خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٦٧
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ
٦٨
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ
٦٩
قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
٧٠
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
٧١
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٧٢
فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٧٣
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٧٤
-البقرة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { يأمركم } بالاختلاس: أبو عمرو وكذلك كل فعل مستقبل مهموز من ذوات الراء. { هزؤا } ساكنة الزاء مهموزة، حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل. وقرأ حمزة مبدلة الواو من الهمزة في الوقف لمكان الخط، وقرأ حفض غير الخراز مثقلاً غير مهموز، الباقون: مثقلاً مهموزاً { جئت } وبابه بغير همزة: أبو عمرو ويزيد والأعشى وحمزة في الوقت { فأدارأتم } بغير همزة: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف، { عما يعملون } بالياء التحتانية: ابن كثير.
الوقوف: { بقرة } (ط) { هزواً } (ط) { الجاهلين } (ه) نصف الجزء { ما هي } (ط) { ولا بكر } (ط) لأن التقدير هي عوان { بين ذلك } (ط) على تقدير قد تبين لكم { فافعلوا ما تؤمرون } (ه) { ما لونها } (ط) { صفراء } (لا) إلى آخر الآية لأن الجملة صفة بعد صفة { الناظرين } (ه) { ما هي } (لا) لأن التقدير فإن البقر أو لأن البقر إيلاء لعذر تكرار السؤال { علينا } (ط) { لمهتدون } (ه) { الحرث } (ج) لأن قوله { مسلمة } صفة بقرة أو خبر محذوف أي هي مسلمة { لا شية فيها } (ط) { جئت بالحق } (ط) لأن التقدير فطلبوها فوجدوها { فذبحوها } (ط) { يفعلون } (ه) { فادارأتم فيها } (ط) { يكتمون } (ه) ج للآية والفاء بعدها { ببعضها } (ط) لأن التقدير فضربوه فحيي فقيل لهم { كذلك يحيي الله الموتى } { تعقلون } (ه) { قسوة } (ط) { الأنهار } (ط) { الماء } (ط) { خشية الله } (ط) لتفصيل دلائل القدرة { تعملون } (ه).
التفسير: عن ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام، فاجتهد موسى في تعرف القاتل. فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله فأوحى الله إليه إن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة. فعجبوا من ذلك فشددوا على أنفسهم بالاستفهام حالاً بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعين لم يجدوها بذلك النعت إلا عند يتيم. وذلك أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، وكان براً بوالديه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة فذبحوها، وأمر موسى عليه السلام أن يأخذوا عضواً منها فيضربوا به القتيل فصار المقتول حياً وسمى لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قوداً. واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند مجوّز تكليف ما لا يطاق، وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فمختلف فيه، فالمجوزون استدلوا بالآية قالوا: أمروا بذبح بقرة معينة بدليل تعيينها بسؤالهم آخراً، وبدليل أنه لم يؤمر بمتجدد بل المأمور به في الثانية هو المأمور به في الأولى بالاتفاق، وبدليل المطابقة لما ذبح. والمانعون قالوا: معناه اذبحوا أية بقرة شئتم بدليل تنكير بقرة، وهو ظاهر في أن المراد بقرة غير معينة، وبدليل أن ابن عباس قال: لو ذبحوا بقرة ما لأجزأهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، وبدليل التعنيف في قوله { وما كادوا يفعلون } ولو كانت معينة لما استحقوا التعنيف على السؤال. وأجيب بأن ترك الظاهر يجوز لموجب راجح، وما نقل عن ابن عباس خبر الواحد، والتعنيف يجوز أن يكون لتفريطهم في الامتثال بعد حصول البيان التام. ويتفرع على قول المانعين أن التكليف يكون متغايراً فكلفوا في الأول أيّ بقرة كانت، وثانياً أن تكون لا فارضاً ولا بكراً بل عواناً، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلولاً تثير الأرض ولا تسقي الحرث. ثم اختلف القائلون بهذا المذهب. منهم من قال في التكليف الواقع أخيراً يجب أن يكون مستوفياً كل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارضاً ولا بكراً وصفراء فاقعاً لونها. ومنهم من يقول: إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفاً بعد تكليف، وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند ترك الامتثال. وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر وأنه تكليف بعد تكليف، دل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق، فإن المربي لولده قد يأمره بالسهل اختباراً، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب. ويدل أيضاً على جواز النسخ قبل الفعل وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام، ويدل أيضاً على أن الزيادة في الخطاب نسخ له.
{ أتتخذنا هزواً } استفهام بطريقة الإنكار، معناه لا تجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوءاً بنا، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء. كان القوم ظنوا أنه يداعبهم لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة، وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حياً، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء. ويحتمل أنه وإن كان قد تبين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يحيا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة. واختلف العلماء ههنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي، وذلك أيضاً كفر. وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة، أو المراد ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء { من الجاهلين } إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك كما يقول الرجل عند مثل ذلك: أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى، أو أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لما في الاستهزاء من نقصان الدين والعقاب الشديد. وقيل: نفس الهزء قد يسمى جهلاً، فإن الجهل ضد الحلم، كما أنه ضد العلم. ثم إن قيل: إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها غير مبينة التعيين حسن موقع سؤالهم، لأن المأمور به لما كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام. أما على قول القائل إنها للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار فذكروا وجوهاً أحدها: أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من سائر العصي بتلك الخواص، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى، أو لعل القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال: المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى، أو الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة. فإن قيل: السؤال بما هو لطلب الحقيقة والحقيقة لا تعلم إلا بأجزائها ومقوماتها لا بصفاتها الخارجة، فالجواب بالأوصاف الخارجة لا يكون مطابقاً للسؤال. قلنا: من البين أن مقصودهم من قولهم "ما البقرة" ليس طلب ماهيتها النوعية فإن ذلك كالمفروغ منه عندهم، وإنما وقع السؤال عن المشخصات. فالظاهر يقتضي أن يقال: أي بقرة هي؟ فإن مطلب "أي" السؤال عن الصفات الذاتية والخواص. فسبب العدول إما إقامة الحقيقة الشخصية مقام الحقيقة النوعية فإن الشخص من حيث هو شخص حقيقة أيضاً قد يطلب تصورها، وإما لأنهم تصوروا أن البقرة التي لها هذه الخاصية العجيبة حقيقتها مغايرة لحقيقة سائر البقرات وإن كانت صورتها موافقة لصورتها، وإما لأن السؤال عن الجزئيات كزيد وعمرو إنما يكون بـ "من" إذا كان طلباً للعوارض، وههنا الجزئي غير ذي عقل فناسب أن يقام ما مقام "من".
الفارض المسنة، وقد فرضت فروضاً فهي فارض كطالق كأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها. والبكر الفتية، وكان الأظهر أنها التي لم تلد كما في الإنسان. والعوان النصف قال:

نواعم بين أبكار وعون.

وقد غونت وقال:

فــإن أتــوك وقـــالــوا إنهـــا نصـــف فــإن أطيــب نصفيهــا الــــذي ذهبـــا

وقد يستدل من هذا على جواز الاجتهاد واستعمال غلبة الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا بطريق الاجتهاد. وإنما جاز دخول "بين" على لفظة "ذلك" مع أنه لا يدخل إلا على متعدد، لأنها في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. وإنما أشير بذلك إلى مؤنثين وهو للإشارة إلى واحد مذكر على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار في الكلام { ما تؤمرون } مثل: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به. بمعنى ما تؤمرون به، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير، ولما بين لهم كمال حالها في السن شرعوا في تعرف حال اللون. والفقوع أشد ما يكون من الصفرة. يقال في التوكيد أصفر فاقع مثل أسود حالك، وأحمر قانئ، وارتفع اللون على أنه فاعل سببي لفاقع. والفرق بين قولك "صفراء فاقعة" و "صفراء فاقع لونها" أن في الثاني تأكيداً ليس في الأول، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل: شديد الصفرة صفرتها مثل جد جده، وجنونه مجنون. وعن وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. والسرور حالة نفسانية تعرض عند اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع. وعن علي عليه السلام: من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله { سر الناظرين } وعن الحسن البصري: صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد، ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها يعلوه صفرة وبه فسر قوله تعالى { جمالات صفر } [المرسلات: 33] { إن البقر تشابه علينا } لأن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير { وإنا إن شاء الله لمهتدون } عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً" وفيه دليل على أن الاستثناء مندوب في كل عمل صالح يراد تحصيله، ففيه استعانة بالله وتفويض للأمر إليه، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن. والمعنى إنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عداها، أو إنا إن شاء الله على هدى في استقصاء السؤال أي نرجو أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث، أو إنا إن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي لها، أو إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل { لا ذلول } صفة لبقرة مثل لا فارض أي بقرة غير ذلول لم تذلل للكراب وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحرث. "لا" الأولى للنفي والثانية مزيدة للتوكيد، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. والذل بالكسر اللين ضد الصعوبة، ودابة ذلول بينة الذل "فعول" بمعنى "فاعل"، ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. تقول: رجل صبور وامرأة صبور { مسلمة } سلمها الله تعالى من العيوب مطلقاً، أو معفاة من العلم وحشية مرسلة عن الحبس، أو مخلسة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان. وعلى هذا يكون { لا شية فيها } كالبيان. والشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره أي لا لون فيها يخالف سائر لونها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر "وشاة" إذا خلط بلونه لوناً آخر، أصلها وشية حذف فاؤها كما هو "عدة" و "زنة" { الآن } اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غير متمكن وقع معرفة، وليس الألف واللام فيه للتعريف لأنه ليس له ما يشركه وهو يائي { جئت بالحق } أي بحقيقة وصف البقرة أو ما بقي إشكال في أمرها فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف { فذبحوها } والذبح هو قطع أعلى العنق وهو المستحب في الغنم والبقر. والنحر هو قطع اللبة أسفل العنق وهو المستحب في الإبل. والمرعي في الحالتين قطع الحلقوم والمرئ لكن عنق الإبل طويل، فإذا قطع أعلاه تباطأ الزهوق. ولا يكره الذبح في الإبل والنحر في البقر والغنم وإن كان خلاف المستحب { وما كادوا يفعلون } استبطاء لهم، وأنهم لكثرة استكشافهم ما كاد ينقطع خيط أشباههم. وقيل: وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل. وقد يستدل بهذا على أن الأمر للوجوب بل للفور وإلا لما ترتب هذا الذم على تثاقلهم { وإذ قتلتم نفساً } خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم { فادارأتم فيها } فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفعه ويزحمه، أو ينفي كل واحد منكم القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره أو يدفع بعضكم بعضاً عن البراءة ويتهمه. وأصله تدارأتم أدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل، ويحتمل أن يرجع الضمير في "فيها" إلى القتلة المعلومة من قتلتم { والله مخرج } مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل. وقد حكي ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ كما حكي الحاضر في قوله { وكلبهم باسط ذراعيه } [الكهف: 18] فلهذا صح عمل اسم الفاعل. وهذه الجملة معترضة، وفيها دليل على جواز عموم النص الوارد على السبب الخاص، لأن هذا يتناول كل المكتومات. وفيها دليل على أن الله لا يحب الفساد، وأنه سيجعل إلى زواله سبيلاً، وأن ما يسّره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فالله سيظهره، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم "إن عبداً لو أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس " وكذلك المعصية والضمير في { اضربوه } عائد إلى النفس، والتذكير على تأويل الشخص أو الإنسان، ويحتمل أن يعود إلى القتيل بدلالة { قتلتم } أو { ما كنتم تكتمون } واختلف في البعض من البقرة فقيل لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل: عجبها، وقيل: العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن، وقيل: الأذن، وقيل: البضعة من بين الكتفين، والظاهر أنهم كانوا مخيرين بين أيّ بعض أرادوا، وههنا محذوف بدلالة الفاء الفصيحة والمعنى فضربوه فحيي فقلنا كذلك يحيي الله الموتى. روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال: قتلني فلان وفلان - وهما ابنا عمه - ثم سقط ميتاً فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك، ويؤيده قوله نبينا صلى الله عليه وسلم "ليس للقاتل من الميراث شيء" والسر فيه أنه استعجل الميراث فناسب أن يعارض بنقيض مقصوده وهو قول الشافعي. ولم يفرق بين أن يكون القتل مستحقاً كالعادل إذا قتل الباغي، أو غير مستحق عمداً كان أو خطأ. وعند أبي حنيفة لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه. وقال مالك: لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله. ومحل { كذلك } نصب على المصدر أي يحيي الله الموتى مثل ذلك الإحياء. وهذا الكلام إما مع الذين حضروا حياة القتيل لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا بذلك من طريق العيان والمشاهدة، وشتان بين عين اليقين وعلم اليقين. وإما أن يكون مع منكري البعث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير "فقلنا" بعد تقدير "فضربوه فحيي" { ويريكم آياته } دلائله على أنه قادر على كل شيء. فدلالة هذه القصة على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإعدام آية، ودلالتها على صدق موسى عليه السلام آية، ودلالتها على براءة ساحة من سوى القاتل آية، ودلالتها على حشر الأموات آية، فهي وإن كانت واحدة إلا أنها في الحقيقة آيات عدة. ويمكن أن يراد بالآيات غير هذه أي مثل هذه الإراءة يريكم سائر الإراءات، كما أن مثل هذا الإحياء يحيي سائر الأموات. وفي قوله { كذلك } دون أن يقال كهذا تعظيم للمشار إليه بتبعيده كما قلنا في { ذلك الكتاب } { لعلكم تعقلون } تعملون على قضية عقولكم، فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها إذ لا أثر للمخصصات في ذلك. فإن قيل: ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أنه قادر على إحيائه ابتداء؟ قلنا: الفائدة فيه كون الحجة آكد وعن الحيلة أبعد، فقد كان يجوز لملحد أن يتوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه، أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب، ولما في ذبح البقرة من القربان وأداء التكليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على طلب الحوائج، وما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم من اللطف لهم وللآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله على الفور ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البر بالأبوين والإشفاق على الأولاد، وتجهيل المستهزئ بما لا يعلم تأويله من كلام الحكيم، وبيان أن من حق المتقرب به إلى الرب أن يكون من أحسن ما يتقرب به، فتيّ السن حسن اللون بريئاً من العيوب ثميناً نفيساً "أسمنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم" فإن قيل: هلا قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة كما هو حق القصة؟ قلنا: لأنها كانت تكون حينئذ قصة واحدة ويذهب الغرض في ثنية التقريع بالاستهزاء وترك المبادرة بالامتثال أولاً، وبقتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية ثانياً، على أنها دلت على اتحاد القصتين برجوع الضمير في { ببعضها } إلى البقرة وهي مذكورة في الأولى.
قوله { ثم قست قلوبكم } الآية. خطاب لأولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى، أو للذين هم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم من بعد ذلك الإحياء، أو من بعد ذلك الذي عددنا من جميع الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات. ومعنى "ثم" استبعاد القسوة من بعدما يوجب اللين والرقة. وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار والاتعاظ فهي كالحجارة مثلها في القسوة، أو هي أشد قسوة من الحجارة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة، ويجوز أن يقدر مضاف أي هي كالحجارة أو مثل أشد قسوة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى من الحجارة كالحديد مثلاً. وإنما قيل: أشد قسوة مع إمكان بناء أفعل التفضيل من فعل القسوة، لكونه أدل على فرط القسوة، أو لأنه لم يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة منها، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو: زيد كريم وعمر أكرم. وكلمة "أو" ههنا ليست للشك، فعلام الغيوب لا يشك في شيء، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقاً، ولو جمعت بينهما جاز. ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير، وإن منها للذي ينشق انشقاقاً طولاً أو عرضاً فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض. ثم إن كان ظاهر الأرض رخواً نفشت وانفصلت، وإن كان صلباً حجرياً اجتمعت وصارت مياهاً، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهاراً أو عيوناً. وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل. ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم "يذكر" في "يتذكر" { لما يهبط } للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر، وقيل: أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء { وما الله بغافل عما تعملون } وعيد، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة
{ فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً } [مريم: 84] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل { لا تأخذه سنة ولا نوم } [البقرة: 255].
التأويل: ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا.

اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي ومماتي في حياتي

مت بالإرادة تحيا بالطبيعة. وقال بعضهم: مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة { ما هي إنها بقرة } نفس تصلح للذبح بسيف الصدق { لا فارض } في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد { ولا بكر } في سن شرخ الشباب يستهويه سكره { عوان بين ذلك } لقوله { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } [الأحقاف: 15]. { بقرة صفراء } إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضيات { فاقع لونها } يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين. { لا ذلول تثير الأرض } لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها { ولا تسقي } حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق، فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق { مسلمة } من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله { وما كادوا يفعلون } بمقتضى الطبيعة لولا فضل الله وحسن توفيقه. { وإذ قتلتم نفساً } يعني القلب { فادّارأتم } فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أو من النفس الأمارة { فقلنا اضربوه ببعضها } ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله تعالى وقال { إن النفس لأمارة بالسوء } [يوسف: 53] { وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } مراتب القلوب في القسوة مختلفة، فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان أنوار الروح يترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيين والهنود، والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء، والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية، وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم. والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدوا في قربهم وقبولهم ودرجاتهم، ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم، والمسلمون مخصوصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه. فإراءة الآيات للخواص { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [فصلت: 53] { ويريكم آياته لعلكم تعقلون } [البقرة: 73] لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما في حق يوسف { لولا أن رأى برهان ربه } [يوسف: 24] سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال: واردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها. والله أعلم.