلطفاً واستدراجاً، حيث سمى فعله جرماً، كما يزعمون، مع أنه مثاب مشكور. وسمى فعلهم عملاً، مع أنه مزجور عنه محظور. وقد يراد بأجرمنا نسبة ذلك إلى المؤمنين دون الرسول، وذلك ما لا يكاد يخلو المؤمن منه من الصغائر، والذي تعملون هو الكفر وما دونه من المعاصي الكبائر. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. { قل يجمع بيننا ربنا }: أي يوم القيامة، { ثم يفتح }: أي يحكم، { بالحق }: بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار. { وهو الفتاح }: الحاكم الفاصل، { العليم } بأعمال العباد. والفتاح والعليم صيغتا مبالغة، وهذا فيه تهديد وتوبيخ. تقول لمن نصحته وخوفته فلم يقبل: سترى سوء عاقبة الأمر. وقرأ عيسى: الفاتح اسم فاعل، والجمهور: الفتاح.

{ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء }: الظاهر أن أرى هنا بمعنى أعلم، فيتعدى إلى ثلاثة: الضمير للمتكلم هو الأول، والذين الثاني، وشركاء الثالث، أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة، وهل يملكون مثقال ذرة أو يرزقونكم؟ وقيل: هي رؤية بصر، وشركاء نصب على الحال من الضمير المحذوف في ألحقتم، إذ تقديره: ألحقتموهم به في حال توهمه شركاء له. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: أروني، وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم، ليطلعهم على حالة القياس إليه والإشراك به. و{ كلا }: ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم: { { أف لكم ولما تعبدون من دون الله } [الأنبياء: 67]، بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش غلطهم، وأن يقدروا الله حق قدره بقوله: { هو الله العزيز الحكيم }، كأنه قال: أي الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات؟ وهو راجع إلى الله وحده، أو هو ضمير الشأن كما في قوله: { { قل هو الله أحد } [الإخلاص: 1]. انتهى. وقول ابن عطية، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له، أي لا نفع له، ليس بجيد، بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ، ولا يريد حقيقة الأمر، بل المعنى: أن الذين هم شركاء الله على زعمكم، هم ممن إن أريتموهم افتضحتم، لأنهم خشب وحجر وغير ذلك من الحجارة والجماد، كما تقول للرجل الخسيس الأصل: أذكر لي أباك الذي قايست به فلاناً الشريف ولا تريد حقيقة الذكر، وإنما أردت تبكيته، وأنه إن ذكر أباه افتضح.

و{ كافة }: اسم فاعل من كف، وقيل: مصدر كالعاقبة والعافية، فيكون على حذف مضاف، أي إلا ذا كافة، أي ذا كف للناس، أي منع لهم من الكفر، أو ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك. وإذا كان اسم فاعل، فقال الزجاج وغيره: هو حال من الكاف في { أرسلناك }، والمعنى: إلا جامعاً للناس في الإبلاغ، والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه للمبالغة، كهي في علامة وراوية. وقال الزمخشري: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، قال: ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإصالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني، فلا بد من ارتكاب الخطأين. انتهى. أما كافة بمعنى عامة، فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً، ولم يتصرف فيها بغير ذلك، فجعلها صفة لمصدر محذوف، خروج عما نقلوا، ولا يحفظ أيضاً استعماله صفة لموصوف محذوف. وأما قول الزجاج: إن كافة بمعنى جامعاً، والهاء فيه للمبالغة، فإن اللغة لا تساعد على ذلك، لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع. وأما قول الزمخشري: ومن جعله حالاً إلى آخره، فذلك مختلف فيه. ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز، وهو الصحيح. ومن أمثلة أبي علي زيد: خير ما يكون خير منك، التقدير: زيد خير منك خير ما يكون، فجعل خير ما يكون حالاً من الكاف في منك، وقدمها عليه، قال الشاعر:

إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً فمطلبها كهلاً عليه شديد

وقال آخر:

تسليت طراً عنكم بعد بينكم بذكركم حتى كأنكم عندي

أي: تسليت عنكم طراً، أي جميعاً. وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به، ومن ذلك قول الشاعر:

مشغوفة بك قد شغفت وإنما حتم الفراق فما إليك سبيل

وقال الآخر:

غافلاً تعرض المنية للمر ء فيدعى ولات حين إباء

أي: شغفت بك مشغوفة، وتعرض المنية للمرء غافلاً. وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل، فتقديمها عليه دون العامل أجوز، وعلى أن كافة حال من الناس، حمله ابن عطية وقال: قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله: أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وتقدير إلى الناس كافة. انتهى. وقول الزمخشري: وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ، إلى آخر كلامه، شنيع؟ لأن قائل ذلك لا يحتاج إلى أن يتأول اللام بمعنى إلى، لأن أرسل يتعدى بإلى ويتعدى باللام، كقوله: { { وأرسلناك للناس رسولاً } [النساء: 79]. ولو تأول اللام بمعنى إلى، لم يكن ذلك خطأ، لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى، وإلى قد جاءت بمعنى اللام، وأرسل مما جاء متعدياً بهما إلى المجرور. ثم حكى تعالى مقالتهم في الاستهزاء بالبعث، واستعالجهم على سبيل التكذيب، ولم يجابوا بتعيين الزمان، إذ ذاك مما انفرد تعالى بعلمه، بل أجيبوا بأن ما وعدوا به لا بد من وقوعه، وهو ميعاد يوم القيامة، وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة، ويجوز أن يكون سؤالهم عما وعدوا به من العذاب في الدنيا واستعجلوا به استهزاء منهم. وقال أبو عبيد: الوعد والوعيد والميعاد بمعنى. وقال الجمهور: الوعد في الخير، والوعيد في الشر، والميعاد يقع لهذا. والظاهر أن الميعاد اسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر، أي قل لكم وقوع وعد يوم وتنجيزه. وقال الزمخشري: الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو ههنا الزمان، والدليل عليه قراءة من قرأ ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. انتهى. ولا يتعين ما قال، إذ يكون بدلاً على تقدير محذوف، أي قل لكم ميعاد يوم، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه.

وقرأ الجمهور: { ميعاد يوم } بالإضافة. ولما جعل الزمخشري الميعاد ظرف زمان قال: أما الإضافة فإضافته تبيين، كما تقول: سحق ثوب وبعير سانية. وقرأ ابن أبي عبلة، واليزيدي: ميعاد يوماً بتنوينهما. قال الزمخشري: وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد، أعني يوماً، وأريد يوماً من صفته، أعني كيت وكيت، ويجوز أن يكون انتصابه على حذف مضاف، ويجوز أن يكون الرفع على هذا للتعظيم. انتهى. لما جعل الميعاد ظرف زمان، خرج الرفع والنصب على ذلك، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف، أي إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت. وقرأ عيسى: ميعاد منوناً، ويوم بالنصب من غير تنوين مضافاً إلى الجملة، فاحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم، واحتمل تخريجاً على الظرف على حذف مضاف، أي إنجاز وعد يوم كذا. وجاء هذا الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون بيوم القيامة، يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه. واليوم: يوم القيامة، وهو السابق إلى الذهن، أو يوم مجيء أجلهم عند حضور منيتهم، أو يوم بدر، أقوال.

و{ لن نؤمن بهذا القرآن }: يعني الذي تضمن التوحيد والرسالة والبعث المتقدم ذكرها فيه. { ولا بالذي بين يديه }: هو ما نزل من كتب الله المبشرة برسول الله. يروي أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب، فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتبهم، وأغضبهم ذلك، وقرنوا إلى القرآن ما تقدم من كتب الله في الكفر، ويكون { الذين كفروا } مشركي قريش ومن جرى مجراهم. والمشهور أن { الذي بين يديه }: التوراة والإنجيل وما تقدم من الكتب، وهو مروي عن ابن جريج. وقالت فرقة: { الذي بين يديه }: هي القيامة، قال ابن عطية: وهذا خطأ، قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة، وأنه المتقدم في الزمان، وقد بيناه فيما تقدم. انتهى. { ولو ترى إذ الظالمون }: أخبر عن حالهم في صفة التعجب منها، وترى في معنى رأيت لإعمالها في الظرف الماضي، ومفعول ترى محذوف، أي حال الظالمين، إذ هم { موقوفون }. وجواب لو محذوف، أي لرأيت لهم حالاً منكرة من ذلهم وتخاذلهم وتحاورهم، حيث لا ينفعهم شيء من ذلك. ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن الأتباع، وهم الذين استضعفوا، قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم: { لولا أنتم لكنا مؤمنين }: أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر. وأتى الضمير بعد لولا ضمير رفع على الأفصح. وحكى الأئمة سيبويه والخليل وغيرهما مجيئه بضمير الجر نحو: لولاكم، وإنكار المبرد ذلك لا يلتفت إليه. ولما كان مقاماً، استوى فيه المرؤوس والرئيس.

بدأ الأتباع بتوبيخ مضليهم، إذ زالت عنهم رئاستهم، ولم يمكنهم أن ينكروا أنهم ما جاءهم رسول، بل هم مقرون. ألا ترى إلى قول المتبوعين: { بعد إذ جاءكم }؟ فالجمع المقرون بأن الذكر قد جاءهم، فقال لهم رؤساؤهم: { أنحن صددناكم }، فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكاراً، لأن يكونوا هم الذين صدوهم. صددتم من قبل أنفسكم وباختياركم بعد أداة الاستفهام، كأنهم قالوا: نحن أخبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلالة على الهدى، فكنتم مجرمين كافرين باختياركم، لا لقولنا وتسويلنا. ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم، وأثبتوا بقولهم: { بل كنتم مجرمين }، أن كفرهم هو من قبل أنفسهم، قابلوا إضراباً بإضراب، فقال الأتباع: { بل مكر الليل والنهار }: أي ما كان إجرامنا من جهتنا، بل مكركم لنا دائماً ومخادعتكم لنا ليلاً ونهاراً، إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم، مطيعون لكم لاستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذ الأنداد. وأضيف المكر إلى الليل والنهار اتسع في الظرفين، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة، أو في موضع رفع على الإسناد المجازي، كما قالوا: ليل نائم، والأولى عندي أن يرتفع مكر على الفاعلية، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار، ونظيره قول القائل: أنا ضربت زيداً بل ضربه عمرو، فيقول: بل ضربه غلامك، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى: ضربه غلامك. وقيل: يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً، أي سبب كفرنا. وقرأ قتادة، ويحيـى بن يعمر: بل مكر بالتنوين، الليل والنهار نصب على الظرف. وقرأ سعيد بن جبير بن محمد، وأبو رزين، وابن يعمر أيضاً: بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة، ومعناه: كدور الليل والنهار واختلافهما، ومعناها: الإحالة على طول الأمل، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء الكفر بالله. وقرأ ابن جبير أيضاً، وطلحة، وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج: كذلك، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف، وناصبه فعل مضمر، أي صددتمونا مكر الليل والنهار، أي في مكرهما، ومعناه دائماً. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار. انتهى. وهذا وهم، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها. وقال الزمخشري: بل يكون الإغراء مكراً دائماً لا يفترون عنه. انتهى.

وجاء { قال الذين استكبروا } بغير واو، لأنه جواب لكلام المستضعفين، فاستؤنف، وعطف { وقال الذين استضعفوا } على ما سبق من كلامهم، والضمير في { وأسروا } للجميع المستكبرين والمستضعفين، وهم { الظالمون الموقوفون }، وتقدم الكلام في { { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } [الآية: 54] في سورة يونس، والندامة من المعاني القلبية، فلا تظهر، إنما يظهر ما يدل عليها، وما يدل عليها غيرها، وقيل: هو من الأضداد. وقال ابن عطية: هذا لم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد وندامة الذين استكبروا على ضلالهم في أنفسهم وإضلالهم وندامة الذين استضعفوا على ضلالهم وأتباعهم المضلين. { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا }، والظاهر عموم الذين كفروا، فيدخل فيه المستكبرون والمتسضعفون، لأن من الكفار من لا يكون له اتباع مراجعة القول في الآخرة، ولا يكون أيضاً تابعاً لرئيس له كافر، كالغلام الذي قتله الخضر. وقيل: { الذين كفروا } هم الذين سبقت منهم المحاورة، وجعل الأغلال إشارة إلى كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا التندم. { هل يجزون }: معناه النفي، ولذلك دخلت إلا بعد النفي.