خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
١
ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢
ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
٣
وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٤
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٦
وَٱلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٧
وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِٱللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٨
وَٱلْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٩
وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ
١٠
-النور

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { فرضناها } بالتشديد: ابن كثير وأبو عمرو { ورأفة } بفتح الهمزة: ابن كثير عن ابن فليح ورفعه الباقون بالإسكان وكلاهما مصدر. وكذلك روى الخزاعي عن أصحابه، وروى ابن شنبوذ عن البزي ههنا وفي الحديد متحركة الهمزة، وعن قنبل ههنا بالفتح وفي الحديد بالسكون. وقرأ أبو عمر وغير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف بغير همز { أربع شهادات } بالرفع: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون بالنصب على إعمال المصدر فيما في حكم المصدر والتقدير فواجب شهادة أحدهم شهادات أربعاً { أن } مخففة { لعنة الله } بالرفع: نافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون بالتشديد والنصب { والخامسة } الثانية بالنصب: حفص على معنى وتشهد الشهادة الخامسة. { أن } مخففاً { غضب } فعلاً ماضياً { الله } بالرفع: نافع والمفضل { أن } بالتخفيف { غضب الله } بالرفع: سهل ويعقوب. الباقون { أن غضب الله } بالتشديد والنصب.
الوقوف: { تذكرون } ه { جلدة } ص { الآخر } ه للعدول واعتراض الشرط مع اتفاق الجملتين { المؤمنين } ه { مشركة } ه للتفصيل بين الحالتين مع اتفاق الجملتين { مشرك } ج لاختلاف الجملتين { المؤمنين } ه { أبداً } ه { الفاسقون } ه { وأصلحوا } ج للفاء وإن { رحيم } ه { بالله } ط في الموضعين لأن ما بعده جواب لما في حكم القسم { الصادقين } ه { الكاذبين } ه { الصادقين } ه { حكيم } ه.
التفسير: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاتمة السورة المتقدمة بطلب المغفرة والرحمة وطلبه يستلزم مطلوبة لا محالة بدليل سل تعط، أردفه بذكر ما هو اصل كل رحمة ومنشأ كل خير فقال { سورة } أي هذه سورة { أنزلناها وفرضناها } أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرئ بالنصب على "دونك سورة" أو "اتل سورة" أو على شريطة التفسير. وعلى هذا لا يكون لقوله { أنزلناها } محل من الإعراب لأنها ليست بصفة وإنما هي مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. ومعنى إنزال الوحي قد سلف في أول البقرة. والفرض القطع والتقدير: ولا بد من تقدير مضاف لأن السورة قد دخلت في الوجود فلا معنى لفرضها فالمراد: فرضنا أحكامها التي فيها. ومن شدد فللمبالغة أو للتكثير ففي أحكام هذه السورة كثرة. ويجوز أن يرجع معنى الكثرة إلى المفروض عليهم فإنهم كل المكلفين من السلف والخلف. وأما الآيات البينات فإنها دلائل التوحيد التي يذكرها الله تعالى بعد الأحكام والحدود ويؤيده قوله { لعلكم تذكرون } فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكرها بخلاف دلائل التوحيد فإنها كالمعلومة لظهورها فيكفي فيها التذكر. وقال أبو مسلم: هي الحدود والأحكام أيضاً ولا بعد في تسميتها آيات كقول زكريا
{ رب اجعل لي آية } [مريم: 10] سأل ربه أن يفرض عليه عملاً. وقال القاضي: أراد بها الأشياء المباحة المذكورة في السورة بينها الله تعالى لأجل التذكر. فمن جملة الأحكام حكم الزنا. قال الخليل وسيبويه: رفعهما على الابتداء والخبر محذوف ولا بد من تقدير مضاف اي فيما فرض عليكم جلد الزانية والزاني، أو فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني وقال آخرون: الخبر { فاجلدوا } والفاء لتضمن معنى الشرط فإن الألف واللام بمعنى الموصول تقديره: التي زنت والذي زنى فاجلدوا. وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب { سورة أنزلناها } لأجل الأمر فإن الطلب من مظان الفعل والجلد ضرب الجلد كما يقال "رأسه" أي ضرب رأسه وكذلك في سائر الأعضاء بعد ثبوت السماع، وفيه إشارة إلى أن إقامة هذا الحد ينبغي لأأن يكون على الاعتدال بحيث لا يتجاوز الألم من الجلد إلى اللحم. فعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلاً عالماً بصيراً يعقل كيف يضرب. فالرجل يجلد قائماً على تجرده ليس عليه إزاره ضرباً وسطاً لا مبرحاً ولا هيناً على الأعضاء كلها إلا الوجه والفرج، والمرأة تجلد قاعدة ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو. والصحيح أن الزنا من الكبائر ولهذا قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس في قوله { ولا يزنون } [الفرقان: 68] وقد وفى فيه عقد المائة بكماله بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر وشرع فيه الرجم الذي هو أشنع أنواع القتل، ونهى المؤمنين عن الرأفة بهما وأمر بشهود طائفة للتشهير. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار" واعلم أن البحث في هذه الآية يقع عن أمور أحدها عن ماهية الزنا، وثانيها عن أحكام الزنا، وثالثها في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجباً لتلك الأحكام، ورابعها في الطريق الذي به يعرف حصول الزنا، وخامسها عن كيفية إقامة هذا الحد الأول. قد حده علماء الشافعية بأنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً. قالوا: فيدخل فيه اللواطة لأنها مثل الزنا صورة وذلك ظاهر لحصول معنى الانفراج في الدبر ايضاً، ومعنى لأنهما يشتركان في المعاني المتعلقة بالشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل، ولذلك لا يفرق أهل الطبائع بين المحلين. والأكثرون على أن اللواط لا يدخل تحت الزنا للعرف ولهذا، لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط مع كونهم عالمين باللغة. وما روى عن أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" محمول على اشتراكهما في الإثم بدليل قوله أيضاً "إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" وقوله "اليدان تزنيان والعينان تزنيان" والقياس المذكور بعيد لأنه لا يلزم من تسمية القبل فرجاً. لانفراجه أن يسمى كل منفرج كالفم والعين فرجاً.
واعلم أن للشافعي في اللائط قولين أصحهما أن عليه حد الزنا إن كان محصناً فيرجم، وإن لم يكن محصناً فيجلد ويغرب. والثاني قتل الفاعل والمفعول. والقتل إما بجز الرقبة كالمرتد، أو بالرجم وهو قول مالك وأحمد وإسحق، أو بالهدم عليه. ويروى عن أبيّ: أو بالرمي من شاهق. ويروى عن علي رضي الله عنه وذلك أن قوم لوطٍ عذبوا كل هذه الوجوه قال عز من قائل
{ جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل } [هود: 82] وأما المفعول فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكروهاً فلا حد عليه ولا مهر لأن بضع الرجل لا يتقوَّم، وإن كان مكلفاً طائعاً فهو كالفاعل في الأقوال وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط وحكمه ما مر، وقيل زناً لأنه وطء أثنى فأشبه الوطء في القبل، وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح. ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه وبالجملة جميع ذلك مما ذهب إليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن الائط لا يحدّ بل يعزر. حجة الشافعي خبر أبي موسى الأشعري. فإِنه يدل على اشتراك اللواط والزنا في الاسم والحقيقة لا أقل من اشتراكهما في اللوازم. وأيضاً إنه صلى الله عليه وسلم قال "من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل منهما والمفعول به" وقال صلى الله عيه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس" وليس اللواط من قبيل الثاني والثالث فهو من الأول. وأيضاً قاس اللواط على الزنا بجامع كون الطبع داعياً إليه فيناسب الزاجر. وفرق بأن الزنا أكثر وقوعاً وكان الاحتياج فيه إلى الزاجر اشد، وبأن الزنا يقتضي فساد الأنساب دون اللواط، وألغى الفرق بوطء العجوز الشوهاء. حجة أبي حنيفة أنه وطء لا يتعلق به المهر فلا يتعلق به الحد وضعف بفقد الجامع قال: إنه لا يساوي الزنا في الحاجة على شرع الحد لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول طبعاً، ولأنه ليس فيه إضاعة النسب. وأجيب بأن الإنسان حريص على ما منع، فلو لم يشرع الحد شاع اللواط وأدى إلى إضاعة النسب بل إلى إفناء الأشخاص وانقطاع طريق التوالد والتناسل. وللشافعي في إتيان البهيمة أقوال: أحدهما أنه كالزنا في أحكامه، وثانيها القتل مطلقاً لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: لأنه كره أن يؤكل لحمها. وأصحها وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد والثوري أن عليه التعزير لأنه غير مشتهي طبعاً. والحديث ضعيف الإسناد وبتقدير صحته معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله. ولا خلاف في أن السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزير. البحث الثاني قد مر في أول سورة النساء أن حكم الزاني في أوائل الإسلام كان الحبس في البيوت في حق الثيب، والإيذاء بالقول في حق البكر، ثم نسخ بآية الزنا وبقوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام" والخوارج أنكروا الرجم لأنه لا ينتصف وقد قال تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [النساء: 25] ولأنه تعالى أطنب في أحكام الزنا بما لم يطنب في غيره، فلو كان الرجم مشروعاً لكان أولى بالذكر، ولأن قوله { الزانية والزاني } يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وجمهور المجتهدين خالفوهم في ذلك فأجابوا عن الأول بأن الرجم حيث لم ينتصف لم يشرع في حق العبد فخصص العذاب بغير الرجم للدليل العقلي. وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات. وعن الثالث بأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا لأن القرآن وإن كان قاطعاً في متنه إلا أن العام غير قاطع الدلالة فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون. سلمنا إلا أن الرجم ثبت بالتواتر رواه ابو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر والخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة. وما نقل عن علي أنه جمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود محمول على مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محصناً فأمر به فرجم. وقوله صلى الله عليه وسلم "الثيب بالثيب جلد مائة" ورجم بالحجارة متروك العمل بما روي في قصة العسيف أنه قال: يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره. وأن قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم وكذا قصة الغامدية. وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة" فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هذا الرجم ولو كان الجلد واجباً مع الرجم لذكره. قال الشافعي: يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر. وقال أبو حنيفة: يجلد.
وأما التغريب فمفوَّض إلى راي الإمام. وقوله صلى الله عليه وسلم
"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وكذا ما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقال مالك: يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة بلا تغريب. حجة الشافعي حديث عبادة "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وقد ورد مثله في قصة العسيف. حجة أبي حنيفة أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد. بيانه أن إيجاب الجلد مرتب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء، ومعنى الجزاء كونه كافياً في ذلك الباب منه قوله صلى الله عليه وسلم "يجزيك ولا يجزي أحداً بعدك" وإيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافياً ولو كان النفي مشروعاً لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر. وقد روى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأمة إذا زنت فاجلدها فإن زنت فاجلدها فإن زنت فبعها" والاستدلال به أنه لم يذكر النفي مع الجلد ونظيره ما روي أن شيخاً وجد على بطن جارية، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجلدوه مائة. فقالوا: إنه اضعف من ذلك. فقال: خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها خلوا سبيله. لا يقال: إنه إنما لم ينفه لأنه كان عاجزاً عن الحركة لأنا نقول: كان ينبغي أن يأمر له بدابة يركبها. ولا يقال: لعله كان ضعيفاً عن الركوب أيضاً لأنا نقول: القادر على الجماع كيف لا يقدر على الاستمساك. وأيضاً الأمر بالنفي لو كان مشروعاً لزم في حق العبد الإضرار بسيده في مدة غيبته، وفي حق المرأة الإضرار بزوجها، وكذا لمن يؤمر أن يكون معها من محارمها أو من النسوة الثقاة مع انفتاح باب الزنا عليها في الغربة، لهذا روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في البكرين: إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان فإن نفيهما من الفتنة. وعن ابن عمر أن امرأة زنت فجلدها ولم ينفها. وأيضاً النفي نظير القتل لقوله تعالى { اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم } [النساء: 66] فإذا لم يشرع القتل في حد البكر وجب أن لا يشرع نظيره وهو التغريب. وأجيب بأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب الجلد مع إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب فلا إشعار في الاية بأحد القسمين إلا أن عدم التغريب موافق للبراءة الأصلية. فإيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به وهو قول الأدباء إن الجزاء سمي جزاء لأنه كافٍ في الشرط لا يصلح حجة في الأحكام. ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصصات والأخبار الواردة في نفي التغريب معارضة بما روى أبو علي في جامعة أنه صلى الله عليه وسلم جلد وغرّب. ولا بعد في أن يكون القادر على الزنا عاجزاً عن الاستمساك على الدابة والإضرار بالسيد قد يجوز للضرورة كالعبد المرتد يقتل، وعلى هذا يغرّب نصف سنة على الأصح لأنه يقبل التنصيف. وقيل: سنة كاملة لأن التغريب للإِيحاش وهذا معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء والعنة. وأما المرأة فلا تغرّب وحدها لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم" فإن تبرع المحرم أو نسوة ثقاة فذاك وإلا أعطي أجرتهم من مالها أو من بيت المال فيه قولان، وتنتفي التهمة حينئذ مع أن أكثر الزنا إنما يقع بالألف والمؤانسة وفراغ القلب، وفي التغريب الأغلب هو الوحشة والتعب. وأما أن النفي يشبه القتل فمسلم من بعض الوجوه لا من كلها. واعلم أن قولنا { الزانية والزاني } إما مطلق دال على الجنسين المنافيين لجنس العفيفة والعفيف أو عام يشمل كل ما اتصف بهذه الفعلة الشنعاء فلا بد من تقييد أو تخصيص وهو البحث الثالث فتقول: أجمعت الأمة على أنه لا بد فيه من العقل والبلوغ فلا حد على مجنون ولا على صبي لأنهما ليسا من أهل التكليف. هذا في غير الرجم وأما في الرجم فلا بد من شروط أخر منها: الحرية بالإجماع. ولا فرق بين القن والمدبر والمكاتب والمستولدة وحر البعض، والسبب أن الحرية توسع طريق الحلال لأن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد. ولا يجوز له أن ينكح إلا امرأتين، وجناية من ارتكب الحرام مع اتساع طريق الحلال أغلظ. ومنهما الإصابة في نكاح صحيح وقد يعبر عن هذا الشرط بشرطين: أحدهما التزويج بنكاح صحيح، والآخر الدخول. وكيفما كان فوجه الاعتبار أنه قضى الشهوة واستوفى اللذة فحقه أن يمتنع من الحرام. ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة بلا إنزال، ولا يقدح وقوعها في حالة الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة، ولا يحصل الإحصان بالإصابة في ملك اليمين كما لا يحصل التحليل. وفي الإصابة بالشبهة وفي النكاح الفاسد قولان: أحدهما أنه يفيد الإحصان لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب، وأصحهما المنع لأن الفاسد لا أثر له في إكمال طريق الحلال.
وهل يشترط أن تكون الإصابة في النكاح بعد التكليف والحرية؟ الأصح عند إمام الحرمين لا، فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان. والأرجح عند معظم الأصحاب نعم، لأن شرط الإصابة أن تحصل بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فيعتبر حصولها من كامل، وعلى هذا فهل يشترط كمال الواطئين جميعاً؟ قال أبو حنيفة: نعم وهو أحد قولي الشافعي فلو كان أحدهما كاملاً دون آخر لم يصر الكامل محصناً ايضاً. وقال الشافعي في اصح قولية: لا بل لكل منهما حكم نفسه. ومنها الإسلام عند أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم
"من أشرك بالله فليس بمحصن" دون الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" ولحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا. فلو حكم بشرعه فظاهر، ولو حكم بشريعة من قبله فقد صار شرعاً له، ولأن زنا الكافر مثل زنا المسلم في الحاجة إلا الزاجر ولهذا قلنا: إذا أقر الذمي بالزنا أقيم عليه الحد جبراً بخلاف الشرب فإنه لا يعتقد تحريمه. ومما احتج به لأبي حنيفة أن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ كقوله { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [الأحزاب: 30] وعورض بأن الإسلام من كسب العبد. وزيادة الخدمة إن لم تكن سبباً للعذر فلا أقل من أن لا تكون سبباً لزيادة العقوبة. قالوا: إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع فكذا إحصان الرجم والجامع كمال النعمة. وأجيب بأن حد القذف لرفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلاً للكرامة وصيانة للعرض. والجواب عن الحديث بأنا لا نسلم أن الذمى مشرك، سلمنا لكن الإحصان قد يراد به التزويج كقوله { فإذا أحصن } [النساء: 25] والذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله صلى الله عليه وسلم "وزنا بعد إحصان" وبقوله "عليهم ما على المسلمين" قال بعض أهل الظاهر: عموم قوله { الزانية والزاني } يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النصب بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس. ومنهم من قال: الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله { فإذا أحصن } [النساء: 25] أي تزوّجن { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات } [النساء: 25] فإذا لم تتزوّج فعليها المائة لعموم قوله { الزانية } واتفاق الجمهور على حذف هذين. وقال الشافعي وأبو حنيفة: الذمي يجلد للعموم ولأنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين فالجلد أولى. وقال مالكك لا يجلد بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع.
البحث الرابع في طريق معرفة الزنا وأنه ثلاثة: الأول أن يراه الإمام بنفسه فيجيء الخلاف في أن القاضي هل له أن يقضي بعلمه أم لا؟ رجح كلاً مرجحون. وجه القضاء أنه يقضي بالظن وذلك عند شهادة شاهدين فلأن يقضي بالعلم أولى. ووجه عدم القضاء أن فيه تهمة والتهمة تمنع القضاء ولهذا لا يقضي القاضي لولده ووالده. وهذا الوجه في حدود الله تعالى ارجح لأن الحاكم فيه مأمور بالستر ولهذا
"قال النبي في قضية اللعان لو كنت راجماً بغير بينة لرجمتها" ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في زمان ولايته ومكانها أو في غيرهما. وعن أبي حنيفة أنه إن حصل العلم فيهما قضى بعلمه وإلا فلا. الطريق الثاني الإقرار ويكفي عند الشافعي مرة واحدة. وقال أبو حنيفة: لا بد من أربع مرات في أربع مجالس. وجوّز أحمد أن يكون المجلس واحداً. حجة الشافعي قصة العسيف "فإن اعترفت فارجمها" والقياس على الإقرار بالقتل والردة مع أن الصارف عن الإقرار بالزنا قويّ وهو العار في الحال والقتل أو الألم الشديد في المآل، فالإقدام على الإقرار مع هذا الصارف لا يكون إلا عن صدق ويقين. حجة ابي حنيفة قصة ما عز وإعراضه صلى الله عليه وسلم عنه مرات حتى قال أبو بكر له بعدما أقر ثلاث مرات: لو اقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس على الشهادة. وأجيب بأنه لا منافاة بين القضيتين فإن الأولى محمولة على أقل المراتب، والثانية على كمالها. والفرق أن المقذوف لو اقر بالزنا مرة سقط الحد عن القاذف، ولو شهد اثنان بزناة لم يسقط. الطريق الثالث الشهادة وأجمعوا على أنه لا بد من شهود اربعة من الرجال لقوله تعالى { { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [النساء: 15] ولقوله { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } والشهادة على الإقرار بالزنا كالشهادة على الزنا في أنه لا بد من شهود اربعة. وفي قول يكفي فيه اثنان لأن الفعل مما يعسر الاطلاع عليه فلزم الاحتياط فيه باشتراط الأربعة والإقرار أمر ظاهر فيكفي فيه رجلان.
البحث الخامس: أجمعت الأمة على أن المخاطب بقوله { فاجلدوا } هو الإمام حتى احتجوا به على وجوب نصب الإمام فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقال الشافعي: السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يملك. حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم قال
"أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال "ذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" وحمل الأول على رفع القضية إلى الإمام حتى يقيموا عليهم الحدود، وحمل الثاني على التعزير خلاف الظاهر. وأيضاً إن ولاية السيد على العبد فوق الولاية بالبيعة فكان أولى. وأيضاً الإجماع على أن السيد يملك التعزير مع أنه في محل الاجتهاد فلأن يملك الحد مع التنصيص عليه أولى. حجة أبي حنيفة في قوله { فاجلدوا } الخطاب للأمة بالتفاق ولم يذكر فرق بين الأحرار المحدودين وبين العبيد. وأيضاً لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود وليس له ذلك بالتفاق لأنه ليس لأحد أن يحكم لنفسه. وأيضاً المالك في محل التهمة لأنه قد يشفق على ملكه فلا يستوفى الحد. أجابت الشافعية بأن عدم ذكر الفرق لا يدل على عدم الفرق مع أن الكلام في جواز إقامة السيد الحد لا في وجوبه. فالإمام يملك حد العبد في الجملة وذلك كافٍ في بقاء الآية على عمومها. وعن الثاني بأن للشافعي في القطع والقتل قولين: أحدهما يجوز لما روي أن ابن عمر قطع عبداً له سرق. وثانيهما لا، وهو قول مالك أن القطع للإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير. وفي سماع المولى الشهادة ايضاً وجهان: فإذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل ينبغي أن يعينوا واحداً من الصلحاء ليقوم بها، وفي الخارجي المتغلب خلاف.
البحث السادس في كيفية إقامة الحد: إنه سبحانه قد أشار إلى أن هذا الحد يجب أن لاي كون في غاية العنف بلفظ الجلد كما مر، وإلى أنه يجب أن لا يكون في غاية الرفق بقوله { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } وذلك إما بأن يترك الحد راساً، أو ينقص شيء منه، أو يخفف بحيث لا يحس الزاني بالألم. وفي معناه أن يفرق على الأيام كأن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين، وإن ضرب كل يوم عشرين مثلاً كان محسوباً لحصول التكليف. والأولى أن لا يفرق وأكد هذا المعنى بقوله { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } قال الجبائي: فيه دلالة على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان لأن التقدير: إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود. وأجيب بأن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه وأن ذلك يوجب ترك إقامة الحد، وحينئذ يكون منكراً للدين فلهذا يخرج من الإيمان. وفي الحديث
"يؤتي بوال نقص من الحد سوط فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول: رحمة لعبادك. فيقول له: أنت أرحم بهم مني فيؤمر به إلى النار" روى أبو عثمان النهدي قال: أتي عمر برجل في حد، ثم جيء بسوط فيه شدة فقال: أريد ألين من هذا. فأتي بسوط فيه لين فقال: أريد اشد من هذا. فأتي بسوط بين السوطين. وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال: ماينبغي لجسد هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص. فقال أبو عبيدة: لا تدعوه ينزع قميصه وضربه عليه. ولا خلاف في أن المرأة لا يجوز تجريدها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة. وجوّز الشافعي الضرب على الرأس لما روي أن أبا بكر قال: اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه. وقال أبو حنيفة: حكم الراس حكم الوجه لأن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس وفي الوجه واحد، وأما في سائر البدن فلا يجب إلا الحكومة. وأيضاً إن ضرب الرأس يوجب في الأغلب ظلمة البصر ونزول الماء واختلاط العقل كالوجه فإنه ايضا عرضة للآفات وفيه الأعضاء الشريفة اللطيفة. وللشافعي أن يقول: إنما يحترم الوجه لما جاء في الحديث "إن الله تعالى خلق آدم على صورته" وهذا المعنى مفقود في الرأس. ولتكن إقامة الحد في وقت اعتدال الهواء إلا إذا كان رجماً فإن المقصود - وهو قتله - لا يتفاوت بذلك. ولهذا يرجم المريض أيضاً في مرضه. وقيل: إن كان مرضاً يرجى برؤه يؤخر كما في الجلد لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم وقد أثر الرجم في بدنه فتعين شدة الحر والبرد مع المرض على إهلاكه، وهذا بخلاف ما ثبت بالبينة فإنه لا يسقط. وفي الجلد إن كان المرض مما لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر سواء زنى في حال الصحة أو حال المرض ولكن لا يضرب بالسياط عند الشافعي، لأن المقصود ليس موته بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ كما روي أن مقعداً اصاب امرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة. والأثكال والعثكال الغصن الذي عليه فروع خفيفة من النخل أو من غيره. وعند أبي حنيفة يضرب بالسياط. ثم إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وإسحق، لأن "ماعزاً لما مسته الحجارة هرب فقال صلى الله عليه وسلم:هلا تركتموه" . وعن الحسن وابن أبي ليلى وداود أن لا يقبل رجوعه. ويحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها، ولا يحفر للرجل كما في حق ماعز إذ لو كان في الحفرة لم يمكنه الهرب. ولما روى أبو سعيد الخدري في قصته "فما أوثقناه ولا حفرنا له". وإذا مات الزاني في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. ومن تغليظات حد الزنا قوله سبحانه { وليشهد } ظاهره أمر للوجوب إلا أن الفقهاء أجمعوا على أن حضورالجمع مستحب والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع، ولما فيه من دفع التهمة عمن يجلد. وفي لفظ العذاب دليل على أنه عقوبة لا استصلاح إلا أن يراد بالعذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال وقد مر في أول البقرة في قوله { ولهم عذاب عظيم } [الآية: 7] ومعنى الطائفة قد مر في التوبة. فقال النخعي ومجاهد: هي في الآية واحد. وعن عطاء وعكرمة اثنان. وعن الزهري وقتادة ثلاثة. وقال ابن عباس والشافعي: اربعة بعدد شهود الزنا. وعن الحسن عشرة لأنها أول عقد. وجوّز ابن عباس إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله. وحضور الإمام والشهود ليس بلازم عند الشافعي ومالك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر رجم ماعز والغامدية. وقال أبو حنيفة: إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقراره بدأ الإمام ثم الناس.
ثم ذكر شيئاً من خواص الزناة فقال: { الزاني لا ينكح } وهو خبر في معنى النهي كقراءة عمرو بن عبد { لا ينكح } بالجزم. ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى أن عادتهم جارية بذلك. وفي الآية أسئلة: الأول: كيف قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وعكس الترتيب في هذه؟ والجواب أن تلك الاية مسبوقة لبيان عقوبتهما على جنياتهما وكانت المرأة أصلاً فيها لأنها هي التي أطمعت الرجل في ذلك. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل هو الأصل في الرغبة والخطبة. والثاني: ما الفرق بين الجملتين في الآية؟ والجواب معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان لأنه لا يلزم عقلاً من كون الزاني كذلك أن يكون حال الزانية منحصرة في ذلك فأخبره الله تعالى بالجملة الثانية عن هذا الانحصار. الثالث أنا نرى الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف، وايضاً المؤمن قد يحل له التزوج بالمرأة الزانية. الجواب للمفسرين فيه وجوه. أحدها وهو الأحسن قول القفال: إن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد منه الأعم الأغلب، وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة المسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء في الأغلب وإنما يرغب فيها أشكالها من الفسقة أو المشركين نظير هذا الكلام قول القائل "لا يفعل الخير إلا الرجل التقي". وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي. وأما المحرم على المؤمنين فصرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات لانخراطهم بسبب هذا الحصر في سلك الفسقة المتسمين بالزنا. الوجه الثاني أن الألف واللام في قوله { الزاني } وفي قوله { المؤمنين } للعهد. روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة أنه قدم المهاجرون المدينة وليست لهم أموال ولا عشائر وبها نساء يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ولكل واحدة منهن علامة على بابها لتعرف بها وكان لا يدخل عليها إلا زانٍ أو مشرك، فرغب فيهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا: نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن. فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. والتقدير: أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات، وتلك الزانيات لا ينكحها إلا أولئك الزواني، وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين. الوجه الثالث أن هذا خبر في معنى النهي كما مر. وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام. ثم قيل: إن ذلك الحكم باقٍ إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس. ويقال: هذا مذهب ابي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة. ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول: كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك إذا زنت تحته لا يحل له أن يقيم عليها. ومنهم من يفصل لأن في جملة ما منع من التزوج مالا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة. وقيل: إنه صار منسوخاً إما بالإجماع - وهو قول سعيد بن المسيب - وزيف بأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وإما بعموم قوله
{ وأنكحوا الأيامى } } [النور: 32] { { فانكحوا ما طاب لكم } [النساء: 3] وهو قول الجبائي. وضعف بأن ذلك العام مشروط بعدم الموانع السببية والنسبية وليكن هذا المانع أيضاً من جملتها. وسئل ابن عباس عن ذلك فأجازه وشبه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: "أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال" . الوجه الرابع قول أبي مسلم: إن النكاح محمول على الوطء وذلك إشارة إلى الزنا أي وحرم الزنا على المؤمنين. قال الزجاج: هذا التأويل فاسد من جهة أن النكاح في كتاب الله لم يرد إلا بمعنى التزويج، ومن جهة أن يخرج الكلام عن الفائدة إذ لا معنى لقول القائل "الزاني لا يطأ إلا الزانية" حتى يكون وطؤه زناً، ولو أريد حين التزوج فالإشكال عائد لأن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها. الحكم الثاني من أحكام السورة حد القذف والرمي قد يكون بالزنا وبغيره كالكفر والسرقة وشرب الخمر، إلا أن العلماء أجمعوا على أن المراد به في الآية هو الرمي بالزنا بالقرائن: منها تقدم ذكر الزنا، ومنها ذكر المحصنات وهن العفائف، ومنها قوله { لم يأتوا بأربعة شهداء } أي على صحة ما رموها به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في الزنا، والقذف بغير الزنا يكفي فيه شاهدان. وألفاظ القذف تتقسم إلى صريح وكناية وتعريض، فالصريح أن يقول: يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك. والأصح أن قوله "زنى بدنك" صريح لأن الفعل لكل البدن والفرج آلة. والكناية أن يقول "يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة يا بنت الحرام أو امراة لا تردّ يد لامس" فهذا لا يكون قذفاً إلا أن يريده. وكذا لو قال العربي "يا نبطي الدار واللسان" وادعت أم المقول له أنه أراد القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف كقوله "يا ابن الحلال" و "أما أنا فليست أمي بزانية" وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك: يجب الحد فيه. وقال أحمد وإسحق: هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا لنا أن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "ادرؤا الحدود بالشبهات" والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الإيذاء الحاصل بالتعريض.
حجة المخالف ما روي أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر: والله ما أرى أبي بزانٍ ولا أمي بزانية. فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل: مدح اباه وأمه. وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا. فجلده عمر ثمانين. وإذا قذف شخصاً واحداً مراراً فإن اراد بالكل زنية واحدة كما لو قال مراراً؟زنيت بعمرو" لم يجب إلا حد واحد. ولو أنشأ الثاني بعد ما حد للأول عزر للثاني. وإن أراد زنيات مختلفة كأن قال "زنيت بزيد وزنيت بعمرو" فالأصح تداخل الحدود لأنهما حدان من جنس واحد فصار كما لو قذف زوجته مراراً يكتفي بلعان واحد. وإذا قذف جماعة بكلمات أو بكلمة واحدة كأن قال "يا ابن الزانيين" فعليه حدان لأنه قذف لكل واحد من أبويه، هذا هو الجديد من قولي الشافعي. وعند أبي حنيفة لا يجب إلا حد واحد لأن قوله { والذين يرمون المحصنات } معناه كل من رمى جماعة من المحصنات فاجلدوه ثمانين، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال الهلال بن أمية "أو حدّ في ظهرك" فلم يوجب عليه إلا حداً واحداً مع قذفه لامرأته. ولشريك بن سحماء للقياس على من زنى مراراً أو شرب أو سرق مراراً والجامع رفع مزيد الضرر. وأجيب بأن قوله { والذين } صيغة جمع وقوله { المحصنات } كذلك. وإذا قوبل الجمع بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى: كل من رمى محصنة فاجلدوه. وفيه أن رمي المحصنة علة الجلد فحيث وجدت وجد. ولا شك أن هذه العلة موجودة عند رمي كل واحدة من المحصنات فيترتب عليها الجلد لا محالة. وأما السنة فالإنصاف أن دلالتها على المطلوب قوية، وأما القياس فالفرق أن هذا الآدمي وتلك حدود الله تعالى. هذا كله هو البحث عن الرمي. وأما البحث عن الرامي فنقول: لا عبرة بقذف الصبي والمجنون إلا في باب التعزير للتأديب إن كان لهما تمييز ولو لم يتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ. قال القفال: يسقط التعزير لأنه كان للزجر. والعقل زاجر قوي وإشارة الأخرس وكتابته قذف ولعان عند الشافعي قياساً على سائر الأحكام، ولأنه كافٍ في لحوق العار. وعند ابي حنيفة لا يصح قذفه ولعانه لضعف تاثيرهما. وإذا قذف العبد حراً فعليه أربعون جلدة قاله مالك والشافعي وابو حنيفة واصحابه على قانون قوله
{ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [النساء: 25] وعند الشيعة ويروى عن علي رضي الله عنه أنه يجلد ثمانين أخذاً بعموم الآية، ولهذا اتفقوا على دخول الكافر فيه حتى لو قذف اليهودي مسلماً جلد ثمانين. ويستثنى من الرماة الأب أو الجد إذا قذف أولاده أو أحفاده فإنه لا يجب عليه الحد كما لا يجب عليه القصاص. وأما البحث عن المرمي فالمحصنات العفائف لأنهن منعن فرجهن إلا من زوجهن وهي عامة إلا أن الفقهاء اعتبروا لكونها محصنة شرائط خمساً: الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم "من أشرك بالله فليس بمحصن" والعقل والبلوغ لأن المجنون والصبي لا اهتمام لهما بدفع العار عن أنفسهما، والحرية لمثل ما قلناه، والعفة لأن الحد شرع لتكذيب القاذف فإذا كان صادقاً فلا معنى للحد حتى لو زنى مرة في عنفوان شبابه ثم تاب وحسنت حاله لم يحد قاذفه بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه قاذف فإنه يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا. ولو زنى بعد القذف وقبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن قاذفه. قال أبو حنيفة والشافعي لأن ظهور الزنا منه خدش ظن الإحصان به وقت القذف، ودل على أنه كان متصفاً به قبله كما روي أن رجلاً زنى في عهد عمر فقال: والله ما زنيت إلا هذه. فقال عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة. وقال أحمد والمزني وأبو ثور: الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف. ولفظ المحصنات لا يتناول الرجال عند جمهور العلماء إلا أنهم أجمعوا على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات والقذف بغير الزنا كأن يقول "يا آكل الربا" يا "شارب الخمر" يا "يهودي" يا "مجوسي" يا "فاسق" وكذا قذف غير المحصنين بالزنا لا يوجب الا التعزير، ولو كان المقذوف معروفاً بما ذكره فلا تعزير أيضاً. واعلم أنه سبحانه حكم على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام: جلد ثمانين وبطلان الشهادة والحكم بفسقه إلى أن يتوب. فذهب جمع من الأئمة كالشافعي والليث بن سعد إلى أنه رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أموراً ثلاثة معطوفة بعضها على بعض بالواو وهو لا يفيد الترتيب، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتباً على إقامة الحد، بل يجب أن يثبت رد الشهادة بالقذف مع عدم البينة سواء اقيم عليه الحد أم لا. وقال مالك وأبو حنيفة واصحابه: شهادته مقبولة ما لم يحد فإذا استوفى لم تقبل شهادته. وإنما ذهب إلى هذا نظراً إلى ظاهر الترتيب مع موافقته للأصل وهو كونه مقبول الشهادة ما لم يطرأ مانع ولقوله صلى الله عليه وسلم "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف" أخبر ببقاء عدالته ما لم يحدّ.
أما الاستثناء في قوله { إلا الذين تابوا } فإنه لا يرجع إلا الجملة الأولى اتفاقاً لأنه إذا عجز عن البينة وهو الإتيان بأربعة شهداء وجب عليه الجلد ولم يكن للإمام ولا للمقذوف أن يعفو عن القاذف لأنه خالص حق الله عز وجل، ولهذا لا يصح أن يصالح عنه بمال. هذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: إذا عجز عن البينة وجب على الإمام وهو المخاطب بقوله { فاجلدوهم } أن يأمر بجلده وإن تاب لأن القذف وحده حق الآدمي والمغلب فيه حقه، فليس للإمام أن يعفو عنه. ولا خلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وأن المراد أنهم محكوم عليهم بالفسق. إلا أن تابوا. بقي الخلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة المتوسطة، منشأ الخلاف مسألة أصولية هي أن الاستثناء بعد جمل معطوف بعضها على بعض للجميع وهو مذهب الشافعية، أو للاخيرة وهو مذهب الحنفية، ويتفرع على مذهب الشافعي أن القاذف إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته فيكون الأبد مصروفاً إلى مدة كونه قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف. ويتفرغ على مذهب أبي حنيفة أنه لم تقبل شهادته وإن تاب والأبد عنده مدة حياته. وقوله { وأولئك هم الفاسقون } جملة مستأنفة عنده لا معطوفة لأنها خبرية وما قبلها طلبية، ولو سلم أنها معطوفة فالاستثناء يرجع إليها فقط. قال صاحب الكشاف: حق المستثنى عند الشافعي أن يكون مجروراً بدلاً من هم في لهم، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً لأنه عن موجب. قلت: حقه عند الإمامين أن يكون منصوباً لأن الاستثناء يعود عند الشافعي إلى الجملتين، ولا يمكن أن يكون الاسم الواحد معرباً بإعرابين مختلفين في حالة واحدة، لكنه يجب نصبه نظراً إلى الأخيرة فتعين نصبه نظراً إلى ما قبلها أيضاً، وإن جاز البدل في غير هذه المادة. هذا وقد احتجت الشافعية أيضاً في قبول شهادة القاذف بعد التوبة بقوله صلى الله عليه وسلم
"التائب من الذنب كمن لا ذنب له" وإذا كانت التوبة من الكفر والزنا والقتل مع غلظها مقبولة فلأن تقبل من القذف أولى. وأيضاً إن أبا حنيفة يقبل شهادته قبل الحد فبعده وقد تاب وحسن حاله أولى. وأيضاً الكافر يقذف فيتوب من الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، فالقاذف المسلم إذا تاب من القذف كان أولى بأن تقبل شهادته لأن القذف مع الإسلام أهون حالاً من القذف مع الكفر. لا يقال: المسلمون لا يعبؤون بسب الكفار لاشتهارهم بعداوتهم والطعن فيهم فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر عار حادث بخلاف ما لو قذفه مسلم. وأيضاً الإيمان يجب ما قبله وبهذا لا يلزم الحد بعد التوبة من الكفر ويلزم بعد التوبة من القذف لأنا نقول: هذا الفرق ملغى في أهل الذمة لقوله صلى الله عليه وسلم "لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" واحتجت الحنفية في عدم قبول شهادته بما روى ابن عباس في قصة هلال بن أمية يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ولم يشترط التوبة، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف" ولم يذكر التوبة. وروى عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تجوز شهادة محدود في الإسلام" والشافعية عارضوا هذه الحجج بوجوه: منها قوله صلى الله عليه وسلم "إذا علمت مثل الشمس فاشهد" فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم يقبل كان عبثاً. ومنها قوله نحن نحكم بالظاهر، وههنا قد ظهرت العفة والصلاح. ومنها أن عمر بن الخطاب ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم ابو بكرة ونافع ونفيع ثم قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته. فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا فكان يقبل شهادتهما.
وقد بقي في الآية مسائل.
الأولى: قال الشافعي: لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين. وقال أبو حنيفة: إذا جاؤوا متفرقين لم يثبت وعليهم حد القذف كما لو شهد على الزنا أقل من أربعة. حجة الشافعي أن الآتي بالشهداء متفرقين آتٍ بمقتضى النص واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية. وأيضاً القياس على سائر الأحكام بل تفريقهم أولى لأنه ابعد عن التهمة والتواطؤ. وكذلك يفعل القاضي في كل حكم سواه عند الريبة. وايضاً لا يجب أن يشهدوا معاً في حالة واحدة بل إذا اجتمعوا عند القاضي ويقوم واحد بعد آخر ويشهد جاز فكذا إذا اجتمعوا على بابه ويدخل واحد بعد آخر. حجة أبي حنيفة الشاهد الواحد لما شهد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحد فخرج عن كونه شاهداً، ولا عبرة بتسميته شاهد إذا فقد المسمى فلا خلاص عن هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع، ونظيره ما روي أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب اربعة: أبو بكرة ونافع ونفيع. وقال زياد: وكان رابعهم: رايت رجليها على عاتقه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك. فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر. فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف في الحد للاحتياط.
الثانية: جوّز أبو حنيفة أن يكون زوج المقذوفة واحداً من الشهداء الأربعة وأباه الشافعي.
الثالثة: قال الشافعي: في أحد قوليه: إذا أتي بأربعة فساق فهم قذفه يجب عليهم الحد كما يجب على القاذف الأول. وقال أبو حنيفة: لا حد عليهم ولا على القاذف لأنه أتى باربعة من أهل الشهادة إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه فكذلك يجب اعتبارها في نفي الحد عنهم.
الرابعة: لا يكفي في الشهادة إطلاق الزنا لا بد ان يذكروا التي زنى بها وأن يذكروا الزنا مفصلاً مفسراً فيقولوا: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة أو كالرشا في البئر، ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم. ولو أقر على نفسه بالزنا فهل يشترط التفسير والبيان؟ فيه وجهان: نعم كالشهود لا كالقذف.
الخامسة: قالوا: أشد الحدود ضرب الزنا ثم ضرب الخمر ثم القذف لأن سبب عقوبته يحتمل الصدق والكذب. إلا أنه عوقب صيانة للأعراض.
السادسة: حد القذف يورث عند مالك والشافعي بناء على أنه حق الآدمي. وقد قال صلى الله عليه وسلم
"من ترك حقاً فلورثته" والأصح أنه يرثه جميع الورثة. وفي قول سوى الزوج والزوجة لأن الزوجية ترفع بالموت، ولأن لحوق العار بها أقل. وعلى هذا القول اعتراض أبو حنيفة بأنه لو كان موروثاً لكان للزوج والزوجة فيه نصيب.
السابعة: إذا قذف إنسان إنساناً بين يدي الحاكم أو قذف امرأته برجل والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قد قذفك وثبت لك حد القذف عليه كما لو ثبت له حق على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه، وبهذا المعنى بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً ليخبرها بأن فلاناً قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها.
قال الشافعي: وليس للإمام إذا رمى رجل بالزنى أن يبعث إليه فيساله عن ذلك لأن الله تعالى قال
{ { ولا تجسسوا } [الحجرات: 12] وأراد به إذا لم يكن القاذف معيناً كأن قال رجل بين يدي الحاكم: الناس يقولون إن فلاناً زنى: فلا يبعث الحاكم إليه فيساله. الثامنة: قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الأصطخري بأن يقول: كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله كذبت كذباً والكذب معصية والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى بل يقول: القذف باطل وندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه. ولا بد من مضيّ مدة عليه في حسن الحال وهو المراد بقوله { واصلحوا } وقدّروا تلك المدة بسنة لأن مرور الفصول الأربعة كلها له تاثير في الطباع. وأن الشارع جعل السنة معتبرة في الزكاة والجزية وغيرهما. أما قوله { وأولئك هم الفاسقون } ففيه دليل على أن القذف من جملة الكبائر، وأن الفاسق اسم من يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقاً من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب، اللهم إلا أن يقال: إنما لا يطلق عليه هذا الاسم بعد التوبة للتعظيم كما لا يقال الأكابر الصحابة كافر لكفر سبق. قالت الأشاعرة: في قوله { فإن الله غفور رحيم } دلالة على أن قبول التوبة لا يجب عليه وإلا لم يفد المدح. الحكم الثالث: اللعان وسببه قذف الزوجات خاصة. القذف أمر محظور في نفسه إلا إذا عرض ما يباح أو يجب به. وتفضيل ذلك أنه إن رآها الزوج بعينه تزني، أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها، أو سمع ممن يثق بقوله، أو استفاض بين الناس أن فلاناً يزني بفلانة وقد رآه الزوج يخرج من بيتها، أو رآه معها في بيت، أبيح له القذف لتأكيد التهمة. ويجوز أن يمسكها أو يستر عليها لما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي امرأة لا تردّ يد لامس. قال: طلقها. قال: إني أحبها. قال: فأمسكها أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله، أو استفاض ولكن لم يره الزوج معها أو بالعكس لم يحل له قذفها لأنه ربما دخل لخوف أو سرقة أو لطلب فجور وابت المرأة هذا كله إذا لم يكن ثمة ولد يريد نفيه، فإن كان ثمة ولد فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة اشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الشهاد من الأولين والآخرين" وإن احتمل أن يكون الولد منه بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولأقل من أربع سنين، فإن لم يكن استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لم يحل له القذف والنفي، وإن اتهمها بالزنا وإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي، والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل. وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه كأن كانا أبيضين وأتت به أسود فإن لم يتهمها بالزنا فليس له نفيه لما "روى أبو هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال: هل لك من إبل؟قال: نعم. قال:ما لونها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم قال: فكيف ذاك؟ قال: نزعه عرق. قال: فلعل هذا نزعه عرق" . وإن كان يتهمها بزنا أو برجل فأتت بولد يشبهه فهل يباح نفيه؟ فيه وجهان: أما سبب نزول الاية فقد قال ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن عدي الأنصاري: إذا دخل منا رجل بيته ووجد رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال: وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصماً وقال: رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي. أخبرني عويمر أنه رأى شريكاً على بطن امرأته، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم أبناء عم عاصم. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها. فقال: يا رسول الله أقسم بالله أني رأيت شريكاً على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة اشهر وأنها حبلى من غيري. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت. فقالت: يا رسول الله إن عويمراً رجل غيور وإنه رأى شريكاً يطيل التردد ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله سبحانه هذه الآيات. { والذين يرمون أزواجهم } إلى آخرها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي بالصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثانية قل أشهد بالله إني رايت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثالثة: قل أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين. ثم قال في الرابعة: قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين. ثم قال في الخامسة: قل لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قاله. ثم قال: اقعد. وقال لخولة: قومي فقامت. وقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي عويمراً لمن الكاذبين. وقالت في الثانية: اشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين. وقالت في الثالثة: اشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين. وفي الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين. وفي الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وعن ابن عباس أيضاً في رواية الكلبي أن عاصماً رجع إلى أهله فوجد شريكاً على بطن امرأته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث كما تقدم. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: "لما نزلت آية القذف قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: ولو وجدت رجلاً على بطنها فإني إن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته وذهب. فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور. فقال سعد: يا رسول الله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت منه. فقال صلى الله عليه وسلم: فإن الله أبى لي ذلك فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال: يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلاً رأيت بعيني وسمعت باذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أخبرتك به، والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما البينة وإما إقامة الحد عليك. فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد. فبيناهم كذلك إن نزل الوحي فقال: يا هلال أبشر فقد جعل الله لك فرجاً وأمر بالملاعنة وفرق بينهما وقال: أبصروها فإن جاءت به اصهب أحمش الساقين أي دقيقهما فهو لهلال، وإن جاءت به اورق جعداً خدلج الساقين. اي ضخمهما فهو لصاحبه. فجاءت به خدلج الساقين فقال صلى الله عليه وسلم: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن. قال عكرمة: لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار لا يدري من أبوه" .
واعلم أن الفرق بين قذف غير الزوجة وبين قذف الزوجة هو أن المخلص من الحد في الأول إقرار المقذوف بالزنا أو بينة تقوم على زناة، وفي الثانية المخلص أحد الأمرين أو اللعان. وسبب شرع اللعان هو أنه لا مضرة على الزوج في زنا الأجنبي والأولى له ستره، وأما في زنا الزوجة فيلحقه العار والشنار والسنب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمتعذر. وأيضاً الغالب أن الرجل لا يقصد رمي زوجته إلا عن حقيقة، فنفس الرمي دليل على صدقه إلا أن الشرع أراد كمال شهادة الحال بقرينة الإيمان كما أن شهادة المرأة حين ضعفت أكدت بزيادة العدد فمن هنا قال كثير من العلماء: إن حد قاذف الزوجة كان هو الجلد وإن الله نسخه باللعان.
ولنذكر ههنا مسائل:
الأولى: قال الشافعي: إذا نكل الزوج عن اللعان لزمه الحد للقذف، فإذا لاعن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا. وقال أبو حنيفة: إذا نكل الزوج يحبس حتى يلاعن وكذا المرأة. حجة الشافعي إذا لم يأت بالمخلص وهو الملاعنة وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد. وايضاً قوله { ويدرأ عنها العذاب } ليست اللام فيه للجنس لأنه لا يجب عليها جميع أنواع العذاب، ولأن الآية تصير إذ ذاك مجملة فهو للعهد ولا معهود في الاية إلا حد القذف، ولقوله صلى الله عليه وسلم لخولة الرجم أهون عليك من غضب الله. وللمرأة أن تقول: إن كان الرجل صادقاً فحدّوني وإن كان كاذباً فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله. حجة أبي حنيفة أن النكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره.
الثانية: الجمهور على أنه إذا قال "يا زانية" وجب اللعان لعموم قوله { والذين يرمون } وقال مالك: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني وينفي حملاً بها أو ولداً منها.
الثالثة: قال الشافعي: من صح رميه صح لعانه فلا يشترط إلا التكليف، ويجري اللعان بين الذميين والمحدودين والرقيقين. وذهب أبو حنيفة إلى ان الزوج ينبغي أن يكون مسلماً حراً عاقلاً بالغاً غير محدود في القذف، والمرأة ينبغي أن تكون بهذه الصفة مع العفة. فإذا كان الزوج عبداً أو محدوداً في قذف والمرأة محصنة حدّ كما في قذف الأجنبيات. دليل الشافعي عموم قوله { والذين يرمون أزواجهم } والإجماع. على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة، فكذا القول في غيرهما، والجامع هو الحاجة إلى دفع العار. دليل أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي من النساء من ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحّرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر. وأيضاً اللعان بين الزوجات قائم مقام الحد في الأجنبيات فلا يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي. وأيضاً اللعان شهادة لقوله تعالى { فشهادة أحدهم أربع شهادات } وقد جاء مثله في أحاديث اللعان. وإذا كان شهادة وجب أن لا يقبل من المحدود في القذف ولا من العبد والكافر. أجاب الشافعي بأن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة أو يمين فيها شائبة الشهادات فلا يشترط في الملاعن إلا أهلية لليمين، ومما يدل على أنه يمين قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: احلف بالله الذي لا إله إلا هو إنك صادق. وقوله: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن. وأيضاً لو كان شهادة لكان حظ المرأة ثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل، ولم يجز لعان الفاسق والأعمى لأنهما ليسا من أهل الشهادة. لا يقال: الفاسق والفاسقة قد يتوبان لأنا نقول: العبد أيضاً قد يعتق، بل العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد الاختبار. ثم ألزم الشافعي أبا حنيفة بأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية. ثم قال الشافعي بعد ذلك: وتختلف الحدود لمن وقعت له، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن ينصف الحد عليه برقه، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وحريتها ورقها.
الرابعة: اختلف المجتهدون في نتائج اللعان، فعن عثمان البتي أنه لا يحصل به الفرقة أصلاً لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قذفه وهذا لا يوجب تحريماً كما لو قامت البينة عليها. وأيضاً إن تلاعنهما في بيتهما لا يوجب الافتراق فكذا عند الحاكم. وأيضاً إنه قائم مقام الشهود في الأجنبيات فلا يكون له تأثير إلا في إسقاط الحد. وأيضاً إذا أكذب الزوج نفسه ثم حدّ لا يوجب الفرقة فكذا اللعان. وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين في قصة العجلاني فذلك لأن الزوج كان طلقها ثلاثاً قبل اللعان. وعن أبي حنيفة وأصحابه إلاَّ زفر، أن الحاكم يفرق بينهما لما روى سهل بن سعد: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم يجتمعان أبداً، ولما في قصة عويمر كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً، فلو وقعت الفرقة باللعان لم يمكن إمساكها. وقال مالك والليث وزفر: إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بينهما وإن لم يفرق الحاكم، لأنهما لو تراضيا على دوام النكاح لم يخليا فدل ذلك على وقوع الفرقة بينهما. وقال الشافعي: إذا فرغ الزوج وحده من اللعان حصل بذلك خمس نتائج: درء الحد عنه، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤبد، ووجوب الحد عليها. ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما محمول على أنه أخبر عن وقوع الفرقة بينهما. وزعم ابو بكر الرازي أن قول الشافعي خلاف الآية، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لاعنت المرأة وهي أجنبية، ولكنه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين، وأيضاً اللعان شهادة فلا يثبت حكمها إلا عند الحاكم كسائر الشهادات. وأيضاً اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ما ادعاه بالبينة فيتوقف على حكم الحاكم. وأيضاً اللعان لا إشعار فيه بالتحريم فهو كما لو قامت البينة على زناها فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم. ولقائل أن يقول: سميا زوجين باعتبار ما كان كالعبد على من عتق، ولا نسلم أن اللعان شهادة محضة. ومما يؤكد قول الشافعي تنصيص الله سبحانه على ذلك بقوله { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } ففيه دلالة على أن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب. وأيضاً أن لعان الزوج مستقل بنفي الولد لأن الاعتبار في الإلحاق بقوله لا بقولها، ألا ترى أنها في لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه، وإذا انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يكون الفراش زائلاً لقوله "الولد للفراش". الخامسة: مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف والثوري وإسحق، أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً وهو قول علي وابن مسعود. ولما روي الزهري من حديث سهل بن سعد، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد اللعان لا سبيل لك عليها. ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان إلا كذاب غاية لهذه الحرمة، وأنه إذا أكذب نفسه وحدّ زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد لذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى
{ { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } [البقرة: 230] وقد يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله { { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [النساء: 3] وقوله { { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [النساء: 24].
السادسة: اتفق أهل العلم على أن الولد ينتفي من الزوج باللعان. وخالف بعضهم مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" وزيف بأن الأخبار الدالة على أن الولد ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها الواحد بل يجب تخصيصه بها.
السابعة: لو أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق بها الحكم عند الشافعي وهو ظاهر وعن أبي حنيفة أن للأكثر حكم الكل إذا حكم به الحاكم.
الثامنة: كيفية اللعان كالصريحة في الاية وأن الحديث قد زادها بياناً كما مر. وقد عد الشافعي ومن سننها أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى العنة ويقول له القاضي أو صاحب المجلس: اتق الله فإنها موجبة. وهكذا يقال للمرأة إذا انتهت إلى الغضب. ومما يستحب في اللعان ولا يجب على الأصح، التغليظ بالزمان. وهو ما بعد صلاة العصر ولا سيما عصر يوم الجمعة، وبالمكان وذلك بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة بين المنبر والمدفن، وفي سائر البلاد عند المنبر في المسجد الجامع ايضاً وهو المقصورة، وفي بيت المقدس في المسجد القصى عند الصخرة، ولليهود في الكنيسة، وللنصارى في البيعة، وللمجوس في بيت نارهم، وإذا لم يكون له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام. ولا بد من حضور الحاكم سواء كان مدار اللعان على اليمين أو على الشهادة، ولا بد من حضور جمع من الأعيان أقلهم أربعة.
التاسعة: قال جار الله: إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظاً عليها لأنها أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ولذلك كانت متقدمة في آية الجلد.
العاشرة: في فوائد متعلقة بالآية منها: إبطال الجمهور وقول الخوارج إن الزنا والقذف كفر، وذلك أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف، فلا بد من كفر أحدهما والردة توجب الفرقة من غير لعان: ومنها إبطال قول من زعم أن الزنا يوجب فساد النكاح لأن رمي الزوج إياها اعتراف منه بزناها بل بفساد النكاح على قول هذا القائل فتحصل الفرقة بلا لعان. ومنها أن المعتزلة قالوا: المتلاعنان يستحقان اللعن أو الغضب الموجبين للعقاب الأبدي المضاد للثواب وذلك يدل على خلود الفساق في النار. أجابت الاشاعرة بأن كونه مغضوباً عليه بفسقه لا ينافى كونه مرضياً عنه بجهة إيمانه فلا بد أن يحصل له بعد العقاب ثواب. ثم أخبر عن كمال رافته بقوله { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } أي فيما بين من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة. وجواب "لولا" محذوف أي لهلكتم أو فضحتم أو لكان ما كان من أنواع المفاسد. وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم كل مذهب فيكون أبلغ في البيان فرب مسكوت عنه ابلغ من منطوق به.
التأويل: النفس الزانية المستسلمة لتصرفات الشيطان والدنيا فيها، والروح الزاني بتصرفه في الدنيا وشهواتها المنهية عنها { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } من الجوع وترك الشهوات والمرادات، ومن حملهما على المخالفات. ولعل السر في تخصيص هذا العدد هو أن ساعات اليوم بليلته اربع وعشرون منها: أربع ساعات لأجل النوم
{ { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } [المزمل: 20] والباقية يجب فيها مراقبة الحواس الخمس وتأديبهن بآداب الشرع والعقل، فيكون المجموع مائة وتأديبة يحصل نتائجها وكمالها للنفس والروح والله تعالى أعلم. { وليشهد عذابهما } ولتكن هذه التزكية والتأديبات بمحضر شيخ واصل كامل يحفظه من طرفي الإفراط والتفريط { الزاني لا ينكح } فيه أن الطبع يسرق والجنس إلى الجنس يميل، فأهل الفساد لا ترغب إلا في صحبة أمثالهم من أهل الفساد كما أن أرباب السداد لا تطمح إلا إلى صحبة أمثالهم من أرباب السداد. { وحرم ذلك } الذي قلنا من اختلاط الأشرار { على المؤمنين } { والذين يرمون المحصنات } أي الأرواح الذين ينسبون إلى نقصان النفوس المستعدات للكمالات { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } أي لم يكن خواص العناصر الأربعة ظاهرة على صفحات أحوالهن كما مر تقريره في أول النساء في قوله { { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [النساء: 15] ولم تبلغ الملكات الذميمة منهن مرتبتها. الرابعة كالكاتب يكتب بالفعل { فاجلودهم ثمانين جلدة } مر وهم بالخلوة أربعين يوماً وأربعين ليلة حتى يظهر لهم كمال حال النفوس في الموافقة لهم ولا تقبلوا لهم بعد ذلك شهادة عليهن، وأولئك هم الذين يريدون أن يخرجوا عن طاعة الله بقدر نسبة النقصان إلى النفوس المستعدة. { والذين يرمون أزواجهم } وهن القوالب المزدوجة بالأرواح { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } لأنه لا يطلع على أحوال القالب إلا الروح { فشهادة أحدهم أربع شهادات } هي الأسنان الأربعة التي فيها تحصل التربية والاستكمال. { والخامسة } وهي حالة حلول الأجل اللعنة والغضب والعذاب الأبدي وما تولد منهما من الصفات الذميمة ينسبها الروح إلى ثالث هو الشيطان، وينسبها القالب إلى الروح الذي يدبره ويتصرف فيه. والافتراق الذي يحصل بينهما ليس بالصورة بل المعنى لأن الروح يميل إلى العالم العلوي والقالب إلى العالم السفلي لعدم الموافقة بينهما وهو سبحانه أعلم.