خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
١
وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً
٢
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ
٣
وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
٤
وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٥
وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٦
لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً
٧
وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٨
وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
١٠
-النساء

البحر المحيط

الرقيب: فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً، أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه. ويقترن به الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم: رقيب.

وقال أبو داود:

كمقاعد الرقباء للـضضرباء أيديهم نواهد

والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء. والرقيب: ضرب من الحيات، والمرقب: المكان العالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب. والارتقاب: الانتظار.

الحوب: الإثم. يقال: حاب يحوب حوباً وحوباً وحاباً وحؤوباً وحيابه. قال: المخبل السعدي.

فلا يدخلني الدهر قبرك حوب فإنك تلقاه عليك حسيب

وقال آخر:

وإن تهاجرين تكففاه غرايته لقد خطيا وحابا

وقيل: الحوب بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم، وتحوَّب الرجل ألقى الحوب عن نفسه كتحنث وتأثم وتحرج. وفلان يتحوب من كذا يتوقع. وأصل الحوب: الزجر للإبل، فسمى الإثم حوباً لأنه يزجر عنه، وبه الحوبة الحاجة، ومنه في الدعاء إليك أرفع حوبتي. ويقال: ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة.

مثنى وثلاث ورباع: معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود. كقوله: ونفروا بعيراً بعيراً، وفصلت الحساب لك باباً باباً، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل. والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو، وأجاز الفرّاء أن تصرف، ومنع الصرف عنده أولى. وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام. وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة، وقد ذكرنا الردّ عليه في كتاب التكميل من تأليفنا.

وقال الزمخشري: إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكريرها. وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه. وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغتها، وعدلها عن تكرّرها، لا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة: أحدها: ما نقلناه عن سيبويه. والثاني: ما نقلناه عن الفراء. والثالث: ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وأنه عدل عن التأنيث. والرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه. وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبله جمع، لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل. فإذا قال: جاءني القوم مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين. فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدودون غيره. فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب.

وقد ردّ الناس على الزجاج قوله: أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو، والزمخشري لم يسلك شيئاً من هذه العلل المنقولة، فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته. وأما قوله: يعرفن بلام التعريف، يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، فهو معترض من وجهين: أحدهما: زعمه أنها تعرف بلام التعريف، وهذا لم يذهب إليه أحد، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات. والثاني: أنه مثل بها، وقد وليت العوامل في قوله: فلان ينكح المثنى، ولا يلي العوامل، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل، ولا تقع إلا خبراً كما جاء: "صلاة الليل مثنى" . أو حالاً نحو: { ما طاب لكم من النساء مثنى } أو صفه نحو: { { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } [فاطر: 1] وقوله:

ذئـاب يبغى النـاس مثنـى وموحـدا

وقد تجيء مضافة قليلاً نحو، قول الآخر:

بمثـنى الزقـاق المتـرعـات وبـالجـزر

وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل على قلة، وقد يستدل له بقول الشاعر:

ضربت خماس ضربة عبشمي أدار سداس أن لا يستقيما

ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث، فلا تقول: مثناة، ولا ثلاثة، ولا رباعة، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث. عال: يعول عولاً وعيالة، مال. وميزان فلان عائل. وعال الحاكم في حكمه جار، وقال أبو طالب في النبي صلى الله عليه وسلم: له شاهد من نفسه غير عائل وحكى ابن الأعرابي: أن العرب تقول: عال الرجل يعول كثر عياله. ويقال: عال يعيل افتقر وصار عالة. وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة. وجماع القول في عال: أنها تكون لازمة ومتعدية. فاللازمة بمعنى: مال، وجار، وكثر عياله، وتفاقم، وهذا مضارعه يعول. وعال الرجل افتقر، وعال في الأرض ذهب فيها، وهذا مضارعه يعيل. والمتعدية بمعنى أثقل، ومان من المؤنة. وغلب منه أعيل صبري وأعجز. وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء، تقول: عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً أعجزني، وباقي المتعدّي من ذوات الواو.

الصدقة على وزن سمرة المهر، وقد تسكن الدال، وضمها وفتح الصاد لغة أهل الحجاز. ويقال: صدقة بوزن غرفة. وتضم داله فيقال: صدقة وأصدقها أمهرها.

النحلة: العطية عن طيب نفس. والنحلة الشرعة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينحل بكذا أي يدين به.

هنيئاً مريئاً: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. ويقال: هنا يهنا بغير همز، وهنأني الطعام ومرّأني، فإذا لم تذكر هنأني قلت: أمرأني رباعياً، واستعمل مع هنأني ثلاثياً للاتباع. قال سيبويه: هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً انتهى. وقال كثير:

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت

قيل: واشتقاق الهنيء من هناء البعير، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب، ويوضع في عقره. ومنه قوله:

متبذل تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب

والمريء ما يساغ في الحلق، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة: المريء. آنس كذا أحس به وشعر. قال:

آنست شاة وأفزعها القنـــاص عصراً وقددنا الامساء

وقال الفراء: وجد. وقال الزجاج: علم. وقال عطاء: أبصر. وقال ابن عباس: عرف. وهي أقوال متقاربة. السديد من القول هو الموافق للحق منه.

أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتدّ ساعده رماني

المعنى: لما وافق الأغراض التي يرمي إليها. صلى بالنار تسخن بها، وصليته أدنيته منها. التسعير: الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها، ومنه مسعر حرب.

{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [النساء: 58]. وقال النحاس: مكية. وقال النقاش: نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى. ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة. وفي البخاري: آخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [النساء: 176] ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب، ونبه تعالى بقوله: { { أني لا أضيع عمل عامل منكم } [آل عمران: 195] على المجازاة. وأخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصل التوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف، ولينبه بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً لله مفرده بالتوحيد والتقوى، طائعاً له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه. فنادى تعالى: دعاء عامًّا للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة. ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأنْ يتقي. ونبه بقوله: من نفس واحدة، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض، وألف له دون غيره، ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس: العموم، لأن الألف واللام فيه تفيده، وللأمر بالتقوى وللعلة، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان. وقيل: المراد بالناس أهل مكة، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله:{ تساءلون به والأرحام } لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك. يقول: أنشدك بالله وبالرحم. وقيل: المراد المؤمنون نظراً إلى قوله: { { إنما المؤمنون إخوة } [الحجرات: 10] وقوله: "المسلم أخو المسلم" والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية، لأنهم غير عارفين بالله، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو: { يا أيها الناس إن وعد الله حق } [فاطر: 5] { { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [البقرة: 21] وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية.

قيل: وجعل هذا المطلع مطلعاً السورتين: إحداهما: هذه وهي الرابعة من النصف الأول. والثانية: سورة الحج، وهي الرابعة من النصف الثاني. وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد. وبدأ بالمبدأ بأنه الأول، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد. وقيل: يجوز أن يكون أراد بالتقوى تقوى خاصة، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله. فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة.

وقال ابن عباس: المراد بالتقوى الطاعة. وقال مقاتل: الخشية. وقيل: اجتناب الكبائر والصغائر. والمراد بقوله: من نفس واحدة آدم. وقرأ الجمهور: واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس. وقرأ ابن أبي عبلة: واحد على مراعاة المعنى، إذ المراد به آدم، أو على أن النفس تذكر وتؤنث، فجاءت قراءته على تذكير النفس. ومعنى الخلق هنا: الاختراع بطريق التفريع، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر:

إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي

قال: في ري الظمآن، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع. وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية، وإلا لقال: أخرجكم من نفس واحدة، فأضاف خلقنا إلى آدم، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده، ولكنه الأصل انتهى. وقال الأصم: لا يدل العقل على أنَّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة، بل السمع. ولما كان صلى الله عليه وسلم أميّاً ما قرأ كتاباً، كان معنى خلقكم دليلاً على التوحيد، ومن نفس واحدة دليلاً على النبوّة انتهى.

وفي قوله: من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ودلالة على المعاد، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى. وزوجها: هي حواء. وظاهر منها ابتداء خلق حوّاء من نفسه، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه، وبه قال: ابن عباس، ومجاهد، والسدّي. وقتادة قالوا إن الله تعالى خلق آدم وحشاً في الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله. وقيل: من يمينه، فحلق منها حواء. قال ابن عطية: ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام: "إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها" . انتهى. ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة، أي: صعبات المراس، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل. ويؤيد هذا التأويل قوله: إن المرأة، فأتى بالجنس ولم يقل: إن حوّاء. وقيل: هو على حذف مضاف، التقدير: وخلق من جنسها زوجها قاله: ابن بحر وأبو مسلم لقوله: { من أنفسكم أزواجاً } [الشورى: 11] و { { رسولاً منهم } [البقرة: 129]. قال القاضي: الأول أقوى، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة. ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة. ولما كان قادراً على خلق آدم من التراب كان قادراً على خلق حواء أيضاً كذلك. وقيل: لا حذف، والضمير في منها، ليس عائداً على نفس، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم. وخلقت منها حواء أي: أنها خلقت مما خلق منه آدم. وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم: أنها خلقت وآدم في الجنة، وبه قال: ابن مسعود. وقيل: قبل دخوله الجنة وبه قال: كعب الأحبار ووهب، وابن إسحاق. وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها، من أنَّ خلق حواء كان قبل خلق الناس. إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس، وإن كان مدلولها واقعاً بعد خلق حواء، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم. فكان ذكر ما تعلق بهم أولاً آكد، ونظيره: { { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21] ومعلوم أنّ خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم. ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولاً، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم. وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخراً عن ما عطف عليه، فقدر معطوفاً عليه محذوفاً متقدماً على المعطوف في الزمان، فقال: يعطف على محذوف كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها. ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية. وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال: يعطف على خلقكم. ويكون الخطاب في: يا أيها الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: خلقكم من نفس آدم، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حوّاء انتهى. ويجوز أن يكون قوله: وخلق منها زوجها معطوفاً على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت، أي انفردت. وخلق منها زوجها، فيكون نظير { صافات ويقبضن } [الملك: 19] وتقول العرب: وحد يحد وحدا ووحدة، بمعنى انفرد.

ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة" وعنى بزوجها البدن، وعنى بالخلق التركيب. وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: { ومن كل شيئين خلقنا زوجين } [الذاريات: 49] وقوله: { { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم } [يس: 36] ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب. وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب، والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى انتهى. وهذا مخالف لكلام المتقدمين، قال بعضهم: ونبه بقوله: وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها، لكونها بعضه. وبث منهما أي من تلك النفس، وزوجها أي: نشر وفرق في الوجود. ويقال: أبث الله الخلق رباعياً، وبث ثلاثياً، وهو الوارد في القرآن رجالاً كثيراً ونساء. قيل: نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء، وخص رجالاً بذكر الوصف بالكثرة، فقيل: حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه، والتقدير: ونساء كثيرة. وقيل: لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحاً، لأنّه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة، على أن اللائق بحالهم الاشتهار والخروج والبروز، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء. وفي تنويع ما خلق من آدم وحوّاء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين، فإنْ وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين. وقرىء: وخالق منها زوجها، وبات على اسم الفاعل وهو: خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق.

{ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } كرر الأمر بالتقوى تأكيداً للأول. وقيل: لاختلاف التعليل وذكر أولاً: الرب الذي يدل على الإحسان والتربية، وثانياً: الله الذي يدل على القهر والهيبة. بنى أولاً على الترغيب، وثانياً على الترهيب. كقوله: { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [السجدة: 16] و { ويدعوننا رغباً ورهباً } [الأَنبياء: 90] كأنه قال: إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب. وقرأ الجمهور من السبعة: تساءلون. وقرأ الكوفيون: بتخفيف السين، وأصله تتساءلون.

قال ابن عطية: وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة. قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال، كما قالوا: طست فابدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس. قال العجاج:

لو عرضت لأسقفي قسأشعث في هيكله مندس
حن إليها كحنين الطس

انتهى. أما قول ابن عطية: حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة. وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي: إلى أنّ المحذوفة هي الأولى، وهي تاء المضارعة، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو. وأما قوله: وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل، والإدغام وهو قريب من الأصل، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم. والحذف، لاجتماع المثلين. وظاهر كلامه اختصاص الادغام والحذف بتتفاعلون، وليس كذلك. أما الإدغام فلا يختص به، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر. وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع، فقوله: لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه، أو تعليل الحذف والإدغام، وليس كذلك. أما إن كان تعليلاً فليس كذلك، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة. وأما إن كان تعليلاً لهما فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا.

وأما قول أبي علي: إذا اجتمعت المتقاربة فكذا، فلا يعني أن ذلك حكم لازم، إنما معناه: أنه قد يكون التخفيف بكذا، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل. وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت.

ومعنى يتساءلون به: أي يتعاطون به السؤال، فيسأل بعضكم بعضاً. أو يقول: أسألك بالله أن تفعل، وظاهر تفاعل الاشتراك أي: تسأله بالله، ويسألك بالله. وقالت طائفة: معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظماً لها. وقرأ عبد الله: تسألون به مضارع سأل الثلاثي. وقرى: تسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين. قال ابن عباس: معنى تساءلون به أي تتعاطفون. وقال الضحاك والربيع: تتعاقدون وتتعاهدون.

وقال الزجاج: تتطلبون به حقوقكم والأرحام. قرأ جمهور: السبعة بنصب الميم.

وقرأ حمزة: بجرها، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش.

وقرأ عبد الله بن يزيد: بضمها، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفاً على لفظ الجلالة، ويكون ذلك على حذف مضاف، التقدير: واتقوا الله، وقطع الأرحام. وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم.

والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك، وإن اختلف معنى التقويين، لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي: كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة؟ ونقول أيضاً أنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام، لأن المعنى: واتقوا الله أي اتقوا مخالفة الله. وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم، وانظر إلى قوله: { { لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى } [البقرة: 83] كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق.

وفي الحديث: "من أبرّ؟ قال: أمّك وفيه: أنت ومالك لأبيك" وقال تعالى في ذم من أضله: من الفاسقين { { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } البقرة: 27]. وقيل: النصب عطفاً على موضع به كما تقول: مررت بزيد وعمراً. لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه. ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله: تساءلون به وبالأرحام. أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية: والأرحام أهل أن توصل. وقدره الزمخشري: والأرحام مما يتقى، أو مما يتساءل به، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية، إذ قدر ما يدل عليه اللفظ السابق، وابن عطية قدر من المعنى. وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد. ويؤيده قراءة عبد الله: وبالأرحام. وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم.

قال الزمخشري: وليس بسديد يعني: الجر عطفاً على الضمير. قال: لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك: مررت به وزيد، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر، ووجب تكرير العامل كقولك: مررت به وبزيد، وهذا غلامه وغلام زيد. ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيداً، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار، ونظير هذا قول الشاعر:

فما بك والأيام من عجب

وقال ابن عطية: وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض. قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه. فكما لا يجوز مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال:

فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب

وكما قال:

تعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكف غوط تعانف

واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية. وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول: رأيتك وزيداً، ولا يجوز رأيت زيداوك، فكان القياس رأيتك وزيداً، أن لا يجوز. وقال ابن عطية أيضاً: المضمر المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف.

ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما: أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفريق في معنى الكلام. وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني: أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" انتهى كلامه. وذهبت طائفة إلى أنَّ الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده. ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى، وذهبوا إلى تخريج ذلك فراراً من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار، وذهاباً إلى أن في القسم بها تنبيهاً على صلتها وتعظيماً لشأنها، وأنها من الله تعالى بمكان. قال ابن عطية: وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى. وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية: من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز. وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى: { { وكفر به والمسجد الحرام } [البقرة: 217]. وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

وأما قول ابن عطية: ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه. إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت. وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم، وحمزة رضي الله عنه: أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، وحمدان بن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر. وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث، وهو من الطبقة الثالثة، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأم الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم: سفيان الثوري، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي، وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيـى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك. ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية، لا أصحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ.

{ إن الله كان عليكم رقيباً } لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى، وإن كان موضوع كان ذلك، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا، والرقيب تقدم شرحه في المفردات. وقال بعضهم: هنا هو العليم، والمعنى: أنه مراع لكم لايخفى عليه ن أمركم شيء فاتقوه { وآتوا اليتامى أموالهم } قال مقاتل والكلبي: نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه. ومناسبتها لما قبلها أنه لما وصل الأرحام أتبع بالأيتام، لأنهم صاروا بحيث لا كافل لهم، ففارق حالهم حال مَن له رحم ماسه. وظاهره الأمر بإعطاء اليتامى أموالهم.

واليتم في بني آدم: فقد الأب، وهو جمع يشمل الذكور والإناث. وينقطع هذا الاسم شرعاً بالبلوغ، فلا بد من مجاز، ما في اليتامى لإطلاقه على البالغين اعتباراً وتسمية بما كانوا عليه شرعاً قبل البلوغ من اسم اليتم، فيكون الأولياء قد أمروا بأن لا تؤخر الأموال عن حد البلوغ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد. وأمّا أن يكون المجاز في أوتوا، ويكون معنى إيتاؤهم الأموال: الإنفاق عليهم منها شيئاً فشيئاً، وأن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء، ويكفوا عنها أيديهم الخاطئة. وعلى كلا المعنيين الخطاب لمن له وضع اليد على مال اليتيم شرعاً. وقال ابن زيد: الخطاب لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالاً طيباً حراماً خبيثاً، فيجيء فعلكم ذلك تبدلاً. وقيل: كان الولي يربح على يتيمه فتستنفد تلك الأرباح مال اليتيم، فنهوا عن ذلك. واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على السفيه لا يحجر عليه بلوغه خمساً وعشرين سنة. قال: لأن وآتوا اليتامى مطلق يتناول سفيهاً وغيره، أونس منه الرشد أو لا، ترك العمل به قبل السن المذكور بالإنفاق على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال إليه، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهره. وأجيب بأنّ هذه الآية عامة وخصصت بقوله: وابتلوا اليتامى ولا تؤتوا السفهاء، ولا شك أن الخاص مقدم على العام { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } قال ابن المسيب والنخعي والزهري والضحاك والسدي: كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزيف من ماله. وقال مجاهد وأبو صالح: المعنى ولا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله. وقيل: المعنى ولا تأكلوا أموالهم خبيثاً وتدعوا أموالكم طيباً. وقيل: المعنى لا تأخذوا مال اليتيم وهو خبيث ليؤخذ منكم المال الذي لكم وهو طيب. وقيل: لا تأكلوا أموالهم في الدنيا فتكون هي نار تأكلونها وتتركون الموعود لكم في الآخرة بسبب إبقاء الخبائث والمحرمات، وقيل: لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو: اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو: حفظها والتورع منها. وتفعل هنا بمعنى استفعل كتعجل، وتأخر بمعنى استعجل واستأخر. وظاهره أن الخبيث والطيب وصفان في الإجرام المتبدلة والمتبدل به، فإما أن يكون ذلك باعتبار اللغة فيكونان بمعنى الكريه المتناول واللذيذ، وإما أن يكون باعتبار الشرع فيكونان بمعنى الحرام والحلال. أما أن يكونا وصفين لاختزال الأموال وحفظها ففيه بعد ظاهر، وإن كان له تعلق ما بقوله: وآتوا اليتامى أموالهم.

وقرأ ابن محيصن: ولا تبدلوا بإدغام التاء الأولى في الثانية.

{ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } لما نهوا عن استبدال الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى، ارتقى في النهي إلى ما هو أفظع من الاستبدال وهو: أكل أموال اليتامى فنهوا عنه. ومعنى إلى أموالكم: قيل مع أموالكم، وقيل: إلى في موضع الحال التقدير: مضمومة إلى أموالكم. وقيل: تتعلق بتأكلوا على معنى التضمين أي: ولا تضموا أموالهم في الأكل إلى موالكم. وحكمة: إلى أموالكم، وإن كانوا منهيين عن أكل أموال اليتامى بغير حق، أنه تنبيه على غنى الأولياء. كأنه قيل: ولا تأكلوا أموالهم مع كونكم ذوي مال أي: مع غناكم، لأنه قد أذن للولي إذا كان فقيراً أن يأكل بالمعروف. وهذا نص على النهي عن الأكل، وفي حكمه التمول على جميع وجوهه.

وقال مجاهد: الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى: { { وإن تخالطوهم فإخوانكم } [البقرة: 220]. وقال الحسن قريباً من هذا.

قال: تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط، فاجتنبوه من قبل أنفسهم، فخفف عنهم في آية البقرة. وحسَّن هذا القول الزمخشري بقوله: وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. قال: (فإن قلت) قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلم ورد النهي عن أكله معها؟ (قلت): لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق. ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم انتهى كلامه. وملخصه أن قوله: إلى أموالكم ليس قيداً للاحتراز، إنما جيء به لتقبيح فعلهم، ولأن يكون نهياً عن الواقع، فيكون نظير قوله: { أضعافاً مضاعفة } [آل عمران: 130] وإن كان الربا على سائر أحواله منهياً عنه. وما قدمناه نحن يكون ذلك قيداً للاحتراز، فإنه إذا كان الولي فقيراً جاز أن يأكل بالمعروف، فيكون النهي منسحباً على أكل مال اليتيم لمن كان غنياً كقوله:{ ومن كان غنياً فليستعفف }.

{ إنه كان حوباً كبيراً } قرأ الجمهور بضم الحاء، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم، وبعض القراء: إنه كان حاباً كبيراً، وكلها مصادر. قال ابن عباس والحسن وغيرهما: الحوب الإثم. وقيل: الظلم. وقيل: الوحشة. والضمير في إنه عائد على الأكل. وقيل: على التبدل. وعوده على الأكل أقرب لقربه منه، ويجوز أن يعود عليهما. كأنه قيل: إن ذلك كما قال:

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

أي كان ذلك { وإن خفتم أَلاَّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت: "نزلت في أولياء اليتامى الذين يعبجهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولا يتهم عليهن. قيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الاجنبيات اللواتي يماكسن في حقوقهن. وقاله أيضاً ربيعة. وقال عكرمة: نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه، فقيل له: إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا. وقال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، والسدي: كانت العرب تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، يتزوجون العشرة فأكثر، فنزلت في ذلك أي: كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه. وقال مجاهد: إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا على ما حد لكم. وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصاً بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء.

والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير: وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم، ونهوا عن الاستبدال المذكور، وعن أكل أموال اليتامى، كان في ذلك مزيد اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } فخوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي: في نكاح يتامى النساء، فانكحوا غيرهن، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى. فاليتامى إن كان أريد به اليتم الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن.

وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال: أما بعد البلوغ فليست يتيمة، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها. خلافاً لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا: لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي، فيندرج فيه البالغات، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها؟ والجواب: أن العدول إنما كان لأن الوليّ يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ. ومعنى: خفتم حذرتم، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر. وقال أبو عبيدة: معنى خفتم هنا أيقنتم، وخاف تكون بمعنى أيقن، ودليله قول الشاعر:

فقلـت لهـم خـافوا بـألفي مـدحـج

وما قاله لا يصح، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن، وإنما خاف من أفعال التوقع، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين. وقد روى ذلك البيت:

فقلت لهم: ظنوا بألفي مدحج

هذه الرواية أشهر من خافوا. قال الراغب: الخوف يقال فيما فيه رجاء مّا، ولهذا لا يقال: خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء، أو نسف الجبال انتهى.

ومعنى أن لا تقسطوا أي: أن لا تعدلوا. أي: وإن خفتم الجور وأقسط: بمعنى عدل. وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط، والمشهور في قسط أنه بمعنى جار. وقال الزجاج: ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل. فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت لا زائدة، أي: وإن خفتم أن تقسطوا أي: إن تجوروا، لأن المعنى لا يتم إلا باعتقاد زيادتها. وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا، كانت للنفي كما في تقسطوا.

وقرأ ابن أبي عبلة من طاب. وقرأ الجمهور: ما طاب. فقيل: ما بمعنى من، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء، وهو مذهب مرجوح. وقيل: عبر بما عن النساء، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء. وقيل: ما واقعة على النوع، أي: فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء، وهذا قول أصحابنا أنّ ما تقع على أنواع من يعقل. وقال أبو العباس: ما لتعميم الجنس على المبالغة، وكان هذا القول هو القول الذي قبله. وقيل: ما مصدرية، والمصدر مقدّر باسم الفاعل. والمعنى: فانحوا النكاح الذي طاب لكم. وقيل: ما نكرة موصوفة، أي: فانكحوا جنساً أو عدداً يطيب لكم. وقيل: ما ظرفية مصدرية، أي: مدة طيب النكاح لكم. والظاهر أنّ ما مفعولة بقوله: فانكحوا، وأنّ من النساء معناه: من البالغات. ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى، وإمّا للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي: كائناً من النساء، ويكون في موضع الحال. وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية، فمفعول فانكحوا هو من النساء، كما تقول: أكلتُ من الرغيف، والتقدير فيه: شيئاً من الرغيف. ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات.

وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالإمالة. وفي مصحف أبي طيب بالياء، وهو دليل الإمالة. وظاهر فانكحوا الوجوب، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره. وقال غيرهم: هو ندب لقوم، وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء، والنكاح في الجملة مندوب إليه. ومعنى ما طاب: أي ما حل، لأن المحرمات من النساء كثير قاله: الحسن وابن جبير وأبو مالك. وقيل: ما استطابته النفس ومال إليه القلب. قالوا: ولا يتناول قوله فانكحوا العبيد.

ولما كان قوله: ما طاب لكم من النساء عامّاً في الأعداد كلها، خص ذلك بقوله: مثنى وثلاث ورباع. فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أنَّ لنا أن أن نتزوج اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة، ولا ما بعد ذلك من الاعداد. وذلك كما تقول: أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره. فلا يجوز لنا أن نعطي أحداً من المقسوم عليهم خمسة خمسة، ولا يسوغ دخول أو هنا مكان الواو، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء. والواو تدل على مطلق الجمع، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجميع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤوا متفقين فيها محظوراً عليهم ما زاد. وذهب بعض الشيعة: إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد، كما يجوز التسري بلا عدد. وليست الآية تدل على توقيت في العدد، بل تدل على الإباحة كقولك: تناول ما أحببت واحداً واثنين وثلاثاً. وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين، ولا يقتضي الاقتصار عليه. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع، لأن الواو تقتضي الجمع. فمعنى: مثنى وثلاث ورباع اثنين وثلاثاً وأربعاً وذلك تسع، وأكد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع. وذهب بعضهم إلى أنَّ هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدلّ على نكاح جواز ثمانية عشر، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر. والكلام على هذه الأقوال استدلالاً وإبطالاً مذكور في كتب الفقه الخلافية.

وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع. والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه، أما مَن لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك، والإجماع على خلاف ما دلّ عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور. أجمع المسلمون على أنَّ مَن لم يجف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثاً وأربعاً كمن خاف. فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك، وحكمها أعم.

وقرأ النخعي وابن وثاب: وربع ساقطة الألف، كما حذفت في قوله: وحلياناً برداً يريد بارداً. وإذا أعربنا ما من ما طاب مفعوله وتكون موصولة، فانتصاب مثنى وما بعده على الحال منها، وقال أبو البقاء: حال من النساء. وقال ابن عطية: موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب، وهي نكرات لا تتصرف لأنها معدولة وصفه انتهى. وهما إعرابان ضعيفان. أمّا الأوّل فلأن المحدث عنه هو ما طاب، ومن النساء جاء على سبيل التبيين وليس محدثاً عنه، فلا يكون الحال منه، وإن كان يلزم من تقييده بالحال تقييد المنكوحات. وأما الثاني فالبدل هو على نية تكرار العامل، فيلزم من ذلك أن يباشرها العامل. وقد تقرر في المفردات أنها لا يباشرها العامل. وأيضاً فإنه قال: إنها نكرة وصفة، وما كان نكرة وصفة فإنه إذا جاء تابعاً لنكرة كان صفة لها كقوله تعالى: { { أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع } [فاطر: 1] وما وقع صفة للنكرة وقع حالاً للمعرفة. وما طاب معرفة فلزم أن يكون مثنى حالاً.

{ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } أي أن لا تعدلوا بين ثنتين إن نكحتموهما، أو بين ثلاث أو أربع إن نكحتموهن في القسم أو النفقة أو الكسوة، فاختاروا واحدة. أو ما ملكت أيمانكم هذا إن حملنا فانكحوا على تزوجوا، وإن حملناه على الوطء قدرنا الفعل الناصب لقوله: فواحدة. فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم. ويحتمل أن يكون من باب علفتها تبناً وماء بارداً على أحد التخريجين فيه، والتقدير: فانكحوا أي تزوجوا واحدة، أوطئوا ما ملكت أيمانكم. ولم يقيد مملوكات اليمين بعدد، فيجوز أن يطأ ما شاء منهن لأنه لا يجب العدل بينهن لا في القسم ولا في النفقة ولا في الكسوة. وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وابن هرمز: فواحدة بالرفع. ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء، والخبر مقدر أي: فواحدة كافية. ووجهه الزمخشري على أنه مرفوع على الخبر أي: فالمقنع، أو فحسبكم واحدة، أو ما ملكت أيمانكم. وأو هنا لأحد الشيئين: إما على التخيير، وإما على الإباحة.

وروي عن أبي عمرو: فما ملكت أيمانكم يريد به الإماء، والمعنى: على هذا إن خاف أن لا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة: أو من ملكت أيمانكم، وأسند الملك إلى اليمين لأنها صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن. ألا ترى أنها هي المنفقة في قوله: "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" وهي المعاهدة والمتلقية لرايات المجد، والمأمور في تناول المأكول بالأكل بها، والمنهي عن الاستنجاء بها. وهذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل، فأول الشرطين: وإن ختفم أن لا تقسطوا، وجوابه: فانكحوا. صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهن وذكر تلك الأعداد. وثاني الشرطين قوله: فإن خفتم أن لا تعدلوا وجوابه: فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم صرف من خاف من الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحدة، أو تسرّ بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلف والرفق به، والتعطف على النساء والنظر لهن.

وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد، وجملة اعتراض. فالشرط: وإن خفتم أن لا تقسطوا، وجوابه: فواحدة. وجملة الاعتراض قوله: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وكرر الشرط بقوله: فإن خفتم أن لا تعدلوا. لما طال الكلام بالاعتراض إذ معناه: كما جاء في { فلما جاءهم ما عرفوا } [البقرة: 89] بعد قوله، { ولما جاءهم كتاب من عند الله } [البقرة: 89] إذ طال الفصل بين لما وجوابها فأعيدت. وكذلك { فلا تحسبنهم بمفازة } [آل عمران: 188] بعد قوله: { { لا تحسبن الذين يفرحون } [آل عمران: 89] إذ طال الفصل بما بعده بين: لا تحسبن، وبين بمفازة، فأعيدت الجملة، وصار المعنى على هذا التقدير، إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة. قال: وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدل بقوله: { { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } [النساء: 129] انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي. ولعله لا يصح عنه، فإن أبا علي كان من علم النحو بمكان، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي، وبطلان للأحكام الشرعية: لأنه إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله: ولن تستطيعوا بما نتج من الدلالة، اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة، أو يتسرّى بما ملكت يمينه. ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغواً لا فائدة له على زعمه. والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان، وهذا عدل في القسم والنفقة. ولذلك نفيت هناك استطاعته، وعلق هنا على خوف انتفائه، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالباً. وانتزع الشافعي من قوله: فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، أن الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، خلافاً لأبي حنيفة، إذ عكس. ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة، والحكمة سكون النفس بالأزواج، وتحصين الدين ومصالح البيت، وكل ذلك حاصل بالطريقين، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح، لأن الزائد على المتساويين يكون زائداً على المساوي الثاني لا محالة.

{ ذلك أدنى أن لا تعولوا } الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة. أدنى من الدنو أي: أقرب أن لا تعولوا، أي: أن لا تميلوا عن الحق. قاله: ابن عباس، وقتادة، والربيع بن أنس، وأبو مالك، والسدّي. وقال مجاهد: لا تضلوا. وقال النخعي: لا تخونوا.

وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي: معناه لا يكثر عيالكم. وقد رد على الشافعي في هذا القول من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما من جهة المعنى فقال أبو بكر بن داود والرازي ما معناه: غلط الشافعي، لأن صاحب الإماء في العيال كصاحب الأزواج. وقال الزجاج: إن الله قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا؟ وقال صاحب النظم: قال: أولاً أن لا تعدلوا فيجب أن يكون ضد العدل هو الجور، وأما من جهة اللفظ ويقتضي أيضاً الرد من جهة المعنى، فتفسير الشافعي تعولوا بتعيلوا. وقالوا: يقال أعال يعيل إذا كثر عياله، فهو من ذوات الياء لا من ذوات الواو، فقد اختلفا في المادة، فليس معنى تعولوا تعيلوا. وقال الرازي أيضاً عن الشافعي: أنه خالف المفسرين. وما قاله ليس بصحيح، بل قد قال بمقالته زيد بن أسلم وابن زيد كما قدمناه وغيرهم. وأما تفسيره تعولوا بتعيلوا فليس فيه دليل على أنه أراد أن تعولوا وتعيلوا من مادة واحدة، وأنهما يجمعهما اشتقاق واحد، بل قد يكون اللفظان في معنى واحد ولا يجمعهما اشتقاق واحد، نحو قولهم: دمت ودشير، وسبط وسبطة، فكذلك هذا.

وقد نقل عال الرجل يعول، أي كثر عياله ابن الأعرابي، كما ذكرناه في المفردات. ونقله أيضاً الكسائي قال: وهي لغة فصيحة. قال الكسائي: العرب تقول: عال يعول، وأعال يعيل كثر عياله، ونقلها أيضاً أبو عمرو الدوري المقري وكان إماماً في اللغة غير مدافع قال: هي لغة حمير.

وأنشد أبو عمرو حجة لها:

وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وأن أمشي وعالا

أمشي كثرت ماشيته، وعال كثر عياله. وجعل الزمخشري كلام الشافعي وتفسيره تعولوا تكثر عيالكم على أن جعله من قولك: عال الرجل عياله يعولهم. وقال: لا يظن به أنه حول تعيلوا إلى تعولوا، وأثنى على الشافعي بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا.

قال: ولكن للعلماء طرقاً وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. وأما ما رد به ابن داود والرازي والزجاج فقال ابن عطية: هذا القدح يشير إلى قدح الزجاج غير صحيح، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة.

وقال الزمخشري: الغرض بالتزوج التوالد والتناسل، بخلاف التسري. ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج، والواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقال القفال: إذا كثرت الجواري فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً، وتقل العيال. أما إذا كانت حرة فلا يكون الأمر كذلك انتهى. وروي عن الشافعي أيضاً أنه فسر قوله تعالى: أن لا تعولوا بمعنى أن لا تفتقروا، ولا يريد أن تعولوا من مادة تعيلوا من عال يعيل إذا افتقر، إنما يريد أيضاً الكناية، لأن كثرة العيال يتسبب عنها الفقر. والظاهر أن المعنى: أن اختيار الحرة الواحدة أو الأمة أقرب إلى انتفاء الجور، إذا هو المحذور المعلق على خوفه الاختيار المذكور. أي: عبر عن قوله: أن لا تعولوا بأن لا يكثر عيالكم، فإنه عبر عن المسبب بالسبب، لأن كثرة العيال ينشأ عنه الجور.

وقرأ طلحة أن لا تعيلوا بفتح التاء، أي لا تفتقروا من العيلة كقوله: { وإن خفتم عيلة } [التوبة: 28] وقال الشاعر:

فما يدري الفقير متى غناه ولا يدري الغني متى يعيل

وقرأ طاوس: أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده. وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف، إذ التقدير: أدنى إلى أن لا تعولوا. وافعل التفضيل إذا كان الفعل يتعدى بحرف جر يتعدّى هو إليه. تقول: دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا. ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر، لأنك تقول: دنوت لكذا.

{ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } الظاهر: أن الخطاب للأزواج، لأن الخطاب قبله لهم، قاله: ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج. قيل: كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول: أرثك وترثيني فتقول: نعم. فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور. وقيل: الخطاب لأولياء النساء، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام. قاله: أبو صالح، واختاره: الفراء وابن قتيبة. وقيل: المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى، وأمروا بضرب المهور قاله: حضرمي، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها.

والصدقات المهور. قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة: نحلة فريضة. وقيل: عطية تمليك قاله الكلبي والفراء. وقيل: شرعة وديناً قاله: ابن الأعرابي. قال الراغب: والنحلة أخص من الهبة، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس، وسمي الصداق نحلة من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي. ومن قال: النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى. ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمر في:{ وآتوا اليتامى أموالهم }، وأنهما متساويان في التحريم. ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانوا عليه من سنن الجاهلية.

وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة، على وزن سمرة. وقرأ قتادة وغيره: بإسكان الدال وضم الصاد. وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم: بضمها. وقرأ النخعي وابن وثاب: صدقتهن بضمها والافراد، وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر، لأن معنى: وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل: بانحلوهن مضمرة. وقيل: مصدر في موضع الحال، إما عن الفاعلين أي ناحلين، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي: منحولات. وقيل: انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع، أي: أنحل الله ذلك نحلة، أي شرعه شرعة وديناً. وقيل: إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله، أو حال من الصدقات. وفي قوله: وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق: أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق، وليس في الآية تعرض لمقدار الصداق، ولا لشيء من أحكامه. وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا، ومحل الكلام في ذلك هو كتب الفقه.

{ فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } الخطاب فيه الخلاف: أهو للأزواج؟ أو للأولياء؟ وهو مبني على الخلاف في: وآتوا النساء. وقال حضرمي: سبب نزولها أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء ما دفعوا إلى الزوجات، والضمير في: منه، عائد على الصداق قاله: عكرمة. إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزاً وصار شبيهاً بقولهم: هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية، هو أحسن فتى. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد، فيكون متناولاً بعضه. فلو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعداً انتهى. وأقول: حسن تذكير الضمير، لأن معنى: فإن طبن، فإن طابت كل واحدة، فلذلك قال منه أي: من صداقها، وهو نظير: { واعتدت لهن متكأ } [يوسف: 31] أي لكل واحدة، ولذلك أفرد متكأ. وقيل: يعود على صدقاتهن مسلوكاً به مسلك اسم الإشارة، كأنه قيل عن شيء من ذلك. واسم الإشارة وإن كان مفرداً قد يشار به إلى مجموع كقوله: { { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [آل عمران: 15]. وقد تقدّمت عليه أشياء كثيرة. وقيل: لرؤبة كيف قلت:

كأنه في الجلد توليع البهق

وقد تقدم،

فيها خطوط من سواد وبلق

فقال: أردت كان ذاك. وقيل: يعود على المال، وهو غير مذكور، ولكن يدل عليه صدقاتهن. وقيل: يعود على الإيتاء وهو المصدر الدال عليه: وآتوا، قاله الراغب، وذكره ابن عطية. ويتعلق المجروران بقوله: طبن، ومنه في موضع الصفة لشيء، فيتعلق بمحذوف، وظاهر من التبعيض. وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضاً من الصداق، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير. وقال ابن عطية: ومن تتضمن الجنس هاهنا. وكذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك.

وانتصب نفساً على التمييز، وهو من التمييز المنقول من الفاعل. وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصباً عن تمام الجملة، فإما أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى، أو مخالفاً فإن كان موافقاً طابقه في الجمعية نحو: كرم الزيدون رجالاً، كما يطابق لو كان خبراً، وإن كان مخالفاً، فإما أن يكون مفرداً لمدلول أو مختلفه، إن كان مفرداً لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد: كرم بنو فلان أصلاً وأباً. وكقولك: زكاة الأتقياء، وجاد الأذكياء وعياً. وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله. وإن كان مختلف المدلول، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد، أو لا يلبس. فإن ألبس وجبت المطابقة نحو: كرم الزيدون آباء، أي: كرم آباء الزيدين. ولو قلت: كرم الزيدون أباً، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم. وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع. والإفراد أولى، كقوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً إذ معلوم أن لكل نفساً، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة. وقرّ الزيدون عيناً، ويجوز أنفساً وأعيناً. وحسن الإفراد أيضاً في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده، وهو أن المعنى: فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفساً.

وقال بعض البصريين: أراد بالنفس الهوى. والهوى مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع. وجواب الشرط: فكلوه، وهو أمر إباحة. والمعنى: فانتفعوا به. وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع.

وهنيئاً مريئاً أي: شافياً سائغاً. وقال أبو حمزة: هنيئاً لا إثم فيه، مريئاً لأداء فيه. وقيل: هنيئاً لذيذاً، مريئاً محمود العاقبة. وقيل: هنيئاً مريئاً أي ما لا تنغيص فيه. وقيل: ما ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه. وقيل: هنيئاً مريئاً أي: حلالاً طيباً. وقرأ الحسن والزهري: هنياً مرياً دون همزة، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء، وأدغموا فيها ياء المدّ. وانتصاب هنيئاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: فكلوه أكلاً هنيئاً، أو على أنه حال من ضمير المفعول، هكذا أعربه الزمخشري وغيره. وهو قول مخالف لقول أئمة العربية، لأنه عند سيبويه وغيره: منصوب بإضمار فعل لا يجوز إظهاره. وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك. فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئاً مريئاً من جملة أخرى غير قوله: فكلوه هنيئاً مريئاً، ولا تعلق له به من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. وجماع القول في هنيئاً: أنها حال قائمة مقام الفعل الناصب لها. فإذا قيل: إن فلاناً أصاب خيراً فقلت هنيئاً له، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئاً فحذف ثبت، وأقيم هنيئاً مقامه. واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك. فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت، وهنيئاً حال من ذلك، وفي هنيئاً ضمير يعود على ذلك. وإذا قلت: هنيئاً ولم تقل له ذلك، بل اقتصرت على قولك: هنيئاً، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة. وذهب الفارسي إلى أن ذلك إذا قلت: هنيئاً له، ذلك مرفوع بهنيئاً القائم مقام الفعل المحذوف، لأنه صار عوضاً منه، فعمل عمله. كما أنك إذا قلت: زيد في الدار، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعاً بمستقر، لأنه عوض منه. ولا يكون في هنيئاً ضمير، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة. وإذا قلت: هنيئاً ففيه ضمير فاعل بها، وهو الضمير فاعلاً لثبت، ويكون هنيئاً قد قام مقام الفعل المختزل مفرعاً من الفعل. وإذا قلت: هنيئاً مريئاً، فاختلفوا في نصب مريء. فذهب بعضهم: إلى أنه صفة لقولك هنيئاً، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي. وذهب الفارسي: إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئاً، فالتقدير عنده: ثبت مريئاً، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئاً، من جهة أنَّ هنيئاً لما كان عوضاً من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه، والفعل لا يوصف، فكذلك لا يوصف هو. وقد ألمّ الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في هنيئاً لكنه حرفه فقال بعد أن قدّم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر، أو حال من الضمير في فكلوه أي: كلوه وهو هنيء مريء. قال: وقد يوقف على فكلوه، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر، كأنه قيل: هنئاً مرئاً انتهى. وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر، ولذلك قال: كأنه قيل هنأ مرأ، فصار كقولك: سقياً ورعياً، أي: هناءة ومراءة. والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال، وانتصاب مريئاً على ما ذكرناه من الخلاف. إما على الحال، وإما على الوصف. ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئاً مريئاً، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر. والمراد بها: الدعاء. أجاز ذلك فيها تقول: سقياً لك ورعياً، ولا يجوز سقياً الله لك، ولا رعياً الله لك، وإن كان ذلك جائزاً في فعله فتقول: سقاك الله ورعاك. والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر:

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت

فما: مرفوع بما تقدّم من هنيء أو مريء. أو بثبت المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي عليّ على طريق الأعمال. وجاز الأعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف، لكون مريئاً لا يستعمل إلا تابعاً لهنيئاً، فصارا كأنهما مرتبطان لذلك. ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت: قام خرج زيد، لم يصح أن يكون من الأعمال إلا على نية حرف العطف. وذهب بعضهم: إلى أنّ مريئاً يستعمل وحده غير تابع لهنيئاً، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب، وهنيئاً مريئاً اسماً فاعل للمبالغة. وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءآ على وزن فعيل، كالصهيل والهدير، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر.

وظاهر الآية يدل على أنّ المرأة إذا وهبت لزوجها شيئاً من صداقها طيبة بها نفسها غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق، أو سوء معاشرة، فيجوز له أن يأخذ ذلك منها ويتملكه وينتفع به. ولم يوقت هذا التبرع بوقت، ولا استثناء فيه رجوع. وذهب الأوزاعي: إلى أنه لا يجوز تبرعها ما لم تلد، أو تقم في بيت زوجها سنة، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح وعبد الملك بن مروان: لها أن ترجع. وروى مثله عن عمر. كتب عمر إلى قضاته: أن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك. قال شريح: لو طابت نفسها لما رجعت. وقال عبد الملك: قال تعالى: { { فلا تأخذوا منه شيئاً } [النساء: 20] وكلا القولين خلاف الظاهر من هذه الآية. وفي تعليق القبول على طيب النفس ذون لفظة الهبة أو الإسماح، دلالة على وجوب الاحتياط في الأخذ، وإعلام أنّ المراعى هو طيب نفسها بالموهوب. وفي قوله: هنيئاً مريئاً مبالغة في الإباحة والقبول وزوال التبعة.

{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } قال ابن مسعود والحسن والضحاك والسدي وغيرهم: نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته. وقال ابن جبير: في المحجورين. وقال مجاهد: في النساء خاصة. وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما: نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائناً من كان. ويضعف قول مجاهد أنها في النساء، كونها جمع سفيهة، والعرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات قاله: ابن عطية. ونقلوا أنّ العرب جمعت سفيهة على سفهاء، فهذا اللفظ قد قالته العرب للمؤنث، فلا يضعف قول مجاهد. وإن كان جمع فعيلة الصفة للمؤنث نادراً لكنه قد نقل في هذا اللفظ خصوصاً. وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل أو فعيلات ليس بجيد، لأنه يطرد فيه فعال كظريفة وظراف، وكريمة وكرام، ويوافق في ذلك المذكر. وإطلاقه فعيلة دون أن يخصها بأن لا يكون بمعنى مفعولة نحو: قتيلة، ليس بجيد، لأن فعيلة لا تجمع على فعائل.

وقيل: عنى بالسفهاء الوارثين الذين يعلم من حالهم أنهم يتسفهون في استعمال ما تناله أيديهم، فنهى عن جمع المال الذي ترثه السفهاء. والسفهاء: هم المبذرون الأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرّف فيها. والظاهر في قوله: أموالكم أن المال مضاف إلى المخاطبين بقوله: ولا تؤتوا. قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة: نهى أن يدفع إلى السفيه شيء من مال غيره، وإذا وقع النهي عن هذا فإن لا يؤتى شيئاً من مال نفسه أولى وأحرى بالنهي، وعلى هذا القول: وهو أن يكون الخطاب لأرباب الأموال. قيل: يكون في ذلك دلالة على أن الوصية للمرأة جائزة، وهو قول عامة أهل العلم. وأوصى عمر إلى حفصة. وروي عن عطاء: أنها لا تكون وصياً. قال: ولو فعل حولت إلى رجل من قومه.

قيل: ويندرج تحتها الجاهل بأحكام البيع. وروي عن عمر أنه قال: "من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا، والكفار". وكره العلماء أن يوكلَ المسلم ذمياً بالبيع والشراء، أو يدفع إليه يضاربه. وقال ابن جبير: يريد أموال السفهاء، وإضافها إلى المخاطبين تغبيطاً بالأموال، أي: هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أغراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم. ومن مثل هذا: { ولا تقتلوا أنفسكم } [النساء: 29] وما جرى مجراه. وهذا القول ذكره الزمخشري أولاً قال: والخطاب للأولياء، وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معائشهم. كما قال: ولا تقتلوا أنفسكم، { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } [النساء: 25]، والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله:{ وارزقوهم فيها واكسوهم }.

وقرأ الحسن والنخعي: اللاتي. وقرأ الجمهور: التي. قال ابن عطية: والأموال جمع لا يعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى. واللاتي جمع في المعنى للتي، فكان قياسه أن لا يوصف به الإماء وصف مفرده بالتي، والمذكر لا يوصف بالتي سواء كان عاقلاً أو غير عاقل، فكان قياس جمعه أن لا يوصف بجمع التي الذي هو اللاتي. والوصف بالتي يجري مجرى الوصف بغيره من الصفات التي تلحقها التاء للمؤنث. فإذا كان لنا جمع لا يعقل فيجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على الواحدة المؤنثة، ويجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على جمع المؤنثات فتقول: عندي جذوع منكسرة، كما تقول: امرأة طويلة، وجذوع منكسرات. كما تقول: نساء صالحات جرى الوصف في ذلك مجرى الفعل. والأولى في الكلام معاملته معاملة ما جرى على الواحدة، هذا إذا كان جمع ما لا يعقل للكثرة. فإذا كان جمع قلة، فالأولى عكس هذا الحكم: فأجذاع منكسرات أولى من أجذاع منكسرة، وهذا فيما وجد له الجمعان: جمع القلة، وجمع الكثرة. أمّا ما لا يجمع إلا على أحدهما، فينبغي أن يكون حكمه على حسب ما تطلقه عليه من القلة والكثرة. وإذا تقرر هذا أنتج أنَّ التي أولى من اللاتي، لأنه تابع لجمع لا يعقل. ولم يجمع مال على غيره، ولا يراد به القلة لجريان الوصف به مجرى الوصف بالصفة التي تلحقها التاء للمؤنث، فلذلك كانت قراءة الجماعة أصوب. وقال الفراء: تقول العرب في النساء: اللاتي، أكثر مما تقول التي. وفي الأموال تقول التي أكثر مما تقول اللاتي، وكلاهما في كليهما جائز. وقرىء شاذاً للواتي، وهو أيضاً في المعنى جمع التي.

ومعنى قياماً تقومون بها وتنتعشون بها، ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم. قال الضحاك: جعلها الله قياماً لأنه يقام بها الحج والجهاد وإكمال البر، وبها فكاك الرقاب من رق ومن النار، وكان السلف تقول: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان الثوري وكانت له بضاعة يقلبها: لولاها لتمندل أي: بنو العباس. وكانوا يقولون: اتجروا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل كل دينه. وقرأ نافع وابن عامر: قيماً، وجمهور السبعة: قياماً، وعبد الله بن عمر: قواماً بكسر القاف، والحسن وعيسى بن عمر: قواماً بفتحها. ورويت عن أبي عمرو. وقرىء شاذاً: قوماً. فأما فيما فمقدر كالقيام، والقيام قاله: الكسائي والفراء والأخفش، وليس مقصوراً من قيام. وقيل: هو مقصور منه. قالوا: وحذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام، أو جمع قيمة كديم جمع قاله: البصريون غير الأخفش. ورده أبو علي: بأنه وصف به في قوله: { ديناً قيماً } [الأَنعام: 161] والقيم لا يوصف به، وإنما هو مصدر بمعنى القيام الذي يراد به الثبات والدوام. ورد هذا بأنه لو كان مصدراً لما أعلّ كما لم يعلوا حولاً وعوضاً، لأنه على غير مثال الفعل، لا سيما الثلاثية المجردة. وأجيب: بأنه اتبع فعله في الإعلال فأعل، لأنه مصدر بمعنى القيام، فكما أعل القيام أعل هو. وحكى الأخفش: قيماً وقوماً، قال: والقياس تصحيح الواو، وإنما اعتلت على وجه الشذوذ كقولهم: تيره، وقول بني ضبة: طيال في جمع طويل، وقول الجميع: جياد في جمع جواد. وإذا أعلوا ديماً لاعتلال ديمة، فإن إعلال المصدر لاعتلال فعله أولى. ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ومعائش، ومقامة ومقاوم، ولم يصححوا مصدراً أعلوا فعله. وقيل: يحتمل هنا أن يكون جمع قيمة، وإن كان لا يحتمله ديناً قيماً. وأما قيام فظاهر فيه المصدر، وأما قوام فقيل: مصدر قاوم. وقيل: هو اسم غير مصدر، وهو ما يقام به كقولك: هو ملاك الأمر لما يملك به. وأما قوام فخطأ عند أبي حاتم. وقال: القوام امتداد القامة، وجوزه الكسائي. وقال: هو في معنى القوام، يعني أنه مصدر. وقيل: اسم للمصدر. وقيل: القوام القامة، والمعنى: التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم.

{ وارزقوهم فيها واكسوهم } أي: اطعموهم واجعلوا لهم نصيباً. قيل: معناه فيمن يلزم الرجل نفقته من زوجته وبنيه الصغار. قال ابن عباس: لا تعمد إلى هلاك الشيء الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم، وأمسك ذلك وأصلحه، وكن أنت تنفق عليهم في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم. وقيل: في المحجورين، وهو خلاف مرتب على الخلاف في المخاطبين بقوله: وآتوا من هم. والمعنى على هذا القول: اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال، فلا يأكلها الإنفاق. قيل: وقال فيها: ولم يقل منها تنبيهاً على ما قاله عليه السلام: "ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة" والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة. وقيل في: بمعنى من، أي منها.

{ وقولوا لهم قولاً معروفاً } المعروف: ما تألفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع، فإن كان المراد بالسفهاء المحجورين، فمن المعروف وعدهم الوعد الحسن بأنكم إذا رشدتم سلمنا إليكم أموالكم قاله: ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل، وابن جريج. وقال عطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإذا غنمت في غزاتي، جعلت لك حظاً. وإن كان المراد النساء والبنين الأصاغر والسفهاء الأجانب، فتدعو لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم، وشبهه قاله: ابن زيد. وقال الضحاك: الرد الجميل. ولما أمرالله تعالى أولاً بإيتاء اليتامى بقوله: { وآتوا اليتامى أموالهم } وأمر ثانياً بإيتاء أموال النساء بقوله: { وآتوا النساء صدقاتهن } وكان ذلك عاماً من غير تخصيص بين في هذه الآية. إنَّ ذلك الإيتاء إنما هو لغير السفيه، وخص ذلك العموم، وقيد الإطلاق الذي في الأمر بالإيتاء.

{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } قيل: توفي رفاعة وترك ابنه ثابتاً صغيراً فسأل: إنَّ ابن أخي في حجري، فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت. وقيل: "توفي أوس بن ثابت، ويقال: أوس بن سويد عن زوجته أم كجه وثلاث بنات وابني عم سويد. وقيل: قتادة وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا المرأة ولا البنات شيئاً. وقيل: المانع ارثهن هو عم بنيها واسمه: ثعلبة. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا البنات ولا الابن الصغير الذكر، فشكتهما أم كجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما، فقال: لا يا رسول الله، ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كلا، ولا ينكى عدواً فقال:انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت" .

وابتلاء اليتامى اختبارهم في عقولهم قاله: ابن عباس والسدي، ومقاتل، وسفيان. أو في عقولهم ودينهم وحفظهم لأموالهم وحسن تصرفهم فيها. ذكره: الثعلبي. وكيفية اختبار الصغير أن يدفع إليه نزر يسيرمن المال يتصرف فيه، والوصي يراعى حاله فيه لئلا يتلفه. واختبار الصغيرة أن يرد إليها أمر البيت والنظر في الاستغزال دفعاً وأجرة واستيفاء. واختلاف كل منهما بحال ما يليق به وبما يعانيه من الأشغال والصنائع، فإذا أنس منه الرشد بعد البلوغ والاختبار دفع إليه ماله، وأشهد عليه هذا ظاهر الآية، وهو يعقب الدفع. والإشهاد الإيناس المشروط. وقال ابن سيرين: لا يدفع إليه بعد الإيناس والاختبار المذكورين حتى تمضي عليه سنة وتداولة الفصول الأربع، ولم تتعرض الآية لسن البلوغ، ولا بماذا يكون. وتكلم فيها هنا بعض المفسرين. والكلام في البلوغ مذكور في كتب الفقه. وظاهر الآية أنه إن لم يؤنس منه رشد بقي محجوراً عليه دائماً، ولا يدفع إليه المال، وبه قال الجمهور. وقال النخعي وأبو حنيفة: ينتظر به خمس وعشرون سنة، ويدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وظاهر الآية يدل على استبداد الوصي بالدفع والاستقلال به. وقالت طائفة: يفتقر إلى أن يدفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده، أو يكون ممن يأمنه الحاكم. وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك. فقيل: يعتبر رشدها، وإن لم تتزوج بالبلوغ. وقيل: المدة بعد الدخول خمسة أعوام. وقيل: سنة. وقيل: سبعة في ذات الأب، وعام واحد في اليتيمة التي لا وصي لها.

وحتى هنا غاية للابتلاء، ودخلت على الشرط وهو: إذاً، وجوابه: فإن آنستم، وجوابه وجواب إن آنستم: فادفعوا. وإيناس الرشد مترتب على بلوغ النكاح، فيلزم أن يكون بعده. وحتى إذا دخلت على الشرط لا تكون عاملة، بل هي التي تقع بعدها الجمل كقوله:

وحتى الجيـاد مـا يقـدن بأرسـان

وقوله:

وحتـى مـاء دجــلــة أشــكــل

على أن في هذه المسألة خلافاً ذهب الزّجاج وابن درستويه إلى أن الجملة في موضع جر، وذهب الجمهور إلى أنها غير عاملة البتة. وفي قوله: بلغوا النكاح تقدير محذوف وهو: بلغوا حد النكاح أو وقته. وقال ابن عباس: معنى آنستم عرفتم. وقال عطاء: رأيتم. وقال الفراء: وجدتم. وقال الزجاج: علمتم. وهذه الأقوال متقاربة.

وقرأ ابن مسعود: فإن أحستم، يريد أحسستم. فحذف عين الكلمة، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة. وحكى غير سيبويه: أنها لغة سليم، وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن وأبو السمال وعيسى الثقفي: رَشَداً بفتحتين. وقرىء شاذاً: رُشُداً بضمتين، ونكر رشداً لأن معناه نوع من الرشد، وطرف ومخيلة من مخيلته، ولا ينتظر به تمام الرشد. قال ابن عطية ومالك: يرى الشرطين: البلوغ والرشد، وحيئنذ يدفع المال. وأبو حنيفة: يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحفظ له سفه، كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد. وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول، وخوف العنت. والتمثيل عندي في دفع المال بتوالي الشرطين غير صحيح، وذلك أنّ البلوغ لم تسقه الآية سبباً في الشرط، ولكنها حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه. فقال: إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو: الرشد حينئذ. وفصاحة الكلام تدل على ذلك لأن التوقيت بالبلوغ جاء بإذا، والمشروط جاء بإن التي هي قاعدة حروف الشرط. وإذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر. وقال: فعلوا ذلك مضطرين، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً. واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها. ألا ترى أنك تقول: أجيئك إذا احمرّ البسر، ولا تقول: إن احمرّ البسر انتهى كلامه. ودل كلامه على أنّ إذا ظرف مجرّد من معنى الشرط، وهذا مخالف لكلام النحويين. بل النحويون كالمجمعين على أنّ إذا ظرف لما يستقبل فيه معنى الشرط غالباً، وإن صرح أحد منهم بأنها ليست أداة شرط فإنما يعني أنها لا تجزم كأدوات الشرط، لا نفي كونها تأتي للشرط. وكيف تقول ذلك، والغالب عليها أنها تكون شرطاً؟ ولم تتعرّض الآية إلى حكم من أونس منه الرشد بعد البلوغ، ودفع إليه ماله، ثم عاد إلى السفه، أيعود الحجر عليه أم لا؟ وفيه قولان: قال مالك: يعود. وقال أبو حنيفة: لا يعود، والقولان عن الشافعي.

{ ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } تقدم أنه يعبر بالأكل عن الأخذ، لأن الأكل أعظم وجوه الانتفاع بالمأخوذ. وهذه الجملة مستقلة. نهاهم تعالى عن أكل أموال اليتامى وإتلافها بسوء التصرف، وليست معطوفة على جواب الشرط، لأنه وشرطه مترتبان على بلوغ النكاح. وهو معارض لقوله: وبداراً أن يكبروا، فيلزم منه مشقة على ما ترتب عليه، وذلك ممتنع. وبهذا الذي قرّرناه يتضح خطأ من جعل ولا تأكلوها عطفاً على فادفعوا، وليس تقييد النهي بأكل أموال اليتامى في هاتين الحالتين مما يبيح الأكل بدونهما، فيكون من باب دليل الخطاب. والإسراف: الإفراط في الإنفاق، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق. قال:

أعطوا هنيدة تجدوها ثمانية ما في عطائهم منّ ولا سرف

أي: ليس يخطئون مواضع العطاء. قال ابن عباس وغيره: ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول: أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله.

وانتصب إسرافاً وبداراً على أنهما مصدران في موضع الحال، أي: مسرفين ومبادرين. والبدار مصدر بادر، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين. لأن اليتيم مبادر إلى الكبر، والولي مبادر إلى أخذ ماله، فكأنهما مستبقان. ويجوز أن يكون من واحد، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله، أي: لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يكبروا مفعول بالمصدر، أي: كبركم كقوله:"أو إطعام يتيماً" وفي إعمال المصدر المنوّن خلاف. وقيل: التقدير مخافة أن يكبروا، فيكون أن يكبروا مفعولاً من أجله، ومفعول بداراً محذوف.

{ ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم، فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنياً، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيراً، بحيث يأخذ قوتاً محتاطاً في تقديره.

وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه، ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسدّ جوعته بما لا يكون رفيعاً من الثياب، ولا يقضي إذا أيسر قاله: ابراهيم، وعطاء، والحسن، وقتادة، وعلى هذا القول الفقهاء. وقال عمر، وابن عباس، وعبيدة، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، وابن جبير: يقضي إذا أيسر، ولا يستلف أكثر من حاجته. وبه قال الأوزاعي. وقال ابن عباس أيضاً وأبو العالية، والحسن، والشعبي: إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن، وأكل من التمر، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض، ويجد التمر وما أشبهه. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها.

وقالت طائفة: المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته، وهذه رواية عن الإمام أحمد. وفصل الحسن بن حي فقال: إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف، أو وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وأجرته على بيت المال. وفصل أبو حنيفة وصاحباه فقالوا: إن كان وصي اليتيم مقيماً فلا يجوز له أن يأخذ من ماله شيئاً، وإن كان مسافراً فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئاً. وفصل الشعبي فقال: إن كان مضطراً بحال من يجوز له أكل الميتة أكل بقدر حاجته وردّ إذا وجد، وإلاّ فلا يأكل لا سفراً ولا حضراً. وقال مجاهد: هذه الإباحة منسوخة بقوله:{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً }. وقال أبو يوسف: لعلها منسوخة بقوله: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [البقرة: 188] فليس له أن يأخذ قرضاً ولا غيره. وقال ابن عباس والنخعي أيضاً: هذا الأمر ليس متعلقاً بمال اليتيم، والمعنى: أنّ الغني يستعفف بغناه، وأما الفقير فيأكل بالمعروف من مال نفسه، ويقوم على نفسه بماله حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. واختار هذا القول من الشافعية الكيا الطبري. وقيل: إن كان مال اليتيم كثيراً يحتاج إلى قيام كثير عليه بحيث يشغل الولي عن مصالح نفسه ومهماته فرض له في مال اليتيم أجر عمله، وإن كان لا يشغله فلا يأكل منه شيئاً، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن، وأكل قليل الطعام والسمن، غير مضربه ولا مستكثر منه على ما جرت به العادة والمسامحة. وقالت طائفة منهم ربيعة ويحيـى بن سعيد: هذا تقسيم لحال اليتيم، لا لحال الوصي. والمعنى: من كان منهم غنياً فليعف بماله، ومن كان منهم فقيراً فليقتر عليه بالمعروف والاقتصاد. ويكون من خطاب العين، ويراد به الغير. خوطب اليتامى بالاستعفاف والأكل بالمعروف، والمراد الأولياء. لأن اليتامى ليسوا من أهل الخطاب، فكأنه قال للأولياء والأوصياء: إن كان اليتيم غنياً فانفقوا عليه نفقة متعفف مقتصد لئلا يذهب ماله بالتوسع في نفقته، وإن كان فقيراً فلينفق عليه بقدر ماله لئلا يذهب فيبقى كلا مضعفاً.

فهذه أقوال ملخصها: هل تقسيم في الولي أو الصبي قولان: فإذا كان في الولي فهل الأمر متوجه إلى مال نفسه، أو مال الصبي؟ قولان. وإذا كان متوجهاً إلى مال الصبي، هل ذلك منسوخ أم لا؟ قولان. وإذا لم يكن منسوخاً، فهل يكون تفصيلاً بالنسبة إلى الأكل أو المأكول؟ قولان. فإذا كان بالنسبة إلى الأكل، فهل يختص بولي الأب، أو بالمسافر، أو بالمضطر، أو بالمشتغل بذلك عن مهمات نفسه؟ أقوال. وإذا كان بالنسبة للمأكول، فهل يختص بالتافه أم يتعدّى إلى غيره؟ قولان. وإذا تعدّى إلى غيره، فهل يكون أجرة أم لا؟ قولان. وإذا لم يكن أجرة فأخذ، فهل يترتب ديناً في ذمته يجب قضاؤه إذا أيسر أم لا؟ قولان. ودلائل هذه الأقوال مذكورة في مسائل الخلاف. ولفظه فليستعفف أبلغ من فليعف، لأن فيه طلب زيادة العفة.

{ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } أمر تعالى بالإشهاد لحسم مادة النزاع، وسوء الظن بهم، والسلامة من الضمان والغرم على تقدير إنكار اليتيم، وطيب خاطر اليتيم بفك الحجر عنه، وانتظامه في سلك من يعامل ويعامل. وإذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع يمينه عند أبي حنيفة وأصحابه، وعند مالك. والشافعي: لا يصدق إلا بالبينة. فكان في الإشهاد الاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة، أو من وجوب الضمان إذ لم يقم البينة. وظاهر الأمر أنه واجب. وقال قوم: هو ندب.

وظاهر الآية الأمر بالإشهاد عليهم إذا دفع إليهم أموالهم، وهي المأمور بدفعها في قوله:{ فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } وقال عمرو بن جبير: هذا الإشهاد إنما هو على دفع الولي ما استقرضه من مال اليتيم حالة فقره إذا أيسر. وقيل: فيها دليل على وجوب القضاء على من أكل من مال اليتيم، المعنى: أقرضتم أو أكلتم فأشهدوا هذا غرمتم. وقيل: المعنى إذا أنفقتم شيئاً على المولى عليه فاشهدوا، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة، فإن مالاً قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه.

{ وكفى بالله حسيباً } أي كافياً في الشهادة عليكم. ومعناه: محسباً من أحسبني كذا، أي كفاني، قاله: الأعمش والطبري. فيكون فعيلاً بمعنى مفعل، أو محاسباً، أو حاسباً لأعمالكم يجازيكم بها، فعليكم بالصدق، وإياكم والكذب. فيكون في ذلك وعيد لجاحد الحق.

وحسيب فعيل بمعنى مفاعل، كجليس وخليط، أو بمعنى فاعل، حول للمبالغة في الحسبان. وقال ابن عباس والسدي ومقاتل: معنى حسيباً شهيداً. وفي كفى خلاف: أهي اسم فعل، أم فعل؟ والصحيح أنها فعل، وفاعله اسم الله، والباء زائدة. وقيل: الفاعل مضمر وهو ضمير الاكتفاء، أي: كفى هو، أي الاكتفاء بالله، والباء ليست بزائدة، فيكون بالله في موضع نصب، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل. وهذا الوجه لا يسوغ إلا على مذهب الكوفيين، حيث يجيزون أعمال ضمير المصدر كأعمال ظاهره. وإن عنى بالإضمار الحذف ففيه إعمال المصدر وهو موصول، وإبقاء معموله وهو عند البصريين لا يجوز، أعني: حذف الفاعل وحذف المصدر. وانتصب حسيباً على التمييز لصلاحية دخول مَن عليه. وقيل: على الحال. وكفى هنا متعدية إلى واحد وهو محذوف، التقدير: وكفاكم الله حسيباً. وتأتي بغير هذا المعنى، فتعديه إلى اثنين كقوله: { { فسيكفيكهم الله } [البقرة: 137] { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً } قيل: سبب نزولها هو خبر أم كجه وقد تقدم، قاله: عكرمة وقتادة وابن زيد. قال المروزي: كان اليونان يعطون جميع المال للبنات، لأن الرّجل لا يعجز عن الكسب، والمرأة تعجز. وكانت العرب لا يعطون البنات، فردَّ الله على الفريقين. والمعنيّ: بالرجال الذكور، وبالنساء الإناث كقوله:{ وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء }.

وأبهم في قوله: نصيب، ومما ترك في موضع الصفة لنصيب. وقيل: يتعلق بلفظ نصيب فهو من تمامه. والوالدان: يعني والدي الرجال والنساء، وهما أبواهم، وسمي الأب والداً، لأن الولد منه، ومن الوالدة. وللاشتراك جاء الفرق بينهما بالتاء كقوله: { { لا تضار والدة بولدها } [البقرة: 233] وجمع بالألف والتاء قياساً كقوله: { والوالدات } [البقرة: 233] قال ابن عطية: كما قال الشاعر:

بحيث يعتـشّ الغــراب البــائــض

لأن البيض من الأنثى والذكر انتهى. ولا يتعين أن يراد بالغراب هنا الذكر، لأن لفظ الغراب ينطلق على الذكر والأنثى، وليس مما فرق بينه وبين مؤنثه بالتاء. فهو كالّرعوب ينطلق على الذكر والأنثى، ولا يرجح كونه ذكراً وصفه بالبائض، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر حملاً على اللفظ، إذ لم تظهر فيه علامة تأنيث كما أنث المذكر حملاً على لفظ التأنيث في قوله: وعنترة الفلحاء. وفي قوله:

أبوك خليفة ولدته أخرى

والأقربون: هم المتوارثون من ذوي القرابات. وقد أبهم في لفظ الأقربون كما أبهم في النصيب، وعين الوارث والمقدار في الآيات بعدها. وقوله: مما قلّ منه، هو بدل من قوله: مما ترك الأخير، أعيد معه حرف الجر، والضمير في منه عائد على ما من قوله: مما ترك الأخير. واكتفى بذكره في هذه الجملة، وهو مراد في الجملة الأولى، ولم يضطرّ إلى ذكره لأن البدل جاء على سبيل التوكيد، إذ ليس فيه إلا توضيح أنه أريد بقوله: مما ترك العموم في المتروك. وهذا البدل فيه ذكر توعى المتروك من القلة أو الكثرة.

وقال أبو البقاء: مما قلّ يجوز أن يكون حالاً من الضمير المحذوف في ترك، أي: مما تركه مستقراً مما قلّ.

ومعنى نصيباً مفروضاً: أي حظاً مقطوعاً به لا بد لهم من أن يحوزوه. وقال الزجاج ومكي: نصيباً منصوب على الحال، المعنى: لهؤلاء أنصباء على ما ذكرنا هنا في حال الفرض. وقال الفراء: نصب لأنه أخرجه مخرج المصدر، ولذلك وحده كقولك له: عليّ كذا حقاً لازماً، ونحوه: { { فريضة من الله } [النساء: 11] ولو كان اسماً صحيحاً لم ينصب، لا تقول: لك عليّ حق درهماً انتهى. وقال الزمخشري قريباً من هذا القول قال: ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد لقوله: فريضة من الله، كأنه قسمة مفروضة. وقال ابن عطية نحواً من كلام الزجاج قال: إنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال تقديره: فرضاً. ولذلك جاز نصبه كما تقول له: عليّ كذا وكذا حقاً واجباً، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في الاسم الذي ليس بمصدر هذا النصب، ولكنّ حقه الرفع انتهى كلامه. وهو مركب من كلام الزجاج والفراء، وهما متباينان لأن الانتصاب على الحال مباين للانتصاب على المصدر المؤكد مخالف له. وقال الزمخشري: ونصيباً مفروضاً نصب على الاختصاص بمعنى أعني: نصيباً مفروضاً مقطوعاً واجباً انتهى. فإن عني بالاختصاص ما اصطلح عليه النحويون فهو مردود بكونه نكرة، والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة. وقيل: انتصب نصب المصدر الصريح، لأنه مصدر أي نصيبه نصيباً. وقيل: حال من النكرة، لأنها قد وصفت. وقيل: بفعل محذوف تقديره: جعلته أو، أوجبت لهم نصيباً. وقيل: حال من الفاعل في قلّ أو كثر.

واستدلّ بظاهر هذه الآية على وجوب القسمة في الحقوق المتميزة إذا أمكنت وطلب ذلك كل واحد من الشريكين بلا خلاف. واختلفوا في قسمة المتروك على الفرائض، إذا كانت القسمة بغيره على حاله كالحمام والرحا والبثر والدار التي تبطل منافعها بافتراق السهام. فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: تقسم. وقال ابن أبي ليلى وأبو ثور: لا تقسم. قال ابن المنذر: وهو أصح القولين. واستدل بها أيضاً على وجوب توريث الأخ للميت مع البنت، فإذا أخذت النصف أخذ الباقي. واختلف في ابني عم أحدهما أخ لأم، فقال عليّ وزيد: للأخ من الأم السدس، وما بقي بينهما نصفان، وهو قول فقهاء الأمصار. وقال عمر وعبد الله وشريح والحسن: المال للأخ من الأم.

{ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً } قيل: نزلت في أرباب الأموال يقسمونها عندما يحضر الموت في وصية، وجهات يختارونها، ويحضرهم من القرابات محجوب عن الإرث، فيوصون للأجانب ويتركون المحجوبين فيحرمون الإرث والوصية قاله: ابن عباس وابن المسيب وابن زيد وأبو جعفر. وقيل: نزلت في أرباب الفرائض يحضرهم أيضاً محجوب، فأمروا أن يرضخوا لهم مما أعطاهم الله. روي عن ابن عباس وابن المسيب: أنها منسوخة، وبه قال: عكرمة والضحاك قالوا: كانت قسمة جعلها الله ثلاثة أصناف، ثم نسخ ذلك بآية الميراث، وأعطى كل ذي حظ حظه، وجعل الوصية للذين يحرمون ولا يرثون. وقيل: هي محكمة أمر الله من استحق إرثاً، وحضر القسمة قريب أو يتيم أو مسكين لا يرث، أن لا يحرموا إن كان المال كثيراً، وأن يعتذر إليهم إن كان قليلاً، وأمر به أبو موسى الأشعري. وقال الحسن والنخعي: كان المؤمنون يفعلون ذلك يقسمون لهم من العين الورق والفضة، فإذا قسموا الأرضين والرقيق قالوا لهم قولاً معروفاً: بورك فيكم. وفعله عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وتلا هذه الآية. وإذا كان الوارث صغيراً لا يتصرف، هل يفعل ذلك الولي أولا؟ قولان. والظاهر من سياق هذه الآية عقيب ما قبلها أنها في الوارثين لا في المحتضرين الموصين، والذي يظهر من القسمة أنها مصدر بمعنى القسم قال تعالى: { { تلك إذاً قسمة ضيزى } [النجم: 22].

وقيل: المراد بالقسمة المقسوم. وقيل: القسمة الإسم من الاقتسام لا من القسم، كالخيرة من الاختيار. ولا يكاد الفصحاء يقولون قسمت بينهم قسمة، وروى ذلك الكسائي. وقسمتك ما أخذته من الاقسام، والجمع قسم. وقال الخليل: القسم الحظ والنصيب من الجزء، ويقال: قاسمت فلاناً المال وتقاسمناه واقتسمناه، والقسم الذي يقاسمك.

وظاهر قوله: فارزقوهم، الوجوب. وبه قال جماعة منهم: مجاهد، وعطاء، والزهري. وقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن: هو ندب. وفي قوله: فارزقوهم إضافة الرزق إلى غير الله تعالى، كما قال: { والله خير الرازقين } [الجمعة: 11] وقيل: كان ذلك في الورثة واجباً فنسخته آية الميراث، والضمير في: منه عائد على المال المقسوم، ودل عليه القسمة، لأن القسمة وهي المصدر تدل على متعلقها وهو المال. وقيل: يعود إلى ما من قوله: ما ترك الوالدان والأقربون. ومن قال: القسمة المقسوم، أعاد الضمير إلى القسمة على معنى التذكير، إذ المراد المقسوم. وقدّم اليتامى على المساكين لأنّ ضعفهم أكثر، وحاجتهم أشد، فوضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم للأجر. والظاهر أنهم يرزقون من عين المال المقسوم، ورأى عبيدة وابن سيرين: أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعام يأكلونه، وفعلاً ذلك وذبحا شاة من التركة، وقسم عند عبيدة مال ليتيم فاشترى منه شاة وذبحها، وقال عبيدة: لولا هذه لكانت من مالي. وقوله: منه يدل على التبعيض، ولا تقدير فيه بالإجماع، وهذا مما يدل على الندب. إذ لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله قدر ذلك الحق، كما بين في سائر الحقوق. وعلى هذا فقهاء الأمصار إذا كان الورثة كبار، وإن كانوا صغاراً فليس إلا القول المعروف.

والضمير في قوله: وقولوا لهم، عائد على ما عاد عليه الضمير في: فارزقوهم، وهم: أولو القربى واليتامى والمساكين. وقال ابن جرير: الآية محكمة في الوصية، والضمير في فارزقوهم عائد على أولي القربى الموصي لهم، وفي لهم عائد على اليتامى والمساكين. أمر أن يقال لهم قول معروف. وقيل أيضاً بتفريق الضمير، ويكون المراد من أولي القربى الذين يرثون، والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون. فقوله: فارزقوهم راجع إلى أولي القربى. وقوله: لهم، راجع إلى اليتامى والمساكين. وما قيل من تفريق الضمير تحكم لا دليل عليه.

والمقول المعروف فسره هنا ابن جبير أن يقول لهم: هذا المال لقوم غيب أو ليتامى صغار، وليس لكم فيه حق. وقيل: الدعاء لهم بالرزق والغنى. وقيل: هو القول الدال على استقلال ما أرضخوهم به، وروي عن ابن جبير. وقيل: العدة الحسنة بأن يقال: هؤلاء أيتام صغار، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم قاله، عطاء بن يسار، عن ابن جبير. وقيل: المعروف ما يؤنس به من دعاء وغيره. وظاهر الكلام أن الأصناف الثلاثة يجمع لهم بين الرزق والقول المعروف. وقيل: إما أن يعطوا وإما أن يقال لهم قول معروف.

{ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً } ظاهر هذه الجملة أنه أمر بخشية الله واتقائه. والقول السديد من ينظر في حال ذرية ضعاف لتنبيهه على ذلك بكونه هو يترك ذرية ضعافاً، فيدخل في ذلك ولاة الأيتام، وبه فسر ابن عباس. والذي ينهى المحتضر عن الوصية لذوي القربى، ومن يستحق ويحسن له الإمساك على قرابته وأولاده. وبه فسر مقسم وحضرمي، والذي يأمر المحتضر بالوصية لفلان وفلان ويذكره بأن يقدم لنفسه، وقصده إيذاء ورثته بذلك. وبه فسر ابن عباس أيضاً وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. وقالت فرقة: المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس، وإن لم يكونوا في حجرهم. وأن يسددو لهم القول كما يحبون أن يفعل بأولادهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يتصل بما قبله، وأن يكون آمراً للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين، وأن يتصور أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخشية؟ انتهى كلامه. وهو ممكن أن يكون مراداً. قال القاضي: الأليق بما تقدم وما تأخر أن يكون من الآيات الواردة في الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم به إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أن هذا من أقوى البواعث في هذا المقصود على الاحتياط فيه.

وقرأ الزهري والحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر: بكسر لام الأمر في: وليخش، وفي: فليتقوا، وليقولوا. وقرأ الجمهور: بالإسكان. ومفعول وليخش محذوف، ويحتمل أن يكون اسم الجلالة أي الله، ويحتمل أن يكون هذا الحذف على طريق الأعمال، أعمل فليتقوا. وحذف معمول الأول، إذ هو منصوب يجوز أن يحذف اقتصاراً، فكان حذفه اختصاراً أجوز، ويصير نحو قولك: أكرمت فبررت زيداً. وصلة الذين الجملة من لو وجوابها. قال ابن عطية: تقديره لو تركوا لخانوا. ويجوز حذف اللام في جواب لو تقول: لو قام زيد لقام عمرو، ولو قام زيد قام عمرو، انتهى كلامه. وقال الزمخشري: معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم، خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل:

لقد زاد الحياة إليّ حبا بناتي إنهنّ من الضعاف
أحاذر أن يرثن البؤس بعدي وأن يشربن رنقاً بعد صاف

انتهى كلامه. وقال غيرهما: لو تركوا، لو يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، وخافوا جواب لو انتهى.

فظاهر هذه النصوص أنّ لو هنا التي تكون تعليقاً في الماضي، وهي التي يعبر عنها سيبويه: بأنها حرف لما كان يقع لوقوع غيره. ويعبر غيره عنها بأنها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره. وذهب صاحب التسهيل: إلى أنَّ لو هنا شرطية بمعنى أن فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وليخش الذين إن تركوا من خلفهم. قال: ولو وقع بعد لو هذه مضارع لكان مستقبل المعنى كما يكون بعد أن قال الشاعر:

لا يلفك الراجيك إلا مظهراً خلق الكريم ولو تكون عديما

وكان قائل هذا توهم أنه لما أمروا بالخشية، والأمر مستقبل، ومتعلق الأمر هو موصول، لم يصلح أن تكون الصلة ماضية على تقدير دالة على العدم الذي ينافي امتثال الأمر. وحسن مكان لو لفظ أن فقال: إنها تعليق في المستقبل، وأنها بمعنى إن. وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم، فلذلك قال: معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا، فلم تدخل لو على مستقبل، بل أدخلت على شارفوا الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر. وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى، واقعة بالفعل. إذ معنى: لو تركوا من خلفهم، أي ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التأويل في لو أن تكون بمعنى: أن إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل. أما إذا كان ماضياً على تقدير يصح أن يقع صلة، وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك: ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه. وأصل لو أن تكون تعليقاً في الماضي، ولا يذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى: إن، إلا إذ دلّ على ذلك قرينة كالبيت المتقدّم. لأن جواب لو فيه محذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه وهو قوله: لا يلفك. وكذلك قوله:

قوم إذا حاربوا شدّة مآزرهم دون النساء ولو بانت بإطهار

لدخول ما بعدها في حيز إذا، وإذا للمستقبل. ولو قال قائل: لو قام زيد قام عمر، ولتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل. ومن خلفهم متعلق بتركوا. وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من ذرية.

وقرأ الجمهور ضعافاً جمع ضعيف، كظريف وظراف. وأمال فتحة العين حمزة، وجمعه على فعال قياس. وقرأ ابن محيصن: ضعفاً بضمتين، وتنوين الفاء. وقرأت عائشة والسلمي والزهري وأبو حيوة وابن محيصن أيضاً: ضعفاء بضم الضاد والمد، كظريف وظرفاء، وهو أيضاً قياس. وقرىء ضعافى وضعافى بالإمالة، نحو سكارى وسكارى. وأمال حمزة خافوا للكسرة التي تعرض له في نحو: خفت. وانظر إلى حسن ترتيب هذه الأوامر حيث بدأ أولاً بالخشية التي محلها القلب وهي الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم، وهي الحاملة على التقوى، ثم أمر بالتقوى ثانياً وهي متسببة عن الخشية، إذ هي جعل المرء نفسه في وقاية مما يخشاه. ثم أمر بالقول السديد، وهو ما يظهر من الفعل الناشىء عن التقوى الناشئة عن الخشية. ولا يراد تخصيص القول السديد فقط، بل المعنى على الفعل والقول السديدين. وإنما اقتصر على القول السديد لسهولة ذلك على الإنسان، كأنه قيل: أقل ما يسلك هو القول السديد. قال مجاهد: يقولون للذين يفرقون المال زد فلاناً وأعط فلاناً. وقيل: هو الأمر بإخراج الثلث فقط. وقيل: هو تلقين المحتضر الشهادة. وقيل: الصدق في الشهادة. وقيل: الموافق للحق. وقيل: للعدل. وقيل: للقصد. وكلها متقاربة.

والسداد: الاستواء في القول والفعل. وأصل السد إزالة الاختلال. والسديد يقال في معنى الفاعل، وفي معنى المفعول. ورجل سديد متردد بين المعنيين، فإنه يسدّد من قبل متبوعه، ويسدّد لتابعه.

{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء، قاله: ابن زيد. وقيل: في حنظلة بن الشمردل، ولي يتيماً فأكل ماله. وقيل: في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابن أخيه فأكله، قاله: مقاتل. وقال الأكثرون: نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم، وهي تتناول كل أكل بظلم لم يكن وصياً وانتصاب ظلماً على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله، وخبران هي الجملة من قوله: إنما يأكلون. وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبراً، لأن وفي ذلك خلاف. وحسن ذلك هنا تباعدهما يكون اسم إنّ موصولاً، فطال الكلام بذكر صلته. وفي بطونهم: معناه ملء بطونهم يقال: أكل في بطنه، وفي بعض بطنه. كما قال:

كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص

والظاهر: تعلق في بطونهم بيأكلون، وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من قوله: ناراً. ونبّه بقوله: في بطونهم على نقصهم، ووصفهم بالشره في الأكل، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن. وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر؟!

تـراه خميـص البطـن والـزاد حـاضر

وقول الشنفري:

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وظاهر قوله: ناراً أنهم يأكلون ناراً حقيقة. وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صحراً من نار يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وبأكلهم النار حقيقة" قالت طائفة: وقيل: هو مجاز، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب، بها عبر عن ذلك بالأكل في البطن، ونبه على الحامل على أخذ المال وهو البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها، إذ مآل ما يوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان. ولذلك قال: "ما ملأ الإنسان وعاء شراً من بطنه" .

وقرأ الجمهور: وسيصلون مبنياً للفاعل من الثلاثي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر: بضم الياء وفتح اللام مبنياً للمفعول من الثلاثي. وابن أبي عبلة: بضم الياء وفتح الصاد واللام مشدّدة مبنياً للمفعول. والصلا من: التسخن بقرب النار، والإحراق إتلاف الشيء بالنار. وعبر بالصلا بالنار عن العذاب الدائم بها، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية، بل كما قال: { { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [النساء: 56] وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية. وجاء يأكلون بالمضارع دون سين الاستقبال، وسيصلون بالسين، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه. وإن كان مجازاً فليس بمستقبل، إذ المعنى: يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سبباً إلى العذاب بها. ولما كان لفظ نار مطلقاً في قوله: إنما يأكلون في بطونهم ناراً، قيد في قوله سعيراً، إذ هو الجمر المتقد.

وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة. الطباق في: واحدة وزوجها، وفي غنياً وفقيراً، وفي: قل أو كثر. والتكرار في: اتقوا، وفي: خلق، وفي: خفتم، وأن لا تقسطوا، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى، وفي اليتامى، وفي النساء، وفي فادفعوا إليهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهم أموالهم، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وفي قوله: وليخش، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين، وإطلاق اسم المسبب على السبب في: ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل. وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في: وآتوا اليتامى، سماهم يتامى بعد البلوغ. والتأكيد بالاتباع في: هنيئاً مريئاً وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في: نصيب مما ترك، وفي ناراً على قول من زعم أنها حقيقة. والتجنيس المماثل في: فادفعوا فإذا دفعتم، والمغاير في: وقولوا لهم قولاً. والزيادة للزيادة في المعنى في: فليستعفف. وإطلاق كل على بعض في: الأقربون، إذ المراد أرباب الفرائض. وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في: من خلفهم، أي من بعد وفاتهم. والاختصاص في: بطونهم، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات. والتعريض في: في بطونهم، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله: في بطونهم. رفع المجاز العارض في قوله: { { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } [الحجرات: 12] وهذا على قول من حمله على الحقيقة، ومن حمله على المجاز فيكون عنده من ترشيح المجاز، ونظير كونه رافعاً للمجاز قوله: { { يطير بجناحيه } [الأَنعام: 38] وقوله: { { يكتبون الكتاب بأيديهم } [البقرة: 79]. والحذف في عدة مواضع.