القراءات { جذاذاً } بكسر الجيم: علي. الآخرون بضمها { اف } بفتح الفاء: ابن كثير
وابن عامر وسهل ويعقوب { أف } بالكسر والتنوين: ابو جعفر ونافع وحفص. الباقون
بالكسر من غير تنوين { لنحصنكم } بالنون: أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية
والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعاً: ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح
وزيد. الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد
والرياح على الجمع: يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد. { مسني الضر }
و{ عبادي الصالحون } في آخر السورة مرسلة الياء: حمزة. الباقون بفتحها { وأن لن } يقدر
بالياء مجهولاً: يعقوب { ننجي } بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء: ابن عامر
وعباس وأبو بكر وحماد. الآخرون من الإنجاء مخففاً.
الوقوف: { عالمين } ج ه لأن "إذ" يصلح ظرفاً لآتينا أو { لرشده } أو للعلم به مفعولاً
لأذكر محذوفاً { عاكفون } ه { عابدين } ه { مبين } ه { اللاعبين } ه { فطرهن }. ز لواو
الابتداء والحال أولى { الشاهدين } ه { يرجعون } ه { الظالمين } ه { إبراهيم } ه { يشهدون } ه { يا إبراهيم } ه ط { فعله }. وفيه بعد ويجيء في التفسير { ينطقون } ه
{ الظالمون } ه لا للعطف { على رؤوسهم } ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول
{ ينطقون } ه { ولا يضركم } ط لاستئناف الدعاء عليهم { من دون الله } ط { تعقلون } ه
{ فاعلين } ه { على إبراهيم } ه لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا { الأخسرين } ج ه
للعطف والآية { للعالمين } ه { إسحق } ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه
نافلة { نافلة } ط { صالحين } ه { الزكاة } ج لاحتمال الاستئناف والحال { عابدين } ه وكان
ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها { الخبائث }
ط { فاسقين } ه لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه { رحمتنا } ط { الصالحين } ه
{ العظيم } ه ج للعطف مع الآية { بآياتنا } ط { أجميعن } ه { غنم القوم } ج لاحتمال
الواو بعده الاستئناف والحال { شاهدين } ه لا للعطف بالفاء { سليمان } ج لانقطاع النظم
بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام { وعلماً } ز لعطف المتفقين مع نوع عدول { والطير } ط
{ فاعلين } ه { من بأسكم } ج للاستفهام مع الفاء { شاكرون } ه { فيها } ط { عالمين } ه
{ دون ذلك } ج لاحتمال الاستئناف والحال { حافظين } ه { الراحمين } ه ط للفاء وللآية
{ للعابدين } ه { وذا الكفل } ط { الصابرين } ه وقد يوصل لعطف { وأدخلناهم } على
{ نجينا } للقدرة { في رحمتنا } ط الصالحين ه { سبحانك } قد يوقف لأجل "أن" ولكنه داخل
في حكم النداء { الظالمين } ج ه على ما ذكر في الوجهين { فاستجبنا له } لا لاتفاق
الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة { من الغم } ط { المؤمنين } ه { الوارثين } ه
{ فاستجبنا له } ه لا مكان الفصل بين الإستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على
المهلة { زوجه } ط { ورهباً } ط { خاشعين } ط { للعالمين } ه.
التفسير: الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص ههنا بالنبوة
لقوله { رشده } ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأناً ولقوله { وكنا به عالمين } وفيه أنه علم
منه أسراراً عجيبة وأحوالاً بديعة حتى اتخذه خليلاً واصطفاه نبياً نظيره { الله أعلم حيث
يجعل رسالته } [الأنعام: 124] وعلى هذا فمعنى قوله { من قبل } اي من قبل موسى
وهارون قاله ابن عباس: وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل
بالكواكب قاله مقاتل. وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في
صلب آدم. قالت الأشاعرة: أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك
تناول الكفار. أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد، نظيره بأن يعطي الأب
كل واحد من ولديه ألفاً فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال: أغنى
فلان ابنه فيمن ثمر المال، ولا يقال مثله فيمن ضيع. واعترض بأن قبوله على هذا التقدير
يكون جزءاً من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح إستناد إيتاء الرشد إلى الله وحده، وهذا
بخلاف نص القرآن. والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله تعالى من
مثلت الشيء بالشيء شبهته به، وإسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا
التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا
السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم. وفي قوله { أنتم لها عاكفون } دون أن يقول
عليها كقوله { يعكفون على أصنام لهم } [الأعراف: 138] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ
لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصاً بها دون خالقها وخالق كل شيء { قالوا وجدنا
آبائنا لها عابدين } لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طريقتهم بالتنبيه
على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال: { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } لأن كل مذهب
لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالاً أو في حكم ذلك. ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع
كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا { أجئتنا بالحق } أي بما ليس بهزل
ودعابة { أم أنت من اللاعبين } فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى
بالبينة والدليل وجاهدهم أولاً باللسان قائلاً { بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن }
الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل: كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت
للاحتجاج عليهم. وقوله { وأنا على ذلكم من الشهداء } فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول
الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه "أشهد إنه كريم أو لئيم" لأن الشهادة خبر قاطع. وفيه
أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤوا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهاداً
بالفعل من غير تقية وخوف قال { وتالله لأكيدن أصنامكم } قال جار الله: في تاء القسم مع
أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك
لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصاً في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه. قلت:
لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن ايده الله ونصره كما قال علي رضي الله عنه:
والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية.
سؤال: الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق
الأصنام؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها، أو أراد لأكيدنكم في
أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم. قال السدي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا
على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم: لو
خرجت معنا؟ فخرج معهم. فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي
رجلي، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم. وروى الكلبي أن
إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا
مريضاً، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال
لأصحابه: إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات { فنظر نظرة في النجوم * فقال إني
سقيم } [الصافات: 88 - 89] وأصبح من الغد معصوباً رأسه، فخرج القوم لعيدهم ولم
يتخلف أحد غيره فقال سراً: أما والله لأكيدن أصنامكم، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره
وانتشر الخبر. وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد { قالوا سمعنا فتى يذكرهم } وروي أن
آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً
خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر
إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب
وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير
علق الفأس في عنقه { فجعلهم جذاذاً } قال الجوهري: جذذت الشيء جذاً قطعته وكسرته،
والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره. قلت: فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع { إلا
كبيراً لهم } أي في الخلقة كما روينا. وقيل: في التعظيم. ويحتمل أن يكون جامعاً
للأمرين. أما الضمير الواحد في قوله { لعلهم إليه يرجعون } فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي
جعلهم جذاذاً واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون إلى دينه أو غلى السؤال عنه لما تسامعوه
من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم } ويحتمل
عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي. والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في
حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحاً والفأس على عاتقك، وهذا بناء
على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلاً على فساد
مذهبهم لأن الآلهة يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون: إن
المستخف بها يلحقه ضرر عظيم، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل
ما اعتقدوه. فلما انكشفت لهم جلية الحال و { قالوا من فعل هذا } الكسر والحطم
والاستخفاف { بآلهتنا إنه لمن الظالمين } المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير
موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم { قالوا سمعنا } احتمل أن يكون القائل واحداً،
ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم، واحتمل أن يكون جمعاً على الوجهين اللذين
رويناهما، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء { ما هذه التماثيل } والفعلان بعد
{ فتى } صفتان له إلا أن، الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول "سمعت زيداً" وتسكت حتى
تذكر شيئاً مما تسمع، والثاني ليس كذلك. والأصح أن قوله { إبراهيم } فاعل { يقال } لأن
المراد الاسم لا المسمى وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى. { قالوا } اي فيما بينهم
{ فأتوا به على أعين الناس } الجار والمجرور في محل الحال اي بمرأى منهم ومنظر أو
معايناً ومشاهداً قال. في الكشاف: معنى الاستعلاء في "على" أنه يثبت إتيانه في الأعين
ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه { لعلهم يشهدون } عليه بما سمع منه وبما
فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس. وقال محمد بن
إسحق: معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على مثل فعله.
وههنا إضمار أي فأتوا به ثم { قالوا أأنت فعلت هذا } الظلم والاستخفاف { بآلهتنا يا
إبراهيم } طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه { فقال بل فعله كبيرهم } وقوله { هذا }
صفة كبيرهم.
زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما
جاء في الحديث "إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات" وللعلماء في جوابهم طريقان:
أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا: الكذب ليس قبيحاً لذاته وإنما يقبح لاشتماله على
مفسدة. وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه، وزيف هذا
الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع، فلعل الأنبياء أخبروا
عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في
الواقع. الطيق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه: الأول
أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك
وقد كتبت كتاباً بخط في غاية الحسن، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت
له: بل كتبته أنت. كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته
للأمي. الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة، وكأن
غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب
لاستهانته بها. الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأنه قال: ما تنكرون أن
يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلهاً أن يقدر على أمثال هذه الأفعال، ويؤيد هذا
الوجه ما يحكى أنه قال { فعله كبيرهم هذا } غضب أن تعبد معه هذه الصغار، الرابع ما
يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله { بل فعله } ثم يبتدئ { كبيرهم هذا } أي فعله
من فعله. الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله { كبيرهم هذا فاسئلوهم } وأراد بالكبير
نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. السادس أن في الكلام تقديماً وتأخيراً والتقدير "بل
فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم". فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطاً
بكونهم ناطقين، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين، السابع قراءة محمد بن
السميفع { فعله كبيرهم } بالتشديد أي فلعل الفاعل { كبيرهم } وفيه تعسف. وأما قول
إبراهيم عليه السلام { إني سقيم } فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه.
وأما قوله لسارة "إنها أختي" فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض
مسلم سواهما { فرجعوا إلى أنفسهم } حين نبههم على قبح طريقتهم { فقالوا إنكم أنتم
الظالمون } لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة. وقال مقاتل: معناه فلاموا أنفسهم فقالوا:
إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير.
وقيل: أنتم الظالمون لأنفسكم إذا سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب.
يقال: نكسته اي قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس انقلب، وانتكاس الإنسان هو أن يكون
رأسه من تحت فلهذا قال { ثم نكسوا على رؤوسهم } والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى
أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين { لقد
علمت ما هؤلاء ينطقون } وفيه أنهم رضوا بإلاهتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق.
وقال ابن جرير: المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان
انتكاس الحجة قولهم { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } فإن هذه حجة عليهم لا لهم. وقيل:
المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلاً وانكساراً. ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلاً
{ أفتعبدون } الآية وقد مر في سورة سبحان أن "أف" صوت يدل على التضجر، والام لبيان
المتأفف به، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها
بعد انقطاع عذرهم. { قالوا حرقوه } المشهور أن الذي اشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان
ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول:
إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول
قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى
وهي من قرى الأنباط وذلك قوله { ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } [الصافات: 97] ثم
جمعوا له الحطب الكثير اربعين يوماً حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله
لأجمعن حطباً لإبراهيم. فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في
أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فضجت السماء
والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة: أي ربنا ليس في أرضك أحد
يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك، فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه: إن استغاث بأحد
منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه. فلما أرادوا إلقاءه
في النار أتاه خازن الرياح وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة لي
إليك. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس
في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل. وروي أنه قال: لا إله إلا أنت
سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. ثم أتاه جبرائيل في الهواء
فقال: يا إبراهيم هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من
سؤالي علمه بحالي: فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء
عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه. وأتاه جبرائيل بقميص من حرير
الجنة وقال: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. قال المنهال بن
عمرو: أخبرت أن إبراهيم مكث في النار أربعين يوماً أو خمسين. وقال: ما كنت أياماً أطيب
عيشاً مني إذ كنت فيها قلت: وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن
فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى. ثم نظر نمرود من صرح له
مشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق
حواليه فناداه يا إبراهيم: هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم. فقام يمشي حتى خرج.
فقال نمرود: إني مقرب إلى ربك قرباناً فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم، وكان
إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. قال العلماء: اختاروا العقاب بالنار لأنها
أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا جاء في الحديث "لا يعذب في النار إلا خالقها" ومن ثم
قالوا { وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين } أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً قوياً فاختاروا له
أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها { قلنا } عن السدي أن القائل هو
جبرائيل عليه السلام والأكثرون على أنه سبحانه. وذهب ابو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا
قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه. ويمكن أن يجاب بأن الله
قادر على أن يخلق لها فهماً يصح به التخاطب، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة
للملائكة. والظاهر أن قوله { يا نار } خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق
ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق، فلا يحسن من الكريم إبطالها. وقيل: المذكور اسم
الماهية فلا بد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن
عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت. واختلفوا في أن النار كيف بردت؟ فقيل:
إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على
كل شيء قدير. وقيل: خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل
بخزنة جهنم، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، والسمندل ولا يؤذيه
المقام في النار. وقيل: جعل بينه وبين النار حائلاً منع وصول اثر النار إليه. والمحققون
على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة، وليست الحرارة
جزءاً من مسمى النار حتى يمتنع كونها ناراً وهي باردة، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن
لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله { وسلاماً } أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك
حتى كأن ذاتها برد وسلام. والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم، أو ابردي برداً غير ضار
ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقوله { على إبراهيم } حال
من فاعل الكون أو متعلق بالبرد والسلام، ولولا هذا القيد لكانت النار برداً على كافة
الخلق، قوله { فجعلناهم الأخسرين } وفي الصافات { { فجعلناهم الأسفلين } [الآية: 98]
لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله { لأكيدن أصنامكم } وكادوه لقوله { وارادوا به
كيداً } فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين. وفي
الصافات { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } [الصافات: 97] فأججوا ناراً عظيمة وبنوا
بناء عالياً ورفعوه إليه ورموا به إلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي
العُقبى في السافلين.
ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنياناً وألقوه فيه، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا
عليه، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقاً. فقال لهم حارث أبو لوط: إن النار لا
تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله، فجعلوا
فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما
يجيء في العنكبوت، وهاجر إلى ارض الشام فذلك قوله { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي
باركنا فيها } اي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها.
وقيل: ما من أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس. يروى أنه نزل
بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وقيل: الأرض مكة { ووهبنا له } أي
لإبراهيم { إسحق ويعقوب نافلة } هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط، وقيل: النافلة
العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة. ونوفل للرجل الكثير العطاء، وعلى هذا احتمل أن يكون
حالاً من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلاً من غير سؤال.
واحتمل أن يكون حالاً من كليهما أي وهبناهما له عطية منا، والأول قول مجاهد وعطاء،
والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج { وكلا }
من إبراهيم وإسحق ويعقوب { جعلنا صالحين } قال الضحاك: اي مرسلين وقال غيره:
عالمين عاملين. وفي قوله { جعلنا صالحين } وكذا قوله { وجعلناهم أئمة } دلالة
الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه اراد
تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال: إن الحاكم عدل فلاناً وجرحه إذا حكم
بالعدالة والجرح، وضعف بأنه خلاف الظاهر. وقوله { يهدون بأمرنا } اي يدعون الناس إلى
دين الله بأمرنا وإرادتنا. قال أهل السنة: فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز
إلا بأمر الله تعالى. وقالت المعتزلة: فيه أن من صلح لأن يقتدى به في الدين فالهداية واجبة
عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتدياً بنفسه كان
الإنتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء به أميل فلذلك قال { وأوحينا إليهم فعل الخيرات }
اي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من انفسهم ونفس الفعل الخير لا
يمكن إيحاؤه فرد إلى فعل الخيرات تخفيفاً، فإن المقصود معلوم، ثم أضيف المصدر إلى
المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك { إقام الصلاة وإيتاء الزكاة } أي أوحينا إليهم
أن يقيموا ويؤتوا، قال الزجاج، حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها. وقال
غيره: الإقام والإقامة مصدران. ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على
شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله، والثانية أصل الشفقة على خلق الله. { وكانوا لنا
عابدين } فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم ايضاً وفوا
بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين.
قوله { ولوطاً } عن الزجاج أنه معطوف على { أوحينا } وعن أبي مسلم أنه معطوف
على قوله { ولقد آتينا إبراهيم } والحكم الحكمة، وقيل الفصل بين الخصوم، وقيل النبوة
والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في "الأعراف" وفي "هود".
و{ قوم سوء } نقيض رجل صدق { وأدخلناه في رحمتنا } أي أهل رحمتنا أو في الجنة
والثواب. عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل: هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين
آتيناه النبوة كي يقوم بحقها. وقال أهل التحقيق: حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من
جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي
الرحمة في الحقيقة. قوله { ونوحاً } وكذا نظائره معطوف على قوله { ولقد آتينا } أو المراد
واذكر نوحاً. و{ إذ نادى } بدل منه اي اذكر وقت ندائه { من قبل } هؤلاء المذكورين والنداء
هو دعاؤه على قومه بنحو قوله { فدعا ربَّه أنّي مغلوب فانتصر } [القمر: 10]. وقوله { رب لا
تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [نوح: 26] بدليل قوله { فاستجبنا له فنجيناه وأهله }
أي أهل دينه وهم من معه في الفلك { من الكرب العظيم } وهو الطوفان وما كان فيه من
تكذيب قومه وإيذائهم. وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس، ثم وصفه بالعظم
إشعار بأنه عليه السلام لقي من قومه أذى شديداً لا يكتنه كنهه. ثم زاده بياناً بقوله
{ ونصرناه } الاية. تقول: نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصراً منه أي منتقماً. { وداود
وسليمان إذ يحكمان في } شأن { الحرث إذ نفشت } ظرف { ليحكمان } وهو حكاية حال
ماضية. قال ابن السكيت. النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور
المفسرين. وعن الحسن: إنه يكون ليلاً ونهاراً. وليس في قوله { وكنا لحكمهم } دلالة
على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. والضمير في
{ ففهمناها } للحكومة أو الفتوى. ويروى أنه دخل رجلن على داود عليه السلام أحدهما
صاحب حرث. اي زرع. وقيل كرم- والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث: إن غنم
هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئاً. فقال داود: اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على
سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه. فقال: لو كنت أنا
القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال: كيف كنت تقضي بينهما؟ قال:
أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد
الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم غلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه.
قال أبو بكر الأصم: الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول. والمشهور عن الصحابة
ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله { وكنا لحكمهم } ولقوله: { ففهمناها } والفاء للتعقيب
فدل على أنه فهم حكماً خلاف الأول. وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد،
فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلاً كالجبائي لقوله: { { وما
ينطق عن الهوى } [النجم: 3] { أن أتبع إلا ما يوحى إليّ } [الأنعام: 50] ولأن النبي قادر على
تحصيل حكم الواقعة بالنص، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب
الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقف في بعض الأحكام
انتظاراً للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل
ايضاً وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل. وأجيب بأنه
إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله: { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }
[النجم: 3 - 4] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له
مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللاً بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك
المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه. سلمنا
جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة
اجتهادية امتنع خلافهم. وكان الرسول أوكد، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له
وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل. ومما يدل على جواز
الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعاً بين
النقيضين، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل
بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح. قال الجبائي: ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء
جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار، فكيف
يجعل الغنم في مقابلة ذلك؟ وأيضاً إن اجتهاد داود إن كان صواباً فالاجتهاد لا ينقض
بالاجتهاد، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً }
وايضاً لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علماً، وأيضاً قوله { ففهمناها } يدل على أنه من الله
لا من سليمان. وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفواً عنها كما في حكم
المصراة، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب
العلوم والظن في الطريق كما مر، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله. أما الذين
منعوا من الاجتهاد مطلقاً أو في هذه المسألة، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة
سليمان، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ. قال الفقهاء:
مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى
بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر
النقصان في الحرث. ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبداً فأبق من يده فإنه
يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر العبد
يرد ويقال له ضمان الحيلولة. هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي
حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار، لأن (جرح العجماء جبار.) إلا أن يكون معها راع.
والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية،
فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار. وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية
فدخلت حائطاً فأفسدته، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على
أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم
بالليل. قال بعض الأصوليين: كل مجتهد مصيب لقوله { وكلا آتينا حكماً وعلماً } وقال
بعضهم: المصيب واحد لقوله { ففهمناها سليمان } ولو كان كلاهما مصيباً لم يكن
لتخصيص سليمان بالفهم فائدة. وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت
في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتاً في شرعنا.
ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلاً:
{ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل:
كيف سخرهن؟ فقال: { يسبحن } { والطير } وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه،
وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل: كان إذا سبح داود سبح الجبال
والطير معه. وقال الكلبي: إذا سبح داود أجابته الجبال. وقال سليمان بن حيان: كان داود
إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً. وعلى الثاني قيل: كانت
الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى، فلما حملت على التسبيح
وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة، لأن الجماد غير قابل
للحياة والفهم عندهم، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلاً للكلام،
ولهذا يقال: إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة. وإنما قدم التسبيح الجبال على
الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق
من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفاً
كالأطفال والمجانين: { وكنا فاعلين } اي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على
أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم. واللبوس اللباس يقال: البس لكل حالة
لبوسها والمراد الدرع. عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة
والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال { فهل أنتم
شاكرون } قال علماء المعاني: هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا
"فهل أنتم تشكرون" إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف اي هل تشكرون تشكرون. ومن
قولنا" أفأنتم شاكرون" لأنه وإن كان ينبئ عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه
دون المذكور في القرآن فإن "هل" ادعى للفعل من الهمزة، فترك الفعل معه يكون أدخل في
الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلوم عن العلة القوية يدل على وجود
مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة.
ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال { ولسليمان } أي وسخرنا له { الريح } حال
كونها { عاصفة } ولا ينافي هذا قوله في { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث
أصاب } [ص: 36] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها
عاصفة تحمل كرسيه من اصطخر إلى الشام، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفاً
لهبوبها على حسب إرادته وأمره. وفي قوله { وكنا بكل شيء عالمين } إشارة أنه فعل كل ما
فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحوالهم وعلم باستئهالهم.
قوله { ومن الشياطين } أي سخرنا من الشياطين { من يغوصون له } ويجوز أن يكون الكلام
خبر أو مبتدأ و "من" موصولة أو موصوفة. كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون
الجواهر { ويعملون عملاً دون ذلك } أي متجاوزاً ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر
الصنائع العجيبة. قالت العلماء: الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق
الشياطين ولقوله: { وكنا لهم حافظين } أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم
فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والحفظ إما بسبب
الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته. قال
ابن عباس في تفسيره: يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء. قبل الجبائي: كيف
تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط، فلعل الله تعالى كثف
أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما
مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى. إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على
الناس، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها. واعترض عليه الإمام فخر الدين
الرازي رضي الله عنه بأنك لم قلت: إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست
متحيزة ولا حالة في المتحيز. ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم
الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلاً عن اللوازم السلبية. سلمنا أن الجن
أجسام لكن لم قلت: إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف؟ سلمنا
أنه لا بد من تكثيف أجسامهم فمن اين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى؟ فإن قال: لئلا يفضي
إلى التلبيس. قلنا: إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال
ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد، وقد
سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد، وفي ذلك دلالة باهرة على أنه تعالى
قادر على إحياء العظام الرميمة. ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم
بالغوص في الماء، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين.
ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار
مثلاً. عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط
اصطفاه الله وجعله نبياً، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع
بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد
ونخيل. وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين اخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى
عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم حجب عن جميع السموات إلا من استرق
السمع. قال: فسمع غبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال: يا رب إنك
أنعمت على عبدك ايوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء، وأنا زعيم إن
ضربته بالبلاء ليكفرن بك. فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فجمع إبليس
عفاريت الجن وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال ايوب. فقال عفريت
أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس: فأت
الإبل ورعاتها. فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض، إعصار لا يدنو منها
شيء إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها. فذهب إبليس على شكل
أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائماً يصلي، فلما فرغ من الصلاة قال: يا ايوب هل تدري ما
الذي صنع ربك؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها. فقال أيوب: إنها ماله إذا شاء نزعه. فقال
إبليس: إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور، ومنهم من
يقول: لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه. ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما
فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع
مني، خرجت من بطن أمي عُرياناً وأضجع في التراب عُرياناً وأحشر إلى الله عُرياناً، ولو
علم الله عرياناً، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الرواح وصرت
شهيداً وأوجر فيك. فرجع غبليس إلى أصحابه خاسئاً فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما
إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه. فقال إبليس: فأت الغنم
ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها، فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى
أيوب فقال له القول الأول، ورد عليه أيوب الرد الأول، فرجع إبليس صاغراً فقال له عفريت
آخر: عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال: فاذهب
إلى الحرث والثيران، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به ايوب فرد عليه مثل الرد الأوّل،
فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها. فلما رأى إبليس صبره على
ذلك صعد إلى السماء وقال: إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة. فقال
الله: انطلق فقد سلطتك، فأتى أولاد ايوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب
متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال: لو رأيت بنيك كيف
انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك! فلم يزل يقول
هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأه، فاغتنم ذلك
إبليس، ثم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال: إلهي
إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على
جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك. فقال تعالى: انطلق فقد سلطتك على
جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه. فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد
فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان
يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة،
ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة
وجعلوا له عريشاً، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام
فكانت تصلح أموره. ثم إن وهباً طول في الحكاية إلى أن قال: إن أيوب عليه السلام أقبل
على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه قائلاً: يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة
ألقتني أمي، يا ليتني كنت عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك
الكريم عني. ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيماً. إلهي أنا عبد
ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي. جعلتني للبلاء غرضاً وسلطت عليّ
ما لو سطته على جبل لضعف عن حمله. إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر
شعري وذهب المال وصرت أسال اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك
أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام: ليتك لو كرهتني لم
تخلقني. ثم قال: ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى
وأن يخرجه من زمرة الصابرين. قلت: إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما
كان غرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة: من شكا إلى الله تعالى فإنه
لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر
استحلاء البلاء. الم تسمع قول يعقوب عليه السلام: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله }
[يوسف: 86].
ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله { إني مسني الضر وأنت أرحم
الراحمين } الضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
قال جار الله: ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب
أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب.
يحكى أن عجوزاً تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان
بيتي على العصا. فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها
حباً. وفي قوله: { وأنت أرحم الراحمين } رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود
إليه، ولا لمضرة يدفعها عنه، ولا يطلب شيئاً، ولا يجلب مدحاً وكل رحيم سواه. فأما
رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضاً تتوقف على
داعية يخلقها الله فيه، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره
التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو، وإنها ضرورية في
الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور. واختلف العلماء في السبب الذي لأجله
دعا الله ايوب؛ فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة
سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه
ذات يوم فوجدا ريحاً فقالا: لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة. قال: فما
شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما. فقال: اللهم إن كنت تعلم إني لم
أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجداً. وقال: اللهم
إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به" . وقال الحسن: مكث أيوب بعدما
ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت
معه وكانت تأتيه بالطعام. وكان أيوب مواظباً على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما
ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض قالوا له:
ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سالت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا
يزيد بالبلاء إلاّ صبراً وحمداً لله تعالى. فقالوا له: أي مكرك أين عملك الذي أهلكت به من
مضى؟ من اين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك
بأيوب من قبل امرأته فإِنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم
فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو هذا
يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده. فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها
وذكر لها ما كان بها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسن: فصرخت
فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال: لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ. قال:
فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية؟ أين الولد؟ أين
الصديق؟ أين اللون؟ أين الحسن؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه
الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح، فقال أيوب: أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا
الذي تذكرين من المال والولد والصحة؟ قالت: الله. قال: كم متعنا به؟ قالت: ثمانين
سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك ما
أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة! والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة،
أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني
به فطردها. فلما نظر ايوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت
امرأته خر ساجداً وقال { إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } فقال: ارفع رأسك فقد
استجبت لك { اركض برجلك } [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في
ظاهر بدنه دابة. إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق
في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحاً، وعاد غلى شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى
ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب فجعل يضكه بيده فأوحي
إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها. قال: فخرج حتى جلس
على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع
لأرجعن إليه. فلما رجعت ما رأته في تلك الكناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي
فدعاها أيوب وقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على
الكناسة. فقال: تعرفينه إذا رايته؟ قالت: وهل يخفى علي أحد يراه. فتبسم قائلاً: أنا هو.
فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال: إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت
الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك.
الرواية الثالثة: قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة
أيام وسبع ساعات، فلما غلب أيوب إبليس ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة
بني آدم في العظم والحجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها: أنت صاحبة
أيوب؟ قالت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: أنا إله الأرض، أنا صنعت بأيوب
ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت
عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب: وسمعت أنه قال: لو
أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء. وايضاً قال لها: لو
شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى ارد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى
أيوب فأخبرته فقال: أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة
جلدة وقال عند ذلك { مسني الضر } يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له.
الرواية الرابعة قال إسماعيل السدي: إن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال:
تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة، فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم:
إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم
يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت غلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها
بذلك خبزاً ولحماً فقال أيوب: من أين هذا؟ قالت: كل فإنه حلال. فلما كان من الغد لم
تجد شيئاً فباعت الثانية، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت: كل فإنه حلال. فقال: لا
آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال: { رب إني مسني الضر }.
والرواية الخامسة قيل: سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها غلى موضعها وقال: قد جعلني
الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال: { مسني الضر } فأوحى الله إليه: لولا أني جعلت
في كل شعرة منك صبراً لما صبرت. واعلم أن مس الضر ههنا مطلق إلا أنه ورد في "ص"
مقيداً وذلك قوله { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ص: 41] فصح أن يكون سنداً
لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض
والاسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلهاً. وأيضاً إن هذه
التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم }
[إبراهيم: 22] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا فلا محذور ولا تنافي. وقال ومن البعيد أنه لم يسأل الله إلا عند أمور مخصوصة والجواب أن الأمور مرهونة بأوقاتها. وقال
انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز. والجواب المنع ولا سيما بشرط
العافية في العاقبة. قوله سبحانه { فكشفنا ما به من ضر } مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان
في بدنه وأحواله. وقوله: { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان:
الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي: إن الله تعالى أحيا له أهله يعني
أولاده بأعيانهم. والثاني قال الليث: ارسل مجاهد إلى عكرمة وسئل عن الآية فقال: أراد
أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة
وعشرين ابناً له. ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله { رحمة من عندنا }
لأيوب { وذكرى } لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما { للعابدين } لكي
يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يثابوا في الدارين كما أثيب. وإنما خص الرحمة والتذكرة
بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان. قال أهل البرهان:
إنما قال في هذه السورة { رحمة من عندنا } وقال في "ص" { رحمة منا } [ص: 43] لأنه
بالغ ههنا في الدعاء بزيادة قوله: { وأنت أرحم الراحمين } فبالغ في الاستجابة لأن لفظ
"عند" يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة.
وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم
إسماعيل عليه السلام، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بوادٍ لا زرع فيه ولا ضرع،
وصبر على بناء البيت ورفع قواعده، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين،
ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم. قال ابن عمر: بعث إلى قومه داعياً لهم إلى الله
فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء. ومنهم ذو الكفل قيل: هو زكريا وعلى هذا فقد
تقدمت قصته أيضاً. وفي هذا القول نظر، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار.
وقيل: هو إلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين: إسرائيل ويعقوب، وإلياس وذو
الكفل، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد. وقيل: يوشع بن نون سمي
بذلك لأنه ذو الحظ من الله ديناً ودنيا، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف
ثوابهم. وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد: إنه لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً، وقال
الحسن والأكثرون: إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم. يروى
عن ابن عباس أن اليسع أو نبياً آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلاً على
الناس فقال: من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس
فلا يغضب؟ فقام رجل وقال: أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن،
فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال: إني لي غريماً قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى
فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله
إلى الصباح، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم
الثالث. وقيل: إنه في اليوم الثالث قال للبواب: قد غلب عليّ النعاس فجاء إبليس فلم يأذن
له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال:
أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت
فقال له: أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال: إبليس؟ قال: نعم. أعييتني في كل شيء
فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة. ولا
خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو المسكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقباً محضاً
وبين أن يكون مقيداً فحمله على المقيد أولى. واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان
قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد.
أما القول الأوّل فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى
منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن
اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا
معه بني إسرائيل. فقال له الملك: من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء؟ فقال:
يونس بن متى. فإنه قويّ أمين. فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس: هل أمرك الله
بإخراجي؟ قال: لا. قال: فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضباً للملك ولقومه فأتى
بحر الروم فوجد قوماً هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا
فقال الملاحون: ههنا رجل عاصٍ أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح، إلا وفيها
رجل عاصٍ، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر
حتى تسلم السفينة. فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس. فقال: أنا الرجل
العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا
تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً لك. ثم نجاه الله من بطن
الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد، فأنبت الله عليه شجرة من
يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل
له. أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب
سلامتهم؟. فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم: إن الله
أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل. فقالوا: ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق
لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم. فطاف فيهم
ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم
العذاب. فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم
يقدروا عليه. فقال علماؤهم: اطلبوه فإِن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء، وإن كان قد
خرج فهو كما قال. فطلبوه فلم يجدوه، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم
وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات، فلما طلع الصبح رأوا العذاب
ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت
المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل.
القول الثاني وعليه أكثر المفسرين: أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى
وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه
القصة من وجوه: الأوّل أنه ذهب مغاضباً لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن
والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير، ومن المعلوم أن
مغاضبة الله من أعظم الذنوب. ولئن سلم أنه كان مغاضباً لقومه فذلك ايضاً محظور لأنه كان
يجب أن يصبر معهم. الثاني قوله { فظن أن لن نقدر عليه } وهو شك في قدرة الله. الثالث
اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم. الرابع: إخبار الله تعالى في موضع آخر
بقوله { فالتقمه الحوت وهو مليم } [الصافات: 142] والمليم ذو الملامة. الخامس: قوله
للنبي صلى الله عليه وسلم { ولا تكن كصاحب الحوت } [القلم: 48] وقال في موضع آخر { { فاصبر كما صبر
أُوْلُوْا العزم } [الأحقاف: 35] والجواب أنه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضاً
للكفر وأهله، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها. فغاية ما في
الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد ادائها إلى أن يأذن
الله له في المهاجرة. وعن الثاني أن معنى. { لن نقدر عليه } لن نضيق كقوله { الله يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر } [الرعد: 26] { ومن قدر عليه رزقه } [الطلاق: 7] فهو من القدر لا
من القدرة، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء. قال الزجاج: يقال قدر الله الشيء
قدراً وقدره تقديراً. والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك
والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج. يقال: قدر الله عليه الضراء وقدر له
السراء كما يقال: قدر القاضي على فلان أوله. ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة
بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا، فالقدرة غير وإعمالها غير، فظن انتفاء الأول كفر
دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن
لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه
أفظن أن لن نقدر عليه: عن ابن زيد. سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما
حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان، ولكن المؤمن يرده بعد
ذلك بالبرهان. وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر
يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلاً على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته
والله تعالى أعلم.
أما قوله { فنادى في الظلمات } فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في
الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله { يخرجونهم من النور إلى الظلمات }
[البقرة: 257] وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر
منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر. وقيل: إن الحوت إذا عظم غوصه في
البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة. ومعنى { أن لا إله إلا أنت } أي لا إله إلا أنت
أو بأنه لا إله إلا أنت { سبحانك } تنزيه له عن كل النقائص. منها الظن المذكور على أي
وجه فرض، ومنها العجز عن تخليصه، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة. { إني كنت
من الظالمين } بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك
قال { فاستجبنا له } ثم بين الاستجابة بقوله { ونجيناه من الغم } أي من غمه بسبب كونه في
بطن الحوت وبسبب خطيئته { و } كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا { كذلك ننجي
المؤمنين } من كل كرب إذا استغاثوا بنا. عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا
استجيب له" . وعن الحسن: ما نجاه الله إلا إقراره على نفسه بالظلم. وقد بقي في الآية
بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصماً في قراءته { نجي } بالتشديد والنون لا
تدغم في الجيم. واستخرج بعضهم له وجهاً وهو أن يكون { نجي } فعلاً ماضياً مجهولاً من
التنجية لكنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى المصدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر
أي نجى نجاء المؤمنين كقولك "ضرب الضرب زيداً" ثم ضرب زيداً على إضمار المصدر،
وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
وقال أبو علي الفارسي وغيره من الأئمة المحققين: إن مثل هذا لا يجوز إلا في
ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء، فلعل
الراوي التبس عليه فظنه إدغاماً. ثم بين انقطاع زكريا وتبتله غليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في
أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة. وفي
قوله { وأنت خير الوارثين } وجهان: أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه
فيكون مؤكداً لما فوض إليه أمر الولد. والثاني أنه اراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي
فإنك خير وارث. وفي إصلاح زوجه وجوه: منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها.
ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة
عظيمة. ومنها أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد
والأهل جميعاً. ويرد على الوجه الأول إن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد، والجواب أن
الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة. أما الضمير في قوله { إنهم كانوا يسارعون
في الخيرات } فقد قيل: إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله. وقال جار الله: إنه للمذكورين من
الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل
الخيرات، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة.
{ ويدعوننا رغباً } في ثوابنا { ورهباً } عن عقابنا. ومعنى { خاشعين } قال الحسن: ذللاً
لأمر الله. وقيل: متواضعين. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وفي تقديم
الجار والمجرور على { خاشعين } إشارة إلى أنهم لا يخشون أحداً إلا الله. وروى الأعمش
عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا ارخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيراً ليس هو الذي يأكل
خشباً اي علقاً ويبلس خشناً ويطأطئ رأسه. ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي
سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً حتى إنها
منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته. والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي
فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر "فنفخت في بيت فلان" أي نفخت في المزمار في
بيته، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا -وهو جبرائيل- لأنه نفخ في جيب
درعها فوصل النفخ غلى جوفها. وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال
{ { فنفخنا فيه } [التحريم: 12] أراد فرج الجيب أو غيره. وإنما قال { وجعلناها وابنها آية
للعالمين } لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب.
التأويل: الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام.
منها قوله { بل فعله كبيرهم } أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من
طبيعتها أن تنحتها، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده. فقوله { هذا }
بدل الكلِ من الضمير في فعله: { قالوا حرقوه } إذا أراد الله أن يكمل عبداً من عباده
المخلصين فداه خلقاً عظيماً كما أراد استكمال حوت في البحر فداه كثيراً من الحيتان
الصغار، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى
أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور. وذلك العذاب له روح وريحان، لأن
نار العشق قد احرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف
فيه فوقع قوله: { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } تمثيلاً لهذا المعنى.
بالنار خوفني قومي فقلت لهم النار ترحم من في قلبه نار
ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة
المشرفة المشرقة لتجلي الذات والصفات. { ونجيناه } من قرية القالب. { التي كانت تعمل
الخبائث } بالأوصاف البهيمية والسبعية { وداود } الروح { وسليمان } القلب { إذ يحكمان
في } شأن حرث الدنيا { إذ نفشت } اي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية { غنم القوم } أي
الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف. فحكم الروح
بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن التصرف فيها مطلقاً. { ففهمناها سليمان }
القلب لكونه متقلباً في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود
الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو
المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعاً بين المصلحتين ورعاية للجانبين. { وسخرنا مع
داود الجبال } وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة { يسبحن } بتسبيحه { والطير }
وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين قضاء القلب والقالب. هذا في الباطن، وأما في
الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما
يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن بعض الصحابة أنه قال: كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه { وعلمنا صنعة لبوس لكم }
إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى
يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس
والهوى والشيطان. وسخرنا لسليمان } القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح
الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه { ومن الشياطين } وهم الأوصاف النفسية
{ من يغوصون له } في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية { ويعملون عملاً دون
ذلك } من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل: { وكنا لهم حافظين } من أن يزيغوا عن
سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة. قال أهل التحقيق: إذا بلغ الإنسان
مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح
والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت أجل صلاته، وسخر لنبينا جميع
السفليات والعلويات حتى قال "زويت لي الأرض" وقال "أوتيت مفاتيح خزائن الأرض"
وكان الماء ينبع من بين أصابعه. وقال "نصرت بالصبا" وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد
له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته. وقال "أسلم
شيطاني على يدي" . وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق
وجبرائيل، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى.
{ وأيوب } القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحميدة وأخلاقه
الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية { فكشفنا ما به من ضر } بأن قلنا
له { { اركض برجلك } [ص: 42] نظيره { وألق ما في يمينك } [طه: 69] لينبع ماء حياة العلم
والمعرفة فتسلم من تعلقات الكونين المؤذية للقلب والروح { إذ ذهب } من
عالمه { مغاضباً } لغيره من المجردات فألقي في بحر الدنيا فالتقمه حوت النفس الأمارة
بالسوء، وابتلع حوت النفس حوت القالب { فنادى } في ظلمات حجب النفس والقالب والدنيا
{ وزكريا } الروح { وهبنا له يحيى } القلب { واصلحنا له } زوج القالب { ويدعوننا رغباً }
في الفناء فينا { ورهباً } من البقاء بأنانيتهم { وكانوا لنا خاشعين } أما القالب فبأعمال
الشريعة، وأما النفس فبتهذيب الأخلاق، وأما القلب فبالاطمئنان بذكر الله، وأما السر
فباجتهاده في كشف الأسرار، وأما الروح فببذل الوجود في طلب المعبود، وأما الخفي
فبإفنائه في الله وبقائه بالله. { ومريم } النفس { التي أحصنت } قلبها عن تصرفات الكونين
فأحييناها بالحياة الأبدية.