خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٤٥
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤٦
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٤٧
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٨
مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ
٤٩
فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
٥٠
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ
٥١
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٢
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٥٣
فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٥٤
إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ
٥٥
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ
٥٦
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ
٥٧
سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ
٥٨
وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ
٥٩
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
٦٠
وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٦١
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ
٦٢
هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٦٣
ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٦٤
ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٦٥
وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ
٦٦
وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ
٦٧
وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
٦٨
وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
٦٩
لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٧٠
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
٧١
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ
٧٢
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ
٧٤
لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ
٧٥
فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٦
أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٧٧
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ
٧٨
قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
٧٩
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ
٨٠
أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ
٨١
إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٨٢
فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٨٣
-يس

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { يخصمون } بفتحتين ثم كسر الصاد المشددة: ابن كثير وورش وسهل ويعقوب وأصله "يختصمون" أدغمت التاء في الصاد بعد نقل حركتها إلى الخاء، وقرأ أبو جعفر ونافع غير ورش بسكون الخاء، وقرأ أبو عمرو باشمام الفتحة قليلاً وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من الخصم ثلاثياً. الباقون: بكسر الخاء للاتباع وتشديد الصاد. وروى خلف عن يحيى بكسر الياء والخاء والتشديد. { شغل } بضمتين: عاصم وخلف وابن عامر ويزيد ويعقوب. { فكهون } وبابه بغير ألف: يزيد. { ظل } بضم الظاء وفتح اللام: حمزة وعلي وخلف على أنه جمع ظلة. الآخرون: { ظلال } جمع ظل { جبلاً } بضم الجيم وسكون الباء. ابن عامر وأبو عمرو. وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل بكسرتين واللام مشددة، وقرأ يعقوب بضمتين والتشديد. والباقون: بضمتين والتخفيف { ننكسه } مشدداً: حمزة وعاصم غير مفضل. الآخرون: بالتخفيف من النكس. { تعقلون } بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب { لتنذر } على الخطاب أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب { يقدر } على صيغة المضارع: يعقوب { كن فيكون } بالنصب: ابن عامر وعلي.
الوقوف: { ترحمون } ه { معرضين } ه { رزقكم الله } لا لأن ما بعده جواب "إذا" { أطعمه } لا كذلك لاتحاد المقول ولئلا يبتدأ بما لا يقوله مسلم. وجوز جار الله أن يكون قوله { إن أنتم } قول الله أو حكاية قول المؤمنين لهم فالوقف جائز. { مبين } ه { صادقين } ه { يخصمون } ه { يرجعون } ه { ينسلون } ه { مرقدنا } ه لئلا يوهم أن هذا صفة وما بعده منفي وفيه وجوه أخر نذكرها في التفسير { المرسلون } ه { محضرون } ه { تعملون } ه { فاكهون } ه ج لاحتمال أن { هم } تأكيد الضمير { أزواجهم } عطف عليه و { في ظلال } ظرف { فاكهون }، ولاحتمال أن ما بعده مبتدأ وخبره { متكئون } { يدعون } ه ج لأنه من المحتمل أن يكون { سلام } خبر محذوف اي عليهم سلام يقول قولاً، وأن يكون { سلام } بدل { ما يدعون } اي لهم ما يتمنون وهو سلام { سلام } ط ج لحق الحذف { رحيم } ه { المجرمون } ه { الشيطان } ج لأن التقدير فإنه { مبين } ه لا للعطف { اعبدوني } ج { مستقيم } ه { كثيراً } ه { تعقلون } ه { توعدون } ه { تكفرون } ه { يكسبون } ه { يبصرون } ه { يرجعون } ه { في الخلق } ط { يعقلون } ه له ج { مبين } ه { الكافرين } ه { مالكون } ه { يأكلون } ه { مشارب } ه { يشكرون } ه { ينصرون } ج { نصرهم } لا لأن الواو للحال { محضرون } ه { قولهم } ه لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار { يعلنون } ه { مبين } ه خلقه } ط { رميم } ه { مرة } ط { عليم } ه لا لأن { الذي } بدل { توقدون } ه { مثلهم } ط لانتهاء الاستفهام { العليم } ه { فيكون } ه { ترجعون } ه.
التفسير: لما بين الآيات المذكورة حكى أنهم في غاية الجهالة ونهاية الضلالة، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا كالعوام الذين يبنون أمورهم على الأحوط إذا أنذرهم منذر انتهوا عن ارتكاب المنهي خوفاً من تبعته وطمعاً في منفعته وإليه الإشارة بقوله { لعلكم ترحمون } أي في ظنكم فإن الذي لا تفيده الآيات يقيناً فلا أقل من أن يحترز من العذاب ويرجو الثواب أخذاً بطريقة الاحتياط، ونظير الآية ما مرّ في أوّل سورة سبأ
{ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } [الآية: 9] وعن مجاهد: أراد ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: ما بين أيديكم من وقائع الأمم وما خلفكم أي من أمر الساعة. وقيل: ما بين أيديكم من أمر الساعة. وقيل: ما بين أيديكم الآخرة فإنهم مستقبلون لها، وما خلفكم الدنيا فإنهم تاركون لها. أو ما بين أيديكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حاضر عندهم وما خلفكم من أمر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد لى الله عليه وسلم والحشر رحمكم الله. أو ما بين أيديكم من أنواع العذاب كالحرق والغرق المدلول عليه بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ما خلفكم الموت الطالب لكم يدل على قوله { ومتاعاً إلى حين } وجواب "إذا" محذوف وهو لا يتقون أو يعرضون، يدل عليه ما بعده مع زيادة فائدة هي دأبهم الإعراض عند كل آية. ويحتمل أن يكون قوله { وما تأتيهم } متعلقاً بما قبله وهو قوله { يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون }. { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها. وقوله { الم يروا } إلى قوله { لعلكم ترحمون } اعتراض. ثم أشار إلى أنهم كما يخلون بجانب التعظيم لأمر الله حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا يخلون بجانب الشفقة على خلق الله ولا ينفقون إذا أمروا بالإنفاق على أنهم خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والإشفاق، فإن أدنى الانقياد الاتقاء من العذاب، وأدنى الإشفاق هو إنفاق بعض ما في التصرف من مال الله، فأين هم من معشر أقبلوا بالكلية على الله وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ وفي قوله { مما رزقكم الله } إشارة إلى أن الله تعالى قادر على إغناء الفقير وإعطائه ولكنه جعل الغني واسطة في الإنفاق على الفقير. فالسعيد من عرف حق التوسيط وانتهز فرصة الإمكان وعلم أن الإنفاق سبب للبركة في الحال ومجلبة للثواب في المآل. وقوله { قال الذين كفروا } دون أن يقول "قالوا" تسجيل عليهم بالكفر. وقوله { للذين آمنوا } مزيد تصوير لجهالتهم حين قالوا لهؤلاء الأشراف ما قالوا. وقوله { أنطعم } دون "أننفق" إظهار لغاية خستهم فإن الإطعام أدون من الإنفاق ومن بخل بالأدون فهو بأن يبخل بالأكثر أولى. وقوله { من لو يشاء الله أطعمه } كلام في نفسه حسن لكنهم ذكروه في معرض الدفع فلهذا استوجبوا الذم وقد بين الله خطأهم بقوله { مما رزقكم الله } فإن من في خزائنه مال وله في يد الغير مال فإنه مخير إن اراد أعطى زيداً مما في خزائنه وإن شاء أعطاه مما في يد الغير وليس لذلك الغير أن يقول لم أحلته عليّ. وقوله { إن أنتم إلا في ضلال مبين } بناء على ما اعتقدوه أن الأمر بالإنفاق ضائع، لأنه سعي في إبطال مشيئة الله ولم يعلموا أن الضلال لا يتعدّاهم أيه سلكوا، وذلك أنهم لم ينظروا إلى الأمر والطلب وبادروا إلى الاعتراض، والطاعة هي اتباع الأمر لا الاستكشاف عن الغرض والغاية. ومن جملة تعنتهم أنهم استبطؤا الموعود على التقاء والإنفاق قائلين { إن كنتم } أيها المدّعون للرسالة { صادقين } فأخبرونا متى يكون هذا الموعود به من الثواب والعقاب فأجابهم الله تعالى بقوله { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } كأنهم بالاستبطاء كانوا منتظرين شيئاً. وتنكير صيحة للتهويل ووصفها بواحدة تعظيم للصيحة وتحقير لشأنهم أي صيحة لا يحتاج معها إلى ثانية، وفي قوله { تأخذهم } أي تعمهم بالأخذ مبالغة أخرى، وكذا في قوله { وهم يخصمون } أي يشتغلون بمتاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ومع ذلك يصعقون. وقيل: تأخذهم وهم يختصمون في أمر البعث قائلين إنه لا يكون. ثم بالغ في شدّة الأخذ بقوله { فلا يستطيعون توصية } وفي قوله { لا يستطيعون } دون أن يقول "فلا يوصون" مبالغة لأن من لا يوصي قد يستطيعها، وكذلك في تنكير توصية الدال على التقليل، وكذا في نفس التوصية لأنها بالقول والقول يوجد أسرع من الفعل من أداء الواجبات وردّ المظالم، وقد تحصل التوصية بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. وفي قوله { ولا إلى أهلهم يرجعون } بيان لشدّة الحاجة إلى التوصية فإن الذي يقطع بعدم الوصول إلى أهله كان إلى الوصية أحوج. وفيه تنبيه على أن الميت لا رجوع له إلى الدنيا ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى إلى حين يبعثون. ثم بين حال النفخة الثانية، والأجداث القبور والنسلان العدو. وكيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإماتة والإحياء؟ نقول: لا مؤثر إلا الله، والنفخ علامة على أن الصوت يوجد التزلزل وأنه قد يصير سبباً لافتراق الأجزاء المجتمعة تارة ولاجتماع المتفرقة أخرى. ثم إن أجزاء كل بدن قد تحصل في موضع هو بمنزلة جدثه، أو أعطى للأكثر حكم الكل. وذكر الرب في هذا الموضع للتخجيل فإن من أساء واضطر إلى الحضور عند من أحسن إليه كان أشدّ ألماً وأكثر ندماً. وقوله { ينسلون } لا ينافي قوله في موضع آخر { فإذا هم قيام ينظرون } [الزمر: 68] فلعل ذلك في أول الحالة ثم يحصل لهم سرعة المشي من غير اختيارهم. ويمكن أن يقال: إن هيئة الانتظار ليست بمنافاة للمشي بل مؤكدة له ومعينة عليه. وفي "إذا" المفاجأة إشارة إلى أن الإحياء والتركيب والقيام والعدو كلها تقع في زمان النفخ.
ثم بين أنهم قبل النسلان { قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } كأنهم شكوا في أنهم كانوا موتى فبعثوا أو كانوا نياماً فتنبهوا فجمعوا في السؤال بين الأمرين: البعث والمرقد. عن مجاهد: للكفار. هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا ذلك، ثم أجابهم الملائكة في رواية ابن عباس، والمتقون على قول الحسن { هذا ما وعد الرحمن } كأنه قيل: ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث أن هذا هو البعث الأكبر الذي وعده الرحمن في كتبه المنزلة على لسان رسله الصادقين. والظاهر أن { هذا } مبتدأ { وما وعد الرحمن } إلى آخره خبره، و"ما" مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالمصدر. ويجوز أن يكون "ما" موصولة أي هذا الذي وعده الرحمن وصدقه المرسلون أي صدقوا فيه. وجوّز جار الله أن يكون { هذا } صفة للمرقد و { ما وعد } خبر مبتدأ محذوف أي هذا وعد الرحمن، أو مبتدأ محذوف الخبر أي ما وعده الرحمن وصدقه المرسلون حق عليكم. وقيل: إن قوله { هذا ما وعد الرحمن } من كلام الكافرين كأنهم تذكروا ماسمعوا من الرسل فأجابوا به انفسهم، أو أجاب بعضهم بعضاً، ثم عظم شأن الصيحة بالنسبة إلى المكلفين وحقر أمرها بالإضافة إلى الجبار قائلاً { إن كانت إلا صيحة } الآية. وقد مر نظيره. ثم بين ما يكون في ذلك اليوم قائلاً { فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون } أيها الكافرون { إلا ما كنتم تعملون } وفيه إشارة إلى أن عدله عام وفضله خاص بأهل الإيمان وفيه أنهم إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للعدل أو الفضل فالفاء فيه كما في قول القائل للوالي أو للقاضي: جلست للعدل فلا تظلم. أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه. وقوله { ما كنتم تعملون } إشارة إلى عدم الزيادة فإن الشيء لا يزيد على عينه كقولك: فلان يجازيني حرفاً بحرف. أي لا يترك شيئاً. ويجوز أن يراد الجنس أيّ لا تجزون إلا جنس العمل حسناً أو سيئاً. ثم فصل حال المحسنين بطريق الحكاية في ذلك اليوم تصويراً للموعود وترغيباً فيه فقال { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } لا يكتنه كنهه وفيه وجوه أقواها أنهم مشغولون عن هول ذلك اليوم بما لهم من الكرامات والدرجات. وقوله { فاكهون } مؤكد لذلك المعنى أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور. وثانيها أنه بيان لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء بل المراد أنهم في عمل، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب. وثالثها أنهم تصوروا في الدنيا أموراً يطلبونها في الجنة فإذا رأوا فيها ما لم يخطر ببالهم اشتغلوا به عنها. وعن ابن عباس أن الشغل افتضاض الأبكار أو ضرب الأوتار. وقيل: التزاور. وقيل: ضيافة الله. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار لا يهمهم أمرهم لئلا يدخل عليهم تنغيص من تنعمهم. والفاكه والفكه المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها تؤكل للتلذذ لا للتغذي والفكاهة الحديث لأجل التلذذ لا للضرورة. والأزواج ظاهرها زوج المرأة وزوجة الرجل. وقيل: أراد اشكالهم في الأحساب وأمثالهم في الإيمان كقوله
{ { وآخر من شكله أزواج } [ص: 58] قال أهل العرفان: من شرائط السماع الزمان والمكان والإخوان فقوله { هم وأزواجهم في ظلال } إشارة إلى عدم الوجوه الموحشة وأن لهم في ظل الله ما يمنع الإيذاء كقوله { لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } [الدهر: 13] وقوله { على الأرائك متكئون } دليل على القوة والفراغة والتمكن من أنواع الملاذ. وقوله { لهم فيها فاكهة } إشارة إلى سائر أنواع الملاذ الزائدة على قدر الضرورة.
وقوله { ولهم ما يدّعون } إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وما يخطر ببالهم. قال الزجاج: هو افتعل من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقال جار الله: هو للاتخاذ اي ما يدعون به أو ما يدعون به أو ما يدعون لأنفسهم كقولك: يشتوي. أي اتخذ لنفسه شواء. أو هو بمعنى التداعي. وعلى الوجهين إما أن يراد كل ما يدعو به الله أحد أو كل ما يطلبه من صاحبه فإنه يجاب له بذلك، أو يراد أن كل ما يصح أن يدعى به ويطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب. وقيل: معناه يتمنون من قولهم: ادّع عليّ ما شئت أي تمنه عليّ. وقيل: هو من الدعوى وذلك أنهم كانوا يدّعون في الدنيا أن الله هو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم بينه قوله { سلام } يقال لهم { قولاً من رب رحيم } أي من جهته بواسطة الملائكة. وقيل: اراد لهم ما يدّعون سالم خالص لا شوب فيه. و{ قولاً } اي عدة وعلى هذا يكون قوله { لهم } للبيان و{ ما يدعون سلام } مبتدأ وخبر كقولك: لزيد الشرف متوفر. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون { قولاً } نصباً على التمييز لأن السلام من الملك قد يكون قولاً وقد يكون إشارة. وقال أهل البيان قوله { وامتازوا } معطوف على المعنى كأنه قيل: دوموا أيها المؤمنون في النعيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون. أو قلنا لأهل الجنة: إنكم في شغل وقلنا لأهل النار: امتازوا وهو كقوله
{ فريق في الجنة وفريق في السعير } [الشورى: 7] أو تميزوا في أنفسكم غيظاً وحنقاً فلا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم كقوله في صفة جهنم { { تكاد تميز من الغيظ } [الملك: 8] أو افترقوا خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان فلا عذاب كفرقة الأخدان يؤيده ما روي عن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يُرى. وعن قتادة: أراد اعتزلوا عن كل خير ترجون، أو امتازوا عن شفعائكم وقرنائكم. أو المراد تميزهم بسواد الوجه وزرقة العين وبأخذ الكتاب بالشمال وبخفة الميزان وغير ذلك. وقال صاحب المفتاح: قوله { إن أصحاب الجنة } إلى آخر الآيات خطاب لأهل المحشر بدلالة الفاء في قوله { فاليوم لا تظلم } بعد قوله { إن كانت إلا صيحة } وقد جاء في التفاسير أن قوله { إن أصحاب الجنة } إنما يقال حين يسار بهم إلى الجنة فيؤل معنى الكلام إلى قول القائل إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤل حالهم إلى أسعد حال فليمتازوا عنكم إلى الجنة، وامتازوا أنتم عنهم أيها المجرمون. ثم كان لسائل أن يقول: إن الإنسان خلق ظلوماً جهولاً والجهل عذر فبين الله تعالى أن الأعذار زائلة قائلاً { ألم أعهد إليكم } والآية إلى قوله { أفلم تكونوا تعقلون } شبه اعتراض، فيه توبيخ لأهل النار وما ذلك العهد عن بعضهم أنه الذي مر ذكره في قوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } [طه: 115] وقيل: هو المذكور في قوله { وإذ خذ ربك من بني آدم من ظهورهم } } [الأعراف: 172] وقيل: هو المبين على لسان الرسل. ومعنى { لا تعبدوا } لا تطيعوا ولا تنقادوا وسوسته وتزيينه. وقوله { هذا } إشارة إلى ما عهد إليهم من مخالفته الشيطان وعبادة الرحمن. قال أهل المعاني: التنوين في قوله { صراط } للتعظيم إذ لا صراط أقوم منه، أو للتنويع اي هذا بعض الطرق المستقيمة، ففيه توبيخ لهم على العدول عنه كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ: هذا فيما أظن قول نافع غير ضار. وفي ذكر الصراط ههنا إشارة إلى أن الإنسان في دار التكليف مسافر والمجتاز في بادية يخاف فيها على نفسه وماله لا يكون عنده شيء أهم من معرفة طريق قريب آمن. ثم بين لهم عدواة الشيطان بقوله { ولقد أضل منكم جبلاً } وهو في لغاته كلها بمعنى الخلق من جبله الله على كذا أي طبعه عليه. عن علي رضي الله عنه أنه قرأ { جيلاً } بياء منقوطة من تحت بنقطتين. ثم أشار إلى محل امتياز المجرمين إليه بقوله { هذه جهنم } وقوله { اصلوها } أمر إهانة وتنكيل نحو ذق. وفي قوله { اليوم } إشارة إلى أن اللذات قد مضت وأيامها قد انقضت وليس بعد ذلك إلا العقاب. روى أهل التفسير أنهم يجحدون يوم القيامة كفرهم في الدنيا فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم. وفي الحديث "يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز شاهداً إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل" قال المتكلمون: إنه لا يبعد من الله تعالى إنطاق كل جرم من الأجرام إنطاق اللسان وهو فاعل لما يشاء. قال الحكيم: إنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤس. وتكلم الأعضاء عبارة عن ظهور إمارات الذنوب عليهم بحيث لا يبقى للإنكار مجال كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إذا ظهر أمارات الحزن وأسبابه. ثم إنه تعالى أسند الختم إلى نفسه وأسند التكلم والشهادة إلى الأيدي والأرجل لكيلا يقال: إن الإقرار بالإجبار غير مقبول. وأيضاً إنه أسند التكلم إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل لأن الأعمال مستندة إلى الأيدي غالباً كقوله { وما عملته أيديهم } { { فبما كسبت ايديكم } [الشورى: 30] فهي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره. وإنما جعلت الشهادة عليهم منهم لأن غيرهم إما صالحون وهم أعداء للمجرمين فلهم أن يقولوا شهادتهم غير مقبولة في حقنا، وإما فاسقون وشهادة الفسقة غير مقبولة شرعاً.
وههنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال
{ { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } [آل عمران: 167] ثم إذا ختم على أفواههم أيضاً في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم. هذا وقد ذكرنا مراراً أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس. وكان للقدرية أن تتمسك بقوله { يكسبون } { يكفرون } حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله { ولو نشاء لطمسنا } ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية. فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلاً ولم يتفكروا في آية. والطمس محو أثر شق العين. قال جار الله { فاستبقوا الصراط } أصله فاستبقوا إلى الصراط فانتصب بنزع الخافض. والمعنى لو شاء لمسح أعينهم فلو راموا أن يسبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق، والاستباق مضمن معنى الابتدار. فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يستطيعوا. أو يجعل الصراط مسبوقاً لا مسبوقاً إليه، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلى على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها. عن ابن عباس: أراد لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. عن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم. والمكان والمكانة واحد أراد مسخاً مجمداً بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم. وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجاً من الأهون إلى الأصعب، فإن الأعمى قد يهتدي إلى وجوه التصرف بأمارت عقلية أو حسية غير البصر. وأما الممسوخ على مكانه فلا يهتدي إلى شيء أصلاً. ولمثل ما قلنا قدم المضيّ على الرجوع فإن سلوك طريق قد رآه مرة يكون أهون مما لم يره اصلاً، فنفى أوّلاً استطاعة الصعب ثم نفى استطاعة الأهون أيضاً لأجل المبالغة. وحين قطع الأعذار بسبق الإنذار وذلك في قوله { ألم أعهد إليكم } شرع في قطع عذر آخر للكافر وهو أن يقول: لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيراً ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيراً فقال الله تعالى { ومن نعمره ننكسه في الخلق } كقوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } [الحج: 5] { أفلا تعقلون } أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرتم ما تمكنتم فيه أن النظر والعمل، ومن لم يأت بالواجب في زمان الإمكان لم يأت به في زمن الأزمان. وعن بعضهم:

طوى العصران ما نشراه مني فأبلى جدّتي نشر وطيّ
أراني كل يوم في انتقـــــاص ولا يبقى على النقصان شيّ

وقال آخر:

أرى الأيام تتركني وتمضي وأوشك أنها تبقى وأمضي
علامة ذاك شيب قد علاني وضعف عند إبرامي ونقضي
وما كذب الذي قد قال قبلي إذا ما مر يوم مر بعضي

وحيث بين أصل الوحداينة والحشر في هذه السورة مرات أقربها قوله { وأن اعبدوني } وقوله { هذه جهنم } إلى آخرها عاد إلى أصل الرسالة بقوله { وما علمناه الشعر } وإنما لم يقل وما علمناه السحر ولا الكهانة مع أنهم ادّعوا أنه ساحر كاهن لأنه ما تحدّاهم إلا بالقرآن. وإنما نسبوه إلى السحر عند إظهار فعل خارق كشق القمر وحنين الجذع إليه، ونسبوه إلى الكهانة عند إخباره عن الغيوب وهو نوع خاص من الكلام من غير اعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية. قال جار الله معنى قوله { وما ينبغي له } أنه لا يتأتى له ولا يتسهل كما جعلناه أمياً لا يهتدي للخط. وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له. قال: وما روي أنه صلى الله عليه وسلم.

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

وقال:

هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت

كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد. وقيل: أراد نفي الشعر عن القرآن فقال { وما علمناه } بتعليم القرآن { الشعر وما ينبغي } القرآن أن يكون شعراً وأنا أقول: الأحسن أن يقال: ما ينبغي له معناه أنه لا يليق بجلالة منصبه لأن الشعر مادته كلام يفيد تأثيراً دون التصديق وهو التخييل، وأما الوزن والقافية فهما كالصورة ويفيدانه ترويجاً وتزييناً فجلَّ رتبته من التخييل الذي هو قريب من المغالطة، ولهذا لم يؤمر بأن يدعو بهما إلى سبيل ربه. وإنما أمر بأن يدعو إلى الدين باسئر أصناف الكلام حيث قيل { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [النحل: 125] ونظيره قوله ههنا { إن هو إلا ذكر } أي موعظة { وقرآن مبين } ذو البيان أو الإبانة وأنه يشمل البرهان والجدل. أما البرهان فظاهر، وأما الجدل فلأن النتيجة إذا كانت في نفسها حقة. فالرجل العالم المحق ليس عليه إلا إفحام الخصم الألدّ وإلزامه بمقدّمات مسلمة أو مشهورة، ومما يؤيد ما ذكرنا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

هكذا: ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار. ولا ريب أنه كان يتأتى له رواية الشعر إن لم يتأت له فرصة، وما ذاك إلا للتنزه عما يشبه ما يشين رتبته ولا يوافق وغزاه. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم حين قال:

هل أنت إلا إصبع دميت

انقطع الوحي أياماً حتى قالت الكفار إن محمداً قد ودعه ربه وقلاه، وهذا أحد أسباب نزول تلك الآية. ولمثل ما قلنا لم يروَ عنه كلام منظوم وإن كان حقاً وصدقاً كالذي قاله بعض الشعراء في التوحيد والحقائق. وقد أشار إلى نحو ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "إن من الشعر لحكمة" وقد مر في تفسير قوله سبحانه في آخر الشعراء { { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [الآية: 227] وذلك أن الشاعر يقصد لفظاً فيوافقه معنى حكمي. وبالجملة لا يخلو الشعر عن تكلف مّا، وقد يدعوه النظم إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ، فأين الشارع من الشاعر؟ ثم بين كون القرآن منزلاً على هذا الوجه بقوله { لتنذر } يا محمد أو لينذر هو أي القرآن { من كان حياً } عاقلاً متأملاً. ويجوز أن تكون الحياة عبارة عن الإيمان، أو المراد بالحي من يؤل حاله إلى الإيمان. أو المراد بالإنذار الانتفاع به مثل { { هدى للمتقين } } [البقرة: 2] { إنما تنذر من اتبع الذكر } [يس: 11] وقوله { ويحق القول } كقوله في أول السورة { لقد حق القول } وقد مر وهذا كلام مطابق من حيث المعنى كأنه قال: لتنذر من كان حياً ويحق القول على من كان ميتاً لأن الكافر في عداد الموتى. ثم عاد إلى تقرير دلائل الوحدانية مع تعداد النعم فقال { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت } أي من جملة ما عملته { أيدينا } فاستعار عمل الأيدي لتفرده بالأحداث والإيجاد مع اشتمال المحدث والموجد على غرائب وعجائب حتى قال فيه { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [الغاشية: 17] وقوله { فهم لها مالكون } إشارة إلى اتمام الإنعام في خلق الأنعام. وقوله { وذللناها لهم } إشارة إلى ما فوق التمام فقد يملك الشيء ولا يكون مسخراً، ومن الذي يقدر على تذليل الإبل لولا أمر الله بتسخيرها حتى قال بعضهم:

يصرف الصبيّ بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي فلا غير لديه ولا نكير

والجرير حبل يجعل للبعير بمنزلة العذار للدابة. ومن زعم أن الملك بمعنى الضبط من قوله: لا أملك رأس البعير أن يفر. يلزمه التكرار. ثم فصل بعض منافعها بقوله { فمنها ركوبهم } والركوب والركوبة ما يركب كالحلوب والحلوبة، والتاء للمبالغة. وقيل: للوحدة والمنافع كالجلود والأوبار والأصواف، ذكرها بالاسم العام لما في تفصيلها من الطول. والمشارب جمع مشرب وهو موضع الشرب اي الأواني المتخذة من جلودها، أو هو الشرب كالألبان والأسمان.
وحين وبخهم على عدم الشكر بقوله { أفلا يشكرون } زاد في توبيخهم بقوله { واتخذوا من دون الله آلهة } أي وضعوا الشرك مكان الشكر فلا أظلم منهم. وفي قوله { لعلهم ينصرون } إلى قوله { محضرون } وجهان: أحدهما أنهم طمعوا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم والأمر عكس ذلك حيث هم جند لآلهتهم معدّون يخدمونهم ويذبون عنهم من غير نفع في آلهتهم. وثانيهما اتخذوهم لينصرونهم عند الله بالشفاعة، والأمر على خلاف ذلك حيث إن آلهتهم يوم القيامة جند محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداً للنار. ووجه ثالث وهو أن يكون قوله { وهم لهم جند محضرون } تأكيداً لعدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يتأهب ولم يجمع أنصاره. ثم عقب دليل التوحيد بالرسالة مسلياً رسوله بقوله { فلا يحزنك قولهم } باتخاذ الشريك لله أو بالطعن في الرسالة أو بالإيذاء في والتهديد. ثم علل عدم الحزن بقوله { إنا نعلم ما يسرون } من النفاق وسائر العقائل الفاسدة { وما يعلنون } من الشرك وسائر الأفعال القبيحة، أو يسرون من المعرفة بالله ويعلنون من العناد وجوّز جار الله فتح "أن" على تقدير لام التعليل، بل جوز أن تكون المفتوحة بدلاً من { قولهم } والمكسورة مفعولاً لـ { ـقولهم } ويكون نهي الرسول عن ذلك كنهيه عن الشرك في قوله
{ ولا تكونن من المشركين } [الأنعام: 14] ثم اردف الرسالة بالحشر مع أن فيه دليلاً آخر على التوحيد مأخوذاً من الأنفس، فإن الأول كان مأخوذاً من الآفاق. وفي قوله { فإذا هو خصيم مبين } وجهان: أحدهما فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً رجل مميز منطيق معرب عما في ضميره كقوله { أو من يُنَشَّؤُاْ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } [الزخرف: 18] فقوله { من نطفة } إشارة إلى أدنى ما كان عليه الإنسان وقوله { فإذا هوخصيم مبين } إشارة إلى أعلى ما حصل عليه الآن، لأن أعلى أحوال الناطق أن يقدر على المخاصمة والذب عن نفسه بالكلام الفصيح. وثانيهما قول كثير من المفسرين إنها نزلت في جماعة من كفار قريش تكلموا في البعث فقال للهم أبيّ بن خلف الجمحي: واللات والعزى لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه. وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك جهنم. قال أهل البيان: سمى قولهم { من يحيي العظام وهي رميم } مثلاً لأن إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى قصة عجيبة. وفيه تشبيه الخالق اللقادر العليم بالمخلوق العاجز عن خلق أدنى بعوضة الجاهل بما يجري عليه من الأحوال. والرميم اسم لما بلي من العظام كالرمة والرفات ولا يبعد أن يكون صفة. ولم تؤنث بتقدير موصوف محذوف أي شيء رميم، أو لأنه بمعنى فاعل كقوله { { إن رحمة الله قريب } [الأعراف: 56] وفي الآية دليل ظاهر على أن عظام الميتة نجسة لأن الموت والحياة يتعاقبان عليها. وقال أصحاب أبي حنيفة: إنها طاهرة وإن الحياة لا تحل فيها فلا يتصور موتها، وكذا الشعر والعصب. وتأوّلوا الآية بأن المراد بإحياء العظام ردّها على ما كانت عليه غضة طرية في بدن حيّ حساس. واعلم أن المنكرين للحشر منهم من اكتفى في إنكاره بمجرد الاستبعاد كقوله { من يحيي العظام وهي رميم } فأزال استبعادهم بتصوير الخلق الأول فإن الذي قدر على جعل النطفة المتشابهة الأجزاء إنساناً مختلف الأبعاض والأعضاء، مودعاً فيه الفهم والعقل وسائر أسباب المزية والفضل، فهو على إعادتها أقدر. ومنهم من ذكر شبهة وهي كقولهم: إن الإنسان بعد العدم لم يبق شيئاً فكيف يصح إعادة المعدوم عقلاً؟ أو كقولهم: إن الذي تفرقت أجزاؤه في أبدان السباع وجدران الرباع كيف يجمع ويعاد؟ أو كقولهم إن إنسانأً إذا نشأ مغتذياً بلحم إنسان آخر فلا بد أن لا يبقى للآكل وللمأكول جزء يمكن إعادته. فأجاب الله تعالى عن الأول بقوله { يحييها الذي أنشأها أوّل مرة } يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً فإنه يعيده وإن لم يكن شيئاً. وعن الباقيتين بقوله { وهو بكل خلق عليم } فيجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع والسباع وهكذا يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل والمأكول. ثم شبه خلق الإنسان بل الحيوان من قبل إيداع الحرارة الغريزية التي بها قوام الحياة في جوهر رطب طريّ بإنشاء الشجر الخضر الذي تنقدح منه النار. قالت العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر واستغزر يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ - وهو ذكر علىالعفار- وهي أنثى- فتنقدح النار بإذن الله عز وجل.
وعن ابن عباس: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب قالوا: ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين. قلت: ويشبه أن يكون كل شجرة في غاية الصلابة هكذا إلا أن يكون له سبب خاص به كما يروى أنه معجزة لموسى عليه السلام فإنه قد رأى النار فيها فلا ينبغي لغيره أن يراها. ثم أكد قدرته الكاملة على خلق الإنسان إبداء وإعادة بتذكر خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس. ثم أثبت ما نفاه مستفهماً للتقرير بقوله { بل وهو الخلاق } الكثير الخلق الكامل فيه { العليم } بكل جوهر وعرض وما يطلق عليه اسم الشيئية. ثم بين أن إيجاده ليس متوقفاً إلا على تعلق الإرادة بالمقدور وقد مر تقريره في أوائل "البقرة" وغيرها. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن المعدوم شيء. وأجيب بأن الآية دلت على أنه حين تعلق الإرادة به شيء، أما إنه قبل ذلك شيء فكلا. ثم ختم السورة بتقرير المبدأ والمعاد على الإجمال. فقوله { بيده ملكوت كل شيء } إشارة إلى المبدأ. وقوله { وإليه ترجعون } إشارة إلى المعاد وإذا تقرر الطرفان فما بينهما الوسط المشتمل على التكاليف والرسالة، فهذه الآية كالنتجية للمقدمات السابقة في السورة. عن ابن عباس: كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس" فذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه أن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر وأنه مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فلذلك سماها قلب القرآن. وقال غيره: إن الأصول الثلاثة التي يتعلق بها نصيب الجنان وهي التوحيد والرسالة والحشر مكررة في هذه السورة. وليس فيها شيء من بيان وظيفة اللسان ولا العمل بالأكان. فلما كان أعمال القلب لا غير سماه قلباً، ولهذا ورد في الأخبار أنه ينبغي أن تقرأ على الميت حالة النزع وذلك ليزداد بها قوة قلبه، فإن الأعضاء الظاهرة وقتئذ ساقطة المنة، والقلب مقبل على الله معرض عما سواه ولنا فيه وجه هو بالتأويل أشبه فلنذكره هناك.
الـتأويل: { اتقوا ما بين أيديكم } من الدنيا وشهواتها { وما خلفكم } من نعيم الجنة ولذاتها { لعلكم ترحمون } بمشاهدة الجمال وأنوار الكمال { ونفخ في الصور } إشارة إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب، فإذا السر والروح والخفى من أجداث أوصاف البشرية { إلى ربهم ينسلون } يرجعون بعضها بالسير وبعضها بالطيران { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } شغلهم الله بالمفاكهة عن المشاهدة كما قال بعض الصوفية: والناس يخرجون من مسجد الجامع هؤلاء حشو الجنة. وللمجالسة اقوام آخرون وهم الفارغون من الالتفات إلى الكونين. قال الله تعالى
{ فإذا فرغت } [الشرح: 7] أي من تعلقات الكونين { فانصب } [الشرح: 7] لطلب الوصال. ويحكى أن الآية قرئت في مجلس الشبلي رضي الله عنه فشهق شهقة وغاب، فلما أفاق قال: مساكين لو علموا أنهم عم شغلوا لهلكوا. ويحتمل أن يقال: إنهم اليوم أي في الدنيا ف شغل بأنواع الطاعات والعبادات من طلب الحق والشوق إلى لقائه كما يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال: رايت رب العزة في منامي فقال لي: ابن معاذ، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني. ويمكن أن يقال: إنهم اليوم في الدنيا في شغل بالطاعات والرضا بما قسم الله عن طلب اللذات والفوائد وارتكاب المحرمات والزوائد. أو يقال: إنه خطاب للعصاة فإن أهل الله هم المستغرقون في بحار عظمة الله، وأهل الجنة مشتغلون باستيفاء اللذات وليس العصاة إلا رحمتي وكرمي كما قال { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [الزمر: 53] { وتشهد أرجلهم } في بعض الأخبار المروية أن عبداً لتشهد عليه أعضاؤه بالذلة فتتطاير شعرة من جفن عينه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى: تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي. فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد: هذا عتيق الله بشعرة. { ومن نعمره ننكسه } إن السالك إذا عمر صار في آخر الأمر إلى الفناء في الله حتى لا يبقى منه ما يستند الفعل إليه. وفي قوله { وما علمناه الشعر } إشارة إلى أن العلوم والصنائع كلها من الله تعالى وبتعليمه وإلهامه. { من الشجر الأخضر } وهو شجرة البشرية نار المحبة { توقدون } مصباح قلوبكم. وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن قلب القرآن يس" لأن ذكره صلى الله عليه وسلم رمز إليه في أول السورة وفي آخرها. أما الأول فقد مر في تفسير لفظ { يس } وأما الثاني فلأن قوله { فسبحان } إلى آخره يدل على المبدأ والمعاد تصريحاً، وعلى الرسالة ضمناً، ولا ريب أن القلب خلاصة كل ذي قلب، وإنه صلى الله عليه وسلم كان خلاصة المخلوقات وكان خلقه القرآن الذي نزل على قلبه، وكأن فاتحة السورة وخاتمتها مبنية على ذكره منبئة عن سره كالقلب في جوف صاحبه فلأجل هذه المناسبات أطلق على { يس } أنه قلب القرآن والله ورسوله أعلم بأسرار كلامه.