خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
٤٩
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
٥٠
وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ
٥١
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٢
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
٥٣
-البقرة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { سوء العذاب } و { سوء الحساب } بغير همز حيث وقعتا مفتوحتين: الأصبهاني عن ورش. { وعدنا } حيث كان أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد. { موسى } بالإمالة المفرطة كل القرآن: حمزة وعلي وخلف وعن أبي عمرو وجهان: إن جعلته "فعلى" فبالإمالة بين الفتح والكسر، وإن جعلته على "مفعل" فبالفتح لا غير { ثم اتخذتم } وبابه بالإظهار: ابن كثير وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي. { والفرقان لعلكم } مدغماً: عباس، وكذلك يدغم إذا كان قبل النون حرف من حروف المد واللين وهي الواو والمضموم ما قبلها مثل { وتكون لكما الكبرياء } والياء المكسور ما قبلها مثل { ميثاق النبيين لما } والألف المفتوح ما قبلها مثل { وما كان لمؤمن } وما أشبه ذلك.
الوقوف: { نساءكم } (ط) { عظيم } (ه) { تنظرون } (ه) { ظالمون } (ه) { تشكرون } (ه) { تهتدون } (ه)
التفسير: إنه سبحانه لما قدّم ذكر النعمة على بني إسرائيل إجمالاً أخذ في تفصيلها واحدة فواحدة ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة كأنه قال: اذكروا نعمتي، واذكروا إذ نجيناكم، وإذ فرقنا، وإذ كان كذا وكذا. "وإذ" في جميع هذه القصص بمعنى مجرد الوقت مفعول به لـ "اذكروا" وأصل الإنجاء والتنجية التخليص، ومنه النجوة للمكان العالي لأن من صار إليه نجا أي تخلص من أن يعلوه سيل، أو لأن الموضع تخلص مما انحط عنه. وأصل آل أهل بدليل أهيل وأهال في تحقيره وتكسيره على الأعرف، فأبدلت إلى "أءل" على خلاف القياس، ثم إلى "آل" وجوباً فالألف فيه بدل عن همزة بدل عن هاء. ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر. يقال "آل النبي"وآل الملك" ولا يقال: آل الحائك. وإنما يقال أهله، وهكذا لا يقال: آل البلد وآل العلم، وإنما يقال أهلهما. وعند الكسائي، أصله أول بدليل تصغيره على أويل، كأنهم يؤلون إلى أصل قلبت الواو ألفاً على القياس. و { فرعون } علم لمن ملك العمالقة أولاد عمليق ابن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وخاقان للترك، وتبع لليمن. واختلف في اسمه. فابن جريج: أن اسمه مصعب بن ريان. وابن إسحق: أنه الوليد بن مصعب. ولم يكن من الفراعنة أغلظ وأقسى قلباً منه. وعن وهب بن منبه: أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس وكان من القبط. وقيل: إن فرعون يوسف هو فرعون موسى. وضعف إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين دخول موسى أكثر من أربعمائة سنة. وقال محمد بن إسحق: هو غير فرعون يوسف وإن اسم فرعون يوسف ا لريان بن الوليد. والمراد بآل فرعون أتباعه وأعوانه الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل بأمره. ولعتوّ الفراعنة اشتقوا "تفرعن" فلان إذا عتا وتجبر. و { يسومونكم } من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً. قال عمرو بن كلثوم:

إذا ما الملك سام الناس خســفـاً أبينـا أن نقــر الخســـف فينـــا

وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه. والسوء مصدر السيء يقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفجور يراد قبحهما. ومعنى سوء العذاب والعذاب كله سيئ أشده وأفظعه، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره، أو المراد عذاب من غير استحقاق، لأن العذاب بالاستحقاق حسن واختلف في سوء العذاب فابن إسحق: إنه جعلهم خدماً وخولاً وصنفهم في أعماله، فمن بان وحارث وزارع ومن لم يكن ذا عمل وضع عليه جزية يؤديها. السدي: كان يجعلهم في الأعمال القذرة ككنس الكنيف ونحوه، ولا ريب أن كون الإنسان تحت تصرف الغير كيف شاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة القذرة من غير أن يأخذه بهم رأفة وإشفاق، من أشدّ العذاب، حتى إن من هذه حاله ربما يتمنى الموت. سئل حكيم: أي شيء أصعب من الموت؟ فقال: ما يتمنى فيه الموت. فبين تعالى عظيم نعمته عليهم بأن نجاهم من ذلك، ثم أتبع نعمة أخرى فقال { يذبحون أبناءكم } ومعناه هم يقتلون الذكور من أولادكم دون الإناث. والذي دعاهم إلى ذلك أمور منها: أن ذبح الأبناء يقتضي إفناء الرجال وانقطاع النسل بالآخرة. ومنها أن هلاك الرجال يقتضي فساد معيشة النساء حتى يتمنين الموت من النكد والضر. ومنها أن قتل الولد عقيب الحمل والكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب. ومنها أن الأبناء أحب وأرغب من البنات ولهذا قيل:

ســـروران مــالهمـــا ثـــالـــث حيـــاة البنيــن ومــوت البنـــات

لقول النبي صلى الله عليه وسلم "دفن البنات من المكرمات" ومنها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات للأعداء، وذلك نهاية الذل والهوان. قال بعضهم: المراد بالأبناء الرجال ليطابق النساء، إذ النساء اسم للبالغات وهو جمع المرأة من غير لفظها. قالوا: وإنما كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره. والأكثرون على أن المراد بالأبناء الأطفال لظاهر اللفظ، ولأنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم، ولأنهم كانوا محتاجين إليهم في الأعمال الشاقة، ولأنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى في اليم معنى. وإنما لم يقل البنات في مقابلة الأبناء لأنهن لما لم يقتلن كن بصدد أن يبلغن، فحسن إطلاق اسم النساء عليهن مثل { إني أراني أعصر خمراً } [يوسف: 36] عن ابن عباس: أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على أعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، فلما رأوا أن كبارهم يموتون، والصغار يذبحون، خافوا فناءهم وأن لا يجدوا من يباشر الأعمال الشاقة، فصاروا يقتلون عاماً دون عام. وعن السدي: أن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى استولت على بيوت مصر وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا: يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده. وقيل: إن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة، فلهذا كان يقتل أبناءهم من تلك السنة. قيل: والأقرب هو الأول، لأن المستفاد من علم النجوم والتعبير لا يكون أمراً مفصلاً، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزاً، بل يكون أمراً جميلاً، والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على هذا الأمر العظيم بسببه (قلت) كون فرعون عاقلاً ممنوع، فإن من شك في أجلى البديهيات وهو أنه ممكن الوجود، فعدّه من العقلاء لا يكون من العقل. ثم قال ذلك القائل: لعل فرعون كان عارفاً بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافراً كفر الجحود والعناد، أو يقال إنه كان شاكاً متحيراً في دينه وكان يجوّز صدق إبراهيم عليه السلام، وأقدم على ذلك الفعل احتياطاً. (قلت): إذا أخبر الله تعالى عنه بأنه قال { أنا ربكم الأعلى } [النازعات: 24] و { ما علمت لكم من إله غيري } [القصص: 38] فلا ضرورة بنا إلى تجويز كونه عارفاً بالله وبصدق الأنبياء وجعل كفره كفر جحود { ومن أصدق من الله قيلا } [النساء: 122] { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [النور: 40] فإن قلت: لم ذكر { يذبحون } ههنا بلا "واو"، وفي سورة إبراهيم بواو؟ فالوجه فيه أنه إذا جعل { يسومونكم سوء العذاب } مفسراً بقوله { يذبحون } فلا حاجة إلى الواو، وإذا جعل { يسومونكم } مفسراً بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح، وجعل الذبح شيئاً آخر احتيج إلى الواو. وإنما جاء ههنا { يذبحون } وفي الأعراف { يقتلون } بغير واو لأنهما من كلام الله فلم يرد تعداد المحن عليهم. والذي في إبراهيم من كلام موسى فعدّ المحن عليهم وكان مأموراً بذلك في قوله { وذكرهم بأيام الله } [إبراهيم: 5] وقال بعضهم: إن معنى يستحيون يفتشون حياء المرأة أي فرجها، هل بها حمل أم لا؟ وفيه تعسف. والبلاء المحنة إن أشير بذلك إلى صنيع فرعون، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء، والحمل على النعمة أولى لأنها هي التي يحسن إضافتها إلى الرب تعالى، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم حيث عاينوا إهلاك من حاول إهلاكهم وإذلال من بالغ في إذلالهم. وههنا نكتة، وهي أنهم كانوا في نهاية الذل، وخصمهم في غاية الاستيلاء والغلبة، إلا أنهم كانوا محقين وخصومهم مبطلين، فانقلب المحق غالباً والمبطل مغلوباً، فكأنه قيل: لا تغتروا بفقر محمد صلى الله عليه وسلم وقلة أنصاره في الحال، فإنه سينقلب العز إلى جانبه صلى الله عليه وسلم، والذل إلى جانب أعدائه. وفيه تنبيه على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا وينسى أمر الآخرة. قال أهل الإشارة: النفس الأمارة وصفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة تسوم الروح الشريف ذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في الأعمال القذرة الحيوانية ولا ينجيه من ذلك إلا الله تعالى.
قوله { وإذ فرقنا } نعمة أخرى في نعمة أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه سالك لكم على عدد الأسباط وكانوا اثني عشر. ومعنى بكم أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما، أو يراد فرقناه بسبب إنجائكم، أو يكون حالاً أي ملتبساً بكم. روي أنه تعالى لما أراد غرق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله تعالى أنه لا يؤمن أحد منهم، أمر موسى بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط، إما ليخرجوا خلفهم لأجل المال، وإما لتبقى أموالهم في أيديهم. ثم نزل جبريل وقال: أخرج ليلاً كما قال تعالى
{ وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } [الشعراء: 52] وكانوا ستمائة ألف، وكل سبط خمسون ألفاً. فلما خرجوا وبلغ الخبر فرعون قال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال الراوي: فوالله ما صاح الليلة ديك. فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط. قال قتادة: فاجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف، كل واحدٍ منهم على فرس حصان فتبعوهم نهاراً وهو قوله { فأَتبعوهم مشرقين } [الشعراء: 60] أي بعد طلوع الشمس. فلما سار بهم موسى إلى البحر قال له يوشع: أين أمرك ربك؟ فقال له موسى: إلى أمامك. وأشار إلى البحر - فأقحم يوشع فرسه في البحر وكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر، فسبح الفرس وهو عليه، ثم رجع وقال له يا موسى: أين أمرك ربك؟ فقال: البحر. فقال: والله ما كذبت وما كذب. ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر، فانشق البحر اثني عشر طريقاً. فقال له: ادخل، وكان فيه وحل فهب الصبا نحو البحر حتى صار طريقاً يبساً، فاتخذ كل سبط منهم طريقاً ودخلوا فيه، فقالوا لنبيهم: أين أصحابنا لا نراهم؟ فقال موسى: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم. فقال: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. فأوحى إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على حيطان المياه فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم. ثم اتبعهم فرعون فلما بلغ شاطئ البحر رأى إبليس واقفاً فنهاه عن الدخول فهمّ بأن لا يدخل البحر، فجاء جبريل على مهرة فتقدم وهو كان على فحل، فتبعه فرس فرعون ودخل البحر، فصاح ميكائيل بهم ألحقوا آخركم بأوّلكم، فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله تعالى الماء حتى نزل عليهم فذلك قوله تعالى { وأغرقنا آل فرعون } قيل: ذلك اليوم كان يوم عاشوراء، فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكراً لله تعالى، ومعنى قوله { وأنتم تنظرون } أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه. وقيل: إن قوم موسى سألوا أن يريهم الله تعالى حالهم، فسأل موسى ربه فلفظهم البحر ألف ألف ومائة ألف نفس فنظروا إليهم طافين. وقيل: المراد وأنتم بالقرب منهم. قال الفراء: وهو مثل قولك "لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك" تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم. قال أهل الإشارة: البحر هو الدنيا، وماؤه شهواتها ولذاتها، وموسى القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون النفس الأمارة، وقومه صفات النفس، والعصا عصا الذكر، فينفلق بحر الدنيا بتفليق لا إله إلا الله، وينشبك ماء شهواته يميناً وشمالاً، ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابساً من ماء الشهوات، فيخوض موسى القلب وصفاته فيعبرونه وتنجيهم عناية الله إلى ساحل { وأَنَّ إلى ربك المنتهى } [النجم: 42] ويغرق فرعون النفس وقومه والله تعالى أعلم. ولما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله موسى.
ونسبه: موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليه السلام. أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وإنما قيل أربعين ليلة لأن الشهور غررها بالليالي. وقال أهل التحقيق: لأن الليلة وقت العبادة والخلوة فخصت بالذكر لشرفها. ولعدد الأربعين خاصية لن ينكرها أهل الذوق، ولهذا جاء في الحديث
"من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" والجنين يتقلب في الأطوار في الأربعينات، قال أبو العالية: وبلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور. ولا بد من تقدير مضاف أي انقضاء أربعين كقولك "اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان" أي تمام الأربعين. ومن قرأ { واعدنا } من المواعدة فمعناه أن الله تعالى وعده الوحي ووعد هو المجيء للميقات إلى الطور. وذكر الأربعين ههنا مجمل وتفصيله في الأعراف كقوله: { ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } [البقرة: 196] فصل أولاً ثم أجمل. ومعنى "ثم" في قوله { ثم اتخذتم } استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له، لأنه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين تنبيهاً للحاضرين وتعريفاً للغائبين وإظهاراً لدرجة موسى وسائر بني إسرائيل، وأتوا عقيب ذلك بأشنع أنواع الجهل والكفر، كان ذلك في محل التبعيد والتعجيب كما تقول: إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء. والاتخاذ افتعال من الأخذ إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء، ثم لما كثر استعماله على لفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه "فعل" "يفعل" وقالوا: يخذ يتخذ، وقد أجرى اتخذ مجرى الأفعال القلبية في الدخول على المبتدأ والخبر نحو "جعل" و "صير" والتقدير: اتخذتم العجل إلهاً إلا أنه حذف الثاني للعلم به ولذكره في مواضع أخر منها في طه { فقالوا هذا الهكم وإله موسى } [طه: 88] وقوله من بعده من بعد مضيه إلى الطور. قال أهل السير: لما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي التي استعاروها من القبط، قال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها، فجمعوا ناراً وأحرقوها. وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل حين تقدّم في البحر، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة. ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب وصوّر منه عجلاً وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت كأنه الخوار { فقالوا هذا الهكم وإله موسى } [طه: 88] فاتخذه إلهاً لأنفسهم، ولهذا وصفهم الله تعالى بالظلم في قوله { وأنتم ظالمون } كما قال { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13] وذلك أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك وضع أخس الأشياء مكان أشرف الموجودات. والواو في { وأنتم } إما للحال وإما للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الظلم، وقال أهل التحقيق: إن لكل قوم عجلاً يعبدونه. قال صلى الله عليه وسلم "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة" وقال "ما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى" وفيه تقريع لليهود الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه كأنه قال: هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد، فكيف بهؤلاء الأخلاف؟ وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى من الخلاف والمشاقة { { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } [الأحقاف: 35] وتحذير للعقلاء من الجهل والتقليد إلى هذه الغاية. ما أفظع شأن الجهلة المقلدة، رضوا بأن يكون العجل إلهاً، وما رضوا بأن يكون البشر نبياً وقد تعجّل بعضهم لتصحيح واقعة عبدة العجل حيث استبعد وقوعها منهم مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة التي تكاد تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق النبي صلى الله عليه وسلم. إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى صلى الله عليه وسلم إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية فقال للقوم: أنا أتخذ لكم طلسماً مثل طلسمه، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب، وأطمعهم في صيرورتهم مثل موسى في إتيان الخوارق، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في الأجسام فوقعوا في تلك الشبهة الركيكة، وههنا يظهر التفاوت بين أ مة موسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم بعد مشاهدة الآيات العظام القريبة من الأفهام عبدوا الأصنام بل الأنعام، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن معجزتهم القرآن الذي لا يعرف إعجازه إلا بالنظر الدقيق والبحث العميق لم يخالفوا نبيهم طرفة عين { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [الأحزاب: 23] { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [النور: 37] لا يزيغون عن سواء السبيل ولا يميلون إلى معتقدات أهل الأباطيل { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } [الفتح: 29].
قوله: { ثم عفونا عنكم } أي حين تبتم بأن قتلتم أنفسكم { من بعد ذلك } الأمر العظيم الذي ارتكبتموه من اتخاذ العجل { لعلكم تشكرون } نعمة العفو. ومعنى الترجي في كلام الله تعالى قد مر في قوله { لعلكم تتقون } الكتاب والفرقان يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل يعني التوراة نحو: رأيت الغيث والليث، يريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة. أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان العصا واليد وغيرهما من الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام. وقيل: الفرقان انفراق البحر، ولا يلزم التكرار لأنه لم يبين هناك أن ذلك لأجل موسى وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص. وقيل: النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى
{ يوم الفرقان } } [الأنفال: 41] يعني يوم بدر. وقيل: آتينا موسى التوراة ومحمداً الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وفيه تعسف.