خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤمۤ
١
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ
٢
نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٣
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ
٥
هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٧
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ
٨
رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ
١٠
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١١
-آل عمران

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { آلم الله } مقطوعة الألف والميم ساكنة: يزيد والمفضل والأعشى والبرجمي الباقون موصولاً بفتح الميم. { التوراة } ممالة حيث كان: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف والنجاري عن ورش، والخزاز عن هبيرة، وابن ذكوان غير ابن مجاهد { كدأب } حيث كان بغير همزة: أبو عمرو وغيره شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش والخزاز عن هبيرة وحمزة عن الوقف.
الوقوف: { آلم } ج كوفي مختلف فإن غير الأعشى والبرجمي ويزيد والمفضل يصلون. { إلا هو } ج { القيوم } ط { والإنجيل } ط { الفرقان } ط { شديد } ط { انتقام } ه،{ في السماء } ط { كيف يشاء } ط { الحكيم } ه، { متشابهات } ط لاستئناف تفصيل { وابتغاء / تأويله } ج لأن الواو تصلح استئنافاً والحال أليق { إلا الله } م عند أهل السنة لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه كما يعلم الله، ومن لم يحترز عن هذا وجعل المتشابه غير صفة الله ذاتاً وفعلاً من الأحكام التي يدخلها القياس والتأويل وجعل المحكمات الأصول النصوص المجمع عليها فعطف قوله { والراسخون } على اسم الله وجعل { يقولون } حالاً لهم ساغ له أن لا يقف على { إلا الله }. { آمنا به } (لا) لأن قوله { كل من عند ربنا } من مقولهم فإن التسليم من تمام الإيمان. { من عند ربنا } ج لاحتمال أن ما بعده مقولهم { الألباب } ه، { رحمة } ج للابتداء بأن ولاحتمال لام التعليل أو فاء التعقيب للتسبب { الوهاب } ه، { فيه } ط { الميعاد } ه، { شيئاً } ط { النار } (لا) لتعلق كاف التشبيه { فرعون } (لا) للعطف، { من قبلهم } ط، { بآياتنا } ج للعدول مع فاء التعقيب { بذنوبهم } ط { العقاب } ه.
التفسير: أما قراءة عاصم فلها وجهان: الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء. الثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل. وأما من فتح الميم ففيه قولان: أحدهما قول الفراء واختيار كثير من البصريين وصاحب الكشاف أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر تقول: ألف، لام، ميم كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، وعلى هذا وجب الابتداء بقوله { الله } فإذا ابتدأنا به تثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف وألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها، فكأن الهمزة ساقطة بصورتها باقية بمعناها. وثانيهما قول سيبويه وهو أنه لما وصل { الله } بـ { آلم } التقى ساكنان بل سواكن ضرورة سقوط الهمزة في الدرج، فوجب تحريك الأول أعني الوسطاني منها وهو الميم وكان الأصل هو الكسر إلا أنهم فتحوا الميم محافظة على التفخيم. فالفتحة على هذا القول ليست هي المنقولة من همزة الوصل فلا يرد عليه ما يرد على القول الأول من أن الهمزة حيث لا وجود لها في الوصل أصلاً فكيف تنقل حركتها. قال الواحدي: نقل المفسرون أنه
"قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم، أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل. وكان ملوك الروم شرفوه وموّلوه فأكرموه لما بلغهم عنه عن علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينما بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه: تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو حارثة: بل تعست / أمك. فقال: ولم يا أخي؟ فقال: إنه والله النبي صلى الله عليه وسلم الذي ننتظره. فقال له أخوه كرز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا. فلو آمنا بمحمد لأخذوا منا كل هذه الأشياء. فوقع ذلك في قلب أخيه كرز وكان يضمره إلى أن أسلم، وكان يحدث بذلك، ثم تكلم أولئك الثلاثة - الأمير والسيد والحبر - مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختلاف من أديانهم. فتارة يقولون عيسى هو الله، وتارة ابن الله، وتارة ثالث ثلاثة، ويحتجون لقولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير، ويحتجون في قولهم إنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم، ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا وفعلنا ولو كان واحداً لقال فعلت. وقد حان وقت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا إلى المشرق، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلموا فقالوا: قد أسلمنا قبلك. فقال صلى الله عليه وسلم: كذبتم. كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولداً، وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير؟ قالوا: فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها آية المباهلة. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يناظر معهم فقال: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنه حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ فهل يملك عيسى شيئا من ذلك؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث، وتعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة وغذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف يكون هو كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا حجوداً ثم قالوا: يا محمد، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: فحسبنا. ففي ذلك نزل { فأما الذين في قلوبهم زيغ } الآية" . وتمام القصة سيجيء في آية المباهلة إن شاء الله تعالى.
واعلم أن مطلع هذه السورة له نظم عجيب ونسق أنيق. وذلك أن أولئك النصارى كأنه قيل لهم: إما أن تنازعوه في شأن الإله أو في أمر النبوة. أما الأول فالحق فيه معه لأنه تعالى حيّ قيوم كما مر في تفسير آية الكرسي، وأن عيسى ليس كذلك لأنه ولد وكان يأكل ويشرب / ويحدث. والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه. وهذه الكلمة أعني قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } جامعة لجيمع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى بالتثليث. وأما الثاني فقوله { نزل عليك الكتاب بالحق } كالدعوى. وقوله { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل } كالدليل عليها. وتقريره أنكم وافقتمونا على أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قولهما وبين أقوال الكاذبين. ثم إن المعجز قائم في كون القرآن نازلاً من عند الله كما قام في الكتابين. وإذا كان الطريق مشتركاً فالواجب تصديق الكل كالمسلمين. أما قبول البعض ورد البعض فجهل وتقليد، وإذا لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم ختم بالتهديد والوعيد فقال { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد } وإنما خص القرآن بالتنزيل والكتابين بالإنزال لأنه نزل منجماً، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأنهما نزلا جملة. وأما قوله
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } [الكهف: 1] فالمراد هناك نزوله مطلقاً من غير اعتبار التنجيم. قال أبو مسلم: قوله { بالحق } أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم، و أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل، وأنه قول فصل وليس بالهزل. وقال الأصم: أي بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية، ولبعضهم على بعض من سلوك سبيل العدالة والإنصاف في المعاملات. وقيل: مصوناً من المعاني الفاسدة المتناقضة كقوله { ولم يجعل له عوجاً قيماً } [الكهف: 1، 2] { لوجدوا فيه اختلافا كثيراً } [النساء: 82] وفي قوله { مصدقاً لما بين يديه } إنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقاً لسائر الكتب المتقدمة، لأن من هو على مثل حاله من كونه أمياً لم يخالط أهل الدرس والقراءة إن كان مفترياً استحال أن يسلم من التحريف والجزاف. وفيه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان. فإن قيل: كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه؟ فالجواب أن هذا اللفظ صار مطلقاً في معنى التقدم، أو لغاية ظهور تلك الأخبار جعلها كالحاضر عنده. فإن قلت: كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أنه ناسخ لأحكامها أكثرها؟ قلنا: إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثته ثم تصير منسوخة عند نزول القرآن، كانت موافقة للقرآن، وكان القرآن مصدقاً لها. فأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها لأن المباحث الإلهية والقصص والمواعظ لا تختلف. والتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية. فالاشتغال باشتقاقهما لا يفيد إلا أن بعض الأدباء قد تكلف ذلك فقال الفراء: التوراة معناها الضياء والنور من ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت / النار. قال: وأصلها تورية بفتح التاء والراء ولهذا قلبت الياء ألفاً. أو تورية بكسر الراء "تفعلة" مثل "توفية" إلا أن الراء فتحت على لغة طي فإنهم يقولون في بادية "باداة". وزعم الخليل والبصريون أن أصلها "وورية"فوعلة" كصومعة فقلبت الواو الأولى تاء كتجاه وتراث. وأما الإنجيل فالزجاج: إفعيل من النجل الأصل أي هو الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين. وقيل: من نجلت الشيء استخرجته أي إنه تعالى أظهر الحق بسببه. أبو عمرو الشيباني: التناجل التنازع سمي بذلك لأن القوم تنازعوا فيه. ومعنى قوله { من قبل } أي من قبل أن ينزل القرآن. و{ هدى للناس } إما أن يكون عائداً إلى الكتابين فقط فيكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى. وإنما لم يوصف القرآن بأنه هدى مع أنه قال في أول البقرة { هدى للمتقين } [البقرة: 2] لأن المناظرة ههنا مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن، فذكر أنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه، وأما الكتابان فهم قائلون بصحتهما فخصهما بالهداية لذلك، وإما أن يكون راجعاً إلى الكتب الثلاثة وهو قول الأكثرين. { وأنزل الفرقان } قيل: أي جنس الكتب السماوية لأنها كلها تفرق بين الحق والباطل. وقيل: أي الكتب التي ذكرها كأنه وصفها بوصف آخر فيكون كما قال:

الى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

وقيل: أي الكتاب الرابع وهو الزبور، وزيف بأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام وإنما هو مواعظ، ويحتمل أن يجاب بأن غاية المواعظ هي التزام الأحكام المعلومة فيؤل إلى ذلك. وقيل: كرر ذكر القرآن بما هو مدح له ونعت بعد ذكره باسم الجنس تفخيماً لشأنه وإظهاراً لفضله. وفي التفسير الكبير: إنه تعالى لما ذكر الكتب الثلاثة بيّن أنه أنزل معها ما هو الفرقان الحق وهو المعجز الباهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين كلام المخلوقين. ثم إنه تعالى بعد ذكر الإلهيات والنبوات زجراً لمعرضين عن هذه الدلائل وهم أولئك النصارى أو كل من أعرض عن دلائله فإن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فقال { إن الذين كفروا بآيات الله } من كتبه المنزلة وغيرها من دلائله { لهم عذاب شديد والله عزيز } لا يغالب إذ لا حد لقدرته { ذو انتقام } عقاب شديد لا يقدر على مثله منتقم. فالتنكير للتعظيم. وانتقمت منه إذا كافأته عقوبة بما صنع. فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، وذو انتقام إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب. فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل.
قوله سبحانه { إن الله لا يخفى عليه شيء } لما ذكر أنه حيّ قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق، وكونه كذلك يتوقف على مجموع أمرين: أن يكون عالماً بكميات / حاجاتهم وكيفياتها وكلياتها وجزئياتها، ثم أن يكون قادراً على ترتيبها. والأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات أشار إلى ذلك بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } والثاني لا يتأتى إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فأشار إليه بقوله { هو الذي يصوركم } ثم فيه لطيفة أخرى وهي أنه لما ادعى كمال عمله بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، بل الطريق إلى ذلك ليس إلا الدليل العقلي فلا جرم قال { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي } ظلمات { ٱلأَرْحَامِ } بهذه البنية العجيبة والتركيب الغريب من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، بعضها عظام، وبعضها أوردة، وبعضها شرايين، وبعضها عضلات. ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل، وذلك يدل على كمال علمه لأن التركيب المحكم المتقن لا يصدر إلا عن العالم بتفاصيله. ثم إنه تعالى لما كان قيوماً بمصالح الخلق ومصالحهم قسمان: جسمانية وأشرفها تعديل المزاج وأشار إليها بقوله { هو الذي يصوركم } وروحانية وأشرفها إلى العلم فلا جرم أشار إلى ذلك بقوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب }. ويحتمل أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها. وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى وعولوا في ذلك على نوعين من الشبهة: أحدهما يتعلق بالعلم وهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وذلك قوله تعالى:
{ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [آل عمران: 49] والثاني يتعلق بالقدرة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وليس للنصارى شبهة غير هاتين. فأزال شبهتهم الأولى بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء } فمن المعلوم بالضرورة من أحوال عيسى أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات. فعدم إحاطته بجميع الأشياء فيه دلالة قاطعة على أنه ليس بإله، ولكن إحاطته ببعض المغيبات لا تدل على كونه إلهاً لاحتمال أنه علم ذلك بالوحي أو الإلهام. وأزال شبهتهم الثانية بقوله { هو الذي يصوركم } وذلك أن الإله هو الذي يقدر على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب، ومعلوم أن عيسى لم يكن قادراً على الإحياء والإماتة بهذا الوجه. كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه. فإماتة بعض الأشخاص أو إحياؤه لا يدل على الإلهية لجواز كونه بإظهار الله تعالى المعجزة على يده، والعجز على إماتة البعض أو إحيائه يدل على عدم الإلهية قطعاً، وأما الإحياء والإماتة لجميع الحيوانات فيدل على الإلهية قطعاً. ثم إنّهم عدلوا عن المقدمات المشاهدية إلى مقدمات إلزامية وهو أنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فيكون ابناً لله. والجواب عنه بقوله / أيضاً { هو الذي يصوركم } لأن هذا التصوير لما كان منه صفة فإن شاء صوره من نطفة الأب، وإن شاء صوره ابتداء من غير أب. وأيضاً قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروحه؟ وهذا يدل على أنه ابن لله. فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي، محتمل للحقيقة والمجاز. وإذا ورد اللفظ بحيث يخالف الدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل، أو تفويضه إلى علم الله وذلك قوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب } الآية. فظهر أنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة إلا وقد اشتملت هذه الآيات على دفعها والجواب عنها، فإن قيل: ما الفائدة في قوله { في الأرض ولا في السماء } مع أنه لو أطلق كان أبلغ؟ قلت: الغرض تفهيم العباد كمال علمه وذلك عند ذكر السموات والأرض أقوى لعظمتهما في الحس، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل، وهذه فائدة ضرب الأمثلة في العلوم. قال الواحدي: التصوير جعل الشيء على صورة، والصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه، وأصله من صاره إذا أماله. وذلك أن الصورة مائلة إلى شكل أبويه. والأرحام جمع الرحم، والتركيب يدل على الرقة والعطف كما سلف. وقيل: سمي رحماً لاشتراك الرحم فيما بوجب الرحمة والعطف. وقرىء { تصوركم } أي صوركم لنفسه ولتعبده. و"كيف" في موضع الحال أي على أي حال أراد طويلاً أو قصيراً، أسود أو أبيض، حسناً أو قبيحاً إلى غير ذلك من الأحوال المختلفة. ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد رداً على النصارى القائلين بالتثليث فقال { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إلى كمال العلم. وفيه رد على من زعم إلهية عيسى فإن العلم ببعض الغيوب وإحياء بعض الأشخاص لا يكفي في كونه إلهاً.
ولنذكر ههنا مسائل: الأولى: القرآن دل على أنه بكليته محكم وذلك قوله:
{ الر كتاب أحكمت آياته } [هود: 1] { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } [يوسف: 1] والمراد كون كله كلاماً ملحقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني، وأنه بحيث لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله لوثاقة مبانية وبلاغة معانيه. ودل على أنه بتمامه متشابه { كتاباً متشابهاً مثاني } [الزمر: 23] والمراد أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإعجاز والبراءة من التناقض والتناقض. ثم إن هذه الآية { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } دلت على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه. فيعني ههنا بالمحكم ما هو المشترك بين النص والظاهر، وبالمتشابه القدر المشترك بين المجمل والمؤول كما تقرر في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا الكتاب. والإحكام في اللغة المنع وكذا سائر تراكيبه. / فالحاكم يمنع الظالم من الظلم، وحكمة اللجام تمنع الفرس من الاضطراب، وفي حديث النخعي "حكم اليتيم كما تحكم ولدك" أي امنعه من الفساد. وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما التشابه فهو كون الشيئين بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما. ثم يقال لكل ما لا يهتدي الإنسان إليه متشابه إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره، ثم إن كل أحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، ولقول خصمه متشابهة. فالمعتزلي يقول: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [الكهف: 29] محكم { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [التكوير: 29] متشابه. والسني يقلب الأمر في ذلك. وكذا المعتزلي يقول: { لا تدركه الأبصار } [الأنعام: 103] محكم وقوله { وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة } [القيامة: 22، 23] متشابه. والسني بالعكس. فلا بد من قانون يرجع إليه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل. وهو إما لفظي أو عقلي. والدليل اللفظي لا يكون قاطعاً ألبتة لتوقفه على نقل اللغات، وعلى وجوه التصريف والإعراب، وعلى عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكل ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً فلا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، فإذن لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بالدلالة القطعية العقلية، على أن معناه الراجح محال عقلاً فإذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اللفظ ما أشعر به الظاهر، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا، لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز، وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية وهي ظنية كما بينا ولا سيما المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر، فإذن الخوض في تعيين التأويل غير جائز والله أعلم.
المسألة الثانية في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه. عن ابن عباس أن المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام
{ قل تعالوا } [آية: 151] إلى آخرها، وعلى هذا فالمحكم عنده ما لا يتغير باختلاف الشرائع، لأن هذه الآية كذلك. والمتشابهات هي التي اشتبهت على اليهود كأوائل السور، أوّلوها على حساب الجمل ليستخرجوا بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه. وعنه أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ. وقال الأصم: المحكم هو الذي يكون دلائله واضحة لائحة كإنشاء الخلق في قوله: { فخلقنا النطفة علقة } [المؤمنون: 14] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل كآيات / البعث، فإن التأمل يجعلها محكمة، فإن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة. فإن عنى الأصم بوضوح الدلائل رجحانها، وبالخفاء خلاف ذلك، فهذا هو الذي ذكرنا من أن المحكم عبارة عن النص والظاهر، والمتشابه المجمل والمؤول. وإن عنى بالواضح ما تعلم صحته بضرورة العقل، وبالخفي ما تعرف صحته بدليل العقل، فكل القرآن متشابه. فإن إنشاء الخلق أيضاً يفتقر إلى دليل عقلي، فإن الدهري ينسب ذلك إلى الطبيعة، والمنجم إلى تأثير الكواكب. ولعل الأصم يسمي ما هو الأبعد عن الغلط لقلة مقدماته وضبطها محكماً، والذي هو غير ذلك متشابهاً. وقيل: كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو دليل خفي فهو المحكم، وكل ما لا سبيل إلى معرفته كالعلم بوقت القيامة وبمقادير الثواب والعقاب في حق كل مكلف فذاك متشابه.
المسألة الثالثة في أنه لم جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً. من الملحدة من طعن فيه وقال: كيف يليق بالحكيم أن يجعل كتابه المرجوع إليه في دينه، الموضوع إلى يوم القيامة بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب، فمثبت الرؤية يتمسك بقوله
{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [القيامة: 22، 23] ونافيها يتشبث بقوله { لا تدركه الأبصار } } [الأنعام: 103] ومثبت الجهة { يخافون ربهم من فوقهم } [النحل: 50] { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] والنافي { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11] فكل منهم يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والمخالفة متشابهة، وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى وجوه ضعيفة وتراجيح خفية، وهذا لا يليق بالحكمة مع أنه لو جعل كله ظاهراً جلياً خالصاً عن المتشابه نفياً كان أقرب إلى حصول الغرض. والجواب أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. وأيضاً لو كان كله محكماً كان مطابقاً لمذهب واحد فقط فكان ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به، وإذا كان مشتملاً على القسمين فحينئذٍ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مقالته فيجتهد في فهم معانيه، وبعد الفحص والاستكشاف، صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، ويتخلص المبطل عن باطلة ويصل إلى الحق. وأيضاً إذا كان فيه محكم ومتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بالدلائل العقلية، فيتخلص من ظلمة التقليد إلى ضياء البينة والاستدلال والطمأنينة، وافتقر أيضاً إلى تحصيل علوم أخر كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وأصول الكلام إلى غير ذلك، ولما في المشابهة من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه. وههنا سبب أقوى وهو أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطباع العامة تنبو في / الأغلب عن إدراك الحقائق، فمن سمع منهم في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما توهموه وتخيلوه مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح. فالأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابهات، والثاني وهو الذي يكشف لهم آخر الحال من قبيل المحكمات.
قوله { هن أم الكتاب } الأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء. فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، فلا جرم صارت المحكمات أصولاً للمتشابهات. وإنما لم يقل أمهات الكتاب ليطابق المبتدأ لأن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد هو الأصل لمجموع المتشابهات، وهذا كقوله
{ وجعلنا ابن مريم وأمه آية } [المؤمنون: 50] على معنى أن مجموعها آية واحدة. { وأخر } أي ومنه آيات آخر { متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق { فيتبعون ما تشابه منه } لا يتمسكون إلا بالمتشابه. قال الربيع: هم وفد نجران "حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا: أليس هو كلمة الله وروحاً منه؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى. قالوا: حسبنا" . وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة من الحروف المقطعة في أوائل السور. وقال قتادة والزجاج: هم منكرو البعث لأنه قال في آخره { وما يعلم تأويله إلا الله } وما ذاك إلا وقت القيامة فإنه تعالى أخفاها عن الخلائق حتى الملائكة والأنبياء. والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب المتشابهات، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عن عموم اللفظ. ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه. ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة والكفار من النقمة فكانوا يقولون ائتنا بعذاب الله، ومتى الساعة، ولو ما تأتينا بالملائكة، فموهوا الأمر على الضعفة. قال أهل السنة: ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] فإنه لما ثبت بصريح العقل امتناع كون الإله في مكان وإلا لزم انقسامه، وكل منقسم مركب، وكل مركب ممكن. فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات. ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وأنه من الله تعالى وإلا تسلسل، فيكون حصول الفعل مع تلك الداعية وعدمه عند عدمها واجباً فيبطل التفويض ويثبت أن الكل بقضاء الله وقدره. وإذا لاحت الدلائل العقلية يجوز للعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه؟ بناء على ما اشتهر بين الجمهور من أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة، وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة. / والإنصاف أن الآيات ثلاثة أقسام: أحدها ما يتأكد ظواهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقاً. وثانيها التي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله غير ظاهره. وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فهو المتشابه بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر. لكن ههنا عقدة أخرى وهي أن الدليل العقلي مختلف فيه أيضاً بحسب ما رتبه كل فريق وتخيله صادقاً في ظنه مادة وصورة. فكل فريق يدعي بمقتضى فكره أن الدليل العقلي قد قام على ما يوافق مذهبه وتأكد به الظاهر الذي تعلق به، فلا خلاص من البين إلا بتأييد سماوي ونور إلهي { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [النور: 40] ثم إنه تعالى بين أن للزائغين غرضين: أحدهما { ابتغاء الفتنة } وهي في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، والرجل مفتون بابنه وبشعره. فكان التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً به عاشقاً لا ينقطع عنه تخيله البتة. وقيل: الفتنة في الدين هو الضلال عنه أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم. وعن الأصم: إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة. الغرض الثاني { ابتغاء تأويله } أي طلب المعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من غير أن يكون قد وجد له في كتاب الله بيان. قال القاضي أبو بكر: هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله { ابتغاء الفتنة } والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو قوله { وابتغاء تأويله } ثم قال عز من قائل { وما يعلم تأويله إلا الله } والعلماء اختلفوا في هذا الموضع. منهم من يقف ههنا، فعلى هذا لا يعلم المتشابه إلا الله وهو قول ابن عباس وعائشة والحسن ومالك بن أنس والكسائي والفراء، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي. ومنهم من لم يجعل الواو في { والراسخون } للابتداء وإنما يجعله للعطف حتى يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله وعند الراسخين، لأن وصفهم بالرسوخ في العلم - وهو الثبوت والتعمق وبعد الغور فيه - يناسب ذلك. وهذا قول مجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين، وقد يروى عن ابن عباس أيضاً. والمختار هو الأول لوجوه منها: ما ذهب إليه كثير من العلماء أن "أما" فيه معنى التفصيل البتة، وهذا إنما يستقيم لو قدر و"أما الراسخون في العلم فيقولون". ومنها أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد، علم أن مراد الله بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة. وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية، ومثل ذلك لا يصح / الاستدلال به في المسائل القطعية مثاله { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] فإنه دل الدليل على أن الإله يمتنع أن يكون في المكان، فعرفنا أنه ليس مراداً لله من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذا اللفظ كثرة لا يتعين أحدها إلا بدليل لغوي ظني، والقول بالظن في ذات الله وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين، ولهذا قال مالك بن أنس: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. ومنها ما قيل إن هذه الآية ذم لطالب تأويل المتشابه حيث قال { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه } وتخصيص بعض المتشابهات بذلك كطلب وقت الساعة ونحوه ترجيح من غير مرجح، فالذم يتوجه على الكل وهو المطلوب. ومنها أنه تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم { يقولون آمنا به } وقال تعالى في أول البقرة: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } [البقرة: 26] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح، ولا في قولهم { كل من عند ربنا } لأن كل من عرف شيئاً على التفصيل فإنه لا بد أن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراداً لله تعالى عرفوا أن مراد الله تعالى منه شيء غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب. فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن، ولم يصر كون ظاهره مردوداً شبهة لهم في الطعن في كلام الله تعالى. ثم إن جعل قوله { والراسخون } عطفاً على اسم { الله } فقوله { يقولون آمنا به } كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هم يقولون آمنا بالمتشابه كل من عند ربنا أي كل واحد من المحكم والمتشابه من عنده. وفي زيادة { عند } مزيد توضيح وتأكيد وتفخيم لشأن القرآن، ويحتمل أن يعود الضمير في { آمنا به } إلى الكتاب أي يقولون، آمنا بالكتاب كل من محكمه ومتشابهه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه، ويحتمل أن يكون قوله { يقولون } حالاً إلا أن فيه إشكالاً وهو أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله وذكر الراسخين، والحال لا يمكن إلا من الراسخين فيلزم ترك الظاهر. { وما يذكر إلا أولوا الألباب } ما يتعظ إلا ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهانهم في فهم القرآن فيعلمون ما الذي يطابق ظاهره دلائل العقل فيكون محكماً، وما الذي هو بالعكس فيكون متشابهاً، ثم يعتقدون أن الكل كلام من لا يجوز في / كلامه التناقض، فيحكمون بأن ذلك المتشابه لا بد أن يكون له معنى صحيح عند الله وإن دق عن فهومنا. وقيل: هو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل حتى علموا من التأويل ما علموا. ثم إنه تعالى حكى عن الراسخين نوعين من الدعاء: الأول قولهم { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } أي بعد وقت هدايتنا، والثاني قولهم { وهب لنا من لدنك رحمة } سألوا ربهم أوّلاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الأباطيل والعقائد الفاسدة، ثم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة ويزين جوارحهم وأعضاءهم بزينة الطاعة والعبودية والخدمة. ونكَّر رحمة ليشمل جميع أنواعها. فأوّلها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة، وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة، وثالثها أن يحصل له في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية، ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت، وخامسها سهولة السؤال والظلمة والوحشة في القبر، وسادسها في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وتبديلها بالحسنات، وسابعها في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وثامنها في الحضرة رفع الأستار ورؤية الملك الجبار. وفي قولهم { من لدنك } تنبيه على أن هذا المقصود لا يحصل إلا من عنده ويؤكده قوله { إنك أنت الوهاب } فالمطالب وإن كانت عظيمة فإنها تكون حقيرة بالنسبة إلى غاية كرمك ونهاية وجودك وموهبتك. ولنعد إلى ما يتعلق بالدعاء الأول قال أهل السنة: القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع. فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين وغيرها مما ورد في القرآن، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" يعني الداعيتين. ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى مدح هؤلاء الراسخين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ويتركون الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه، فتكون هذه الآية من أقوى المحكمات وهو ظاهر في أن الإزاغة والهداية كلتيهما من الله تعالى. أما المعتزلة فقد قالوا: لما دلت الدلائل على أن الإزاغة لا يجوز أن تصدر من الله تعالى لأن ذلك ظلم وقبيح، وجب صرف الآية إلى التأويل فقال الجبائي واختاره القاضي: المراد أن لا يمنع قلوبهم الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان، وزيف بأن اللطف إن / صح في حقهم وجب عندكم على الله أن يفعل ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلهيته ولصار جاهلاً أو محتاجاً. وقال الأصم: لا تبلنا ببلوى يزيغ عندها قلوبنا. والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ. وقد يقول القائل: لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك. وزيف بأن التشديد في التكليف قبيح إن علم الله تعالى أن له أثراً في حمل المكلف على القبيح وإلا فوجوده كعدمه فلا فائدة في صرف الدعاء إليه. وقال الكعبى: لا تسمنا باسم الزائغ كما يقال: فلان يكفر فلاناً أي يقول إنه كافر. وزيف بأن التسمية دائرة مع الفعل، وفعل الزيغ باختيار العبد عندكم فالتسمية أيضاً بسببه، وقال الجبائي أيضاً: لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك وهو كالأول إلا أن يحمل على شيء اخر وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر أماته في هذه السنة. ويرد عليه أنه لو كان علمه بأنه يكفر في السنة الثانية يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأنه لا يؤمن قط ويبقى على الكفر طول عمره يوجب أن لا يخلقه. وعن الأصم أيضاً: لا تزغ قلوبنا عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل. ولا يخفى تعسفه وعدم مناسبته لقوله { فأما الذين في قلوبهم زيغ }. وقال أبو مسلم: احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ. ثم إنهم لما طلبوا أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة فكأنهم قالوا ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية، ولكن الغرض ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه أي في وقوعه. فاللام للوقت، أو جامع الناس لجزاء يوم فحذف المضاف { إن الله لا يخلف الميعاد } قيل: هو كلام الله تعالى كأنه يصدقهم فيما قالوه، ولو كان من تمام قول المؤمنين لقيل: إنك لا تخلف. إلا أن يحمل على الالتفات ومعناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك: إن الجواد لا يخيب سائله. ولا سيما وعد الحشر والجزاء لينتصف للمظلومين من الظالمين. والميعاد المواعدة والوقت والموضع قاله في الصحاح.
واعلم أنه لا يلزم من أنه تعالى لا يخلف الوعد القطع بوعيد الفساق كما زعم المعتزلة، لأن كل ما ورد في وعيد الفساق فهو عندنا مشروط بشرط عدم العفو، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة بدليل منفصل. قال الواحدي: ولم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب. قال بعضهم:

إذا وعد السراء أنجز وعده وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه

وناظر أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد فقال: ما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال: إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً. فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده. فقال أبو عمرو إنك أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب، لأن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤماً وعن الايعاد كرماً وأنشد:

وإني وإن أوعدته أو وعدته لمكذب إيعادي ومنجز موعدي

وذلك أن الوعد حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم فهذا هو الفرق بين الوعد والوعيد. على أنا لا نسلم أن الوعيد ثابت جزماً من غير شرط بل هو مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى. ثم إنه سبحانه لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدة عذابهم فقال: { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } وقيل: المراد وفد نجران وذلك أنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن عقلمة قال لأخيه: إني أعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، ولكن إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال. فالله تعالى بيَّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، لكن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ.
واعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به ويجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة. أما الأول فإليه أشار بقوله: { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها المرء عند الخطوب. وإذا لم يفد أقرب الطرق إلى دفع المضار في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ومثله
{ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [الصافات: 149] { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير } } [الكهف: 46]. وأما الثاني فإليه أشار بقوله: { وأولئك هم وقود النار } فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس: و"من" في قوله { من الله } للبدل مثله في قوله { و إن الظن لا يغني من الحق شيئا } [النجم: 28] أي بدله والمضاف محذوف تقديره لن تغني عنهم بدل رحمة الله أو طاعته شيئاً. أو في الحديث " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أي لا ينفعه جده وحظه في الدنيا بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وأنشد أبو علي:

فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان

وطهيان من بلاد الأزد. قلت: يجوز أن يقال "من" للابتداء تقديره من عذاب الله، والجار والمجرور مقدم حالاً من شيء أو "من" زائدة لتأكيد النفي التقدير: لن تغني عنهم عذاب الله شيئاً من الغناء أي لن تدفع. وقال أبو عبيدة "من" بمعنى "عند" والمعنى: لن تغني عند الله شيئاً.
قوله تعالى: { كدأب آل فرعون } يقال: دأب فلانٍ في عمله أي جدّ وتعب دأبا دؤباً فهو دئيب. وأدأبته أنا، والدائبان الليل والنهار، والدأب العادة والشان، وكل ما عليه الإنسان من صنيع وحالة، وقد يحرّك وأصله من دأبت إطلاقاً لاسم الخاص على العام أي جد هؤلاء الكفار واجتهادهم أو شأنهم أو صنيعهم في تكذيب محمد وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام. ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذلك نهلك هؤلاء. فقوله: { كذبوا بآياتنا } تفسير لدأبهم على أنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما فعلوا وما فعل بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتنا بالمعجزات الدالة على صدق رسلنا. { فأخذهم الله بذنوبهم } أي صاروا عند نزول العذاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على وجه الخلاص البتة. وقيل: المعنى كدأب الله في آل فرعون أي يجعلهم الله وقود النار كعادته وصنيعه في آل فرعون والمصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول. وقال القفال: يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى وللعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد كعادة من قبلهم في إيذاء الرسل، وعادتنا أيضاً في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك أولئك الكفرة. وقيل: الدؤب والدأب اللبث والدوام والتقدير: دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون. وقيل: مشقتهم وتعبهم في النار كمشقة آل فرعون بالعذاب
{ النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [غافر: 46]. وقيل: المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب والمعنى: إنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد، فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد فينزل بكم مثل ما نزل بهم ولا تغني عنكم الأموال والأولاد. ويحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال وهو قوله { فأخذهم الله بذنوبهم } ثم صاروا إلى دوام العذاب وهو قوله { والله شديد العقاب } فسينزل بمن كذب بمحمد أمران: أحدهما المحن المعجلة من القتل والسبي والإذلال وسلب الأموال وإليه الإشارة بقوله فيما بعد { قل للذين كفروا ستغلبون } والثاني المصير إلى العذاب الدائم وذلك قوله { وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد }. / التأويل: { آلم } الألف إظهار الوحدة مطلقاً ذاتاً وصفة. فإن الألف واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب، ومتفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف، ويشير باستقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغيره عن الوجود الوحداني أزلاً وأبداً. فإن الألف مصدر جميع الحروف، فإن من استقامته يخرج كل حرف معوج. ثم في اللام والميم المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوفة بالإثنينية وذلك قسمان: قسم لم يكن فكان ثم يزول، وقسم ما كان فكان ولا يزول. وهذان قسمان محدثان وموجدهما الواحد القديم الذي لا زال كان ولا يزال يكون وإليه الإشارة بالألف. وأما اللام فإشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يكون باقياً وهو عالم الصورة والملك والأجساد. فوقوعه في المرتبة الثانية، من الألف إشارة إلى أنه مسبوق بالوجود والألف سابق عليه، والانكسار فيه يشير إلى تغيره وزواله. والميم إشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يزال يبقى وهو عالم المعنى والملكوت والأرواح. وذلك أن الميم أول حرف من اسمه المبدىء وآخر حرف من اسمه القيوم، فيشير إلى أنه كما أبدأه المبدىء حين لم يكن يقيمه القيوم حين كان لا يزال. وبوجه آخر الألف إشارة إلى وجود حقيقي قائم بذاته، واللام يشير إلى إثبات ونفي. فالإثبات في لام التمليك { له ما في السموات وما في الأرض } والنفي في "لا" النافية أي لا وجود لشيء بالحقيقة سواه، والميم يشير أيضاً إلى إثبات ونفي. فالإثبات ميم اسمه القيوم والنفي "ما" النافية أي ما في الوجود حقيقة إلا هو. ودليل الوجهين في { آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فـ { الله } إثبات ذات القديم، { لا إله إلا هو } نفى الشرك عن وجوده وإثبات وحدته في وجوده و{ الحي القيوم } إثبات جميع صفات كماله ونفي جميع سمات النقص عن ذاته. وقد أودع مجموع معاني هذه الآية في قوله { آلم } فمعنى قوله { الله } أودع في أول حرف من حروفه وهو الألف، ومعنى قوله { لا إله إلا هو } أودع في أول حرف من حروفه وهو اللام. ومعنى قوله { الحي القيوم } أودع في آخر حرف من حروفه وهو الميم. وإنما أودع في آخر حروفه ههنا ليكون السر مودعاً في الآية من أول حرفها إلى آخر حرفها مكتوماً فيما بينهما. والحروف الثلاثة من قوله { آلم } يكون الألف من أولها دالاً على المعنى الذي هو في الكلمة الأولى وهي { الله } واللام من أوسطها دالاً على المعنى الذي في الكلمة الثانية وهي { لا إله إلا هو } والميم من آخرها دالاً على المعنى الذي هو مودع في الثالثة وهو { الحي القيوم } فيكون الاسم الأعظم مودعاً في { آلم } كما روي عن سعيد بن جبير وغيره، وهو سر القرآن وصفوته كما روي عن أبي بكر وعلي عليه السلام. ثم إنه تعالى بعد أن أظهر أسرار ألوهيته المودعة في { آلم } بقوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة مع حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم / فقال { نزل عليك الكتاب بالحق } أي نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة متجلية لسرك، مخيفة عن زورك، فصرت مشاهداً لسر الله المودع في { آلم } وهو الذي بين يدي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فصرت مصدقاً له تصديق تحقيق لا تصديق تقليد فأفهم إذ لم تتعلم، ولا تعلم أنك لا تفهم لأنه منطق الطير وأنت بعد بيضة لا من الطيارين ولا من السيارين. { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس } فلا تظنن يا محمد أن إنزال الكتب على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقيقة على قلبك كما قال: { ولكن جعلناه نوراً } [الشورى: 52] حتى صرت مكاشفاً عند تجلي أنواره بأسراره، وحقائق بيني وبينك لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما إنزال الكتب على الأنبياء كان بالصورة مكتوبة في صحائف وألواح يقرؤها كل قاريء، ويستوي في هداها الأنبياء والأمم قاطبة { هدى للناس } وكنت مخصوصاً بالهداية عند تجلي أنوار القرآن بالتنزيل على قلبك كما قال: { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [الشورى: 52] { وأنزل الفرقان } الذي يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب على صورة الأنبياء، ويفرق بين تعليمك القرآن وبين تعليمهم الكتب. فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقرآن، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته نور ومعه كتاب { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [المائدة: 15] وبين نبى يجىء ومعه نور من الكتاب { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } [الأنعام: 91] وشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة } [الأعراف: 145] وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [المجادلة: 22] { إن الذين كفروا بآيات الله } يسترون بحجب الغفلات وتتبع الشهوات قلوبهم فتعمى عن مشاهدة هذه الآيات البينات { لهم عذاب شديد } من هذا العمى والحرمان وهم في خسران من الركون إلى هذا النقصان { والله عزيز ذو انتقام } يعز أهل الغرام بنيل المرام وينتقم من أهل السلوة بحجاب العزة. ثم أخبر تعالى عن كمال علمه بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } وكيف يخفى وإنه { هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز } عن نقص الأحكام { الحكيم } فيما يجري من الأزل إلى الأبد وجفت به الأقلام. وفي الآية إشارة إلى أنه إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجال الحق نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهو بمثابة ملك الأرحام، ويضبط المريد أحواله الظاهرة والباطنة على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منه سقوط النطفة وفسادها، ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى بتصرف ولاية الشيخ / المؤيد بتأييد الحق بمرور كل أربعين عليه بشرائطها يحوّلها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام إلى أن يرجع إلى حظائر القدس ورياض الأنس التي منها صدر إلى عالم الإنس، فيتكون الجنين في رحم القلب وهو طفل خليفة الله في أرضه فيستحق الآن أن ينفخ فيه الروح المخصوص بأنبيائه وأوليائه { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } [النحل: 2] { كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } [المجادلة: 22] فإذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون. الآيات المحكمات تنزيلها شرب الخواص والعوام لبسط الشرع والاهتداء، والمتشابهات تأويلها شرب الخواص وخواص الخواص لإخفاء الأسرار عن الأغيار والابتلاء { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ألبست قلوبهم غطاء الريب وحرموا أنوار الغيب وهم أهل الأهواء والبدع { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } ليضلوا بأهوائهم { وابتغاء تأويله } ليضلوا الناس بآرائهم { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } بما شاهدوا من أنوار الحق في تحقيق التأويل { كل من عند ربنا } بتوفيقه وإعلامه وتعريفه { وما يذكر إلا أولوا الألباب } الذين خرجوا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمات قشور وجودهم النفساني إلى نور لباب وجودهم الروحاني، وهم الراسخون في قشور العلوم الكسبية الواصلون إلى حقائق لباب العلوم اللدنية من لدن حكيم خبير. وفي الآية إشارة إلى أن علوم الراسخين كلها بتعليم الله تعالى إياهم في الميثاق إذ تجلى بصفة الربوبية للذرّات، وأشهدهم على أنفسهم بشواهد الربوبية ألست بربكم؟ فبشهود تلك الشواهد ركز في جبلة الذرّات علم التوحيد فقالوا: بلى. ويندرج في علم التوحيد كل العلوم كما قال: { وعلم آدم الأسماء كلها } [البقرة: 31] فلما ردّت الذرّات إلى الأصلاب واحتجبت بصفات البشرية، ثم نقلت إلى الأرحام وتنقلت بقدم الأربعينات من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام من مقامات البعد عن الحضرة إلى أن وضع الحمل، وردت النفس العالمة بعلم التوحيد الناطقة به إلى أسفل سافلين القالب محتجبة بحجب البشرية ناسية تلك العلوم والتنطق بها. ثم أبواه يذكرانه تلك العلوم بالرموز والقرائن حتى يتذكر بعض تلك العلوم من وراء حجب البشرية وأستار الأطوار، وينطق بلسان الأبوين لا بلسانه الذي أجاب به الرب وقال بلى، فإن ذلك اللسان كان لب هذا اللسان وهذا قشر ذلك. وكذلك جميع وجود ظاهر الإنسان وباطنه قشور لباب ذلك الوجود المستمع المجيب في الميثاق. فسمعه قشر ذلك السمع الذي استمع خطاب الحق، وبصره قشر ذلك البصر الذي أبصر جمال الحق، وقلبه قشر ذلك القلب الذي فقه خطاب الحق، وعلومه قشر تلك العلوم التي تعلمت من الحق. فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليذكره حقيقة تلك العلوم التي كان أبواه يذكرانه قشرها كما قال { فذكر إنما أنت مذكر } [الغاشية: 21] فالتذكير عام ولكن التذكر خاص فلهذا قال { وما يذكر إلا أولوا / الألباب } إنما يتذكر أولوا الألباب { ربنا لا تزغ قلوبنا } عن صراطك بغلبات ظلمات طبائعنا وطباعنا { بعد إذ هديتنا } إلى حضرة جلالك ونور جمالك حتى سمعنا بلب سمعنا لب التنزيل، وشاهدنا بلب أبصارنا لب التأويل، وتذكرنا بلب عقولنا علومنا { وهب لنا من لدنك رحمة } تجذبنا من لدنا إلى لدنك وتغنينا عنا بك { إنك أنت الوهاب }. وفيه إشارة إلى أن وظيفة الطالب أن لا يسكن في مقام ولا يقف مع حال بل يكون إلى الأبد طلاباً كما كان الله من الأزل إلى الأبد وهاباً. وكما أنه لا نهاية لمواهبه فلا غاية لمطالب طالبه، وأن بعد هذه الدار داراً هي دار القرار يوفى فيها جزاء الأبرار والفجار. فحصول الأرب بقدر رعاية الأدب في الطلب. ومقاساة التعب والنصب، وإن التقوى خير زاد للمعاد { إن الله لا يخلف الميعاد } { إن الذين كفروا } ستروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات نفسانيتهم { لن تغنى عنهم } طاغوت { أموالهم وأولادهم من } أنوار الله التي حجبوا عنها { وأولئك هم وقود النار } نار الفرقة والقطيعة { نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة } [الهمزة: 6، 7] لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا قشور الجلود ولا تخلص إلى لب القلوب. وإن عذاب حرقة لجلود بالنسبة إلى عذاب حرقة القلوب وحرقة القطيعة عن الله كنسيم الحياة إلى سموم الممات.

في فؤاد المحب نار هوى أحر نار الجحيم أبردها

وكذلك دأب جميع الكفار الذين ستروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات النفس فعموا وصموا عن مشاهدة أنوارنا ومحافظة أسرارنا، فأخذهم الله فعاقبهم بحجاب ذنبوبهم وحرقة قلوبهم { والله شديد العقاب } أليم نار فراقه عظيم عذاب بعده وإشراقه.

بالنار خوّفني قومي فقلت لهم النار ترحم من في قلبه نار