خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٣١
قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٣٢
قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٣٣
-البقرة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { أنبؤني } وكذلك { خاطئون } و { خاسئين } و { فمالئون } و { نحن المنشئون } و { ليطفؤا } و { ليواطؤا } و { متكئين } و { قل استهزؤا } و { متكئاً } و { يستنبؤك } وبابه { بريأ } و { بريؤن } وبابه، وكهيئة وأشباه ذلك، ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. { هؤلاء } ها بغير المد، أولاء بالمد: يزيد ويعقوب وأوقية ومصعب عن قالون. قال أبو إسحق: هما كلمتان لا بمدها ويمد أولاء. { هؤلاءان } بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. وقرأ أبو عمرو والبزي من طريق الهاشمي بترك الهمزة الأولى وإثبات الثانية، وكذلك في المفتوحتين والمضمومتين. وقرأ يزيد وورش والقواص وسهل ويعقوب بإثبات الهمزة الأولى وتليين الثانية. وعن نافع: تليين الأولى وإثبات الثانية، وكذلك في المضمومتين. وأما في المفتوحتين فكأبي عمرو. { أنبئهم } عن ابن عامر روايتان: مهموزة مكسورة الهاء، وغير مهموزة مكسورة الهاء.
الوقوف: { صادقين } (ه) { علمتنا } (ط) { الحكيم } (ه) { أنبئهم } (ج) { بأسمائهم } (ج) لمكان فاء التعقيب. { بأسمائهم } (لا) لأن "قال" جواب "فلما" { تكتمون }.
التفسير: وفيه أبحاث:
الأول: الأشعري والجبائي والكعبي على أن اللغات كلها توقيفية بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني بدليل قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } { لا علم لنا إلا ما علمتنا } وهذا يدل على أن الملائكة وآدم لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى إياهم. وخالفهم أصحاب أبي هاشم الذاهبون إلى أن اللغات اصطلاحية وضعها البشر واحد أو جماعة. وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كالأطفال فقالوا: المراد ألهمه وبعث داعيته على الوضع مثل
{ وعلمناه صنعة لبوس لكم } [الأنبياء: 80]. أي ألهمناه، أو المراد علمه ما سبق من اصطلاحات قوم كانوا قبل آدم. وأجيب بأن الأصل عدم العدول عن الظاهر: قالوا { ثم عرضهم } يدل على أن المراد بالأسماء المسميات، فإن عرض الأسماء غير معقول. فإذن المراد أسماء المسميات فعوض الألف واللام عن المضاف إليه كما في قوله { واشتعل الرأس شيباً } [مريم: 4] أي علمه أسماء كل ما خلق من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولده اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها، وكان ولد آدم يتكلمون بهذه اللغات، فلما مات وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات، فلما مات و تفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد بلغة واحدة معينة من تلك اللغات، فلما طالت المدة ومضت القرون نسوا سائر اللغات. ثم لا يبعد بل ينبغي أن يكون الله تعالى قد علمه مع ذلك صفات الأشياء ونعوتها وخواصها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية، لأن اشتقاق الاسم إما من السمة أو من السمو. فإن كان من السمة فالاسم هو العلامة وصفات الأشياء وخواصها دالة على ماهياتها وعلامة عليها، وإن كان من السمو فدليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول. وإنما قلنا ينبغي ذلك لأن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها. ثم من الحقائق ما يتوقف إدراكها على آلة تدرك بها كالمبصرات والمسموعات وغيرها، فإذا كان لآدم تلك الآلات وقد عرفها بها، ولم يكن للملائكة ذلك لزم عجزهم. وأيضاً العربي لا يحسن منه أن يقول لغيره تكلم بلغتي، لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات، بل إن حصل التعليم حصل العلم بها وإلا فلا. أما العلم بحقائق الأشياء، فالعقل يتمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي به. وإنما قيل { ثم عرضهم } بلفظ الذكور، لأن في جملة المسميات الملائكة والثقلين وهم العقلاء، فغلب الكامل على الناقص، والتذكير على التأنيث. ومن الناس من تمسك بقوله { أنبؤني بأسماء هؤلاء } على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنه إنما استنبأهم مع علمه بعجزهم تبكيتاً لهم بدليل قوله { إن كنتم صادقين } أي في أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منهم. وقيل: أي في قولكم إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون له وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود. وقيل: أعلموني بأسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الإعلام. وقيل: أخبروني ولا تقولوا إلا حقاً وصدقاً، فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل، لم يجترءوا على الجواب. ثم إن الذين اعتقدوا معصية الملائكة في قولهم { أتجعل } قالوا: إنهم لما عرفوا خطأهم تابوا واعتذروا بقولهم { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } والذين أنكروا معصيتهم قالوا: إنهم قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز التسليم كأنهم قالوا: لا نعلم إلا ما علمتنا، فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه؟ أو أنهم إنما قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [البقرة: 30] لأن الله تعالى أعلمهم ذلك. فكأنهم قالوا: إنك علمتنا أنهم يفسدون في الأرض فقلنا لك: أتجعل. وأما هذه الأسماء فإنك ما علمتنا فكيف نعلمها؟ ومعنى سبحانك نسبحك تسبيحاً أي ننزهك تنزيهاً وهو مصدر غير متصرف أي لا يستعمل إلا محذوف الفعل منصوباً على المصدرية، فإذا استعمل غير مضاف كان "سبحان" علماً للتسبيح، فإن العلمية كما تجري في الأعيان تجري في المعاني. قالت المعتزلة ههنا: المراد أنه لا علم لنا إلا من جهتك إما بالتعليم وإما بنصب الأدلة. وقالت الأشاعرة: بل الجميع بالتعليم لأن المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل، وأنه يستند إلى توفيق الله تعالى وتسهيله. ثم احتج أهل الإسلام بالآية، أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله، وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة. وللمنجم أن يقول للمعتزلي: إذا فسرت التعليم بوضع الدليل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم، فيكون من جملة ما علمه الله تعالى أنك أنت العليم بكل المعلومات، فأمكنك تعليم آدم الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه. وعن ابن عباس: أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض. وقوله { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض } استحضار لقوله تعالى لهم { إني أعلم ما لا تعلمون } إلا أنه تعالى جاء به على وجه أبسط وأشرح، فيندرج فيه علمه بأحوال آدم قبل أن خلقه. وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها، فيبطل مذهب هشام ابن الحكم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها. وقد روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود أنه يريد بقوله { ما تبدون } قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } وبقوله { وما كنتم تكتمون } ما أسر إبليس في نفسه من الكفر والكبر وأن لا يسجد. وقيل: لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً فقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه، فهذا هو الذي كتموه. ويجوز أن يكون هذا القول منهم سراً أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان. والظاهر أنه عام كقوله { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } [الأنبياء: 11] { { إنه يعلم الجهر وما يخفى } [الأعلى: 7].
البحث الثاني: قالت المعتزلة: ما ظهر من آدم معجز دل على نبوته في ذلك الوقت فكان مبعوثاً إلى حواء أو إلى من توجه التحدي إليهم، لأنهم كانوا رسلاً فقد يجوز الإرسال إلى الرسل كبعثة إبراهيم إلى لوط صلى الله عليه وسلم واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقض العادة ومنع بأن حصول العلم بالأسماء لمن علمه الله، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقض للعادة. وأيضاً أهم علموا أن تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو لا؟ فإن علموا فقد قدروا على المعارضة وإلا فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر، اللهم إلا أن يقال: إن لكل صنف منهم لغة من تلك اللغات، ثم إن جميع الأصناف حضروا وإن آدم عرض عليهم جميع تلك اللغات فكان معجزاً، أو يقال: إنه تعالى عرفهم قبل أن يسمعوا من آدم تلك الأسماء فاستدلوا به على صدق آدم. والظاهر أنهم قد عرفوا صدقه بتصديق الله تعالى إياه، ولئن سلم أنه ظهر منه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان؟ القاطعون بأنه عليه السلام ما كان نبياً في ذلك الوقت قالوا: صدرت الكبيرة منه بعد ذلك، والإقدام عليها يوجب الطرد والتحقير، فوجب أن تكون النبوة متأخرة عنها، كيف وقد قال عز من قائل
{ ثم اجتباه ربه } [طه: 122] والرسالة هي الاجتباء، فيكون بعد الزلة. وأيضاً لو كان رسولاً، فإن لم يكن مبعوثاً إلى أحد فلا فائدة، وإن كان مبعوثاً فإما إلى الملائكة - وهم أفضل من البشر عند المعتزلة - ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف، وإن المرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [الأنعام: 9] وإما إلى الأنس، ولا إنسان إلا حواء، وإنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل { ولا تقربا هذه الشجرة } [البقرة: 35] وإما إلى الجن، وما كان في السماء أحد من الجن.
البحث الثالث: في فضل العلم: لو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء، ومما يدل على فضيلته الكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فمن ذلك ما يروى عن مقاتل، أن الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها مواعظ القرآن
{ وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [البقرة: 231] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم { وآتيناه الحكم صبيا } [مريم: 12] { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [لقمان: 12] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } [النساء: 54] ورابعها القرآن { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثير } [البقرة: 269] وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم. ومن ذلك أنه تعالى فرق بين سبعة نفر في كتابه { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [الزمر: 9] { قل لا يستوي الخبيث والطيب } [المائدة: 100] { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } [الحشر: 20] { وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات } [فاطر: 19 - 22] فإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذاً من الفرق بين العالم والجاهل. ومن ذلك قوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59] أي العلماء في أصح الأقوال، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء. ولا ينعكس { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } } [آل عمران: 18] جعلهم في الآيتين في المرتبة الثالثة، ثم زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الثانية { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [آل عمران: 7] { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } [الرعد: 43] ومن ذلك قوله تعالى { { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [المجادلة: 11] ومن ذلك وصفهم بالإيمان { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } [آل عمران: 7] وبشهادة التوحيد { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [آل عمران: 18] وبالبكاء والسجود والخشوع { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } [الإسراء: 107 - 109] وبالخشية { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر: 28]. وأما الأخبار فمنها ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة، وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفوراً له، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار" وعن أنس أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله، ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره والقائم ليله، وإن باباً من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن يكون له أبو قبيس ذهباً فينفقه في سبيل الله" وعن الحسن مرفوعاً "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة في الجنة" وعنه صلى الله عليه وسلم "رحمة الله على خلفائي فقيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله" وعن أبي موسى الأشعري مرفوعاً "يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، انطلقوا فقد غفرت لكم" وقال صلى الله عليه وسلم "معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحر" وعن أبي هريرة مرفوعاً "من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء" وعن ابن عمر مرفوعاً "فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة حضر الفرس سبعين عاماً" وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم ويزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه إليها ولا يتعرف لها. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب" وعن ابن مسعود مرفوعاً "من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه الله أجر سبعين نبياً" وعن عامر الجهني مرفوعاً "يؤتى بمداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر" وفي رواية "فيرجح مداد العلماء" وعن أبي واقد الليثي "أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر. فأما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فإنه رجع وفر. فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من كلامه قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ فأما الأول فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه" . وعنه صلى الله عليه وسلم "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء" قال الراوي: فأعظم بمرتبة هي الواسطة بين النبوة والشهادة. وعن أبي هريرة مرفوعاً "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له بالخير" وعن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس. قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: أهل القرآن. قيل: ثم من؟ قال: أهل العلم. قيل: ثم من؟ قال صلى الله عليه وسلم: صباح الوجوه" قال الراوي: والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه. وقال صلى الله عليه وسلم "كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك" قال الراوي: وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى "الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيه" أن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم، وما أحسن قول بعض الأعراب لولده: كن سبعاً خالساً، أو ذئباً خانساً، أو كلباً حارساً، وإياك أن تكون إنساناً ناقصاً. "وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحدث إنساناً فأوحى الله تعالى إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة - وكان هذا وقت العصر - فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال: يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة. قال صلى الله عليه وسلم اشتغل بالتعلم. فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب" قال الراوي: فلو كان شيء أفضل من العلم لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك الوقت. وأما الآثار، فإن مصعب بن الزبير قال لابنه: تعلم العلم فإنه إن يك لك مال كان لك جمالاً، وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالاً. وقال علي بن أبي طالب: لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل. وقيل: مثل العالم بالله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص. وهو الجالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات، فهو تارة مع الله بالحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار كواحد منهم كأنه لم يعرف الله، وإذا خلا بربه مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق، فهذا سبيل المرسلين والصديقين. ومثل العالم بالله فقط كمثل القمر يكمل تارة وينقص أخرى، وهو المستغرق في المعارف الالهية غير متفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لا بد منه، ومثل العالم بأمر الله فقط وهو العارف بالحلال والحرام دون أسرار جلال الله، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره. وقال شقيق البلخي: الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف، وذلك أني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول، فمن لا يصدقني فهو كافر محض، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض، ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمناً محضاً. وقال أيضاً: ثلاثة من النوم يبغضها الله، وثلاثة من الضحك: النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة، والنوم في الصلاة، والنوم عند مجلس الذكر. والضحك خلف الجنازة، والضحك في المقابر، والضحك في مجلس الذكر. وقيل: العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم، لأن الآباء والأمهات يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها. وقيل لابن مسعود: بم وجدت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤل وقلب عقول. وقال بعضهم: سل مسألة الحمقى و احفظ حفظ الأكياس. وقيل: الدنيا بستان تزينت بخمسة أشياء: علم العلماء، وعدل الأمراء، وعبادة العباد، وأمانة التجار، ونصيحة المحترفين. فجاء إبليس بخمسة أعلام وأقامها بجنب هذه الخمس. فجاء بالحسد فركزه في جنب العلم، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلم أفضل من المال لسبعة أوجه: العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة، العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص، المال يحتاج إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه، إذا مات الرجل خلف ماله والعلم يدخل معه قبره، المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن، جميع الناس محتاجون إلى العالم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال، العلم يقوي الرجل عند المرور على الصراط والمال يمنعه منه. قال الفقيه أبو الليث: من جلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع كرامات: ينال فضل المتعلمين، وكان محبوساً من الذنوب ما دام جالساً عنده، وإذا خرج من منزله طلباً للعلم نزلت الرحمة عليه، وإذا جلس في حلقة العلم فنزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب، وما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة، إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه وانكسر فيكون في زمرة "أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي"، إذا رأى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق نفر عن الفسق ومال إلى طلب العلم. وقيل: ثلاثة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه.
(واعلم) أن الله تعالى علم سبعة نفر سبعة أشياء: علم آدم الأسماء كلها، وعلم الخضر علم الفراسة
{ وعلمناه من لدنا علماً } [الكهف: 65] وعلم يوسف علم التعبير { { وعلمتني من تأويل الأحاديث } [يوسف: 101] وعلم داود صنعة الدرع { وعلمناه صنعة لبوس لكم } وعلم سليمان منطق الطير { علمنا منطق الطير } [النمل: 16] وعلم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل { ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } [آل عمران: 48] وعلم محمداً صلى الله عليه وسلم الشرع والتوحيد { وعلمك ما لم تكن تعلم } [النساء: 113] فعلم آدم كان سبباً لحصول السجدة والتحية، وعلم الخضر كان سبباً لوجود تلميذ مثل موسى ويوشع، وعلم يوسف لوجود الأهل والمملكة، وعلم سليمان لوجدان بلقيس والغلبة، وعلم داود للرياسة والملك، وعلم عيسى لزوال التهمة عن أمه، وعلم محمد صلى الله عليه وسلم لوجدان الشفاعة. ثم نقول: من علم أسماء المخلوقات وجد تحية الملائكة، فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة بل تحية ربه { { سلام قولاً من رب رحيم } [يس: 58] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى، فأمة محمد بعلم الحقيقة يجدون صحبة محمد صلى الله عليه وسلم { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين } [النساء: 69] ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا، فمن كان عالماً بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشبهات { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [يونس: 25] وأيضاً فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال { وعلمتني من تأويل الأحاديث } [يوسف: 101] فأنت يا عالم، أما تذكر نعمة الله على نفسك حيث جعلك مفسراً لكلامه، وسمياً لنفسه ووارثاً لنبيه وداعياً لخلقه وواعظاً لعباده وسراجاً لأهل بلاده وقائداً للخلق إلى جنته وثوابه، وزاجراً لهم عن ناره وعقابه، كما جاء في الحديث "العلماء سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة" وإن سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه بالماء. (وروي) عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس: كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء؟ قال: لأن الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها. فقال نافع: الفخ يغطى له بأصبع من التراب فلا يراه فيقع فيه! فقال ابن عباس: إذا جاء القضاء عمي البصر. وقال لولده: يا بني عليك بالأدب، فإنه دليل على المروءة، وأنس في الوحشة، وصاحب في الغربة، وقرين في الحضر، وصدر في المجلس، ووسيلة عند انقضاء الوسائل، وغني عند العدم، ورفعه للخسيس، وكمال للشريف، وجلال للملك. (وقال) سقراط: من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحد كما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك، ولا يقدر أحد على سلبه عنك. وقيل لبعض الحكماء: لا تنظر فغمض عينيه وقيل له: لا تسمع فسد أذنيه، وقيل له: لا تتكلم فوضع يده على فيه، وقيل له: لا تعلم فقال: لا أقدر عليه. وعن بعض الحكماء: عظم العلم في ذاتك، وصغر الدنيا في عينك، وكن ضعيفاً عند الهزل، قوياً عند الجد، ولا تلم أحداً على فعل يمكن أن يعتذر منه، ولا ترفع شكايتك إلا إلى من ترى نفعه عندك حتى تكون حكيماً فاضلاً. ولبعضهم: آفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة. (وأما النكت) فالمعصية عند الجهل لا يرجى زوالها، وعند السهو يرجى زوالها انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر، والشيطان عصى وبقي في الغي أبداً، لأن ذلك كان بسبب الجهل، وإن يوسف عليه السلام لما صار ملكاً احتاج إلى وزير فسأل جبريل عن ذلك فقال: إن ربك يقول لا تختر إلا فلاناً، فرآه في أسوأ الأحوال. فقال لجبريل: كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله؟ فقال له جبريل: إن ربه عينه لذلك لأنه ذب عنك بعلمه حين قال { وإن كان قميصه قُدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين } } [يوسف: 27] والنكتة أن من ذب عن يوسف استحق الشركة في مملكته، فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم فكيف لا يستحق من الله الخير والإحسان؟ وقيل: أراد واحد خدمة ملك فقال الملك: اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم، بعث الملك إليه وقال: اترك التعلم فقد صرت أهلاً لخدمتي. فقال كنت أهلاً لخدمتك حين لم ترني أهلاً لخدمتك، وحين رأيتني أهلاً لخدمتك رأيت نفسي أهلاً لخدمة الله، وذلك لأني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب. (وقال الحكيم:) القلب ميت وحياته بالعلم، والعلم ميت وحياته بالطلب، والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب، وإظهاره بالمناظر وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم، ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكاً أبدياً لا آخر له. وإن نملة واحدة نالت الرياسة بمسألة واحدة علمتها وذلك قولها { وهم لا يشعرون } [النمل: 18] كأنها إشارة إلى تنزيه الأنبياء عن المعصية وإيذاء البريء من غير جرم فقالت: لو حطمكم فإنما يصدر ذلك على سبيل السهو. فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات، كيف لا يستحق الرياسة في الدين والدنيا؟ وإن الكلب المعلم يكون صيده ماهراً ببركة العلم مع أنه نجس في الأصل، فالنفس الطاهرة في الفطرة إذا تلوثت بأوزار المعصية، كيف لا تطهر ببركة العلم بالله وبصفاته؟ وإذا كان السارق عالماً لا تقطع يده لأنه يقول: كان المال وديعة لي، وكذا الشارب يقول: حسبته حلالاً، وكذا الزاني يقول: تزوجتها فإنه لا يحد. وأما الحكايات، (يحكى) أن هارون الرشيد كان بحضرته فقهاء فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيتي مالاً بالليل، ثم أقر الآخذ بذلك في المجلس، فاتفق العلماء على أنه تقطع يده، فقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه أقر بالأخذ، وإنه لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في ذلك ثم قالوا للآخذ: أسرقتها؟ فقال: نعم. فأجمعوا على القطع لأنه أقر بالسرقة. فقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه وإن أقر بالسرقة، لكن بعدما أوجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ، وإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل.
(وعن الشعبي) كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر - فقيه خراسان - من بلخ مكبلاً في الحديد. فقال الحجاج: أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية الرسول؟ فقال: بلى. فقال الحجاج: لتأتيني ببينة واضحة من كتاب الله أو لأقطعنك عضواً عضواً. فقال: آتيك ببينة واضحة من كتاب الله يا حجاج؟ قال: فتعجب من جرأته بقوله يا حجاج فقال له: ولا تأتيني بهذه الآية
{ ندع أبناءنا وأبناءكم } [آل عمران: 61] فقال: آتيك بها واضحة من كتاب الله. قال تعالى: { { ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان } [الأنعام: 84] إلى قوله { وزكريا ويحيى وعيسى } [الأنعام: 85] فمن أبو عيسى فقد ألحق تعالى عيسى بذرية نوح قال: فأطرق ملياً ثم رفع رأسه فقال: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله، حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا. (ويحكى) أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويسفهوا عليه، فقال لهم: لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره، فأشاروا إلى واحد فقال: هذا أعلمكم؟ قالوا: نعم قال: والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم. قال: والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟ قالوا: نعم. قال: وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد ألزمتكم الحجة؟ قالوا: نعم. قال: وكيف قالوا لأنا رضينا به إماماً فكان قوله قولاً لنا، قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة فقراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالعلم. ويحكى أن المنصور دعا أبا حنيفة يوماً فقال الربيع وهو يعاديه: يا أمير المؤمنين، هذا يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره، فقال أبو حنيفة: هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس. فقال: كيف قال إنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم؟ فضحك المنصور وقال: إياك يا ربيع وأبا حنيفة، فلما خرج الربيع قال: سعيت في دمي قال: كنت البادي. ويحكى أنه دخل اللصوص على رجل وأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثاً أن لا يعلم أحداً. فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة، فقال: أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأدخلهم جميعاً في دار واحدة وأخرج واحداً واحداً. فقال للرجل: إن لم يكن لصك فقل: لا، وإن كان فاسكت. فلما سكت قبض على اللص ورد الله تعالى عليه جميع ما سرق منه. ويحكى أنه كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة، فقال يوماً له: إني أريد التزوج من آل فلان وقد خطبتها إليهم فطلبوا مني من المهر فوق طاقتي. قال: استقرض وادخل عليها فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك. فأقرضه أبو حنيفة ذلك القدر ثم قال له بعد الدخول: أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد، وأنك تسافر بأهلك معك. فأظهر الرجل ذلك فاشتد على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه فقال لهم: له ذلك، والطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه فأجابوا إليه، فقال الزوج: إني أريد شيئاً آخر فوق ذلك. فقال له أبو حنيفة: ترضى بهذا وإلا أقرت لرجل بدين فلا يمكن المسافرة بها حتى تقضي ما عليها، فقال الرجل: الله الله، لا يسمعوا بهذا، فرضي بذلك وحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين. وسئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته في نهار رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب. فقال: يسافر بامرأته فيطؤها نهاراً في رمضان. وقال بشر المريسي للشافعي: كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أهل المشرق والمغرب على شيء واحد - وكانت هذه المناظرة عند الرشيد - فقال الشافعي: هل تعرف إجماع الناس على خلاف هذا الجالس؟ فأقر به خوفاً وانقطع. ويحكى أن أعرابياً سأل الحسين بن علي رضي الله عنه حاجة وقال: "سمعت جدك يقول: إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة: إما عربياً شريفاً، أو مولى كريماً، أو حامل القرآن، أو صاحب الوجه الصبيح" فأما العرب فشرفت بجدك، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين" رضي الله عنهما. فقال الحسين رضي الله عنه: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض. فقال الحسين رضي الله عنه: سمعت أبي علياً رضي الله عنه يقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه. وسمعت جدي يقول: المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل، إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي، وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي، وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي. وقد حمل إلى الحسين صرة مختومة من العراق فقال: سل ولا قوة إلا بالله. فقال رضي الله عنه: أي الأعمال أفضل؟ قال الأعرابي: الإيمان بالله. قال: فما نجاة العبد من الهلكة؟ قال: الثقة بالله، قال: فما يزين المرء؟ قال: علم معه حلم. قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: فمال معه كرم. قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: ففقر معه صبر. قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه. فضحك الحسين رضي الله عنه ورمى بالصرة إليه.
وأما الوجوه العقلية فمنها أن الأمور أربعة أقسام: قسم يرضاه العقل دون الشهوة كمكاره الدنيا، وقسم عكس ذلك كالمعاصي، وقسم ترضاه الشهوة والعقل وهو العلم والجنة، وقسم لا ترضاه الشهوة والعقل وهو الجهل والنار. فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة، وكما يعيش يموت وكما يموت يبعث. ومنها أن اللذة إدراك المحبوب، وكلما كان المدرك أكمل وأشرف كانت اللذة أكمل وأتم. ومدرك العقل هو الله تعالى وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والمواليد وجميع أحكامه وأوامره وأي معلوم أشرف من ذلك؟ فلا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذته، ولا ألم ولا نقصان مثل ألم الجهل ونقصانه، ولهذا قال عز من قائل
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم } [العلق: 1 - 5] كأنه قال: كنت في أول حالك علقة هي الغاية في الخساسة، ثم صرت في آخر حالك في غاية الشرف. وأيضاً ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وهذا يدل على أنه إنما يستحق الأكرمية لأنه أعطى العلم، فالعلم أشرف عطية وأعظم موهبة. ومنها أنه تعالى قال { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر: 28] فالعلماء من أهل الخشية، وأهل الخشية أهل الجنة لقوله تعالى { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن } إلى قوله { ذلك لمن خشي ربه } [البينة: 8] فالعلماء من أهل الجنة بل ليس أهل الجنة إلا العلماء وذلك لكلمة إنما المفيدة للحصر ولا جل لام الاختصاص في قوله { لمن خشي } والسبب في أن العلماء هم أهل الخشية، أن من لم يكن عالماً بالشيء استحال أن يكون خائفاً منه. ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف بل لا بد معه من العلم بأمور ثلاثة: أحدها العلم بالقدرة لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعه، وثانيها العلم بكونه عالماً لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته لكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه، وثالثها العلم بكونه حكيماً فإن المسخرة عند السلطان عالم بكون السلطان قادراً على منعه عالماً بقبائح أفعاله لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، قادراً على كل المقدورات، غير راضٍ بالمنكرات والمحرمات، فإذن الخوف من لوازم العلم بالله، وبهذا يعرف نباهة قدر العلم. ومن هنا أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالازدياد منه حيث قال { وقل رب زدني علماً } [طه: 114]. ولم يكتف نبي الله موسى عليه السلام بما علم بل قال للخضر { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً } [الكهف: 66] ولم يفتخر سليمان بالمملكة العظيمة بل افتخر بالعلم { علمنا منطق الطير } [النمل: 16] ولولا شرف العلم لم يكن للهدهد مع ضعفه أن يتكلم بحضرة سليمان بقوله { أحطت بما لم تحط به } [النمل: 22] وهكذا الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول على السلاطين، وما ذاك إلا ببركة العلم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال "تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة" وذلك أن التفكر يوصلك إلى الله، والعبادة توصلك إلى ثواب الله. وأيضاً التفكر عمل القلب والعبادة عمل الجوارح. ومنها أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم، أما التوراة فقال لموسى: عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له. فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة. وأما الزبور فقال سبحانه لداود: قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء، فإن لم تجدوا فيهم تقياً فحادثوا العلماء، فإن لم تجدوا عالماً فحادثوا العقلاء، فإن التقي والعلم والعقل ثلاث مراتب، ما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه، وإنما قدم سبحانه التقى على العلم، لأن التقى لا يوجد بدون العلم كما بينا من أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد، ولهذا السر أيضاً قدم العالم على العاقل لأن العالم لا بد وأن يكون عاقلاً، وأما العاقل فقد لا يكون عالماً، فالعقل كالبذر والعلم كالشجر والتقوى كالثمر. وأما الإنجيل فقد قال عز من قائل في السورة السابعة عشرة منه: ويل لمن سمع العلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار؟ اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضعكم، وإن لم يغنكم لم يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضركم. ولا تقولوا نخاف أن تعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجو أن نعلم فنعمل، إذ العلم شفيع لصاحبه، وحق على الله أن لا يخزيه، وإن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا معشر العلماء، ما ظنكم بربكم؟ فيقولون: ظننا أن ترحمنا وتغفر لنا فيقول: وإني قد فعلت، إني استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم، فادخلوا في صالحي عبادي إلى جنتي برحمتي.
وبالجملة، فكون العلم صفة شرف وكمال، وكون الجهل صفة نقصان، أمر معلوم للعقلاء بالضرورة، ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل تأذى بذلك وإن كان يعلم أنه كاذب، ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك، والعلم أينما وجد كان صاحبه محترماً معظماً حتى إن غير الإنسان من الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان. والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم في العلم، وأن كثيراً ممن كانوا يعاندون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون قتله كانوا إذا وقع بصرهم عليه ألقى الله في قلوبهم الرعب منه فهابوه وانقادوا له.

لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تغنيك عن خبر

وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعداً لإدراك حقائق الأشياء والاشتغال بعبادة الله تعالى، والجاهل كأنه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات، فيطالع الموجودات والمعدوم والواجب والممكن والمحال، ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض، والجوهر إلى البسيط والمركب، ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره، والجزء الذي به يمتاز عن غيره، ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليته وجزئيته، فيصير كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها، وأنه في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام كاملاً ومكملاً، واسطة بين الله وعباده، ولأمر ما لم يجعل الله سبحانه سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والحيز جواباً للملائكة وموجباً لسكوتهم، وإنما جعل تعالى صفة العلم جواباً لهم ثم قال { إني أعلم ما لا تعلمون } [البقرة: 30] وهكذا أظهر فضيلة آدم بالعلم بعد افتخارهم بالتسبيح والتقديس. وإن إبراهيم اشتغل في أول أمره بطلب العلم متنقلاً بفكره من الكوكب إلى القمر، ومن القمر إلى الشمس، إلى أن وصل إلى الدليل الباهر والبرهان الظاهر إلى المقصود وهو الملة الحنيفية. وإن الله تعالى سمى العلم تارة بالحياة { أوَ من كان ميتاً فأحييناه } [الأنعام: 122] وتارة بالروح { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [الشورى: 52] وتارة بالنور { يهدي الله لنوره من يشاء } [النور: 35] وضرب المثل العلم بالماء { أنزل من السماء ماء } [الرعد: 17] فعلم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر، كذلك لا ينبغي طلب كيفية الله كيلا يفضي إلى الكفر، وعلم الفقه كماء القناة يزداد بالاستنباط والحفر، وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافياً ويتكدر بغبار الهواء، وكذلك علم الزهد صافٍ ويتكدر بالطبع، وعلم البدع كماء السيل يهلك الأحياء ويميت الخلق.
وأما الأخبار والآثار الدالة على وعيد من لم يعمل بعلمه أو طلب العلم لغير ذات الله فمنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال:
" " لا تجالسوا العلماء إلا إن دعوكم من خمس إلى خمس: من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد" وقال صلى الله عليه وسلم "الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم" عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنو منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها، فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فتودوا ذاك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم. هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلوني، تركتم المعاصي ولم تتركوها لي، أكنت أهون الناظرين عليكم؟ فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من النعيم" وقيل: أطلب أربعة في أربعة: من الموضع السلامة، ومن الصاحب الكرامة، ومن المال الفراغة، ومن العلم المنفعة، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه، وإذا لم تجد من الصاحب الكرامة فالكلب خير منه، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه، وقيل: لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع، ولا يتم العلم إلا بالعمل، فالدين بلا تقوى على الخطر، والقول بلا فعل كالهذر، والمروءة بلا تواضع كالشجر بلا ثمر، والعلم بلا عمل كالغيم بلا مطر، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لجابر بن عبد الله الأنصاري: قوام الدنيا بأربعة: بعالم يعمل بعلمه، وجاهل لا يستنكف عن تعلمه، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه. فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه، فالويل لهم والثبور سبعين مرة. وقيل: إذا وضعت على سواد عينك جزءاً من الدنيا لا ترى شيئاً، فإذا وضعت على سويداء قلبك كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئاً؟.
البحث الرابع: في حد العلم الأشعري: العلم ما يعلم به. وربما قال: ما يصير الذات به عالماً. القاضي: العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه. القفال: إثبات المعلوم على ما هو به والكل دائر. المعتزلة: هو الاعتقاد المقتضي لسكون النفس. الفلاسفة: صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم، ولا يخفى خروج علم الله تعالى عنهما فإنه لا يطلق هناك النفس، وفيه مفاسد أخر يطول ذكرها ههنا، وعند كثير من المحققين: هو بديهي. وقيل: أصح الحدود، صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض. والحق في هذا المقام هو أن نسبة البصيرة إلى مدركاتها كنسبة البصر إلى مدركاته، فكما أن للبصر نوراً كل ما يقع في ذلك النور فهو مدركه، فكذا للبصيرة نور كل ما يقع فيه فهو مدركها. ولا يدرك حقيقة هذا النور، إلا من له نور
{ ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [النور: 40] وهكذا إدراكات جميع الأنوار حتى نور الأنوار، وكلما ازدادت النفس نورية وشروقاً ازداد انبساطها فيقع فيها المعلومات أكثر، وهكذا يكون الحال في كل مستكمل. أما إذا كان العالم بحيت تكون كمالاته الممكنة له موجودة معه بالفعل، فلا تزداد نوريته، ولا يتجاوز مرتبته في العلم { وما منا إلا له مقام معلوم } [الصافات: 164] ثم إن كان التكمال والنور بحيث لا يمكن أكمل منه ولا أنور، كان جميع الأشياء واقعة في نوره، بل يكون نوره نافذاً في الكل متصرفاً فيها محيطاً بها أزلاً وأبداً { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [سبأ: 3] وههنا أسرار أخر لا يجوز التعبير عنها لعزتها يتفطن لبعضها من وفق لها من أهلها.
البحث الخامس في ألفاظ تقرب من العلم. الأول: الإدراك، وهو الوصول لأن القوة العاقلة تصل إلى حقيقة المعقول. الثاني: وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعقول إلى القوة العاقلة ولهذا لا يوصف به الله تعالى. الثالث: التصور مشتق من الصورة، فكأن حقيقة المعقول حلت في العاقلة حلول الشكل في المادة. الرابع: الحفظ وذلك إذا استحكمت الصورة في العاقلة بحيث لو زالت لتمكنت من استرجاعها. الخامس: التذكر وهو محاولة استرجاع الصورة المحفوظة، وإنه بالحقيقة التفات النفس إلى عالمها. السادس: الذكر وهو وجدان الصورة بعد محاولة استرجاعها، ولا محالة يكون مسبوقاً بالزوال: قال الشاعر:

الله يعلم أني لست أذكره وكيف أذكره إذ لست أنساه

ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حضور المعنى في النفس قال عز من قائل { إنا نحن نزلنا الذكر } [الحجر: 9]. السابع: المعرفة وقد اختلفوا في تفسيرها. فمن قائل إنها إدراك الجزئيات، والعلم إدراك الكليات. ومن قائل إنها التصور والعلم هو التصديق، وجعل العرفان أشرف من العلم لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة، وأما تصور حقيقته فأمر وراء الطاقة البشرية، وقال بعضهم: من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه، ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي كان قد أدركه أولاً، فهذا هو المعرفة. والنفس قبل البدن كانت معترفة بالربوبية إلا أنها في ظلمة العلاقة البدنية قد نسيت مولاها، فإذا تخلصت من قيد العلاقة عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة. الثامن: الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب، والإفهام هو إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع. التاسع: الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه قال تعالى { لا يكادون يفقهون حديثاً } [النساء: 78] أي لا يقفون على المقصود الأصلي من التكاليف. العاشر: العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها ونفعها وضرها حتى يصير مانعاً من الفعل مرة، ومن الترك أخرى، فيجري ذلك مجرى عقال الناقة. ومن هنا قيل: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين، والعاقل من عقل عن الله أمره ونهيه. الحادي عشر: الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيلة، وهي ترتيب المقدمات فلا يصح إطلاقها عليه تعالى. الثاني عشر: الحكمة وهي اسم لكل علم حسن وعمل صالح، وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري، وفي العمل أكثر استعمالاً منه في العلم، وقيل: هي الاقتداء بالخالق سبحانه بقدر القوة البشرية، وذلك أن يجتهد أن ينزه علمه عن الجهل، وعدله عن الجور، وجوده عن البخل وحلمه عن السفه. الثالث عشر: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. فعلم اليقين ما كان من طريق النظر والاستدلال، وعين اليقين ما كان من طريق الكشوف والنوال، وحق اليقين ما كان متحقق الانفصال عن لوث الصلصال بوروده رائد الوصال. الرابع عشر: الذهن وهو قوة النفس على اكتساب الحدود والآراء. الخامس عشر: الفكر وهو انتقال النفس من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة. وقيل: إنه يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلم من عنده. السادس عشر: الحدس وهو قوة للنفس بها يهتدي بسرعة إلى الحد الأوسط في كل قياس. السابع عشر: الذكاء وهو شدة هذا الحدس وبلوغه الغاية القصوى، من ذكت النار اشتعلت. الثامن عشر: الفطنة وهي التنبه لشيء قصد تعريضه كالأحاجي والرموز. التاسع عشر: الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل حق أو حظ. العشرون: الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال: إنه الحكم بأمور جزئية غير محسوسة لأشخاص جزئية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة الذئب. الحادي والعشرون: الظن وهو الاعتقاد الراجح فإن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال العالم، وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم { إن بعض الظن إثم } [الحجرات: 12]. الثاني والعشرون: الخيال وهو عبارة عن الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته، وما كان من ذلك في النوم قد يخص باسم الطيف. الثالث والعشرون: البديهة وهي المعرفة الحاصلة للنفس ابتداء لا بتوسط الفكر مثل: الكل أعظم من الجزء، وقد يقال لها الأوليات، الرابع والعشرون: الروية وهي ما كان من المعارف بعد فكر كثير. الخامس والعشرون: الكياسة وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" السادس والعشرون: الخبر وهو معرفة تحصل بطريق التجربة وجدت الناس اخبر تقله. السابع والعشرون: الرأي وهو إجالة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب، وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي، والرأي للفكرة كالآلة للصانع، ولهذا قيل: إياك والرأي الفطير. الثامن والعشرون: الفراسة وهي اختلاس المعارف من فرس السبع الشاة. فضرب منها يحصل للإنسان من باطنه، ولا يعرف له سبب الإصغاء جوهر الروح وهو شبه الإلهام، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "إن في أمتي لمحدثين وإن عمر منهم" وقد يسمى النفث في الروع، وضرب يحصل بالاستدلال من الأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة. وقيل: { { أفمن كان على بينة من ربه } [هود: 17] إشارة إلى الأول { ويتلوه شاهد منه } [هود: 17] إلى الثاني والله أعلم.
التأويل: عن النبي صلى الله عليه وسلم
"إن الله خلق آدم فتجلى فيه" فبالتجلي علمه التخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته وهذا هو سر الخلافة بالحقيقة، لأن المرأة تكون خليفة المتجلي فيها { أنبئوني بأسماء هؤلاء } أي بأسماء هؤلاء المخلوقات دون أسماء الله وصفاته { إن كنتم صادقين } في دعوى الفضيلة، فإن الفضيلة ليست بمجرد الطاعة، فإن ذرات الموجودات مسبحات بحمدي، وإنما الأفضلية بالعلم لأن الطاعة من صفات الخلق، والعلم من صفات الخالق، والفضل لمن له صفة الحق والخلق جميعاً فيخلف عن الحق بصفاته وعن الخلق بصفاتهم. وإنما قال { أنبئهم } ولم يقل علمهم كقوله تعالى { وعلم آدم } لأن الملائكة ليس لهم الترقي في الدرجات والملكوتيات، لهم شهادة كالجسمانيات لنا، ولا يتجاوزون ما فوق سدرة المنتهى كما قال جبريل: لو دنوت أنملة لاحترقت. والجسمانيات مرتبة دون مرتبتهم فيمكن إنباؤهم بها لأن الجسمانيات لهم كالحيوانيات بالنسبة إلينا. وأما الالهيات فليس لهم استعداد الترقي إليها، فلهذا لم يقل أنبئهم بأسمائهم كلها كما قال { وعلم آدم الأسماء كلها } لئلا يكون تكليفاً بما لا يطاق، وإنما كان آدم مخصوصاً بعلم الأسماء واحتاجت الملائكة إليه في إنباء أسمائهم وأسماء غيرهم، لأنه كان خلاصة العالم، ولهذا خلق شخصه بعد تمام العالم بما فيه كخلق الثمرة بعد تمام الشجرة. فكما أن الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلها حتى تظهر على أعلى الشجرة، كذلك آدم عبر على أجزاء شجرة الوجود وكان في كل جزء من أجزائها له منفعة ومضرة ومصلحة ومفسدة، فحصل له من كل من ذلك اسم يلائمه حتى إن أسماء الله تعالى جاءت على وفقه فضلاً عن أسماء غيره، وذلك أنه لما كان مخلوقاً كان الله خالقاً، ولما كان مرزوقاً كان الله رازقاً، ولما كان عبداً كان الله معبوداً، ولما كان معيوباً كان ستاراً، ولما كان مذنباً كان غفاراً، ولما كان تائباً كان تواباً، ولما كان منتفعاً ومتضرراً كان نافعاً وضاراً، ولما كان ظالماً كان عادلاً، ولما كان عليه السلام مظلوماً كان منتقماً وعلى هذا فقس.