خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ
٢
هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ
٣
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٤
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٦
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِيۤ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٧
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلنَّعِيمِ
٨
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٩
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
١٠
هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
١١
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
١٢
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
١٣
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ
١٤
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٥
يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
١٦
يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٧
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
١٨
وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ
١٩
-لقمان

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { ورحمة } بالرفع. حمزة وأبو عون عن قنبل { ليضل } بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب و{ يتخذها } بالنصب: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { يا بني لا تشرك } بسكون الياء: البزي والقواس. وقرأ حفص والمفضل بفتح الياء وكذا في قوله { يا بني أقم } الباقون: بكسر الياء. { مثقال } بالرفع: ابو جعفر ونافع { نصاعر } بالألف: أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي وخلف. الآخرون. بالتشديد.
الوقوف: { الم } ه كوفي { الحكيم } ه وقف لمن قرأ { ورحمة } بالرفع على تقدير هو هدى. ومن قرأ بالنصب على الحال والعامل معنى الإشارة في { تلك } فلا وقف { للمحسنين } ه لا { يوقنون } ه ط { المفلحون } ه { بغير علم } ط قد يوقف لمن قرأ { ويتخذها } بالرفع والوصل أحسن لأنه وإن لم يكن معطوفاً على { ليضل } فهو معطوف على { يشتري } { هزواً } ط { مهين } ه { وقرأ } ط لانقطاع النظم مع اتصال الفاء { أليم } ه { النعيم } ه لا للحال والعامل معنى الفعل في لهم { فيها } ط لأن التقدير وعد الله وعداً { حقاً } ط { الحكيم } ه { دابة } ه للعدول { كريم } ه { دونه } ط { مبين } ه { لله } ط { لنفسه } ج { حميد } ه { بالله } ط وقد يوقف على { لا تشرك } على جعل الباء للقسم وهو تكلف { عظيم } ه { بوالديه } ج لانقطاع النظم مع تعلق { أن اشكر } بـ { وصينا } { ولوالديك } ط { المصير } ه { معروفا } ز للعدول عن بعض المأمور إلى الكل مع اتفاق الجملتين { إلي } ج لأن "ثم" لترتيب الأخبار { تعملون } ه { الله } ط { خبير } ه { أصابك } ط { الأمور } ه ج للآية ووقوع العارض مع عطف المتفقتين { مرحاً } ط { فخور } ج لما ذكر { من صوتك } ه ط { الحمير } ه.
التفسير: لما قال في آخر السورة المتقدمة
{ { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [الزمر: 27] وكان في إشارة إلى إعجاز القرآن، ودل ما بعده إلى تمام السورة على أنهم مصرون على كفرهم، أكد تلك المعاني في أول هذه السورة. وتفسيره إلى { المفلحون } كما في أول البقرة. إلا قوله { تلك آيات الكتاب الحكيم } فإنه مذكور في أول "يونس". وحيث زاد ههنا { ورحمة } قال { للمحسنين } فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى لقوله صلى الله عليه وسلم "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه" ولقوله سبحانه { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } [النحل: 128] { { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [يونس: 26] ومما يؤيد ما قلنا أنه لم يقل هنا { { يؤمنون بالغيب } [البقرة: 3] لئلا يلزم شبه التكرار، فإن الإحسان لا مزيد عليه في باب العقائد. ثم بين حال المعرضين عن الحق بقوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الإضافة بمعنى "من" أي الحديث الذي هو لهو ومنكر. وجوز في الكشاف أن تكون "من" للتبعيض أي يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه وفيه نظر، لأنه يصح هذا التأويل في قولنا "خاتم فضة" وليس بمشهور. قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً. وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه ويقول: هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. فعلى هذا معنى { ليضل } بضم الياء ظاهر، ومن قرأ بالفتح فمعناه الثبات على الضلال أو الإضلال نوع من الضلال. وقوله { بغير علم } متعلق بـ { يشتري } كقوله { { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } [البقرة: 16] أي للتجارة قاله في الكشاف وغيره. ولا يبعد عندي تعلقه بقوله { ليضل } كما قال { { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } [النحل: 25] قال المحققون: ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح، وإذا كان الحديث لهواً لا فائدة فيه كان أقبح. وقد يسوغه بعض الناس بطريق الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "روِّحوا القلوب ساعة فساعة" والعوام يفهمون منه الترويح بالمطايبة وإن كان الخواص يحملونه على الاشتغال بجانب الحق كقوله "يا بلال روّحنا" ثم إنه إذا لم يقصد به الإحماض بل يقصد به الإضلال لم يكن عليه مزيد في القبح ولا سيما إذا كان معه اشتغاله بلهو الحديث مستكبراً عن آيات الله التي هي محض الحكمة كما قال { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً } ومحل { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً } نصب على الحال قال جار الله: الأولى حال من ضمير { مستكبراً } والثانية من { لم يسمعها } قلت: هذا بناء على تجويز الحال المتداخلة وإلا فمن الجائز أن يكون كل منهما و { مستكبراً } حالاً من فاعل { ولى } أي مستكبراً مشابهاً لمن لم يسمعها مشابهاً لمن في أذنيه وقر. وجوز أي يكونا مستأنفين وتقدير كأن المخففة كأنه والضمير للشأن، قال أهل البرهان: هذه الآية والتي في الجاثية نزلتا باتفاق المفسرين في النضر إلا أنه بالغ هنا في ذمه لتركه استماع القرآن فقال بعد قوله { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً } اي صمماً لا يقرع مسامعه صوت، فإن عدم السماع أعم من أن يكون بوقر الأذن أو بنحو غفلة. وترك الجملة الثانية في "الجاثية" لأنه لم يبن الكلام هنالك على المبالغة بدليل قوله { { وإذا علم من آياتنا شيئاً } } [الجاثية: 9] والعلم لا يحصل إلا بالسماع أو ما يقوم مقامه من خط وغيره. وحين بين وعيد أعداء الدين بين حال أولياء الله بقوله { إن الذين آمنوا } الآية. وقد مر مثله مراراً وفي قوله { وهو العزيز الحكيم } إشارة إلى أنه لا غالب ولا مناوئ، يعطي النعيم من شاء والبؤس من شاء حسب ما تقتضيه حكمته وعدله. ثم بين عزته وحكمته بقوله { خلق السموات بغير عمد } وقد مر في أول "الرعد". وقوله { وألقى في الأرض } مذكور في أول "النحل" و { من كل زوج كريم } ذكر في أول الشعراء. هذا الذي ذكر من السموات بكيفياتها والأرض بهيآتها بسائطها ومركباتها { خلق الله } أي مخلوقه { فأروني ماذا خلق الذين من دونه } وهم الآلهة بزعمهم. وهذا أمرتعجيز وتبكيت فلهذا سجل عليهم بالضلال المبين. ثم بين فساد اعتقاد أهل الشرك بأنه مخالف ايضاً لعقيدة الحكماء الذين يعولون على المعقول الصرف منهم لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته أو من أولاد آزر، عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له؟ فقال: الا أكتفي إذا كفيت وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً. عن ابن عباس: لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان راعياً أسود فرزقه الله العتق ورضي الله قوله "ووصيته" وحكاها في القرآن. وقيل: خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. وقال عكرمة والشعبي: كان نبياً. روي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد وقد لين الله له الحديد، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود عليه السلام: بحق ما سميت حكيماً. روي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب، ثم امره بمثل ذلك بعد ايام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب أيضاً فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا.
ثم فسر الحكمة بقوله { أن اشكر لله } لأن إيتاء الحكمة في معنى القول. قال العلماء: هذا أمر تكوين أي جعلناه شاكراً فإن أمر التكليف يستوي فيه الجاهل والحكيم، وفيه تنبيه على أن شكر المعبود الحق رأس كل العبادة وسنام الحكمة وفائدته ترجع إلى العبد لا إلى المعبود فإنه غني عن شكر الشاكرين مستحق للحمد وإن لم يكن على وجه الأرض حامد. وحين بين كماله شرع في تكميله وذلك لأبنه المسمى أنعم أو أشكم. قيل: كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظمهما حتى أسلما. ووجه كون الشرك ظلماً عظيماً أنه وضع في أخس الأشياء - وهو الفقير المطلق- موضع اشرف الاشياء - وهو الغني المطلق- ثم وصى الله سبحانه الإنسان بشكر إنعام الوالدين وبطاعتهما وإن كانا كافرين إلا أن يدعواه إلى الإشراك بالله. وهذه جملة معترضة نيط باعتراضها غرضان: أحدهما أن طاعة الأبوين تالية لعبادة الله، والثاني تأكيد كون الشرك أمراً فظيعاً منكراً حتى إنه يلزم فيه مخالفة من يجب طاعته. وقوله { حملته أمه وهناً } أي حال كونها تهن وهناً { على وهن } أي ضعفاً على ضعف، لأن الحمل كلما زاد وعظم ازدادت ثقلاً وضعفاً، اعتراض في اعتراض تحريضاً على رعاية حق الوالدة خصوصاً.
" روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال:قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أباك" . وقوله { وفصاله في عامين } توقيت للفطام كما مر في "البقرة" في قوله { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [البقرة: 233] وفيه تنبيه آخر على ما كابدته الأم من المشاق. ومعنى { معروفاً } صحاباً أو مصاحباً معروفاً على ما يقتضيه العرف والشرع. وفي قوله { واتبع سبيل من أناب إليّ } إشارة أخرى إلى أنهما لو لم يكونا منيبين إلى الرب لم يتبع سبيلهما في الدين وإن لزم طاعتهما في الدنيا وفي باب حسن العشرة والصحبة. واتفق المفسرون على أن هذه الآية ونظيرتها التي في "العنكبوت" وفي "الأحقاف" نزلت في سعد بن ابي وقاص وفي أمه حمنة بنت ابي سفيان، وذلك أنه حين أسلم قالت: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فوالله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليَّ حرام حتى تكفر بمحمد - وكان أحب ولدها إليها "فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآيات، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتراضاها بالإحسان وإنما لم يذكر في هذه السورة قوله { حسناً } لأن قوله { أن اشكر } قام مقامه، وإنما قال ههنا { وإن جاهداك على أن تشرك } لأنه أراد وإن حملاك على الإشراك، وقال في العنكبوت { لتشرك } [العنكبوت: 8] موافقة لما قبله فإنما يجاهد لنفسه مع أن مبني الكلام هناك الاختصار. وحين وصف نفسه بكماله في خاتمة الآية بقوله { فأنبئكم بما كنتم تعملون } أتبعه ما يناسبه من وصايا لقمان وهوة قوله { يا بني إنها } أي القصة { إن تك } أي الحبة من الإساءة أو الإحسان في الصغر كحبة الخردل ويجوز أن يقال: الحبة إن تك كحبة الخردل. ومن قرأ { مثقال } بالرفع تعين أن يكون الضمير في { إنها } للقصة وتأنيث { تك } لإِضافة المثقال إلى الحبة. وروي أن ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر اي في مغاصة يعلمها الله؟ إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.
سؤال: الصخرة لا بد أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟ الجواب على قول الظاهريين من المفسرين ظاهر لأنهم قالوا: الصخرة هي التي عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء. وقال أهل الأدب: فيه إضمار والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ومثله قول جار الله، أراد فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت العالم العلوي أو السفلي، وقال أهل التحقيق: إن خفاء الشيء يكون إما لغاية صغره، وإما لاحتجاجه، وإما لكونه بعيداً، وإما لكونه في ظلمة. فأشار إلى الأول بقوله { مثقال من خردل } وإلى الثاني بقوله { فتكن في صخرة } وإلى الثالث بقوله { أو في السموات } وإلى الرابع بقوله { أو في الأرض } وقوله { يأت بها الله } أبلغ من قول القائل "يعلمه الله" ففيه مع العلم بمكانه إظهار القدرة على الإتيان به { إن الله لطيف } نافذ القدرة { خبير } ببواطن الأمور، وحين منع ابنه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بمكارم الأخلاق والعادات وأولها الصلاة، وفيها تعظيم المعبود الحق، وبعدها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهما تتم الشفقة على خلق الله. وقوله { واصبر على ما اصابك } من أذيات الخلق في البأس، أو هو مطلق في كل ما يصيبه من المصائب والمكاره { إن ذلك } المذكور { من عزم الأمور } أي من معزوماتها من عزم الأمر بالنصب إذا قطعه قطع إيجاب وإلزام، ومنه العزيمة خلاف الرخصة، أو من عزم الأمر بالرفع أي جد وقد مر في آخر "آل عمران". وحين أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكان يخشى عليه أن يتكبر على الغير بسبب كونه مكملاً له أو يتبختر في النفس بسبب كونه كاملاً في نفسه قال { ولا تصعِّر خدك للناس } يقال: أصعر خدَّه وصعره وصاعره من الصعر بفتحتين وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بكل وجهك تواضعاً لا بشق الوجه كعادة المتكبرين. ومعنى { ولا تمش في الأرض مرحاً } مذكور في سورة "سبحان الذي" والمختال والفخور مذكوران في سورة النساء. فالمختال هو الماشي لأجل الفرح والنشاك لا لمصلحة دينية أو دنيوية، والفخور هو المصعر خده، بين أن الله لا يحبهما فيلزم الاجتناب عن الاتصاف بصفتهما. ثم امره عند الاحتياج إلى المشي لضرورة بالمشي القصد أي الوسط بين السرعة والإبطاء على قياس سائر الأخلاق والآداب فخير الأمور أوساطها، ومثله غض الصوت حين التكلم. قال أهل البيان: في تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير التي هي مثل في البلادة حتى استهجن التلفظ باسمها في أغلب الأمر، وفي تمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام عن أداة التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة، تنبيه على أن الإفراط في رفع الصوت من غير ضرورة ولا فائدة مكروه عند الله جداً، واشتقاق أنكر من النكر ليكون على القياس لا من المنكر والحمير جمع الحمار، وإنما لم يقل أصوات الحمير لأن المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق وغير الناطق له صوت، وإن أنكر أصوات هذه الأجناس صوت أفراد هذا الجنس. قال بعض العقلاء: من نكر صوت هذا الحيوان أنه لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق، وأما سائر الحيوانات فلا يصيح إلا لحاجة قالوا: ومن فوائد عطف الأمر بغض الصوت على الأمر بالقصد في المشي، أن الحيوان يتوصل إلى مطلوبه بالمشي فإن عجز عن ذلك فبالتصويت والنداء كالغنم تطلب السخلة، ومنها أن الإنسان له عقيدة ولسان وجوارح يتحرك بها كسائر الحيوانات فأشار إلى الأولى بقوله { إنها إن تك مثقال حبة } أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، واشار إلى التوسط في أفعال الجوارح بقوله { واقصد في مشيك } وإلى التوسط في الأقوال بقوله { اغضض من صوتك } أو نقول: اشار بقوله { أقم الصلاة } إلى الأوصاف الملكية التي يجب أن تكون في الإنسان، وبقوله { وأمر } إلى قوله { مرحاً } إلى الأوصاف الفاضلة الإنسانية، وبقوله { واقصد } { واغضض } إلى الأوصاف التي يشارك فيها الإنسان سائر الحيوان والله تعالى أعلم.
التأويل: { ويؤتون الزكاة } هي للعوام مقادير معينة من المال كربع العشر من عشرين، وللخواص إخراج كل المال في سبيل الله، ولأخص الخواص بذل الوجود لنيل المقصود { لهو الحديث } قال الجنيد: السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم، وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم، وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم. { وإذ قال لقمان } القلب { لابنه } السر المتولد من ازدواج الروح والقلب { وهو يعظه } أن لا يتصف بصفات النفس العابدة للشيطان والهوى والدنيا { في عامين } يريد فطامه عن مألوفات الدارين { وإن جاهداك } فيه أن السر لا ينبغي له أن يلتفت إلى الروح أو القلب إذا اشتغلا بغير الله في أوقات الفترات، فإن الروح قد يميل غلى مجانسة من الروحانيات، والقلب يميل تارة إلى الروح، وأخرة إلى النفس ولكنه يرجى الصلاة بعد الفترة، وأما السر فإذا زال عن طبيعته وهو الإخلاص في التوحيد فإصلاح حاله ممكن بعيد. { واتبع سبيل من أناب إليّ } وهو الخفي. { إنها إن تك } يعني القسمة الأزلية من السعادة وضدها { لصوت الحمير } قالوا: هو الصوفي يتكلم قبل أوانه.