خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ
٣٥
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٨
وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٣٩
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ
٤٠
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
٤١
وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٤٢
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ
٤٣
يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٤٤
وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٥
لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤٦
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ
٤٨
وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ
٤٩
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٥٠
-النور

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { نور السموات } على الفعل: يزيد من طريق ابن أبي عبلة وابن مشيا { كمشكاة } ممالة: أبو عمرو عن الكسائي { دريء } بكسرتين وبالهمز: أبو عمرو وعلي والمفضل مثله بضم الدال: حمزة وأبو بكر وحماد والخزاز. الباقون بضم الدال وتشديد الياء { توقد } بضم التاء وفتح القاف: حمزة وعلي وخلف وابو بكر وحماد مثله ولكن بياء الغيبة على أن الضمير للمصباح: ابن عامر ونافع وحفص وابو زيد عن المفضل. الباقون وجبلة { توقد } بالفتحات وتشديد القاف { يسبح } بفتح الباء: ابن عامر وأبو بكر وحماد: { سحاب } { ظلمات } على الإضافة: البزي { سحاب } بالتنوين { ظلمات } بالكسر على أنه نصب على الحال: القواس وابن فليح. الباقون بالرفع والتنوين فيهما. { ينزل } من الإنزال: ابن كثير وابو عمرو وسهل ويعقوب { يذهب } من الإذهاب يزيد على أن الباء زائدة { خالق كل شيء } على الإضافة: حمزة وعلي وخلف. الآخرون { خلق } على لفظ الماضي { كل } منصوباً.
الوقوف: { والأرض } ط { مصباح } ط { زجاجة } ط { غربية } ط لأن ما بعدها صفة شجرة { نار } ط { نور } ط { يشاء } ط { للناس } ط { عليم } ه لا بناء على أن الظرف يتعلق بما قبله وهو { كمكشاة } أي مثل مشكاة في بعض بيوت الله عز وجل والأولى تعلقه بـ { يسبح } وفيها تكرار كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف وهو سبحوا اسمه لا لأن ما بعده صفة بيوت أو لأن الظرف يتعلق بـ { يسبح } { والآصال } ط لمن قرأ { يسبح } بفتح الباء كأنه قيل: من يسبح؟ فقيل: { رجال } أي يسبحه رجال. ومن قرأ بالكسر لم يقف لأنه فاعل الفعل الظاهر { رجال } لا لأن ما بعده صفة { الزكاة } لا لأن ما بعده أيضاً صفة { والأبصار } ه لا لتعلق اللام. أو حاتم يقف ويجعل اللام لام القسم على تقدير ليجزين قال: فلما سقطت النون انكسرت اللام. { من فضله } ط { حساب } ه { ماء } ط { حسابه } ط { الحساب } ه لا للعطف { سحاب } ط لمن قرأ { ظلمات } بالرفع ولم يجعلها بدلاً { فوق بعض } ط { يراها } ط { من نور } ه { صافات } ط { وتسبيحه } ط { يفعلون } ه { والأرض } ج فصلاً بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين { المصير } ه { من خلاله } ج لما قلنا { عمن يشاء } ط { بالأبصار } ه ط { والأنهار } ط { الأبصار } ج { من ماء } ج للفاء مع التفصيل { بطنه } ج { رجلين } ج لمثل ما قلنا { اربع } ط { ما يشاء } ط { قدير } ه { مبينات } ط { مستقيم } ه { ذلك } ط { بالمؤمنين } ه { معرضون } ه { مذعنين } ه ط { ورسوله } ط { الظالمون } ه.
التفسير: أنه سبحانه لما بين من الأحكام ما بين أردفها على عادة القرآن بالإلهيات وقدم لذلك مثلين أحدهما في أن دلائل الإيمان في غاية الظهور، والثاني أن أديان الكفر في نهاية الظلمة. أما الأول فهو قوله { الله نور السموات والأرض } واعلم أن النور في اللغة موضوع لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ما يجاذيها من الأجرام، لا شك أنه لا يمكن أن يكون إلهاً لأنه إن كان عرضاً فظاهر، وإن كان جسماً فكذلك للدليل الدال على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني ولا زائل ولا متنقل إلى غير ذلك من أمارات الحدوث والافتقار، وعند ذلك ذكر العلماء في تأويل الآية وجوهاً: الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين، أن المضاف محذوف أي هو ذو نور السموات والأرض لأنه قال { مثل نوره } { ويهدي الله لنوره } والمضاف مغاير للمضاف إليه. فنظير الاية قولك "زيد كرم وجود" للمبالغة. الثاني أن معناه منور السموات كقراءة من قرأ { نور } بالتشديد وعلى القولين ما المراد بالنور؟ فالأكثرون على أنه الهداية والحق منا قال في آخر الآية { يهدي الله لنورهه من يشاء } شبهه بالنور في ظهوره وبيانه. وأضافه إلى السموات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض، أو على حذف المضاف أي نور أهل السموات والأرض وقيل: نور السماء بالملائكة وبالأجرام النيرة والأرض بها وبالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبيّ بن كعب والحسن وابي العالية. وقيل: هو تدبيره إياهما بحكمة كاملة كما يوصف الرئيس المدبر بأنه نور البلد إذا كان يدبر أمورهم تدبيراً حسناً، فهو لهم كالنور الذي يهتدي به في المضايق والمزالق. وهذا القول اختيار الأصم والزجاج. وقيل: هو نظمه إياهما على النهج الأحسن والوجه الأصلح. وقد يعبر بالنور عن النظام. يقال: ما أرى لهذه الأمور نوراً. الثالث: ما ذهب إليه الحكماء الأولون الإشراقيون وإليه ميل الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد الغزالي على ما قرره في رسالته المسماة بمشكاة الأنوار: أن الله تعالى نور في الحقيقة بل لا نور، إلا هو بيانه أن للإنسان بصراً يدرك به النور المحسوس الواقع من الأجرام النيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة، وبصيرة هي القوة العاقلة، ولا شك أن البصيرة أقوى من البصر لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها وهي العين، وأما لقوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب أو الدماغ، والإدراك الحسي غير منتج لأنه لا يصير سبباً لإحساس آخر، والإدراك العقلي يصير سبباً لإدراكات أخر حتى تجتمع علوم جمة، والحس يضطرب بكثرة ورود المحسوسات عليه حتى إنه لا يسمع الصوت الضعيف مثلاً بعد سماع الصوت الشديد، والعقل يزداد بهاؤه ونورانيته بكثرة توارد العلوم وتعاونها، والقوة الحسية تضعف بضعف البدن، والقوة العقلية تقوى بعد الأربعين حتى استدل بذلك على بقائها بعد خراب البدن، والقوة الحسية لا تدرك من القرب القريب ولا من البعد البعيد، والعقلية لا يختلف حالها في القرب والبعد فيدرك ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى في لحظة واحدة، بل يدرك ذات الله وصفاته مع أنه منزه عن القرب والبعد والجهة، والحس لا يدرك من الشياء إلا ظواهرها، والعقل يغوص في حقائق الأشياء وفي أجزائها وجزئياتها وفي ذاتياتها وعرضياتها، فيوحد الكثير تارة بانتزاع صورة كلية من الجزئيات، ويكثر الواحد أخرى بالتجنيس والتنويع والتصنيف وغير ذلك من التقسيمات التي لا تكاد تتناهى. وإدراك العقل قد يكون مقدماً على وجود الشيء ويسمى العلم العقلي، وإدراك الحس تابع لوجود الشيء وإذا كان الروح الباصر نوراً فالبصيرة التي هي أشرف منها أولى بأن تكون نوراً، وكما أن نور المبصر يحتاج في إدراكه إلى معين من الخارج هو الشمس أو السراج مثلاً، فنور البصيرة ايضاً يحتاج في إدراكه إلى مرشد هو النبي أو القرآن فلذلك سمي القرآن نوراً
{ والنور الذي أنزلنا } [التغابن: 8] والنبي نوراً { وسراجاً منيراً } [الأحزاب: 46] فروح النبي في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام. ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من أنوار أخرى فوقها لقوله { علمه شديد القوى } [النجم: 5] { قل نزله روح القدس من ربك } [النحل: 102] فكل الأنوار تنتهي إلى مالا نور أنور منه ولا أجل وأشرف وهو الله سبحانه. والكلام المجمل في هذا المقام هو الذي قد سلف تحقيقه مراراً وهو أن الكمالات أنوار والملكات الذميمة ظلمات. وأيضاً الوجود نور والعدم ظلمة، فإن نظرنا إلى الكمال فكل كمال ينتهي إلى الله سبحانه ولا كمال فوق كماله، فهو نور الأنوار. وإن نظرنا إلى الوجود نفسه فلا ريب أن الممكن وجوده مستفاد من غيره إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لذاته وهو نور الأنوار، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم بإشراق نوره، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم "إن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره" وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون الفاً. قال العلماء: الحجب ثلاثة أقسام: حجب ظلمانية محضة، وحجب ممزوجة من نور وظلمة، وحجب نورانية صرفة، أما المحجوبون بالأول فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لا يلتفت خاطرهم إلى الاستدلال بالمصنوعات على الصانع. وأما المحجوبون بالثاني فهم الذين اعتقدوا في الممكنات أنها غنية عن المؤثر، فنفس تصور الاستغناء عن الغير نور لأنه من صفات الله تعالى، ولكن اعتقاد حصوله لمن لا يليق به ظلمة فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة، وأما المحجوبون بالثالث فهم الذين استغرقوا في بحار صفات الله وأفعاله فاحتجبوا بالصفات عن الذات، فعرف منهذا التقرير أن الحجب لا تكاد تتناهى حيث لا نهاية للمكنات ولا انحصار للسلوب والإضافات، ولكن الحديث ورد على ما هو المتعارف في باب التكثير.
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء: المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة وهذا القول أصح عند أئمة اللغة وهي من لغة العرب ومنه المشكاة للزق الصغير. وقيل: هي بلغة الحبشة، وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري أن المشكاة هي القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرطبي، ومثله قول الزجاج هي قصبة القنديل من الزجاجة التي يوضع فيها الفتيلة. وقال الضحاك: هي الحلقة التي يتعلق بها القنديل والمصباح السراج الضخم الثاقب وأصله من الضوء ومنه الصبح والدريّ فمن قرأ بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر اي ابيض متلألئ، ومن قرأ بالهمز مضموم الدال كمرّيق أو مكسورها كسكيت، فمعناه أنه يدرأ الظلام بضوئه. وقال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمزة لأنه ليس في كلام العرب "فعيل". ومن همزة من القراء فإنما أراد "فعول" على سبوح فاستثقل فرد بعضه غلى الكسر. والدري من الكواكب هي المشاهير كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت التي هي في العظم الأول. ومعنى { من شجرة مباركة } أن ابتداء ثقوبه من شجرة مباركة كثيرة المنافع وهي الزيتون. عن النبي صلى الله عليه وسلم
"عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به فإنها مصحة من الباسور" وقيل: سميت مباركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، أو بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام فقوله { زيتونة } بدل من { شجرة } ومعنى { لا شرقية ولا غربية } أن منبتها في أكثر الشام وزيتونها أجود الزيتون والشام قريب من وسط العمارة ليس على الطرف الشرقي من الربع المسكون ولا على الطرف الغربي منه، وعن الحسن أراد شجرة الزيتون في الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية. وضعف بأن المثل إنما يضرب بما يشاهد وإنهم ما شاهدوا شجرة الجنة، وقيل: أراد أنها شجرة ملفوفة بالأشجار أو بأوراقها فلا تصيبها الشمس في مشرق ولا مغرب. وزيف بأن الغرض هو صفاء الزيت ولا يحصل إلا بكمال النضج وذلك يتوقف عادة على وصول أثر الشمس إلى الشجرة، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وهو اختيار الفراء والزجاج: المراد أنها ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً لأنها في موضع مكشوف، فيكون فيه دليل على كمال النضج الموجب لصفاء الزيت. ومنهم من قال: لا في مضحى ولا في مقنأة وهي المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الظل والشمس يتعاقبان عليها وذلك أجود لكمال الثمرة، قال صلى الله عليه وسلم "لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير في مضحى" ثم وصف الزيت بالصفاء والبريق وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء.
فهذا ما يتعلق بحل الألفاظ على ظاهر التفسير، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول: إن جمهور المتكلمين ذهبوا إلى أنه تعالى شبه الهداية وهي الآيات البينات في الظهور والجلاء، بالمشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء. وإنما اختار هذا التشبيه دون أن يقول إنها كالشمس في الظهور والوضوح لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهان التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل، وهذا المقصود لا يحصل من ضرب المثل بالشمس لأنها إذا طلعت لم تبق ظلمة أصلاً. والأمور التي اعتبرها الله سبحانه في هذا المثال منها كون المصباح في المشكاة وذلك ليكون أجمع للنور وأعون لتكاثف الأشعة وأصون له عن تعرض الرياح. زعم بعضهم أن في الكلام قلباً والمراد كمصباح في مكشاة والصحيح أنه لا حاجة إليه لأن هذا تشبيه مركب، ولهذا قال جار الله: أراد صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كصفة مشكاة، ومنها كون المصباح في زجاجة صافية، فإن تعاكس الأنوار من جوانب الزجاجة يزيد المصباح نوراً. ومنها كون المصباح متقداً بدهن الزيت فليس في الأدهان ما يدانيه في اللمعان والتطويس. ومنها كون الزيت من شجرة بارزة للشمس فإن ذلك يدل على كما نضج الثمرة ونهاية صفاء ذهنها. وأما الإمام الغزالي رضي الله عنه فإنه يقول: المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت عبارة عن المراتب الخمس الإنسانية. فأولها القوة الحساسة التي هي أصل الروح الحيواني وتوجد للصبي بل لكل حيوان، وأوفق مثال لها من عالم الأجسام المشكاة لأن تلك القوى تخرج من عدة ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين والفم. وثانيها القوة الخيالية التي تحفظ ما يورده الحواس مخزوناً عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه، وأنت لا تجد شيئاً في عالم الأجسام يشبه الخيال سوى الزجاجة فإنها في الأصل جوهر كثيف ولكن صفي ورقق حتى صار بحيث لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة. كذلك الخيال من طينة العالم السفلي الكثيف بدليل أن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحدّ،ولنه إذا صفي وهذب صار موازياً للمعاني العقلية ومؤدياً لأنوارها، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني كما يستدل بالشمس على الملك، وبالقمر على الوزير، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن في رمضان قبل الصبح. وثالثها القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف اليقينية ولا يخفى وجه تمثيله بالمصباح كما مر في تسمية النبي سراجاً. وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي مالمقدمة للعقل قيل: إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح. ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان. وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهى ثمرته على حد محدود أولى أن يسمى مباركاً. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها { لا شرقية ولا غربية } وخامسها القوة القدسية النبوية التي { يكاد زيها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور }.
وأما الشيخ الرئيس أو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة. فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي إلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات. ثم إن كان الانتقال ضعيفاً فهي الشجرة وتسمى فكراً وإن كان قوياً فهي الزيت ويسمى حدساً، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور } ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر على ملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلاً بالفعل، وغياته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلاً مستفاداً. أما الأول فلأن الملكة نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل. وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني إلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء، وعبر عنه في الآية بالنار. وعن مقاتل أنه قال { مثل نوره } أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد، واشجرة النبوة والرسالة. وقيل: المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ { مثل نور من آمن به } ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي الله عنه مرفوعاً للقمر وجهان يضيء بهما أهل السموات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: على وجه السموات { الله نور السموات والأرض } وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين. وقيل: المشكاة صدر محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه، والمصباح ما في قلبه من الدين، والشجرة إبراهيم عليه السلام، { ويوقد من شجرة } كقوله
{ فاتبعوا ملة إبراهيم } [آل عمران: 95] ومعنى { لا شرقية ولا غربية } أن إبراهيم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى { يكاد زيتها يضيء } أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب. وقال الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة:

لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر

وقال يحيى بن سلام: قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله" وقيل: يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نوراً على نور. قال ابي بن كعب: المؤمن بين اربع خلال: إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل. فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي ين أموات يتقلب في خمس من النور: كلامه نور، وعلمه نور ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة. قال الربيع: سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال: سره وعلانيته.
قالت الأشاعرة في قوله { يهدي الله لنوره من يشاء } إشارة إلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الإيمان فيه، وقالت المعتزلة: اراد يهدي الله لطريق الجنة، أو أراد بقوله { من يشاء } الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف: معناه يوفق. لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف، وجانب جانب المراء والاعتساف، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله { ويضرب الله الأمثال للناس } يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا: إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة.
ثم زاد التأكيد بقوله { والله بكل شيء عليم } ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر. قوله { في بيوت } اعترض أبومسلم على قول من قال إنه يتعلق بـ { كمشكاة } و { بتوقد } لأن كون المشكاة في بعض بيوت الله لا تزيد المصباح إنارة وإضاءة. وأيضاً الموصوف واحد فلا يكون إلا في مكان واحد وقوله { في بيوت } أمكنة متعددة ولا يصح أن يكون شيء واحد في أمكنة متعددة في حالة واحدة، وكذا لو جعل { في بيوت } صفة { مصباح } و { زجاجة } أو { كوكب } وأجيب بأن هذه صفة موضحة لا مميزة وذلك أن المشكاة تكون غالباً في بيوت العبادة أو المشكاة التي فيها مصباح إذا كانت في مثل هذه البيوت الرفيعة كانت أعظم وأكثر ضخامة فيكون في باب التمثيل أدخل. وعن الثاني أنه أريد بالمشكاة النوع لا الواحد كما لو قيل: "الذي يصلح لخدمتي رجل" يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته فإنه يراد به النوع لا الواحد. وذهب أبو مسلم إلا أنه راجع إلى قوله { ومثلاً من الذين خلوا } اي الأنبياء والمؤمنين الذين مضوا وكانوا ملازمين لبيوت العبادة. واعترض عليه بتفكيك النظم إذ ذاك وبأن الذين خلوا هم المكذبون. والأكثرون على أن البيوت هي المساجد، والإذن الأمر، والرفع التعظيم أو البناء. وعن عكرمة هي البيوت كلها، ومعنى الرفع البناء وذكر اسم الله عام في كل ذكر. وعن ابن عباس أن يتلي فيها كتابه. وقيل: لا يتكلم فيها بما لا ينبغي. والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به. وقيل: الصلوات الخمس وقيل: صلاتا الصبح والعصر وكانتا واجبتين فقط في أول الإسلام فزيد فيهما. وعن ابن عباس: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وتلا هذه الآية. والأولى العموم. قيل: خص الرجال بالذكر لأنهم من أهل الجماعات دون النساء. ويحتمل أن يقال: لأنهم أصل والنساء تبع. واختلفوا في { لا تلهيهم تجارة } فقيل: نفي الإلهاء لأنه تجارة ولا بيع كقوله:

ولا ترى الضب فيها ينجحر

وقيل: أثبت التجارة والبيع وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم شيء عن ذكر الله وهذا قول الأكثرين. وعن الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها شيء.وما الفرق بين التجارة والبيع؟ قيل: الأول عام لأن صناعة التاجر قد يقع فيها البيع وقد يقع فيها الشراء، وخص البيع لأن الربح فيه يقين وفي الشراء مظنون، فالبيع أدخل في الالهاء. وقيل: اراد بالتجارة الشراء، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب يقال: تجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده. وذكر الله دعاؤه والثناء عليه بما هو أهله وقيل: هو الصلاة. ومن هنا قال ابن عباس: أراد بإقام الصلاة إتمامها لمواقيتها، وبإيتاء الزكاة طاعة الله والإخلاص له. والتاء في { إقامة } عوض من العين الساقطة للإعلال، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت. ثم حكى أن هؤلاء الرجال مع ما ذكر من الطاعة والإخلاص موصوفون بالوجل والخوف من أهوال يوم القيامة. وتقلب القلوب اضطرابها من الهول والفزع، وتقلب الأبصار شخوصها، أو المراد تقلب أحوالهما فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها، وتدرك الأبصار بعد أن كانت عمياء عن النظر والاعتبار وكأنهم انقلبوا من الشك والغفلة إلى اليقين والمعاينة. وقال الضحاك: إن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والبصار تصير زرقاً. وقال الجبائي: يحتمل أن يراد تقلبها على جمر جهنم أو تغير ماهياتها بسبب ما ينالها من العذاب فتكون مرة بهيئة ما انضج بالنار، ومرة بهيئة ما أحرق، وقيل: إن القلوب تتقلب في ذلك اليوم من طمع النجاة إلى الخوف من الهلاك، والأبصار تتقلب من أيّ ناحية يؤخذ بهم أم من ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن اي جهة يعطون كتابهم أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل.
قوله { ليجزيهم } متعلق بما قبله لفظاً أو معنى يسبحون ويخافون أو يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم وهو الواحد يعشر إلى سبعمائة وأكثر. وقيل: أراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل: إنما ذكر الأحسن تنبيهاً على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم وقال القاضي: أراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم فيصح أن الله تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال. وهذا مبني على مذهبه في الإحباط والموازنة. ومعنى { ويزيدهم من فضله } كقوله
{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [يونس: 26] وقوله { والله يرزق من يشاء بغير حساب } قد مر تفسيره في "البقرة". وحين بين حال المؤمن أنه يكون في الدنيا في النور بسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح وفي الآخرة يفوز بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبعه بيان أن الكافر يكون في الدنيا في أنواع الظلمات وفي الآخرة في أصناف الحسرات، وضرب لكل من حاله مثلاً، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فذلك قوله { والذين كفروا أعمالهم كسراب } قال الأزهري: هو ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبهاً بالماء الجاري كأنه يسرب على وجه الأرض أي يذهب. وأما الآل فهو ما يتراءى في أول النهار. وظاهر كلام الخليل أنه لم يفرق بينهما. والقيعة بمعنى اللقاع وهو المستوى من الأرض. وقال الفراء: هي جمع قاع كجيرة في جار. والظمآن الشديد العطش، ووجه التشبيه أن الكافر يأتي ببعض أعمال البر ويعتقد ثواباً عليه فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب عظمت حسرته وتناهى غمه وحيرته فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى ما يحييه ويبقيه، فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به رجاءً للحياة، فإذا جاءه ولم يجد شيئاً عظم غمه وطال حزنه، قال مجاهد: السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته وفراقه الدنيا. وههنا سؤال وهو أنه كيف قال { جاءه } فأثبت أنه شيء لأن العدم لا يتصور المجيء إليه ثم قال { لم يجده شيئاً } فنفى كونه شيئاً؟ والجواب أراد شيئاً نافعاً كما يقال "فلان ما عمل شيئاً" وإن كان قد اجتهد. أو المراد جاء موضع السراب فلم يجد هناك شيئاً وأراد أنه تخيل أولاً ضباباً وهباء شبه الماء وذلك بإعانة من شعاع الشمس فإذا قرب منه رق وانتثر وصار هواء وهذا قول الحكماء. قوله { ووجد الله } أي وجد عقاب الله أو زبانية الله يأخذونه فيصلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق خلاف ما يتصور من الراحة والنعيم، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام. وأما المثل الآخر فهو قوله { أو كظلمات } وقد يقال معنى أو أنه شبه أعمالهم الحسنة بالسراب والقبيحة بالظلمات، أو الأول لأعمالهم الظاهرة والثاني لعقائدهم الفاسدة وللجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللُج وهو معظم ماء البحر، والظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب. وكذا الكافر له ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل قاله الحسن. وعن ابن عباس قلبه وبصره وسمعه. وقيل: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم. والظاهر أن الجمع للتكثير، وأن أنواع الضلالات والأباطيل اجتمعت فيه. والضمير في { أخرج } للواقع في الظلمات يدل عليه قرينة الحال. ومعنى { لم يكد يراها } لم يقرب أن يراها، ونفي القرب من الرؤية أبلغ من نفي الرؤية نفسها وقد مر هذا البحث في البقرة في قوله { وما كادوا يفعلون } [البقرة: 71] قالت الأشاعرة في قوله { ومن لم يجعل الله له نوراً } دلالة على أن الهداية بتخليق الله تعالى وبجعله جملة المعتزلة على منح الألطاف وقد مر أمثال ذلك مراراً.
ولما وصف أنوار المؤمنين وظلمات الكافرين صرح بدلائل التوحيد فقال مستفهماً على سبيل التقرير { ألم تر أن الله يسبح له } وقد مر مثله في سورة "سبحان". والخطاب لكل من له أهلية النظر أو للرسول وقد علمه من جهة الاستدلال. ومعنى { صافات } أنهن يصففن أجنحتهن في الهواء والضمير في علم لكل أو لله عز وجل. وعلى الأول فالضمير في { صلاته وتسبيحه } إما لكل أو لله. والمعنى كل مسبح قد علم صلاته التي تليق بحاله أو صلاة الله التي كلفه إياها، وعلى الثاني فالضمير فيهما لكل والصلاة بمعنى الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهما سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها، والاستقصاء في حكاياتهن مذكور في خواص الحيوانات ولا سيما في كتاب عجائب المخلوقات. ثم بين أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال { ولله ملك السموات } الآية. ثم ذكر دليلاً آخر من الآثار العلوية قائلاً { الم تر أن الله يزجي سحاباً } أي يسوقه بالرياح { ثم يؤلف بينه } اي بين أجزائه أي يجمع قطع السحاب فيجعلها سحاباً واحداً متراكماً ساداً للأفق { فترى الودق } المطر أو القطر { يخرج من خلاله } من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل قوله { من السماء من جبال فيها من برد } الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض على أن قوله { من جبال } مفعول { ينزل } والثالثة للبيان أو الأوليان للبيان والثالثة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل بعض البرد من السماء من جبال فيها وقد مر في أول البقرة في قوله
{ أو كصيب من السماء } [البقرة: 19] معنى البرد وأنه بخار يجمد بعدما استحال قطرات ماء. قال عامة المفسرين: إن في السماء جبالاً من برد خللقها الله فيها كما خلق في الأرض جبالاً من حجر. وقال أهل المعنى: السماء ههنا هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس، والمراد بالجبال الكثرة كما يقال "فلان يملك جبالاً من ذهب" ثم بين بقوله { فيصيب به } إلى آخر الاية. أنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها كيف يشاء، أو يهلك بالبرد من يشاء أن يعذبه به أبصارهم ليعتبروا ويحذروا، أو يعاقب بين الليل والنهار ويخالف بينهما في الطول والقصر وفي كل ذلك معتبر لذوي الأبصار، والذين يترقون من المصنوع إلى الصانع ويستدلون بالمحسوس على الغائب منتقلين من ظلمة التقليد إلى نور البرهان. ثم ذكر دليلاً ثالثاً من عجائب خلق الحيوان فقال { والله خلق كل دابة من ماء } قال علماء المعاني: التنكير في { ماء } للتنويع أي خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، أو خلق الكل من ماء مخصوص وهو النطفة. وعلى التقديرين الوحدة نوعية إلا أن شموله على التقدير الثاني أكثر. وإنما عرّف في قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [الأنبياء: 30] لأنه قصد هناك معنى آخر وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. وعن القفال أن قوله { من ماء } صفة { دابة } لا صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من ماء فهي مخلوقة لله تعالى واحترز بها عن الاعتراض الذي ذكرناه في سورة الأنبياء وهو أن بعض الأحياء لم يخلقهم الله من الماء وقيل: نزل الغالب منزلة الكل أو أراد بالدابة من يدب على وجه الأرض ومسكنهم هناك وكل منها إما متولد من النطفة وإما بحيث لا يعيش إلا بالماء. ثم بين أن اصلهم وإن كان واحداً إلا أن خلقتهم مختلفة { فمنهم من يمشي على بطنه } وقدم هذا القسم لغرابته ومنهم كذا ومنهم كذا، وفي ضمير العقلاء وإطلاق لفظة من تغليب للعقلاء.وسمي الزحف على البطن مشياً على سبيل المشاكلة أو الاستعارة نظيره قوله "فلان لا يتمشى له أمر" وقد يوجد من الدواب ذوات ارجل أزيد من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلاوات بل مثل الحيوان الذي له اربع وأربعون رجلاً المسمى "دخال الأذن". وإنما لم يذكرها سبحانه لأنها نادرة بالنسبة إلى سائرهن. ومن العقلاء من زعم أن أمثال هذه الدواب إنما يعتمد وقت المشي على اربع فقط.
وقيل: إن في قوله تعالى{ يخلق الله ما يشاء }تنبيهاً على سائر الأقسام، ولا ريب أن اختلاف الحيوانات لا يكاد ينحصر، إلا أنا نذكر طرفاً من ذلك تذكيراً لعجائب قدرة الله في خلقه فنقول: الاختلاف بين الحيوانات إما في جوهر العضو كالفرس له ذنب دون الإنسان وإن كانت أجزاء الذنب من العظم والعصب واللحم والجلد والشعر حاصلة في غير هذا العضو كالسلحفاة فله صدف يحيط به ليس للإنسان، وكذا السمك فله فلوس والقنفيذ له شوك، وإما في كيفية العضو كاختلاف الألوان والأشكال والصلابة واللبن، وإما في الوضع كما أن يدي الفيل أقرب إلى الصدر من يدي الفرس، وإما في الانفعال كما أن عين الخطاف لا تتحير في الضوء وعين الخفاش تتحير، وإما في سائر الأحوال وذلك أن من الحيوانات برياً وبحرياً أو برياً فقط أو بحرياً فقط، ومن البحري ما يعتمد في السباحة على جناحه كالسمك، ومنها ما يعتمد فيها على أرجله كالضفادع، وكل من البري والبحري له أماكن مختلفة من البر والبحر. فمنها ما له مأوى معلوم كالروابي أو الحفر أو الشقوق أو الحجرة في البر أو كالقعر أو الشط أو الصخر أو الطين في البحر، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة. ومن الحيوانات طيارة فمنها ما يسبح في الهواء فقط، ومنها ما يسبح على وجه الماء أيضاً، وكل طائر فإنه يمشي على رجلين وقد يصعب عليه المشي كالخطاف الكبير السود وكالخفاش، ومنها ما جناحه جلد أو غشاء. وقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات بالحبشة يطير، ومنها ما يختار الاجتماع كالكراكي ومنها ما يؤثر التفرد كالعقاب. وكثير من الجوارح التي تنازع على الطعم، ومنها ما يتعايش زوجاً كالقطا والإنسان من الحيوانات الذي لا يمكنه أن يعيش وحده، ويضاهيه النحل والنمل إلا أن النمل لا رئيس لها. ومنها آكل لحم، ومنها لاقط حب، ومنها آكل عشب وزهر، ومنه النحل، ومن الحيوانات ما هو إنسيّ كالإنسان، وما هو إنسيّ بالمولد كالهرة والغرانيق، أو بالقهر كالفهد. ومنه ما لا يأنس كالنمر أو يبطئ استئناسه كالأسد. ومن الحيوان ما لا صوت له ومنه ما له صوت، وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتاً حتى الإنسان. ومنه ماله شبق يسفد كل وقت كالديك، ومنه عفيف له وقت معين، ومنه ولود ومنه بيوض، وكل ولود أذون، وكل صموخ بيوض سوى الخفاش. ومنه هادئ الطبع قليل الغضب كالبقر، ومنه شديد الجهل حال الغضب كالخنزير البري ومنه حليم حمول كالإبل، ومنه محتال مكار كالثعلب، ومنه غضوب سفيه إلا أنه قلق متردد كالكلب، ومنه شديد الكيس مستأنس كالقرد والفيل، ومنه حسود تياه كالطاوس، ومنه شديد الحفظ كالجمل والحمار لا ينسى الطريق الذي رآه. وفي قوله { إن الله على كل شيء قدير } إشارة إلى أن اختصاص كل حيوان بهذه الخواص وبأمثالها لا يكون إلا عن فاعل مختار قدير قهار.
وحين فرغ من إثبات هذه الدلائل اراد أن يبين أحوال المكلفين وأن فيهم منافقين فقدم لذلك مقدمة وهي قوله { ولقد أنزلنا آيات مبينات } وإنما فقد العاطف ههنا بخلاف قوله
{ { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً } [النور: 34] لأن المقصود هناك هو ما سبق من التكاليف والمواعظ، والغرض ههنا توطئة مقدمة لما يجيء عقيبه من حال أهل النفاق والوفاق. وقوله { وما أولئك } إشارة إلى الفريق المتولي. وإنما قال { بالمؤمنين } معرِّفاً لأنه اراد أنهم ليسوا بالذين عرفت صحة إيمانهم لثباتهم واستقامتهم. ويحتمل ان يكون { أولئك } إشارة إلى جميع القائلين آمنا وأطعنا وحينئذ يكون قوله { ثم يتولى فريق منهم } حكماً على بعض دفعاً للإلزام والنقض، فإن الحكم الكلي قلما يخلو عن منع ولمثل هذا قال في الاية الثانية { إذا فريق منهم معرضون } والحاصل أنه حكم أولاً على بعضهم بالتولي ثم صرح آخراً بأن الإيمان منتفٍ عن جميعهم. ويجوز أن يراد بالفريق المتولي رؤساء النفاق. وقيل: أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين. قال جار الله: معنى { إلى الله ورسوله } إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقولك "أعجبني زيد وعكرمة". أما سبب نزول الاية. فعن مقاتل أنها في بشر من المنافقين كما سبق في سورة النساء في قوله { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [النساء: 60] وعن الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض فتقاسما فدفع إلى علي منها ملا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة: يعني أرضك فباعها منه وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء. فقال لعلي: اقبض ارضك فأبى ودعا المغيرة إلى محاكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة: أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإِنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ. قوله { يأتوا إليه } الجار صلة أتى فإنه قد يعدَّى بإلى. قال جار الله: والأحسن أن يتصل بمذعنين ليفيد الاختصاص أي لا يتحاكمون إذا عرفوا أن الحق لهم إلا إلى الرسول مسرعين في طاعته. ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه، وهذه الأمور وإن كانت متلازمة إلا أنها متغايرة في الاعتبار فصحت القسمة. ثم بين بقوله { بل أولئك هم الظالمون } أنهم لا يخافون حيفه لأنهم عارفون أمانته ولكن الظلم مركوز في جبلتهم وأنهم لا يستطيعون الظلم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك يأبون المحاكمة إليه إذا كان الحق عليهم.
التأويل: للآية تأويلان: أحدهما من عالم الآفاق والآخر من عالم الأنفس. أما الأول فالمشكاة عالم الأجسام، والزجاجة العرش، والمصباح الكرسي، والشجرة شجرة الملكوت وهي باطن عالم الأجسام، وهي غير راقية إلى شرق الأزل والقدم ولا إلى غرب الفناء والعدم، بل هي مخلوقة للأبد لا يعتريها الفناء { يكاد زيتها } وهو عالم الأرواح { يضيء } اي يظهر من العدم إلىعالم الصورة المتولدة بالازدواج عالم الغيب والشهادة { ولو لم تمسسه نار } ونور القدرة الآلهية وذلك لقرب طبيعتها من الوجود { نور على نور } فالأول نور الصفة الرحمانية والثاني نور العرش فهو كقوله
{ الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] وفي قوله { يهدي الله لنوره من يشاء } إشارة إلى أن فيض نور الرحمانية ينقسم على كل من يريد الله تعالى إيجاده من العرش إلى ما تحت الثرى. وأما التأويل الثاني: فالمشكاة الجسد، والزجاجة القلب، والمصباح السر، والشجرة شجرة الروحانية التي خلقت للبقاء كما مر، والزيت الروح الإنساني القابل لنور العرفان قبولاً في غاية القرب، والنار نار التجلي والهداية في الأزل فإذا انضم إلى نور العقل صار نوراً على نور، وإذا تنور مصباح سر من يشاء بنور القدم تنور زجاجة القلب ومشكاة الجسد، وتخرج أشعتها من روزنة الحواس فتستضيء أرض البشرية كما قال { وأَشرقت الأرض بنور ربها } [الزمر: 69] وهو مقام "كنت له سمعاً وبصراً" الحديث: { في بيوت } هي القلوب { أذن الله } أمر واراد { أن ترفع } درجاتها من بين سائر الأرواح والنفوس إلى أن تسع الله كما قال "وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن" يروى أنه أوحى إلى داود عليه السلام "فرغ لي بيتاً اسكن فيه" فقال: رب أنت منزه عن البيوت. فقال: فرغ لي قلبك. ولن يتأتى هذا الرفع إلا بوساطة ذكر الله فلهذا قال { ويذكر فيها اسمه } { لا تلهيهم تجارة } هي الفوز بدرجات الجنات كما قال { هل أدلكم على تجارة تنجيكم } [الصف: 10] { ولا بيع } هو بيع الدنيا بالجنة كقوله { إن الله اشترى } [التوبة:111] إلى قوله { فاستبشروا ببيعكم } [التوبة: 111] وفيه أن الرجولية لا تتحقق إلا إذا لم يلتفت إلى الدنيا ولا إلى الآخرة فيكون بحيث لا يتصرف فيه ما سوى الله، وحينئذ يصلي صلاة الوصال ويفيض على المستعدين زكاة حصول نصاب الكمال { يخافون يوماً }هو يوم الفراق { تتقلب فيه القلوب والأبصار } والبصائر لأنها بيد الله يقلبها كيف يشاء { أو كظلمات في بحر لجي } هو حب الدنيا { يغشاه موج } الرياء { من فوقه موج } هو حب الجاه وطلب الرياسة { من فوقه سحاب } الشرك الخفي { إذا أخرج } يد سعيه واجتهاده { لم يكد يراها } يرى طريق خلاصة { ومن لم يجعل الله له نوراً } أي لم يصبه رشاش النور الالهي في الأزل { يزجى } سحب المعاصي المتفرقة إلى أن تتراكم فترى. والودق هو مطر التوبة { يخرج من خلاله } كما خرج من سحاب وعصى آدم مطر ثم اجتباه ربه. ينزل من سماء القلب { من جبال } من قساوة { فيها من برد } هو برد القهر { يقلب الله } ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس لأولي الأبصار أصحاب البصائر الذين يشاهدون آثار لطفه وقهره في مرآة التقليب { والله خلق } كل ذي روح { من ماء } هو روح محمد صلى الله عليه وسلم كما قال "أول ما خلق الله روحي" { فمنهم من يمشي } أن تكون سيرته تحصيل مشتهيات بطنه { ومنهم من يمشي على رجلين } أن يضيع عمره في مشتهيات الفرج لأن الحيوان إذا قصد الوقاع يعتمد على رجلين وإن كان من ذوات الأربع { ومنهم من يمشي على أربع } هم أصحاب المناصب يركبون الدواب ألبتة { أفي قلوبهم مرض } انحراف في الفطرة { أم ارتابوا } بتشكيك أهل البدع والأهواء { أم يخافون } الحيف حين أمروا بترك اللذات العاجلة لأجل الخيرات الباقية { وإليه المآب }.