خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٨٢
وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ
٨٣
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ
٨٤
فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٥
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ
٨٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٨٧
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٨٩
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٩٠
إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ
٩١
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٩٢
لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٣
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٤
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٩٦
-المائدة

البحر المحيط

القَسَّ بفتح القاف تتبّع الشيء. قال رؤبة:

أصبحن عن قَسّ الأذى غوافلا يمشين هوناً حُرَّداً بهاللا

ويقال قَسَّ الأثر تتبعه، وقصه أيضاً. والقسَّ: رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدّين، وكذلك القِسّيس فِعّيل كالشِّرِّيب، وجمع القِسِّيس بالواو والنون، وجمع أيضاً على قَساوِسَة، قال أمية بن أبي الصلت:

لو كان منقلب كانت قساوسة يحييهم الله في أيديهم الزُّبُرُ

قال الفرّاء: هو مثلُ مَهَالبة، كثرت السيئات فأبدلوا إحداهنّ واواً، يعني أن قياسه قساسنة. وزعم ابن عطية أن القسّ بفتح القاف وكسرها، والقِسّيس اسم أعجمي عُرّب.

الطمع قريب من الرجا، يقال منه: طمع يطمع طمعاً وطماعةً وطماعيةً؛ قال الشاعر:

طمـاعيـة أن يغفـر الـذنب غـافـر

واسم الفاعل طمع.

الرّجس اسم لكل ما يستقذر من عمل، يقال: رجس الرجل يرجس رجساً إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصله من الرجس، وهو شدّة الصوت بالرّعد؛ قال الراجز:

مِـنْ كـلّ رجـاس يسـوق الـرّجسـا

وقال ابن دريد: الرجز الشر، والرجز العذاب، والركس العذَرة والنتن، والرجس يقال للأمرين.

الرمح معروف، وجمعه في القِلّة أرماح، وفي الكثرة رماح، وَرَمَحَهُ: طعنه بالرمح، ورجل رامح: أي ذو رمح ولا فعل له من معنى ذي رمح، بل هو كلابن وتامر، وثور رامح: له قرنان، قال ذو الرّمة:

وكائن ذعرناه من مهاة ورامح بلاد الورى ليست لها ببلاد

والرّماح: الذي يتخذ الرمح وصنعة الرماحة.

الوبال: سوء العاقبة، ومرعى وبيل: يتأذى به بعد أكله.

البرّ: خلاف البحر. وقال الليث: يستعمل نكرة، يقال: جلست بَرّاً وخرجت برّاً، وقال الأزهري: هي من كلام المولدين، وفي حديث سلمان"إن لكل أمر جوانيّاً وبرانيّاً" كنى بذلك عن السرّ والعلانية، وهو من تغيير النسب.

{ لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا }.

قال قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى، آمنوا بالرسول، فأثنى الله عليهم، قيل هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع، وقيل هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من الشام، وهم بحير الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يس، فبكوا وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآية.

وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعب من نجران، واثنين وثمانين من الحبشة، وثمانية وستين من الشام.

وروي عن ابن جبير قريب من هذا، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم وعلى العتوّ والمعاصي، واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فتحرّرت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم، وفي الحديث: "ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله" وفي وصف الله إياهم بأنهم أشدّ عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق، ولذلك قلّ إسلام اليهود.

وقيل { اليهود } هنا هم يهود المدينة لأنهم هم الذين مالؤوا المشركين على المسلمين. وعطف { الذين أشركوا } على { اليهود } جعلهم تبعاً لهم في ذلك إذ كان اليهود أشدّ في العداوة، إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة لا في الجنس، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين، ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله، فهم أسرع للإيمان من كلّ أحد من اليهود والنصارى، وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله: { { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } [البقرة: 96] واللام في { لتجدن } هي الملتقى بها القسم المحذوف.

وقال ابن عطية: هي لام الابتداء، وليس بمرضيّ، و{ الناس } هنا الكفار، أي ولتجدن أشدّ الكفار عداوة.

{ ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } أي هم ألين عريكةً وأقرب ودًّا. ولم يصفهم بالودّ إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين، وهي أمّة لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه ديناً وإيماناً، ويبغضون أهل الفسق، فإذا سالموا فسلمهم صافٍ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة، لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك، وحين غلب الروم فارس سُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار، ولإهلاك العدوّ الأكبر بالعدوّ الأصغر إذ كان مخوفاً على أهل الإسلام، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى، بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم { { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل } [آل عمران: 75] وفي قوله تعالى: { الذين قالوا إنا نصارى } إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية، بل ذلك قول منهم وزعم، وتعلق { للذين آمنوا } الأول بعداوة والثاني بمودة. وقيل هما في موضع النعت ووصف العداوة بالأشد والمودّة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها، وتلك المودة أقرب وأسهل، وظاهر الآية يدلّ على أنّ النصارى أصلح حالاً من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة، وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه.

قال بعضهم: وليس على ظاهره وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود، وذلك ذم لهم، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش، ولهذا قال أبو بكر الرازي: من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحاً للنصارى وإخباراً بأنهم خير من اليهود، وليس كذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فساداً من مقالة اليهود، لأن اليهود تقرّ بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه؛ انتهى كلام أبي بكر الرازي والظاهر ما قاله المفسرون وغيره من أن النصارى على الجملة أصلح حالاً من اليهود، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخول في الإسلام سريعاً، وليس الكلام وارداً بسبب العقائد، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر، بل صدر الآية يقتضي العموم لأنه قال: { ولتجدن أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن، واليهود بخلاف ذلك والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود.

{ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه، أي منهم علماء وعباد وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة، وليسوا مستكبرين واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ولذلك لا يرى فيهم زاهد، والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب والرهبة الخشية. وقيل الرهبان مفرد كسلطان وأنشدوا:

لو عاينت رهبان دير في القلل تحدر الرهبان تمشي وتزل

ويروي ونزل، والقسيس تقدم شرحه في المفردات. وقال ابن زيد: هو رأس الرهبان. وقيل: العالم. وقيل: رافع الصوت بالقراءة. وقيل: الصديق، وفي هذا التعليل دليل على جلاله العلم، وأنه سبيل إلى الهداية، وعلى حسن عاقبة الانقطاع، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عند مخترع الأشياء البارىء { وإذا ما سمعوا ما أنزل إلى رسول الله ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهباناً فيكون عامّاً، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله { { ذلك عيسى ابن مريم } [مريم: 34] وسورة طه إلى قوله { { وهل أتاك حديث موسى } [طه: 9] فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليهم { يس } فبكوا.

وقال ابن عطية ما معناه: صدر الآية عام في النصارى و{ إذا ما سمعوا } عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية الله تعالى، انتهى.

وقال السديّ: لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له، و{ ترى } من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال:

ففـاضت دمـوع العيـن منـي صبـابـة

إقامة للمسبب مقام السبب، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء، فالأصل ترى أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض على جوانب الإناء ناشىء عن امتلائه، قال الشاعر:

قوارض تأتيني ويحتقرونها وقد يملأ الماء الإناء فيفعم

ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة، و{ من } في { من الدمع } قال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: أن مِن لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع والثاني: أن يكون حالاً، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق، ومعناها من أجل الذي عرفوه، و{ من الحق } حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في { عرفوا }.

وقيل: { من } في { من الدمع } بمعنى الباء أي بالدمع.

وقال الزمخشري: { من الدمع } من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً.

(فإن قلت): أي فرق بين مِن ومِن في قوله: { مما عرفوا من الحق } (قلت): الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم، انتهى.

والجملة من قوله: { وإذا سمعوا } تحتمل الاستئناف، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم. وقرىء: { ترى أعينهم } على البناء لما لم يسمّ فاعله { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } المراد بآمنا أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية. والشاهدون: قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم، كما قال تعالى: { { لتكونوا شهداء على الناس } [البقرة: 143] قال الزمخشري: وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك، انتهى. وقال الطبري: معناه ولو قيل معناه { مع الشاهدين } بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان صواباً.

وقيل: مع الذين يشهدون بالحق.

وقال الزجاج المراد بالشاهدين الأنبياء، والمؤمنون، والكتابة في اللوح المحفوظ. وقيل: معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند أي ثبت، و{ يقولون } في موضع نصب على الحال، قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها، ولا جائز أن يكون حالاً من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه، وهو قول خطأ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا، ولا جائز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في { عرفوا } لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها، فالأولى أن تكون مستأنفة، أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به وأقرت ألسنتهم.

{ وما لنا لا نؤمنُ بالله وما جاءنا من الحق } هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق. قال الزمخشري والتبريزي: وموجب الإيمان هو الطمع في دخولهم مع الصالحين، والظاهر أن قولهم ذلك هو الظاهر لأنفسهم على سبيل المكالمة معها لدفع الوساوس والهواجس، إذ فراق طريقة وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يصعب ويشق، أو قول بعض من آمن لبعض على سبيل التثبت أيضاً، أو قولهم ذلك على سبيل المحاجة لمن عارضهم من الكفار، لما رجعوا إليهم ولا موهم على الإيمان أي، وما يصدنا عن الإيمان بالله وحده. وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق النير.

وروي عن ابن عباس أن اليهود أنكروا عليهم ولاموهم فأجابوهم بذلك و{ لا نؤمن } في موضع الحال، وهي المقصودة وفي ذكرها فائدة الكلام، وذلك كما تقول: جاء زيد راكباً جواباً لمن قال: هل جاء زيد ماشياً أو راكباً، والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور، أي: أي شيء يستقرّ لنا ويجعل في انتفاء الإيمان عنا، وفي مصحف عبد الله وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل علينا ربنا ونطمع وينبغي أن يحمل ذلك على تفسير قوله تعالى { وما جاءنا من الحق } لمخالفته ما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف.

{ ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين، فالواو عاطفة جملة على جملة، و{ ما لنا لا نؤمن } { لا } عاطفة على نؤمن أو على { لا } نؤمن ولا على أن تكون الواو واو الحال ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه.

وقال الزمخشري: والواو في { ونطمع } واو الحال، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في لا نؤمن، ولكن مفيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلاماً، انتهى.

وماذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد، لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضي العامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك، وذوا الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا، ولأنه أيضاً تكون الواو دخلت على المضارع، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل، فيحتاج أن يقدر: ونحن نطمع.

وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون { ونطمع } حالاً من { لا نؤمن } على أنهم أنكروا على أنفسهم لأنهم لا يوحدون الله، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، انتهى.

وهذا ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل.

وقال الزمخشري: وأن يكون معطوفاً على { لا نؤمن } على معنى وما لنا لا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى: وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين، انتهى.

ويظهر لي وجه غير ما ذكروه وهو أن يكون معطوفاً على نؤمن على أنه منفي كنفي نؤمن، التقدير: وما لنا لا نؤمن ولا نطمع فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين: الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين و{ مع } على بابها من المعية، وقيل: بمعنى في والصالحون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس أو الرسول وأصحابه، قاله ابن زيد، أو المهاجرون الأولون، قاله مقاتل. وقيل: التقدير أن يدخلنا الجنة { فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين } ظاهره أن الإثابة بما ذكر مترتبة على مجرد القول، ولا بد أن يقترن بالقول الاعتقاد ويبين أنه مقترن به أنه قال: { مما عرفوا من الحق } فوصفهم بالمعرفة، فدل على اقتران القول بالعلم، وقال: { وذلك جزاء المحسنين } فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الوصف بهم، وأنهم أثيبوا لقيام هذا الوصف بهم، وهو رتبة الإحسان، وهي التي فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة، وإما أن يكون أريد به العموم فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي، ولذلك فسره الزمخشري بقوله بما قالوا بما تكلموا به من اعتقاد وإخلاص من قولك: هذا قول فلان أي اعتقاده وما يذهب إليه انتهى.

وفسروا هذا القول بقولهم: { وما لنا لا نؤمن بالله } والذي يظهر أنه عنى به قولهم { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } لأنه هو الصريح في إيمانهم، وأما قوله: { لا نؤمن بالله } فليس فيه تصريح بإيمانهم، وإنما هو إنكار على انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه، فلا تترتب عليه الإثابة.

وقرأ الحسن { فآتاهم } من الإيتاء بمعنى الإعطاء لا من الإثابة، والإثابة أبلغ من الإعطاء، لأنه يلزم أن يكون عن عمل بخلاف الإعطاء، فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل ولذلك جاء أخيراً { وذلك جزاء المحسنين } نبه على أن تلك الإثابة هي جزاء، والجزاء لا يكون إلا عن عمل { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } اندرج في { الذين كفروا وكذبوا } اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر.{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ذكروا سبب نزولها في قصة طويلة ملخصها أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط والعبادة المفرطة الدائمة من الصيام الدائم وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ولبس المسوح والسياحة في الأرض وجبّ المذاكير، فنهاهم الرسول عن ذلك ونزلت.

"وقيل: حرم عبد الله بن رواحة عشاه ليلة نزل به ضيف لكون امرأته انتظرته ولم تبادر إلى إطعام ضيفه، فحرمته هي إن لم يذقه، فحرمه الضيف، فقال عبد الله: قربي طعامك، كلوا بسم الله، فأكلوا جميعاً وأخبر الرسول بذلك، فقال أحسنت" .

وقيل في سبب نزولها غير ذلك.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها أوهم ذلك ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتل بيّن تعالى أنّ الإسلام لا رهبانية فيه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنالُ الطيب، فمن رغب عن سنتي فليس مني" وأكل صلى الله عليه وسلم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلوى والعسل والطيبات هنا المستلذات من الحلال ومعنى لا تحرّموها لا تمنعوا أنفسكم منها لمنع التحريم ولا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً، وهذا هو المناسب لسبب النزول.

وقيل المعنى: لا تحرموا ما تريدون تحصيله لأنفسكم من الحلال بطريق غير مشروع كالغصب والربا والسرقة، بل توصلوا بطريق مشروع من ابتياع واتهاب وغيرهما.

وقيل معناه لا تعتقدوا تحريم ما أحلّه الله لكم.

وقيل: لا تحرّموا على نفسكم بالفتوى.

وقيل لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين لقوله: { { لم تحرم ما أحل الله لك } [التحريم: 1]. وقيل: خلط المغصوب بالمملوك خلطاً لا يتميز منه فيحرم الجميع ويكون ذلك سبباً لتحريم ما كان حلالاً { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } هذا نهي عن الاعتداء فيدخل فيه جميع أنواع الاعتداء ولا سيما ما نزلت الآية بسببه.

قال الحسن: لا تجاوزوا ما حدّ لكم من الحلال إلى الحرام، واتبعه الزمخشري فقال: ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وإبراهيم: لا تعتدوا بالخنا وتحريم النساء، وقال عكرمة أيضاً: لا تسيروا بغير سيرة الإسلام، وقال السدي وعكرمة أيضاً: هو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله، فهو تأكيد لقوله { لا تحرموا } وقيل: ولا تعتدوا بالإسراف في تناول الطيبات كقوله: { { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [الأعراف: 31] { وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } تقدم تفسير مثلها في قوله: { { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [البقرة: 168] { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } تأكيد للوصية بما أمر به وزاده تأكيداً بقوله: { الذي أنتم به مؤمنون } لأن الإيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه.

{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الايمان } تقدم الكلام في تفسير نظير هذه الجملة، ومعنى { عقدتم } وثقتم بالقصد والنية، وقرأ الحرميان وأبو عمر بتشديد القاف، وقرأ الأخوان وأبو بكر بتخفيفها، وابن ذكوان بألف بين العين والقاف، وقرأ الأعمش بما عقدت الأيمان جعل الفعل للأيمان فالتشديد إما للتكثير بالنسة إلى الجمع، وإما لكونه بمعنى المجرد نحو قدّر وقدر، والتخفيف هو الأصل، وبالألف بمعنى المجرد نحو جاوزت الشيء وجزته، وقاطعته وقطعته، أي هجرته. وقال أبو علي الفارسي: عاقدتم يحتمل أمرين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص، انتهى، وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل ولا عقبت اللص بغير ألف، وهذا تقول فيه عاقدت اليمين وعقدت اليمين، وقال الحطيئة:

قـوم إذا عـاقـدوا عقـداً لجـارهــم

فجعله بمعنى المجرد وهو الظاهر كما ذكرناه.

قال أبو علي: والأحرى أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين كأن المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد، قال: { { بما عاهد عليه الله } [الفتح: 10] كما عدى { { ناديتم إلى الصلاة } [المائدة: 58] بإلى، وبابها أن تقول ناديت زيداً { { وناديناه من جانب الطور الأيمن } [مريم: 52] لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا قال مما دعا إلى الله ثم اتسع فحذف الجار ونقل الفعل إلى المفعول، ثم المضمر العائد من الصلة إلى الموصول، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان، كما حذف من قوله { { فاصدع بما تؤمر } [الحجر: 94] انتهى، وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى بعيد إذ يصير المعنى أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسب ذلك إليه وهو عقدها هو على سبيل الحقيقة، ونسبة ذلك إلى اليمين هو على سبيل المجاز لأنها لم تعقده بل هو الذي عقدها. وأما تقديره بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره فهو أيضاً بعيد، وليس تنظيره ذلك بقوله { فاصدع بما تؤمر } [الحجر: 94] بسديد لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة وبنفسه تارة إلى المفعول الثاني وإن كان أصله الحذف تقول أمرتُ زيداً الخير، وأمرته بالخير، ولأنه لا يتعين في { فاصدع بما تؤمر } [الحجر: 94] أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، بل يظهر أنها مصدرية فلا يحتاج إلى عائد، وكذلك هنا الأولى أن تكون ما مصدرية، ويقوي ذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو باللغو في أيمانكم، لأن اللغو مصدر، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول.

وقال الزمخشري: والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة، لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف انتهى؛ واليمين المنعقدة بالله أو بأسمائه أو صفاته.

وقال الإمام أحمد: إذا حلف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به، وفي بعض الصفات تفصيل. وخلاف ذكر في الفقه.

{ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها، والضمير في «فكفارته» عائد على ما إن كانت موصولة اسمية، وهو على حذف مضاف كما تقدم، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح لكن يقتضيه المعنى، ومساكين أعمّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو من الصنفين، والظاهر تعداد الأشخاص، فلو أطعم مسكيناً واحداً لكفارة عشرة أيام لم يجزه، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجزىء، وتعرّضت الآية لجنس ما يطعم منه وهو من أوسط ما تطعمون ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد هذا الظاهر، وقد رأى مالك وجماعة أن هذا التوسط هو في القدر، وبه قال عمر وعليّ وابن عباس ومجاهد، ورأى جماعة أنه في الصنف، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن وابن سيرين، وقال ابن عطية: الوجه أن يطعم بلفظ الوسط القدر والصنف؛ انتهى.

وروي عن زيد بن ثابت وابن عباس والحسن وعطاء وابن المسيب مدّ لكلّ مسكين بمدّ الرسول، وبه قال مالك والشافعي، وروي عن عمر وعليّ وعائشة نصف صاع من برّ أو صاع من تمر، وبه قال أبو حنيفة، والظاهر أنه لا يجزىء إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتاً واحداً يسدّ به الجوعة، فإن غداهم وعشاهم أجزأه، وبه قال عليّ ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وقال ابن جبير والحكم والشافعي: من شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء، فإن غدّاهم وعشاهم لم يجزه، والظاهر أنه لا يشترط الإدام، وقال ابن عمر: أوسط ما يطعم الخبز والتمر والخبز والزبيب وخير ما نطعم أهلينا الخبز واللحم وعن غيره الخبز والسمن، وأحسنه التمر مع الخبز، وروي عن ابن مسعود مثله، وقال ابن حبيب: لا يجزىء الخبز قفاراً ولكن بإدام زيت أو لبن أو لحم ونحوه، والظاهر أن المراعي ما يطعم أهليه الذين يختصون به، أي من أوسط ما يطعم كل شخص شخص أهله، وقيل المراعي عيش البلد، فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع، و{ من أوسط } في موضع مفعول ثان لإطعام، والأول هو { عشرة مساكين } أي طعاماً من أوسط والعائد على { ما } من { تطعمون } في موضع محذوف أي تطعمونه وقرأ الجمهور { أهليكم } وجمع أهل بالواو والنون شاذّ في القياس.

وقرأ جعفر الصادق { أهاليكم } جمع تكسير وبسكون الياء، قال ابن جني: أهال بمنزلة ليال، واحدها أهللة وليلاة، والعرب تقول: أهل وأهلة ومنه قوله:

وأهلة ودّ قد سريت بودّهم.

وقال الزمخشري والأهالي اسم جمع لأهل كالليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض، وأما تسكين الياء في أهاليكم فهو كثير في الضرورة، وقيل في السعة كما قال زهير:

يطيـع العـوالـي ركبـت كـل لهــدم

شبهت الياء بالألف فقدرت فيها جميع الحركات.

{ أو كسوتهم } هذا معطوف على قوله { إطعام } والظاهر أن كسوة هي مصدر وإن كان يستعمل للثوب الذي يستر، ولما لم يذكر مقدار ما يطعم لم يذكر مقدار الكسوة وظاهر مطلق الكسوة وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء، وقال بعضهم: الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء، وروي عن ابن عمر أو ثوبان لكل مسكين. قاله أبو موسى الأشعريّ وابن سيرين والحسن: وراعى قوم الزي والكسوة المتعارفة، فقال بعضهم: لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعاً لما قد يتزين به كالكساء والملحفة، وقال النخعي: ليس القميص والدرع والخمار ثوباً جامعاً، وقال الحسن والحكم: تجزىء عمامة يلف بها رأسه، وقال مجاهد يجزىء كل شيء إلا التبان، وقال عطاء وابن عباس وأبو جعفر ومنصور: الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار، وقال ابن عباس تجزىء العباءة أو الشملة، وقال طاوس والحسن: ثوب لكل مسكين، وعن ابن عمر إزار وقميص أو كساء، وهل يجزىء إعطاء كساوي عشرة أنفس لشخص واحد في عشرة أيام فيه خلاف كالإطعام، وقرأ النخعي وابن المسيب وابن عبد الرحمن { كسوتهم } بضم الكاف، وقرأ ابن جبير وابن السميفع { أَو كاسوتهم } بكاف الجر على أسوة، قال الزمخشري: المعنى أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ولكن تساوون بينهم وبينهم (فإن قلت): ما محل الكاف؟ (قلت) الرفع، قيل: إن قوله { أو كسوتهم } عطف على محل { من أوسط } فدل على أنه ليس قوله { من أوسط } في موضع مفعول ثان بالمصدر بل انقضى عنده الكلام في قوله { إطعام عشرة مساكين } ثم أضمر مبتدأ أخبر عنه بالجار والمجرور يبينه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط، وعلى ما ذكرناه من أن { من أوسط } في موضع نصب تكون الكاف في { كاسوتهم } في موضع نصب لأنه معطوف على محل { من أوسط } وهو عندنا منصوب، وإذا فسرت { كاسوتهم } في الطعام بقيت الآية عارية من ذكر الكسوة، وأجمع العلماء على أن الحانث مخير بين الإطعام والكسوة والعتق وهي مخالفة لسواد المصحف، وقال بعضهم { أَو كاسوتهم } في الكسوة، والظاهر أنه لا يجزىء إخراج قيمة الطعام والكسوة وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة، يجزىء، والظاهر أنه لم يقيد المساكين بوصف فيجوز صرف ذلك إلى الذميّ والعبد وبه قال أبو حنيفة، وقال غيره لا يجزىء، واتفقوا على أنه لا يجزىء دفع ذلك إلى المرتدّ.

{ أو تحرير رقبة } تسمية الإنسان رقبة تسمية الكل بالجزء وخص بذلك لأن الرقبة غالباً محل للتوثق والاستمساك فهو موضع الملك، وكذلك أطلق عليه رأس، والتحرير يكون بالإخراج عن الرق وعن الأسر وعن المشقة وعن التعب، وقال الفرزدق:

أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال

أي حررتكم من الهجا، والظاهر حصول الكفارة بتحرير ما يصدر عليه رقبة من غير اعتبار شيء آخر فيجزىء عتق الكفار وبه قال داود وجماعة من أهل الظاهر، وقال أبو حنيفة يجزىء الكافر ومن به نقص يسير من ذوي العاهات، واختار الطبري إجزاء الكافر، وقال مالك: لا يجزىء كافر ولا أعمى ولا أبرص ولا مجنون، وقال ابن شهاب وجماعة: وفرق النخعي فأجاز عتق من يعمل أشغاله ويخدم ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد وأشل اليدين.

{ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } أي فمن لم يجد أحد هذه الثلاثة من الإطعام والكسوة والعتق فلو كان ماله في غير بلده ووجد من يسلفه لم ينتقل إلى الصوم أو لم يجد من يسلفه فقيل لا يلزمه انتظار ماله من بلده ويصوم وهو الظاهر لأنه غير واجد الآن، وقيل ينتظر والظاهر أنه إذا كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يومه وليلته وعن كسوتهم بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد. وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي ومالك، وقال مالك إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وقال ابن جبير: إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم، وقال قتادة إذا لم يكن إلا قدر ما يكفر به صام، وقال الحسن إذا كان له درهمان أطعم، وقال أبو حنيفة إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد، وقال آخرون جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرّف به في معاشه أو يصوم، والظاهر أنه لا يشترط التتابع. وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس وأبو حنيفة: يشترط. وقرأ أبيّ وعبد الله والنخعي. { أيام متتابعات } واتفقوا على أن العتق أفضل، ثم الكسوة، ثم الإطعام وبدأ الله بالأيسر فالأيسر على الحال، وهذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم، وإذا حنث العبد فقال سفيان وأبو حنيفة والشافعي ليس عليه إلا الصوم لا يجزئه غيره، وحكى ابن نافع عن مالك لا يكفر بالعتق لأنه لا يكون له ولاء ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده، والصوم أصوب، وحكى ابن القاسم عنه أنه قال إن أطعم أو كسى بإذن السيد فما هو بالبين وفي قلبي منه شيء، ولو حلف بصدقة ماله فقال الشعبي وعطاء وطاوس لا شيء عليه، وقال الشافعي وإسحاق وأبو ثور: عليه كفارة بمين، وقال أبو حنيفة: مقدار نصاب، وقال بعضهم: مقدار زكاته، وقال مالك: ثلث ماله ولو حلف بالمشي إلى مكة، فقال ابن المسيب والقاسم: لا شيء عليه، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: كفارة يمين، وقال أبو حنيفة: يلزمه الوفاء به فإن عجز عن المشي لزمه أن يحج راكباً ولو حلف بالعتق، فقال عطاء: يتصدّق بشيء، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة: عليه كفارة يمين لا العتق، وقال الجمهور: يلزمه العتق ومن قال الطلاق لازم له فقال المهدوي: أجمع كل من يعتمد على قوله إن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث.

{ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي ذلك المذكور واستدل بها الشافعي على جواز التكفير بعد اليمين. وقيل الحنث وفيها تنبيه على أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث فهم يقدّرون محذوفاً أي إذا حلفتم وحنثتم.

{ واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } قال الزمخشري أي بروا فيها ولا تحنثوا، أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله، وقيل احفظوها بأن تكفروها، وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها.

{ كذلك } أي مثل ذلك البيان { يبين الله لكم آياته } إعلام شريعته وأحكامه.

{ لعلكم تشكرون } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه.

{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } نزلت بسبب قصة سعد بن أبي وقاص حين شرب طائفة من الأنصار والمهاجرين فتفاخروا، فقال سعد: المهاجرون خير فرماه أنصاري بلحي جمل ففزر أنفه، وقيل بسبب قول عمر اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، وقيل بسبب قصة حمزة وعليّ حين عقر شارف عليّ وقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي وهي قصة طويلة، وقيل كان أمر الخمر ونزول الآيات بتدريج، فنزل { { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [النساء: 43]. وقيل بسبب قراءة بعض الصحابة وكان منتشياً في صلاة المغرب { { قل يا أيها الكافرون } [الكافرون: 1] على غير ما أنزلت، ثم عرض ما عرض بسبب شربها من الأمور المؤدّية إلى تحريمها حتى نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: نزلت بسبب حيين من الأنصار ثملوا وعربدوا فلما صحوا جعل كل واحد يرى أثراً بوجهه وبجسده فيقول: هذا فعل فلان، فحدثت بينهم ضغائن، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بأكل ما رزقهم حلالاً طيباً ونهاهم عن تحريم ما أحله لهم مما لا إثم فيه وكان المستطاب المستلذ عندهم الخمر والميسر وكانوا يقولون الخمر تطرد الهموم وتنشط النفس وتشجع الجبان وتبعث على المكارم، والميسر يحصل به تنمية المال ولذة الغلبة بيَّن تعالى تحريم الخمر والميسر لأن هذه اللذة يقارنها مفاسد عظيمة في الخمر إذهاب العقل وإتلاف المال ولذلك ذم بعض حكماء الجاهلية إتلاف المال بها وجعل ترك ذلك مدحاً فقال:

أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله ولكنه قد يهلك المال نائله

وتنشأ عنها مفاسد أخر من قتل النفس وشدّة البغضاء وارتكاب المعاصي لأن ملاك هذه كلها العقل فإذا ذهب العقل أتت هذه المفاسد، والميسر فيه أخذ المال بالباطل، وهذا الخطاب للمؤمنين والذي منعوا منه في هذه الآية هي شهوات وعادات، فأما الخمر فكانت لم تحرم بعد وإنما نزل تحريمها بعد وقعة أحد سنة ثلاث من الهجرة، وأما الميسر ففيه لذة وغلبة، وأما الأنصاب فإن كانت الحجارة التي يذبحون عندها وينحرون فحكم عليها بالرجس دفعاً لما عسى أن يبقى في قلب ضعيف الإيمان من تعظيمها وإن كانت الأنصاب التي تعبد من دون الله فقرنت الثلاثة بها مبالغة في أنه يجب اجتنابها كما يجب اجتناب الأصنام، وأما الأزلام التي كان الأكثرون يتخذونها في أحدها لا وفي الآخر نعم، والآخر غفل وكانوا يعظمونها ومنها ما يكون عند الكهان ومنها ما يكون عند قريش في الكعبة وكان فيها أحكام لهم، ومن هذا القبيل الزجر بالطير وبالوحش وبأخذ الفأل في الكتب، ونحوه مما يصنعه الناس اليوم وقد اجتمعت أنواع من التأكيد في الآية منها التصدير بإنما وقران الخمر والميسر بالأصنام إذا فسرنا الأنصاب بها وفي الحديث "مدمن الخمر كعابد وثن" والإخبار عنها بقوله رجس وقال تعالى: { { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [الحج: 30] ووصفه بأنه من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت، والأمر بالاجتناب وترجية الفلاح وهو الفوز باجتنابه فالخيبة في ارتكابه، وبدىء بالخمر لأن سبب النزول إنما وقع بها من الفساد ولأنها جماع الإثم.

وكانت خمر المدينة حين نزولها الغالب عليها كونها من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير وكانت قليلة من العنب، وقد أجمع المسلمون على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء والأكثر من الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليه حرام، والخلاف فيما لا يسكر قليله ويسكر كثيره من غير خمر العنب مذكور في كتب الفقه، قال ابن عطية: وقد خرّج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم ولحم الخنزير بأنها رجس فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام وفي هذا نظر والاجتناب أن تجعل الشيء جانباً وناحية انتهى.

ولما كان الشيطان هو الداعي إلى التلبس بهذه المعاصي والمغري بها جعلت من عمله وفعله ونسبت إليه على جهة المجاز والمبالغة في كمال تقبيحه كما جاء { { فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان } [القصص: 15] والضمير في { فاجتنبوه } عائد على الرجس المخبر عنه من الأربعة فكان الأمر باجتنابه متناولاً لها، وقال الزمخشري (فإن قلت) إلامَ يرجع الضمير في قوله { فاجتنبوه } (قلت) إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رجس من عمل الشيطان انتهى، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى: { { إنما المشركون نجس } [التوبة: 28].

{ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية فأما الدنيوية فإنها تثير الشرور والحقود وتؤول بشاربها إلى التقاطع وأكثر ما تستعمل في جماعة يقصدون التآنس باجتماعهم عليها والتودد والتحبب فتعكس عليهم الأمر ويصيرون إلى التباغض لأنها مزيلة للعقل الذي هو ملاك الأشياء، قد يكون في نفس الرجل الشيء الذي يكتمه بالعقل فيبوح به عند السكر فيؤدّي إلى التلف، ألا ترى إلى ما جرى إلى سعد وحمزة، وما أحسن ما قال قاضي الجماعة أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقي، وكان فقيهاً عالماً على مذهب أهل الحديث، فيما قرأته على القاضي العالم أبي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص عنه رضي الله عنهما بكرمه:

ألا إنما الدنيا كراح عتيقة أراد مديروها بها جلب الأنس
فلما أداروها أنارت حقودهم فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس

وأما الميسر فإن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سليباً لا شيء له، وينتهي من سوء الصنيع في ذلك أن يقامر حتى على أهله وولده فيؤدّي به ذلك إلى أن يصير أعدى عدوّ لمن قمره وغلبه لأن ذلك يؤخذ منه على سبيل القهر والغلبة ولا يمكن امتناعه من ذلك ولذلك قال بعض الجاهلية:

لو يسيرون بخيل قد يسرت بها وكلّ ما يسر الأقوام مغروم

وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، والميسر إن كان غالباً به انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عن ذكر الله تعالى، وإن كان مغلوباً فما حصل له من الانقباض والندم والاحتيال على أنه يصير غالباً لا يخطر بقلبه ذكر الله لأنه تعالى لا يذكره إلا قلب تفرغ له واشتغل به عما سواه، وقد شاهدنا من يلعب بالنرد والشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب وإخراج الصلاة عن أوقاتها ما يربأ المسلم عنه بنفسه، هذا وهم يلعبون بغير جعل شيء لمن غلب فكيف يكون حالهم إذا لعبوا على شيء فأخذه الغالب وأفرد الخمر والميسر هنا وإن كانا قد جمعا مع الأنصاب والأزلام تأكيداً لقبح الخمر والميسر وتبعيداً عن تعاطيهما فنزلا في الترك منزلة ما قد تركه المؤمنون من الأنصاب والأزلام والعداوة تتعلق بالأمور الظاهرة، وعطف على هذا ما هو أشد وهو البغضاء لأن متعلقها القلب لذلك عطف على ذكر الله ما هو ألزم وأوجب وآكد وهو الصلاة، وفيما ينتجه الخمر والميسر من العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة أقوى دليل على تحريمها، وعلى أن ينتهي المسلم عنهما ولذلك جاء بعده { فهل أنتم مسلمون } وهذا الاستفهام من أبلغ ما ينهى عنه كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم مع علمكم بتلك المفاسد. وجعل الجملة اسمية والمواجهة لهم بأنتم أبلغ من جعلها فعلية. وقيل هو استفهام يضمن معنى الأمر أي فانتهوا ولذلك قال عمر انتهينا يا رب. وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن بعض شيوخه أن جماعة كانوا يشربونها بعد نزول هذه الآية، ويقولون إنما قال تعالى: { فهل أنتم منتهون } فقال بعضهم انتهينا. وقال بعضهم لم ننته فلما نزل { { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } [الأعراف: 33] حرمت لأن الإثم اسم للخمر ولا يصح هذا، وقال التبريزي هذا استفهام ذم معناه الأمر أي انتهوا معناه اتركوا وانتقلوا عنه إلى غيره من الموظف عليكم انتهى. ووجه ما ذكر من الذمّ أنه نبه على مفاسد تتولد من الخمر والميسر يقضي العقل بتركهما من أجلها لو لم يرد الشرع بذلك فكيف وقد ورد الشرع بالترك، وقد تقدم من قوله في البقرة أن جماعة من الجاهلية لم يشربوا الخمر صوتاً لعقولهم عما يفسدها وكذلك في الإسلام قبل نزول تحريمها.

{ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } هذا أمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وأمر بالحذر من عاقبة المعصية، وناسب العطف في { وأطيعوا } على معنى قوله { فهل أنتم منتهون } إذ تضمن هذا معنى الأمر وهو قوله { فانتهوا }. وقيل الأمر بالطاعة هذا مخصوص أي أطيعوا فيما أمرتم به من اجتناب ما أمرتم باجتنابه واحذروا ما عليكم في مخالفة هذا الأمر، وكرر وأطيعوا على سبيل التأكيد والأحسن أن لا يقيد الأمر هنا بل أمروا أن يكونوا مطيعين دائماً حذرين خاشين لأن الحذر مدعاة إلى عمل الحسنات واتقاء السيئات.

{ فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } أي فإن أعرضتم فليس على الرسول إلا أن يبلغ أحكام الله وليس عليه خلق الطاعة فيكم، ولا يلحقه من توليكم شيء بل ذلك لاحق بكم وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إذ تضمن أن عقابكم إنما يتولاه المرسل لا الرسول وما كلف الرسول من أمركم غير تبليغكم، ووصف البلاغ بالمبين إما لأنه بيِّن في نفسه واضح جلي وإما لأنه مبين لكم أحكام الله تعالى وتكاليفه بحيث لا يعتريها شبهة بل هي واضحة نيرة جلية. وذهب الجمهور إلى أن هذه الآية دلت على تحريم الخمر وهو الظاهر وقد حلف عمر فيها وبلغه أن قوماً شربوها بالشام وقالوا هي حلال فاتفق رأيه ورأي عليّ على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا لأنهم اعتقدوا حلها، والجمهور على أنها نجسة العين لتسميتها رجساً، والرجس النجس المستقذر، وذهب ربيعة والليث والمزني وبعض المتأخرين من البغداديين إلى أنها ظاهرة واختلفوا هل كان المسكر منها مباحاً قبل التحريم أم لا.

{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين } قال ابن عباس والبراء وأنس لما نزل تحريم الخمر قال قوم كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت فأعلم تعالى أن الذمّ والجناح إنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين، والظاهر من سبب النزول أن اللفظ عام ومعناه الخصوص. وقيل هي عامّة والمعنى أنه لا حرج على المؤمن فيما طعم من المستلذات إذا ما اتقى ما حرم الله منها وقضية من شربها قيل التحريم من صور العموم، وهذه الآية شبيهة بآية تحويل القبلة حين سألوا عمن مات على القبلة الأولى، فنزلت { { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [البقرة: 143] و { فيما طعموا } قيل من الخمر والطعم حقيقة في المأكولات مجاز في المشروب وفي اليوم قيل مما أكلوه من القمار فيكون فيه حقيقة، وقيل منهما وعنى بالطعم الذوق وهو قدر مشترك بينهما، وكررت هذه الجمل على سبيل المبالغة والتوكيد في هذه الصفات ولا ينافي التأكيد العطف بثم فهو نظير قوله { { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } [التكاثر: 3 - 4] وذهب قوم إلى تباين هذه الجمل بحسب ما قدروا من متعلقات الأفعال فالمعنى إذا ما اتقوا الشرك والكبائر وآمنوا الإيمان الكامل وعملوا الصالحات ثم اتقوا ثبتوا وداموا على الحالة المذكورة ثم اتقوا وأحسنوا انتهوا في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة أو غير ذلك وهو الإحسان. وإلى قريب من هذا ذهب الزمخشري، قال { إذا ما اتقوا } ما حرم عليهم وآمنوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوا { ثم اتقوا وآمنوا } ثبتوا على التقوى والإيمان { ثم اتقوا وأحسنوا } ثبتوا على اتقاء المعاصي { وأحسنوا } أعمالهم وأحسنوا إلى الناس واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات انتهى. وقيل الرتبة الأولى لماضي الزمان والثانية للحال والثالثة للاستقبال، وقيل الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع والثاني في الكبائر والثالث في الصغائر، وقيل غير هذا مما لا إشعار للفظ به، ومعنى الآية ثناء على أولئك، الذين كانوا على هذه الصفة وحمد لهم في الإيمان والتقوى والإحسان إذ كانت الخمر غير محرمة إذ ذاك فالإثم مرفوع عمن التبس بالمباح إذا كان مؤمناً متقياً محسناً وإن كان يؤول ذلك المباح إلى التحريم فتحريمه بعد ذلك لا يضر المؤمن المتقي المحسن وتقدم شرح الإحسان وأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره في حديث سؤال جبريل فيجب أن لا يتعدى تفسيره. { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } نزلت عام الحديبية وأقام صلى الله عليه وسلم بالتنعيم فكان الوحش والطير يغشاهم في رحالهم وهم محرمون، وقيل كان بعضهم أحرم وبعضهم لم يحرم فإذا عرض صيد اختلفت أحوالهم واشتبهت الأحكام، وقيل قتل أبو اليسر حمار وحش برمحه فقيل قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنهم لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وهما حرامان دائماً، أخرج بعده من الطيبات ما حرم في حال دون حال، وهو الصيد وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الإشعار والأوصاف الحسنة، والظاهر أن الخطاب بقوله { يا أيها الذين آمنوا } عام للمحل والمحرم لكن لا يتحقق الابتلاء إلا مع الإحرام أو الحرم. وقال ابن عباس هو للمحرمين، وقال مالك هو للمحلين والمعنى ليختبرنكم الله ابتلاهم الله به مع الإحرام أو الحرم، والظاهر أن قوله { بشيء من الصيد } يقتضي تقليلاً، وقيل ليعلم أنه ليس من الابتلاء العظيم كالابتلاء بالأنفس والأموال بل هو تشبيه بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك وأنهم كانوا لا يصبرون عند هذا الابتلاء فكيف يصبرون عند ما هو أشدّ منه ومن في { من الصيد } للتبعيض في حال الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم، وقال الطبري وغيره من صيد البر دون البحر، وقال ابن عطية ويجوز أن تكون من لبيان الجنس، قال الزجاج وهذا كما تقول قال لأمتحننك بشيء من الرزق وكما قال تعالى: { { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [الحج: 30] والمراد بالصيد المأكول لأن الصيد ينطلق على المأكول وغير المأكول. قال الشاعر:

صيد الملوك أرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدي الأبطال

وقال زهير:

ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

ولهذا قال أبو حنيفة إذا قتل المحرم ليثاً أو ذئباً ضارياً أو ما يجري مجراه فعليه الجزاء بقتله.

{ تناله أيديكم ورماحكم } أي بعض منه يتناول بالأيدي لقرب غشيانه حتى تتمكن منه اليد وبعض بالرماح لبعده وتفرقه فلا يوصل إليه إلا بالرمح، وقال ابن عباس { أيديكم } فراخ الطير وصغار الوحش، وقال مجاهد الأيدي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر والرماح تنال كبار الصيد، قيل وما قاله مجاهد غير جائز لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لا يمتنع انتهى، يعني أنه لا يطلق على البيض صيد ولا يمتنع ذلك تسمية للشيء بما يؤول إليه، قال ابن عطية والظاهر أن الله خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفاً في الاصطياد وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئاً. وقرأ النخعي وابن وثاب يناله بالياء منقوطة من أسفل والجملة من قوله { تناله } في موضع الصفة لقوله { بشيء } أو في موضع الحال منه إذ قد وصف وأبعد من زعم أنه حال من الصيد.

{ ليعلم الله من يخافه بالغيب } هذا تعليل لقوله { ليبلونكم } ومعنى { ليعلم } ليتميز من يخاف عقابه تعالى وهو غائب منتظر في الآخرة فيبقى الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه قاله الزمخشري، وقال ابن عطية ليستمرّ عليه وهو موجود إذ قد علم الله ذلك في الأزل، وقال الكلبي لم يزل الله تعالى عالماً وإنما عبر بالعلم عن الرؤية، وقيل هو على حذف مضاف أي ليعلم أولياء الله، وقيل المعنى ليعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب أي في السر حيث لا يراه أحد من الناس فالخائف لا يصيد وغير الخائف يصيد، وقيل يعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم، وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وبالغيب في موضع نصب على الحال ومعناه أن الخائف غائب عن رؤية الله تعالى ومثله { { من خشي الرحمن بالغيب } [ق: 33] و { { يخشون ربهم بالغيب } [الأنبياء: 49] وقال عليه السلام: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" .

وقال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه، قال ابن عطية والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة من خاف الله انتهى. عن الصيد من ذات نفسه انتهى. وقرأ الزهري { ليعلم الله } من أعلم. قال ابن عطية أي ليعلم عباده انتهى. فيكون من أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى واحد تعدى عرف فحذف المفعول الأول وهو عباده لدلالة المعنى عليه وبقي المفعول الثاني وهو { من يخافه } .

{ فمن اعتدى بعد ذلك } المعنى فمن اعتدى بالمخالفة فصاد وذلك إشارة إلى النهي الذي تضمنه معنى الكلام السابق وتقديره فلا يصيدوا يدل عليه قوله { ليعلم الله من يخافه بالغيب }.

{ فله عذاب أليم } قيل في الآخرة. وقيل في الدنيا. قال ابن عباس يوسع بطنه وظهره جلداً ويسلب ثيابه.

{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } { الذين آمنوا } عام وصرح هنا بالنهي عن قتل الصيد في حال كونهم حرماً والحرم جمع حرام والحرام المحرم والكائن بالحرم، ومن ذهب إلى أن اللفظ يراد به معناه استدل بقوله { وأنتم حرم } على منع المحرم والكائن بالحرم من قتل الصيد ومن لم يذهب إلى ذلك، قال المعنى يحرمون بحج أو عمرة وهو قول الأكثر. وقيل المعنى وأنتم في الحرم والظاهر النهي عن قتل الصيد وتكون الآية قبل هذه دلت بمعناها على النهي عن الاصطياد فيستفاد من مجموع الآيتين النهي عن الاصطياد والنهي عن قتل الصيد والظاهر عموم الصيد وقد خص هذا العموم بصيد البر لقوله: { أحل لكم صيد البحر }. وقيل وبالسنة بالحديث الثابت "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور" فاقتصر على هذه الخمسة الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقاس مالك على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وغيرهم ورآه داخلاً في لفظه من أسد ونمر وفهد وذئب وكل سبع عاد فقال له أن يقتلها مبتدئاً بها لا هزبر وثعلب وضبع فإن قتلها فدى. وقال مجاهد والنخعي لا يقتل من السباع إلا ما عدا عليه وروي نحوه عن ابن عمر. وقال أصحاب الرأي أن بدأه بالسبع قتله ولا فدية وإن ابتدأه المحرم فقتله فدى. وقال مالك في فراخ السباع قبل أن تفترس لا ينبغي للمحرم قتلها، وثبت عن عمر أمره المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب وذوات السموم في حكم الحية كالأفعى والرتيلا ومذهب أبي حنيفة وجماعة أن الصيد هو ما توحش مأكولاً كان أو غير مأكول. فعلى هذا لو قتل المحرم سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجاوز قيمة شاة، وقال زفر بالغاً ما بلغ، وقال قوم الصيد هو ما يؤكل لحمه فعلى هذا لا يجب الضمان في قتل السبع وهو قول الشافعي ولا في قتل الفواسق الخمس ولا الذئب وإذا كان الصيد مما حل أكله فقتله المحرم ولو بالذبح فمذهب أبي حنيفة ومالك أنه غير مذكى فلا يؤكل لحمه وبه قال ابن المسيب وأحد قولي الحسن ومذهب الشافعي إن ذبح المحرم الصيد ذكاه، وقال الحكم وعمرو بن دينار وسفيان يحل للحلال أكله وهو أحد قولي الحسن.

{ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } الظاهر تقييد القتل بالعمد فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسياً لإحرامه أو رماه ظاناً أنه ليس بصيد فإذا هو صيد أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيداً فلا جزاء عليه، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم وبه قال أبو ثور وداود والطبري وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد بن حنبل، وقال ابن عباس فيما أسنده عنه الدارقطني إنما التكفير في العمد وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا، وقيل خرج مخرج الغالب فالحق به النادر، وقيل ذكر التعمد لأن مورد الآية في من تعمد لقصة أبي اليسر إذ قتل الحمار متعمداً وهو محرم ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم أن الخطأ بنسيان أو غيره كالعمد والعمد أن يكون ذاكراً لإحرامه قاصداً للقتل وروي ذلك عن عمر وبن عباس وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري، قال الزهري جزاء العمد بالقرآن والخطأ والنسيان بالسنة، قال القاضي أبو بكر بن العربي إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن عمرو بن عباس فنعماً هي وأحسن بها أسوة، وقال مجاهد معناه متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه فإن كان ذاكراً لإحرامه فهذا أجل وأعظم من أن يكفر وقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها، قال ومن أخطأ فذلك الذي عليه الجزاء، وقال نحوه ابن جريج، وروي عن مجاهد أنه لا جزاء عليه في قتله متعمداً ويستغفر الله وحجه تام، وقرأ الكوفيون { فجزاء } بالتنوين { مثل } بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل. وقرأ عبد الله { فجزاؤه مثل } والضمير عائد على قاتل الصيد أو على الصيد وفي قراءة عبد الله يرتفع { فجزاء مثل } على الابتداء والخبر. وقرأ باقي السبعة { فجزاء مثل } برفع جزاء وإضافته إلى مثل، فقيل مثل كأنها مقحمة كما تقول مثلك من يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل، وقيل ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي { فجزاء } بالرفع والتنوين { مثل ما قتل } بالنصب. وقرأ محمد بن مقاتل { فجزاء مثل ما قتل } بنصب جزاء ومثل والتقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل ومثل صفة لجزاء. وقرأ الحسن { من النعم } سكن العين تخفيفاً كما قالوا الشعر، وقال ابن عطية هي لغة و{ من النعم } صفة لجزاء سواء رفع { جزاء } و{ مثل } أو أضيف { جزاء } إلى { مثل } أي كائن من النعم ويجوز في وجه الإضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في وجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل. ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالاً حل الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد، على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك، لأن الذي هو من النعم هو ما يكون جزاء لا الذي يقتله المحرم، ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة والخلقة والصغر والعظم وهو قول الجمهور. وروي ذلك عن عمرو بن عوف وابن عباس والضحاك والسدّي وابن جبير وقتادة وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن، وتفاصيل ما يقابل كل مقتول من الصيد قد طول بها جماعة من المفسرين ولم يتعرض لفظ القرآن لها وهي مذكورة في كتب الفقه

وذهب جماعة من التابعين إلى أن المماثلة هي في القيمة يقوم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته طعاماً من الأنعام ثم يهدى وهو قول النخعي وعطاء وأحد قولي مجاهد. وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف يشتري بالقيمة هدياً إن شاء وإن شاء اشترى طعاماً فأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً، وقال قوم المثلية فيما وجد له مثل صورة وما لم يوجد له مثل فالمثلية في القيمة وقد تعصب أبو بكر الرازي والزمخشري لمذهب أبي حنيفة. ولفظ الآية ينبو عن مذهبه إذ ظاهر الآية يقتضي التخيير بين أن يجزىء هدياً من النعم مثل ما قتل وأن يكفر بطعام مساكين وأن يصوم عدل الصيام. والظاهر أن الجزاء لا يكون إلا في القتل لا في أخذ الصيد ولا في جنسه ولا في أكله وفاقاً للشافعي وخلافاً لأبي حنيفة إذ قال عليه جزاء ما أكل يعني قيمته وخالفه صاحباه فقالا لا شيء عليه سوى الاستغفار لأنه تناول منه، ولا في الدلالة عليه خلافاً لأبي حنيفة وأشهب إذ قالا يضمن الدار الجزاء، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عوف، وقال الشافعي ومالك وأبو ثور لا يضمن الدال والجزاء على القاتل ولا في جرحه ونقص قيمته بذلك، وقال المزني عليه شيء، وقال بعض أهل العلم إذا نقص من قيمته مثلاً العشر فعليه عشر قيمته، وقال داود لا شيء عليه، والظاهر أنه لو اجتمع محرمون في صيد لم يجب عليهم إلا جزاء واحد لأنه لا ينسب القتل إلى كل واحد منهم. فأما المقتول فهو واحد يجب أن يكون المثل واحد، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري يجب على كل واحد منهم جزاء واحد، والظاهر أنه إذا حمل قوله { وأنتم حرم } على معنييه وهما محرمون بحج أو عمرة ومحرمون بمعنى داخلين الحرم وإن كانوا محلين، أنه إذا قتل المحلون صيداً في الحرم أنه يلزمهم جزاء واحد، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك على كل واحد جزاء كامل وظاهر قوله { من النعم } أنه لا يشترط سن فيجزىء الجفر والعناق على قدر الصيد وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزىء في الأضحية وهدي القرآن والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله { وأنتم حرم } أنه لو صاد الحلال بالحل ثم ذبحه في الحرم فلا ضمان وهو حلال وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة عليه الجزاء.

{ يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة } أي يحكم بمثل ما قتل. قال ابن وهب من السنة أن يخير الحكمان من قتل الصيد كما خيره الله في أن يخرج هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً، فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظراً لما أصاب وأدنى الهدي شاة، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مدّ يوماً وكذلك قال مالك، والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكما في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر والظاهر أن العدلين ذكران فلا يحكم فيه امرأتان عدلتان، وقرأ جعفر بن محمد { يحكم به ذوا عدل } على التوحيد أي يحكم به من يعدل منكم ولا يريد به الوحدة، وقيل أراد به الإمام. والظاهر أن الحكمين يحكمان في جزاء الصيد باجتهادهما وذلك موكول إليهما وبه قال أبو حنيفة ومالك وجماعة من أهل العلم، وقال الشافعي الذي له مثل من النعم وحكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهادهما فينظران إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه، والظاهر أن الحكمين لا يكون أحدهما قاتل الصيد وهو قول مالك، وقال الشافعي: إن كان القتل خطأ جاز أن يكون أحدهما أو عمداً فلا لأنه يفسق به واستدل بقوله تعالى: { يحكم به ذوا عدل منكم } على إثبات القياس لأنه تعالى فرض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم. وجوّزوا في انتصاب قوله { هدياً } أن يكون حالاً من { جزاء } فيمن وصفه بمثل لأن الصفة خصصته فقرب من المعرفة وأن يكون بدلاً من مثل في قراءة من نصب مثلاً أو من محله في قراءة من خفضه وأن ينتصب على المصدر والظاهر أنه حال من قوله به ومعنى { بالغ الكعبة } أن ينحر بالحرم ويتصدّق به حيث شاء عند أبي حنيفة، وقال الشافعي بالحرم، وقرأ الأعرج { هدياً } بكسر الدال وتشديد الياء والجملة من قوله يحكم في موضع الصفة لقوله فجزاء أي حاكم به ذوا عدل وفي قوله { منكم } دليل على أنهما من المسلمين وذكر الكعبة لأنها أم الحرام قالوا والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به يعرفه من هدي الجزاء ينحر بمنى وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم بشرط أن يدخل من الحل ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغاً الكعبة.

{ أو كفارة طعام مساكين } قرأ الصاحبان بالإضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة إذ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة صيام ولا التفات إلى قول الفارسي ولم يصف الكفارة إلى الطعام لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد، وأما ما ذهب إليه الزمخشري من زعمه أن الإضافة مبينة كأنه قيل أو كفارة من طعام مساكين، كقولك خاتم فضة، بمعنى خاتم من فضة فليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه والطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيد جدّاً، وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع { طعام } وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين على أنه اسم جنس، قال أبو علي { طعام } عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة. انتهى؛ وهذا على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلاً وقد أجمل في مقدار الطعام وفي عدد المساكين والظاهر أنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين، وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد والقاسم يقوّم الصيد دراهم ثم يشتري بالدراهم طعاماً فيطعم كل مسكين نصف صاع، وروي هذا عن ابن عباس وبتقويم الصيد قال أبو حنيفة، وقال مجاهد وعطاء وابن عباس والشافعي وأحمد يقوّم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدى طعاماً، وقال مالك أحسن ما سمعت، إنه يقوّم الصيد فينظركم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مدّاً ويصوم مكان كل مدّ يوماً.

{ أَو عدل ذلك صياماً } الأظهر أن يكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور وهو الطعام والطعام المذكور غير معين في الآية لا كيلاً ولا وزناً فيلزم من ذلك أن يكون الصيام أيضاً غير معين عدداً والصيام مبني على الخلاف في الطعام أهو مدّ أو مدّان. وبالمدّ قال ابن عباس ومالك وبالمدّين قال الشافعي وعن أحمد القولان، وجوّزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول وفي الظبي ثلاثة أيام وفي الإبل عشرون يوماً وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوماً قاله ابن عباس، وقال ابن جبير ثلاثة أيام إلى عشرة أيام والظاهر عدم تقييد الإطعام والصوم بمكان وبه قال جماعة من العلماء فحيث ما شاء كفر بهما، وقال عطاء وغيره الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء، وقرأ الجمهور { أو عدل } بفتح العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرها وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة. والظاهر أن أو للتخيير أي ذلك فعل أجزأه موسراً كان أو معسراً وهو قول الجمهور، وقال ابن عباس وإبراهيم وحماد بن سلمة لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد هدياً ولا إلى الصوم إلا إن لم يجد ما يطعم والظاهر أن التخيير راجع إلى قاتل الصيد وهو قول الجمهور، وقال محمد بن الحسن الخيار إلى الحكمين والظاهر أن الواجب أحد هذه الثلاثة فلا يجمع بين الإطعام والصيام بأن يطعم عن يوم ويصوم في كفارة واحدة وأجاز ذلك أصحاب أبي حنيفة وانتصب { صياماً } على التمييز على العدل كقولك على التمرة مثلها زبداً لأن المعنى أو قدر ذلك صياماً.

{ ليذوق وبال أمره } الذوق معروف واستعير هنا لما يؤثر من غرامة وإتعاب النفس بالصوم والوبال سوء عاقبة ما فعل وهو هتك حرمة الإحرام بقتل الصيد، قال الزمخشري ليذوق متعلق بقوله { فجزاء } أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق انتهى. وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف { فجزاء } أو نون ونصب { مثل } وأما على قراءة من نوّن ورفع { مثل } فلا يجوز أن تتعلق اللام به لأن { مثل } صفة لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة لو قلت أعجبني ضرب زيد الشديد عمراً لم يجز فإن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك والصواب أن تتعلق هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق ووقع لبعض المعربين أنها تتعلق بعدل ذلك وهو غلط.

{ عفا الله عما سلف } أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم.

قال الزمخشريّ لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم، وكان الصيد فيها محرماً انتهى، وقال ابن زيد: عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم.

{ ومن عاد فينتقم الله منه } أي ومن عاد في الإسلام إلى قتل الصيد فإن كان مستحِلاًّ فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر أو ناسياً لإحرامه كفر بإحدى الخصال الثلاث أو عاصياً بأن يعود متعمّداً عالماً بإحرامه فلا كفّارة عليه وينتقم الله منه بإلزام الكفّارة فقط وكلما عاد فهو يكفر. وقال ابن عباس: إن كان متعمداً عالماً بإحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه. وبه قال شريح والنخعي والحسن ومجاهد وابن زيد وداود وظاهر و{ من عاد } لعموم ألا ترى أنّ { من } شرطيّة أو موصولة تضمنت معنى الشرط فتعمّ خلافاً لقوم إذ زعموا أنها مخصوصة بشخص بعينه وأسندوا إلى زيد بن العلاء أنّ رجلاً أصاب صيداً وهو مُحرِم فتجوز له ثم عاد فأرسل الله عليه ناراً فأحرقته وذلك قوله تعالى: { ومن عاد فينتقم الله منه } وعلى تقدير صحة هذا الحديث لا تكون هذه القضية تخص عموم الآية إذ هذا الرجل فرد من أفراد العموم ظهر انتقام الله منه والفاء في { فينتقم } جواب الشرط أو الداخلة على الموصول المضمّن معنى الشرط وهو على إضمار مبتدأ أي فهو ينتقم الله منه.

{ والله عزيز ذو انتقام } أي عزيز لا يغالب إذا أراد أن ينتقم لم يغالبْه أحد، وفي هذه الجملة تذكار بنقم الله وتخويف.

{ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } قال الكلبي: نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون في أسياف البحر سألوا عما نضب عنه الماء من السمك فنزلت، والبحر هنا الماء الكثير الواسع وسواء في ذلك النهر والوادي والبركة والعين لا يختلف الحكم في ذلك. وقيل المراد بالبحر هنا البحر الكبير، وعليه يدل سبب النزول، وما عداه محمول عليه. وأما طعامه فروي عن أبي بكر وعمر وابن عمر أنه ما قذفه البحر وطفا عليه. وقال ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذا ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم "الحل ميتته" . وقال قتادة وابن جبير والنخعي وابن المسيب ومجاهد والسدّي صيده طرّيه وطعامه المملوح منه، وروي هذا عن ابن عباس وزيد بن ثابت، قال أبو عبد الله وهذا ضعيف لأن الذي صار مالحاً قد كان طرياً وصيداً في أول الأمر فيلزم التكرار، وقال قوم: طعامه الملح الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه، وقال الحسن: طعامه صوب ساحله، وقيل: طعامه كل ما سقاه الماء فأنبت لأنه نبت من ماء البحر، وقيل: صيد البحر ما صيد لأكل وغيره كالصدف لأجل اللؤلؤ وبعض الحيوانات لأجل عظامها وأسنانها وطعامه المأكول منه خاصة عطف خاص على عام وعدم تقييد الحل يدل على التحليل للمحرم والحلال والصيد المصيد وأضيف إلى المقرّ الذي يكون فيه والظاهر أنه يحل أكل كل ما صيد من أنواع مخلوقاته حتى الذي يسمي خنزير الماء وكلب الماء وحية الماء والسرطان والضفدع وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي، وقال الليث: لا يؤكل خنزير الماء ولا إنسان الماء وتؤكل ميتته وكلبه وفرسه، وقال أبو حنيفة والثوري فيما روى عنه أبو إسحاق الفزاري لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك ولا يؤكل طافية ولا الضفدع ولا كلبه ولا خنزيره وقال: هذه من الخبائث، قال الرازي: ما صيد من البحر حيتان وجميع أنواعها حلال وضفادع وجميع أنواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين. وقال الزمخشري: صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعم من صيده والمعنى أحلّ لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة، وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه على أن تفسير الآية عنده أحلّ لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه انتهى. وتفسير{ وطعامه } بقوله وأن تطعموه خلاف الظاهر ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير عائداً على صيد البحر والظاهر عوده على البحر وأنه يراد به المطعوم لا الإطعام ويدل على ذلك ظاهر لفظ { وطعامه } وقراءة ابن عباس وعبد الله بن الحرث وطُعمه بضم الطاء وسكون العين وانتصب { متاعاً } قال ابن عطية على المصدر والمعنى متّعكم به متاعاً تنتفعون به وتأتدمون؛ وقال الزمخشري متاعاً لكم مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: { { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } [الأنبياء: 72] في باب الحال لأنّ قوله { متاعاً لكم } مفعول له مختصّ بالطعام كما أن { نافلة } حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً تأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً كما تزوّد موسى عليه السلام في مسيره إلى الخضر انتهى. وتخصيصه المفعول له بقوله: { وطعاماً } جار على مذهبه مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل وأنّ قوله وطعامه هو المأكول منه وأنه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طريّاً وقديداً وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولاً له باعتبار صيد البحر وطعامه، والخطاب في { لكم } لحاضري البحر ومدنه والسيارة المسافرون وقال مجاهد: الخطاب لأهل القرى والسيارة، أهل الأمصار وكأنه يريد أهل قرى البحر والسيارة من أهل الأمصار غير أهل تلك القرى يجلبونه إلى أهل الأمصار وهذا الاختلاف في أنه يستوي فيه المقيم والمسافر والبادي والحاضر والطري والمملوح.

{ وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } حرم الله تعالى الصيد على المحرم بقوله { { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [المائدة: 1] { { وإذا حللتم فاصطادوا } [المائدة: 2] وبقوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [المائدة: 95] بهذه الآية وكرر ذلك تغليظاً لحكمه والظاهر تحريم صيد البر على المحرِم من جميع الجهات صيد ولكل من صيد من أجله أو من غير أجله. وروي ذلك عن عليّ وابن عباس، وابن عمر وطاوس وابن جبير وأبي الشعثاء والثوري وإسحاق وعن أبي هريرة وعطاء وابن جبير أنهم أجازوا للمحرِم أكل ما صاده الحلال لنفسه أو لحلال مثله، وقال آخرون يحرم على المحرم أن يصيد فأما إن اشتراه من مالك له فذبحه وأكله فلا يحرم وفعل ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد: يأكل ما صاده الحلال إن لم يصده لأجله فإن صيد من أجله فلا يأكل فإن أكل، فقال مالك: عليه الجزاء وبه قال الأوزاعي والحسن بن صالح وقال الشافعي لا جزاء عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابه أكلُ المحرمِ الصيدَ جائز إذا اصطاده الحلال ولم يأمر المحرم بصيده ولا دلّ عليه، وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله صيد البر، (قلت): قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } لأنّ ظاهره أنه صيد المحرِمين دون صيد غيرهم فكأنه قيل وحرم عليكم ما صدتم في البحر فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين ويدل عليه قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } [المائدة: 95]. انتهى. وهذه مكابرة من الزمخشري في الظاهر بل الظاهر في قوله صيد البر العموم سواء صاده المحرم أم الحلال. وقرأ ابن عباس و{ حرم } مبنيّاً للفاعل و{ صيد } بالنصب { ما دمتم حرماً } بفتح الحاء والراء. وقرأ يحيـى { ما دمتم } بكسر الدال وهي لغة يقال دمت تدام ولا خلاف في أن ما لا زوال له من البحر أنه صيد بحر ومن البر أنه صيد بر واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يحيا في الآخر، فقال عطاء وابن جبير وأبو مجلز ومالك وغيرهم: هو من صيد البر إن قتله المحرم فداه. وذكر أبو مجلز من ذلك الضفدع والسلحفاة والسرطان، وروي عن عطاء أنه يراعي أكثر عيشه وسئل عن ابن الماء أصيد برّ أم بحر؟ فقال حيث يكون أكثر فهو منه وحيث يفرخ منه وهو قول أبي حنيفة والصواب في ابن ماء أنه صيد طائر يرعى ويأكل الحب. وقال الحافظ أبو بكر بن العربي الصحيح المنع من الحيوان الذي يكون في البر والبحر لأنه تعارض فيه دليل تحريم ودليل تحليل فيغلب دليل التحريم احتياطاً.

{ واتقوا الله الذي إليه تحشرون } هذا فيه تنبيه وتهديد وجاء عقيب تحليل وتحريم وذكر الحشر إذ فيه يظهر من أطاع وعصى.