خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٨
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٨٩
-البقرة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { البيوت } بضم الباء: أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والبرجمي وهشام غير الحلواني. الباقون: بكسر الباء.
الوقوف: { تعلموا } ه { عن الأهلة } ط لابتداء حكم آخر مع النفي { من اتقى } ج و { الحج } ط ج لعطف الجملتين المختلفتين { أبوابها } ص لعطف المتفقتين { تفلحون } ه.
التفسير: لما كان الصوم منتهياً إلى الإفطار والإفطار يتضمن الأكل، ناسب أن يردف حكم الصيام بحكم ما يصلح للأكل وما لا يصلح له. ولما كان الصوم والفطر منوطين برؤية الهلال عقباً بذكر السؤال عن حال الأهلة. قال الإمام الغزالي في الإحياء: المال يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه، والأول إما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان، أما المعادن والنبات فلا يحرم شيء منهما إلا ما يزيل الحياة وهي السموم، أو الصحة وهي الأدوية في غير وقتها، أو العقل كالخمر والبنج وسائر المسكرات. وأما حدثنا الحيوان فينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل. وما يحل فإنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً، وإذا ذبح فلا يحل جميع أجزائه بل يحرم منه الدم والفرث وكل ذلك مذكور في كتب الفقه. والثاني وهو ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه نقول فيه أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث. والذي باختياره إما أن لا يكون مأخوذاً من مالك كالمعادن، وإما أن يكون مأخوذاً من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي. والمأخوذ قهراً إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم، أولاً لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم. والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية، فهذه أقسام ستة:
الأول: ما لا يؤخذ من مالك كنيل المعادن وإحياء الموات والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين.
الثاني: المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس فقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهده.
الثالث: المأخوذ قهراً بالاستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على المستحق.
الرابع: ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط لفظي الإيجاب والقبول مع ما يعتد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة.
الخامس: ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره.
السادس: ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان المورث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإفراز الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة. فهذه مجامع مداخل الحلال وما سوى ذلك فحرام لا يجوز أكله. وكذا إن كان من هذه الجهات وصرفه إلى غير المصارف الشرعية كالخمر والزمر والزنا واللواط والميسر والسرف المحرم، وكل هذه الوجوه داخلة تحت قوله سبحانه { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه { بينكم } أي في المعاملات الجارية بينكم والتصرفات الواقعة بينكم. وليس المراد منه الأكل خاصة بل غير الأكل من التصرف كالأكل في هذا الباب إلا أنه خص الأكل بالذكر لأنه المقصود الأعظم من المال. وقد يقال لمن أنفق ماله إنه أكله. والإدلاء أصله من أدليت دلوي أرسلتها في البئر للاستقاء، فإذا استخرجتها قلت دلوتها. ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء. ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده. وفلان يدلي إلى الميت بقرابة ورحم إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستقي الماء بالدلو. قوله { وتدلوا } داخل في حكم النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم، أو لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالإثم بشهادة الزور أو باليمين الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم. والفرق بين الوجهين أن الحكام على الأول حكام السوء الذين يقبلون الرشا التي هي رشا الحاجة، فبها يصير المقصود البعيد قريباً، وإذا أخذها حاكم السوء مضى في الحكم من غير ثبت كمضي الدلو في الإرسال. وعلى الثاني قد يكون الحاكم عادلاً ولكن قد يشتبه عليه الحق كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخصمين:
"إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً فإنما أقضي له قطعة من نار" فبكيا وقال كل واحد منهما: حقي لصاحبي. فقال: اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه. "فتوخيا" أي اقصدا الحق فميا تصنعانه من القسمة واقترعا وليأخذ كل منكما ما تخرجه القسمة بالقرعة ثم تحاللا: { وأنتم تعلمون } أنكم على الباطل وارتكاب المعاصي مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق.
روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ألا يكون على حالة واحدة؟ { يسئلونك عن الأهلة } وقيل: إن السائلين هم اليهود. ثم إن الله تعالى لم يجبهم بأنه إنما يرى كذلك لأنه يستفيد النور من الشمس وأنه مظلم في ذاته ويفصل أبداً بين المضيء والمظلم منه دائرة لاستداره المنير والمستنير، ويفصل بين المرئي وغير المرئي من القمر أيضاً دائرة. والدائرتان تتطابقان في الاجتماع بحيث لا يظهر شيء من المستنير وتكون القطعة المظلمة مما يلي البصر وهذه الحالة هي المحاق. وكذا في الاستقبال لكن القطعة المضيئة هي التي تلي البصر والقمر في هذه الحالة يسمى بدراً. وفي سائر الأوضاع يتقاطعان. أما في التربيعين فعلى زوايا قوائم تقريباً، وفي غير التربيعين على زوايا حادة ومنفرجة، وعلى التقديرين تنقسم كرة القمر بهما إلى أربع قطع: اثنتان مضيئتان وهما اللتان تليان الشمس، والباقيتان مظلمتان. ويقع في مخروط البصر إحدى الأوليين وإحدى الأخريين، لكنه يحس بالمضيئة دون المظلمة. والقطع الأربع في التربيعين متساويات تقريباً، وفي غيرهما تختلف المتجاورتان وتتساوى المتقابلتان. والقطعة المرئية من المتجاورتين الواقعتين في مخروط البصر في الربعين الأول والأخير من الشهر أصغرهما، لأن زاوية تلك القطعة أصغر اللتين يليان الإبصار أعني أنها حادة وتسمى القطعة المرئية الصغيرة أول ما يبدو إلى ليلتين هلالاً ويجمع على أهلة، لأنه يتعدد اعتباراً. وفي الربعين الباقيين من الشهر القطعة المضيئة المرئية أعظم المتجاورتين الموصوفتين لأن زاويتها أعظم المذكورتين أعني أنها منفرجة، وإنما لم يجابوا بذلك لأن المكلف لا يهمه معرفة هذه التصورات في باب العمل، وإنما الذي يعود عليه من فوائده وحكمه في باب التكليف معرفة المواقيت وهي المعالم التي يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهن ومدد حملهن ومعالم للحج يعرف بها وقته. والميقات من الوقت كالميزان من الوزن، ولعمري إنه لو منع مانع من أن ضبط هذه الأمور لا يتسهل ولا يتسنى إلا بوقوع الاختلاف في تشكلات القمر حيث سمى عوده من كل تشكل إلى مثله ولا سيما من الهلالية إلى مثلها شهراً وبذلك قدر السنون، وضبطت الأوقات والفصول فلن يمكنه جحود فائدته على تقدير وجود، ولو لم يكن في الإظهار رسمة الحدوث والإمكان والزوال والنقصان في الفلكيات حتى لا يظن بها وجوب الوجود، أو الاشتراك في القدم مع مفيض الخير والجود، أو امتناع الخرق والالتئام كما ذهب إلى كل من ذلك طائفة من اللئام لكفى به تنبيهاً وعناية وإرشاداً وهداية إلى افتقار الفلكيات إلى فاعل مختار ومدبر قهار جاعل الظلم والأنوار، ومصير الأهلة والأقمار، وفي إفراد الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت عبادات أخر كالصوم والزكاة إشارة إلى أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى له، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء. ويمكن أن يقال: توقف الصوم على الهلال قد علم من قوله
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [البقرة: 184] والزكاة تتعلق بالحول. والأصل في تقدير السنين لعودة الشمس من نقطة كأول الحمل مثلاً إلى مثلها بحركتها الخاصة، والأيمان والجهاد لا يتعلقان بوقت معين، والصلاة تتعلق باليوم بليلته، فلم يبق من الأركان المتعلقة بالشهر سوى الحج فتعين ذكره في هذه الآية والله أعلم.
قوله تعالى عز من قائل { وليس البر بأن تأتوا البيوت } عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا. كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصارفدخل من قبل بابه فكأنه عُير بذلك فنزلت وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية. والحاصل أن ناساً من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب فإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء. فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من دخول الباب تشديداً لأمر الإحرام { ولكن البر من اتقى } ولكن ذا البر من اتقى مخالفة الله. وقيل: إن الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر مبن صعصعة سموا حمساً لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة. كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة، ولم يجلسوا تحت سقف البيت، ولم يستظلوا الوبر، ولم يأكلوا السمن والأقط. وعن الحسن والأصم: كان الرجل في الجاهلية إذا هم فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يِأتيه من خلفه، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً. وأما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله بناء على الأسباب المروية في نزوله وعليه أكثر المفسرين، فهو أنهم لما سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة قيل لهم: اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم، ولا تعتقدوا أن جميع ما سنح لكم هو على شاكلة الصواب: وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم تحسبونها براً وليست من البر في شيء، أو أنه تعالى لما ذكر الحكمة في الأهلة وهي جعلها مواقيت الناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج، فلا جرم تكلم الله تعالى فيه استطراداً، أو اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد. وقيل: إنه تمثيل لتعكيسهم في سؤالهم، فإن الطريق المستقيم هو الاستدلال بالمعلوم على المظنون، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب، ولما ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه، فإذا رأينا اختلاف حال القمر وجب أن نعلم أن فيه حكمة ومصلحة، وهذا استدلال بالمعلوم على المجهول. فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله غير حكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم، فكأنه تعالى يقول: لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق أو قاربتم الشك، فقد أتيتم الأمر من ورائه وهذا ليس من البر ولا من كمال العقل، إنما البر أن تأتوا الأمور من وجوهها التي يجب أن تؤتى منها، وهذا باب مشهور في الكناية قال الأعشى:

وكأس شربت على رغبة وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أني أمرؤ أتيت المعيشة من بابها

وعن أبي مسلم: أن هذا إشارة إلى ما كانوا يفعلونه من النسيء وكان يقع الحج في غير وقته، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلاً لمخالفتهم الواجب في الحج وشهوره. ثم إنه تعالى أمرهم بالتقوى التي تتضمن الإتيان بجميع الواجبات والاجتناب عن الفواحش والمنكرات إرادة أن يظفروا بالمطالب الدينية والدنيوية والله ولي التوفيق.
التأويل: { بالباطل } أي بهوى النفس والحرص والإسراف { وتدلوا بها إلى الحكام } يعني النفوس الأمارة بالسوء { من أموال الناس } من الأموال التي خلقت للاستعانة بها على العبودية. الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم وللصديقين مواقيت مراقباتهم. والحج إشارة إلى ما يرد بحكم الوقت عليهم من غير اختيارهم، فمن كان وقته الصحو كان قيامه بالشريعة، ومن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة، فإن تجلى لهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى لهم بوصف الجمال عاشوا، فليس للمحبين وقت إلا أوقات محبوبهم كما ليس لهم وصف إلا أوصاف محبوبهم والله تعالى أعلم.