خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
١٨
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٩
وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢٠
وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢١
وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٢٢
سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً
٢٣
وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
٢٤
هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٢٥
إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٢٦
-الفتح

البحر المحيط

لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه. والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم، ولذا سميت: بيعة الرضوان؛ وكانوا فيما روي ألفاً وخمسمائة وعشرين. وقال ابن أبي أوفى: وثلاثمائة.

وأصل هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية، بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب، يعلمهم أنه جاء معتمراً، لا يريد قتالاً. فلما أتاهم وكلمهم، عقروا جمله وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد بعث عمر. فقال: قد علمت فظاظتي، وهم يبغضوني، وليس هناك من بني عدي من يحميني، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني وأحب إليهم، عثمان بن عفان. فبعثه، فأخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته. وكان أبان بن سعيد بن العاصي حين لقيه، نزل عن دابته وحمله عليها وأجاره، فقالت له قريش: إن شئت فطف بالبيت، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه. فقال: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال، فصرخ صارخ من العسكر: قتل عثمان، فحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقالو: لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم. فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعة البيعة، فنزل روح القدس، فبايعوا كلهم إلا الجد بن قيس المنافق. وقال الشعبي: أول من بايع أبو سنان بن وهب الأسدي، والعامل في إذ رضي. والرضا على هذا بمعنى إظهار النعم عليهم، فهو صفة فعل، لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت، يحتمل أن يكون معمولاً ليبايعونك، أو حالاً من المفعول، لأنه صلى الله عليه وسلم كان تحتها جالساً في أصلها. قال عبد الله بن المغفل: وكنت قائماً على رأسه، وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه، فرفعت الغصن عن ظهره. فبايعوه على الموت دونه، وعلى أن لا يفروا، فقال لهم: "أنتم اليوم خير أهل الأرض" . وكانت الشجرة سمرة. قال بكير بن الأشجع: يوم فتح مكة. قال نافع: كان الناس يأتون تلك الشجرة يصلون عندها، فبلغ عمر، فأمر بقطعها. وكانت هذه البيعة سنة ست من الهجرة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار من شهد بيعة الرضوان" .

{ فعلم ما في قلوبهم }، قال قتادة، وابن جريج: من الرضا بالبيعة أن لا يفروا. وقال الفراء: من الصدق والوفاء. وقال الطبري، ومنذر بن سعيد: من الإيمان وصحته، والحب في الدين والحرص عليه. وقيل: من الهم والانصراف عن المشركين، والأنفة من ذلك، على نحو ما خاطب به عمر وغيره؛ وهذا قول حسن يترتب معه نزول السكينة والتعريض بالفتح القريب. والسكينة تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى، وعلى الأقوال السابقة قيل هذا القول، لا يظهر احتياج إلى إنزال السكينة إلا أن يجازي بالسكينة والفتح القريب والمغانم. وقال مقاتل: فعلم ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت، { فأنزل السكينة عليهم } حتى بايعوا. قال ابن عطية: وهذا فيه مذمة للصحابة، رضي الله تعالى عنهم. انتهى.

{ وأثابهم فتحاً قريباً } قال قتادة، وابن أبي ليلى: فتح خيبر، وكان عقب انصرافهم من مكة. وقال الحسن: فتح هجر، وهو أجل فتح اتسعوا بثمرها زمناً طويلاً. وقيل: فتح مكة والقرب أمر نسبي، لكن فتح خيبر كان أقرب. وقرأ الحسن، ونوح القارىء: وآتاهم، أي أعطاهم؛ والجمهور: وأثابهم من الثواب. { ومغانم كثيرة }: أي مغانم خيبر، وكانت أرضاً: ذات عقار وأموال، فقسمها عليهم. وقيل: مغانم هجر. وقيل: مغانم فارس والروم. وقرأ الجمهور: يأخذونها بالياء على الغيبة في وأثابهم، وما قبله من ضمير الغيبة. وقرأ الأعمش، وطلحة، ورويس عن يعقوب، ودلبة عن يونس عن ورش، وأبو دحية، وسقلاب عن نافع، والأنطاكي عن أبي جعفر: بالتاء على الخطاب. كما جاء بعد { وعدكم الله مغانم كثيرة } بالخطاب. وهذه المغانم الموعود بها هي المغانم التي كانت بعد هذه، وتكون إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين.

ولقد اتسع نطاق الإسلام، وفتح المسلمون فتوحاً لا تحصى، وغنموا مغانم لا تعد، وذلك في شرق البلاد وغربها، حتى في بلاد الهند، وفي بلاد السودان في عصرنا هذا. وقدم علينا حاجاً أحد ملوك غانة من بلاد التكرور، وذكر عنه أنه استفتح أزيد من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان، وأسلموا، وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه. وقيل: الخطاب لأهل البيعة، وأنهم سيغنمون مغانم كثيرة. وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة مغانم خيبر؛ { فعجل لكم هذه }: الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم وابنه. وقال مجاهد: مغانم خيبر.

{ وكف أيدي الناس عنكم }: أي أهل مكة بالصلح. وقال ابن عباس عيينة بن حصن الفزاري، وعوف بن مالك النضري، ومن كان معهم: إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر، والرسول عليه الصلاة والسلام محاصر لهم، فجعل الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين. وقال ابن عباس أيضاً: أسد وغطفان حلفاء خيبر. وقال الطبري: كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وإلى خيبر. { ولتكون }: أي هذه الكفة آية للمؤمنين، وعلامة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم والفتح عليهم. وقيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة، فيكون الضمير في ولتكون عائداً على هذه، وهي مغانم خيبر، والواو في ولتكون زائدة عند الكوفيين وعاطفة على محذوف عند غيرهم، أي ليشكروه ولتكون، أو وعد فعجل وكف لينفعكم بها ولتكون، أو يتأخر، أو يقدر ما يتعلق به متأخراً، أي فعل ذلك. { ويهديكم صراطاً مستقيماً }: أي طريق التوكل وتفويض الأمور إليه. وقيل: بصيرة واتقاناً.

{ وأخرى لم تقدروا عليها }، قال ابن عباس، والحسن، ومقاتل: بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون. وقال الضحاك، وابن زيد، وابن اسحاق: خيبر. وقال قتادة، والحسن: مكة، وهذا القول يتسق معه المعنى ويتأيد. وفي قوله: { لم تقدروا عليها } دلالة على تقدم محاولة لها، وفوات درك المطلوب في الحال، كما كان في مكة. وقال الزمخشري: هي مغانم هوازن في غزوة حنين. وقال: { لم تقدروا عليها }، لما كان فيها من الجولة، وجوز الزمخشري في: { وأخرى }، أن تكون مجرورة بإضمار رب، وهذا فيه غرابة، لأن رب لم تأت في القرآن جارة، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب، فكيف يؤتى بها مضمرة؟ وإنما يظهر أن { وأخرى } مرفوع بالابتداء، فقد وصفت بالجملة بعدها، وقد أحاط هو الخبر. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى { قد أحاط الله بها }: أي وقضى الله أخرى. وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين ومعنى { قد أحاط الله بها } بالقدرة والقهر لأهلها، أي قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.

{ ولو قاتلكم الذين كفروا }: هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى: { وكف أيدي الناس عنكم }، أهم مشركو مكة، أو ناصروا أهل خيبر، أو اليهود؟ { لولوا الأدبار }: أي لغلبوا وانهزموا. { سنة الله }: في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سن الله عليه أنبياءه سنة، وهو قوله: { { لأغلبن أنا ورسلي } [المجادلة: 21]. { وهو الذي كف أيديهم }: أي قضى بينكم المكافة والمحاجزة، بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة. وروي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أحس بهم المسلمون، بعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد، وسماه حينئذ سيف الله، في جملة من الناس، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة، وأسروا منهم جملة، وسيقوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنّ عليهم وأطلقهم. وقال قتادة: كان ذلك بالحديبية عند معسكره، وهو ببطن مكة. وعن أنس: هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته، فأخذناهم فاستحياهم. وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فأخذ الله أبصارهم، فقال لهم: "هل جئتم في عهد؟ وهل جعل لكم أحد أماناً"؟ قالوا: اللهم لا، فخلي سبيلهم . وقال الزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح، وبه استشهد أبو حنيفة، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً. وقيل: كان ذلك في غزوة الحديبية، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة. وعن ابن عباس: أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. انتهى. وقرأ الجمهور: بما تعملون، على الخطاب؛ وأبو عمرو: بالياء، وهو تهديد للكفار.

{ هم الذين كفروا }: يعني أهل مكة. قال ابن خالوية: يقال الهدي والهدى والهداء، ثلاث لغات. انتهى. وقرأ الجمهور: الهدي، بسكون الدال، وهي لغة قريش؛ وابن هرمز، والحسن، وعصمة عن عاصم، واللؤلؤي، وخارجة عن أبي عمرو: والهدي، بكسر الدال وتشديد الياء، وهما لغتان، وهو معطوف على الضمير في صدّوكم؛ ومعكوفاً: حال، أي محبوساً. عكفت الرجل عن حاجته: حبسته عنها. وأنكر أبو عليّ تعدية عكف، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما. وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم، أو من جهة المسلمين لتردّدهم ونظرهم في أمرهم. وقرأ الجعفي، عن أبي عمرو: والهدي، بالجر معطوفاً على المسجد الحرام: أي وعن نحر الهدي. وقرأ: بالرفع على إضمار وصد الهدي، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة، قاله مقاتل. وقيل: بسبعين، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت البدنة عن عشرة، قاله المسور بن مخرمة وأبيّ بن الحكم.

{ أن يبلغ محله }، قال الشافعي: الحرم، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم، لا حيث أحصر. وقال الفراء: حيث يحل نحره، و{ أن يبلغ }: يحتمل أن يتعلق بالصد، أي وصدوا الهدى، وذلك على أن يكون بدل اشتمال، أي وصدوا بلوغ الهدي محله، أو على أنه مفعول من أجله، أي كراهة أن يبلغ محله. ويحتمل أن يتعلق بمعكوفاً، أي محبوساً لأجل أن يبلغ محله، فيكون مفعولاً من أجله، ويكون الحبس من المسلمين. أو محبوساً عن أن يبلغ محله، فيكون الحبس من المشركين، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين، غير متميزين عنهم، ولا معروفي الأماكن؛ فقال تعالى: ولولا كراهة أن يهلكوا أناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، ما كف أيديكم عنهم؛ وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون: { لو تزيلوا }، كالتكرير للولا رجال مؤمنون، لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون: { لعذبنا }، هو الجواب. انتهى. وقوله: لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح، لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية. فالمعنى في الأولى: ولولا وطء قوم مؤمنين، والمعنى في الثانية: لو تميزوا من الكفار؛ وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة. و{ أن تطؤهم }: بدل اشتمال من رجال وما بعده. وقيل: بدل من الضمير في { تعلموهم }، أي لم تعلموا وطأتهم، أي أنه وطء مؤمنين. وهذا فيه بعد. والوطء: الدوس، وعبر به عن الإهلاك بالسيف وغيره. قال الشاعر:

ووطئتنا وطأ على حنق وطء المقيد ثابت الهرم

وفي الحديث: "اللهم اشدد وطأتك على مضر" . و{ لم تعلموهم }: صفة لرجال ونساء غلب فيها المذكر؛ والمعنى: لم تعرفوا أعيانهم وأنهم مؤمنون. وقال ابن زيد: المعرة: المأثم. وقال ابن إسحاق: الدية. وقال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب. وقال الطبري: هي الكفارة. وقال القاضي منذر بن سعيد: المعرة: أن يعنفهم الكفار، ويقولون قتلوا أهل دينهم. وقيل: الملامة وتألم النفس منه في باقي الزمن. ولفق الزمخشري من هذه الأقوال سؤالاً وجواباً على عادته في تلفق كلامه من أقوالهم وإيهامه أنها سؤالات وأجوبة له فقال: فإن قلت: أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون؟ قلت: يصيبهم وجوب الدية والكفارة، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا من غير تمييز، والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير. انتهى.

{ بغير علم }: أخبار عن الصحابة وعن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والامتناع من التعدى حتى أنهم لو أصابوا من ذلك أحداً لكان من غير قصد، كقول النملة عن جند سليمان: { { وهم لا يشعرون } [النمل: 18]. وبغير علم متعلق بأن تطؤهم. وقيل: متعلق بقوله: { فتصيبكم منهم معرّة } من الذين بعدكم ممن يعتب عليكم. وقرأ الجمهور: لو تزيلوا؛ وابن أبي عبلة، وابن مقسم، وأبو حيوة، وابن عون: لو تزايلوا، على وزن تفاعلوا، ليدخل متعلق بمحذوف دل عليه المعنى، أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة، وانتفاء العذاب. { ليدخل الله في رحمته من يشاء }: وهذا المحذوف هو مفهوم من جواب لو، ومعنى تزيلوا: لو ذهبوا عن مكة، أي لو تزيل المؤمنون من الكفار وتفرقوا منهم، ويجوز أن يكون الضمير للمؤمنين والكفار، أي لو افترق بعضهم من بعض. { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية }: إذ معمول لعذبنا، أو لو صدوكم، أو لا ذكر مضمرة. والحمية: الأنفة، يقال: حميت عن كذا حمية، إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله، قال المتلمس:

إلا أنني منهم وعرضي عرضهم كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما

وقال الزهري: حميتهم: أنفتهم عن الإقرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو. وقال ابن بحر: حميتهم: عصبيتهم لآلهتهم، والأنفة: أن يعبدوا غيرها. وقيل: قتلوا آباءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبداً؛ وكانت حمية جاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها، وإنما ذلك محض تعصب لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً، فهم في ذلك كما قال الشاعر في حمية الجاهلية:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غوين وإن ترشد غزية أرشد

وحمية: بدل من الحمية والسكينة الوقار والاطمئنان، فتوقروا وحلموا؛ و{ كلمة التقوى }: لا إله إلا الله. روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال علي، وابن عباس، وابن عمر، وعمرو بن ميمون، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وسلمة بن كهيل، وعبيد بن عمير، وطلحة بن مصرف، والربيع، والسدي، وابن زيد. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضاً: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وقال علي بن أبي طالب، وابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: لا إله إلا الله، والله أكبر. وقال أبو هريرة، وعطاء الخراساني: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأضيفت الكلمة إلى التقوى لأنها سبب التقوى وأساسها. وقيل: هو على حذف مضاف، أي كلمة أهل التقوى. وقال المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم: كلمة التقوى هنا هي بسم الله الرحمن الرحيم، وهي التي أباها كفار قريش، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أحق بها. وقيل: قولهم سمعاً وطاعة. والظاهر أن الضمير في: { وكانوا } عائد على المؤمنين، والمفضل عليهم محذوف، أي { أحق بها } من كفار مكة، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقيل: من اليهود والنصارى، وهذه الأحقية هي في الدنيا. وقيل: أحق بها في علم الله تعالى. وقيل: { وأهلها } في الآخرة بالثواب. وقيل: الضمير في وكانوا عائد على كفار مكة لأنهم أهل حرم الله، ومنهم رسوله لولا ما سلبوا من التوفيق.

{ وكان الله بكل شيء عليماً }، إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين ورفع الكفار عنهم، وإلى علمه بصلح الكفار في الحديبية، إذ كان سبباً لامتزاج العرب وإسلام كثير منهم، وعلو كلمة الإسلام؛ وكانوا عام الحديبية ألفاً وأربعمائة، وبعده بعامين ساروا إلى مكة بعشرة آلاف.

وقال أبو عبد الله الرازي: في هذه الآية لطائف معنوية، وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن. باين بين الفاعلين، إذ فاعل جعل هو الكفار، وفاعل أنزل هو الله تعالى؛ وبين المفعولين، إذ تلك حمية، وهذه سكينة؛ وبين الإضافتين، أضاف الحمية إلى الجاهلية، وأضاف السكينة إلى الله تعالى. وبين الفعل جعل وأنزل؛ فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى، والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها. والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحاً بالإضافة إلى الجاهلية، والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسناً بإضافتها إلى الله تعالى. والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة، تقول: أكرمني فأكرمته، فدلت على المجازاة للمقابلة، ولذلك جعل فأنزل. ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب أولاً إلى الصلح، وكان المؤمنون عازمين على القتال، وأن لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر، وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسم الله، قال تعالى: { على رسوله }. ولما سكن هو صلى الله عليه وسلم للصلح، سكن المؤمنون، فقال: { وعلى المؤمنين }. ولما كان المؤمنون عند الله تعالى، ألزموا تلك الكلمة، قال تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات: 13]، وفيه تلخيص، وهو كلام حسن.