خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا
١
فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً
٢
فَٱلتَّٰلِيَٰتِ ذِكْراً
٣
إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ
٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ
٥
إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ
٦
وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ
٧
لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ
٨
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ
٩
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
١٠
فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ
١١
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
١٢
وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ
١٣
وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ
١٤
وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
١٥
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
١٦
أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ
١٧
قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ
١٨
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ
١٩
وَقَالُواْ يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
٢٠
هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢١
ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ
٢٢
مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ
٢٣
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ
٢٤
مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ
٢٥
بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
٢٦
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٢٧
قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ
٢٨
قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
٢٩
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ
٣٠
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ
٣١
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ
٣٢
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
٣٣
إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ
٣٤
إِنَّهُمْ كَانُوۤاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ
٣٥
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوۤاْ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ
٣٦
بَلْ جَآءَ بِٱلْحَقِّ وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٣٧
إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابِ ٱلأَلِيمِ
٣٨
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٣٩
إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ
٤٠
أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ
٤١
فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ
٤٢
فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٤٣
عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ
٤٤
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ
٤٥
بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ
٤٦
لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ
٤٧
وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ عِينٌ
٤٨
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ
٤٩
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٥٠
قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
٥١
يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ
٥٢
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ
٥٣
قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ
٥٤
فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ
٥٥
قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ
٥٦
وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ
٥٧
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
٥٨
إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
٥٩
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٦٠
لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ
٦١
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ
٦٢
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ
٦٣
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ
٦٤
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ
٦٥
فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ
٦٦
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ
٦٧
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ٱلْجَحِيمِ
٦٨
إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ
٦٩
فَهُمْ عَلَىٰ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
٧٠
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلأَوَّلِينَ
٧١
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ
٧٢
فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنذَرِينَ
٧٣
إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ
٧٤
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ
٧٥
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ
٧٦
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ
٧٧
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
٧٨
سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ
٧٩
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٠
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨١
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٨٢
-الصافات

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { والصافات صفاً } وما بعدهما مدغماً: حمزة وأبو عمرو غير عباس { بزينة } منوناً: حمزة وعاصم غير المفضل { الكواكب } بالنصب: أبو بكر وحماد. الباقون: بالجر { لا يسمعون } بتشديد السين والميم وأصله "يتسمعون": حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون: بسكون السين وتخفيف الميم. { بل عجبت } بالضم: حمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالفتح على الخطاب { آيذا } بالمد والياء { إنا } بهمزة واحدة مكسورة: يزيد وقالون وزيد. الباقون: مثل التي في "الرعد" وأما الثانية فمثل التي في "الرعد" { أو آباؤنا } مثل { أو أمن أهل القرى } [الأعراف: 98] وكذلك في "الواقعة" { لا تناصرون } بالتشديد البزي وابن فليح { أئنا } { أئنك } { أئفكا } مثل { ائنكم } في "الأنعام" { ينزفون } بضم الياء وكسر الزاي: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون: بفتح الزاي { لترديني } بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل.
الوقوف: { صفا } ه لا { زجراً } ه لا { لواحد } ه ط { المشارق } ه ط { الكواكب } ه لا { مارد } ه ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي. وعليه بحث يجيء في التفسير { واصب } ه لا { ثاقب } ه ج { خلقنا } ط { لازب } ه { ويسخرون } ه ص { لا يذكرون } ه ص { يستسخرون } ه ص{ مبين } ه ج { لمبعوثون } ه لا { الأوّلون } ه ط { داخرون } ه { ينظرون } ه { الدين } ه { تكذبون } ه { يعبدون } ه لا { الجحيم } ه { مسؤولون } ه لا لأن المسؤول عنه قوله { ما لكم لا تناصرون } ه { مستسلمون } ه { يتساءلون } ه { اليمين } ه { مؤمنين } ه ج { سلطان } ج للعدول مع اتفاق الجملتين { طاغين } ه { لذائقون } ه { غاوين } ه { مشتركون } ه { بالمجرمين } ه { يستكبرون } ه { مجنون } ه ط { المرسلين } ه { الأليم } ه ج { تعملون } ه لا { المخلصين } ه { معلوم } ه { فواكه } ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف { مكرمون } ه لا { النعيم } ه لا { متقابلين } ج { معين } ه لا { للشارين } ه ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { ينزفون } ه { عين } ط { مكنون } ج { يتساءلون } ه { قرين } ه { المصدّقين } ه { لمدينون } ه { مطلعون } ه { الجحيم } ه { لتردين } ه { المحضرين } ه { بميتين } ه لا { بمعذبين } ه { العظيم } ه { العالمون } ه { الزقوم } ه { للظالمين } ه { الجحيم } ه لا لأن ما بعده صفة لشجرة { الشياطين } ه { البطون } ه لا لأن "ثم" لترتيب الأخبار { حميم } ه { الجحيم } ه ج { ضالين } ه لا للعطف مع اتصال المعنى { يهرعون } ه { الأوّلين } ه { منذرين } ه { المنذرين } ه لا { المخلصين } ه { المجيبون } ه ز { العظيم } ه ز { الباقين } ه ز { في الآخرين } ه لا لأن ما بعده مفعول تركنا على سبيل الحكاية { العالمين } ه { المحسنين } ه { المؤمنين } ه { الآخرين } ه.
التفسير: إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه، أو هو على عادة العرب، أو المراد تعظيم هذه الأشياء وتشريفها، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف. قال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الزاي وفي الذال لتقارب مخارجها، الا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأوصل الثنايا ويجتمعان في الهمس، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن؟ وأيضاً الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير. ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثاً لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة. وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل: أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى. والصف ترتيب الشيء على نسق. الفاعل صاف، والجماعة صافة، والصافات جمع الجمع ولولا ذلك لقيل والصافين. قال الحكيم: يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفاً أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة. والزجر سوق السحاب. قال ابن عباس: يعني الملائكة الموكلين بالسحاب. وقال آخرون: أراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم. والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأبنياء. والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية. الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها. أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله
{ { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } [الصف: 4] والزجرة والصيحة سواء. والمراد رفع الصوت بزجر الخيل. وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله. يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دماً فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء. الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد، وبعضها دلائل العلم والقدرة، وبعضها دلائل النبوة، وبعضها دلائل المعاد، وبعضها بيان التكاليف والأحكام، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة، وكلها مترتبة ترتيباً لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات. وأما نسبة التلاوة إليهن فمجاز كما يقال: شعر شاعر. والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه. ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله:

الصابح فالغانم فالآيب

كأنه قال: الذي صبح فغنم فآب. مثاله المصلون يقفون أوّلاً صفوفاً ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة.
وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة؛ فالصافات الطير من قوله
{ والطير صافات } [النور: 41] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله، والتاليات كل من تلا كتاب الله. أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإِنسانية، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى. وقيل: الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه. والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل. ثم إنه سبحانه لو يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال { رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق } فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها. وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله { سرابيل تقيكم الحر } } [النحل: 81]. ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين: الأولى تحصيل الزينة، والثانية الحفظ من الشيطان. والزينة مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة. ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه: أن يكون مصدراً مضافاً إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر. وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر، ويجوز أن يقع { الكواكب } بياناً للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة. ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء. ومن قرأ باتنوين { زينة } وجر { الكواكب } فعلى الإبدال، ومن قرأ بتنوين { زينة } ونصب { الكواكب } فعلى أنه بدل من محل { بزينة } أو من السماء، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة. قوله { وحفظاً } فيه وجوه أحدها: أنه محمول على المعنى والتقدير: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً من الشياطين. وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل: وحفظاً من كل شيطان زيناها بالكواكب. وثالثها قال المبرد: إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم. تقول: افعل ذلك كرامة أي وأكرمك كرامة، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير: وحفظناها حفظاً. قال المفسرون: الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب فأخبروا صنعاءهم، فجعل الله الكواكب في زمن محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تحرقهم وتحفظ أهل السماء في إصغائهم. قال الحكيم: ليس المراد بالكواكب الحافظة أنفس الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلا لوقع نقصان ظاهر في أعدادها، بل المراد ما يضاهيها من الشهب الحادثة عند كرة النار من الأبحرة المرتفعة، وقد مر تحقيق ذلك في أول سورة الحجر. قال الإمام فخر الدين الرازيرحمه الله : إن الشياطين لهم حذق كامل في استخراج الصنائع الدقيقة فإذا عرفوا هذه الحالة بالتجربة فلم لا يمنعون منه. وأيضاً إنهم مخلوقون من النار والنار كيف تؤثر في النار؟ وأيضاً مقر الملائكة السطح الظاهر من الفلك الأعلى وإنهم لا يصعدون إلا إلى قريب من الفلك الأدنى فكيف يسمعون كلام الملائكة؟ والجواب أنا لا نسلم حذقهم في كل الأمور ولهذا جاء في وجوه تسخيرهم ما جاء على أن موضع الاستراق والاحتراق غير متعين، ووقوع هذه الحالة أيضاً كالنادر. فلعل المسترق يكون غير واقف عليه، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان ناراً صرفاً، ولكن الناري غالب عليه. ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله. والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق.
والضمير في قوله { لا يسمعون } لكل شيطان لأنه في معنى الجمع. والتسمع تكلف السماع سمع أو لم سمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بإلى. وقيل: معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي. قال جار الله: هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له، ولا يصح أن يكون استئنافاً لأن سائلاً لو سأل: لم يحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون. لم يستقم فبقي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع. قلت: لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز، وكذا إن كان مستأنفاً كأنه قيل: لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا. ومن هنا زعم بعضهم أن أصله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم "أن" وأهدر عملها كما في قول القائل:

ألا ايهذا الزاجري أحضر الوغى

ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك "جئتك أن تكرمني" وحذف "أن" في قول الشاعر جائز، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات. قلت: إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضاً لا يصح إلا بتقدير اللام أو "من" مع "أن". والملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات. وعن ابن عباس: أراد أشراف الملائكة. وعنه: الكتبة من الملائكة. والقذف الرمي بحجر تقول: قذفته بحجر أي رميت إليه حجراً. وقوله { من كل جانب } أي مرة من هذا الجانب ومرة من هذا الجانب. وقيل: من كل الجوانب. { دحوراً } أي طرداً مع صغار مصدر من غير لفظ الفعل، لأن القذف والطرد متغايران كأنه قيل: يقذفون قذفاً أو يدحرون دحوراً. ويجوز أن يكون مفعولاً له اي لأجل الدحور أو مصدراً في موضع الحال أي مدحورين كقوله { { مذموماً مدحوراً } [الإسراء: 18] { ولهم } أي للشياطين { عذاب واصب } دائم وقد مر في النحل في قوله { وله الدين واصباً } [النحل: 52] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع { إلا من خطف } في محل الرفع بدلاً من الواو في { لا يسمعون } أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة. وقيل: وثب وثبة. وقيل: الاستثناء منقطع خبره { فأتبعه } أي أتبعه ورمى في أثره { شهاب ثاقب } مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا. وقيل: تصيبهم آفة فلا يعودون. وقيل: لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك. وقيل: يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي السفينة للتجارة. وحين بين الوحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين: الأوّل أن يقال: قدر على الأصعب فيقدر على الأسهل بالأولى، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية. أما الطريق الأوّل فاشار إليه بقوله { فاستفتهم } أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين، وغلب أولي العقل على غيرهم. وقيل: اراد عاداً وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية. والقول الأول اقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله { خلقنا } إكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق، فاستخبرهم أهم أشد خلقاً أم هذه الخلائق، ومن هان عليه هذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون. وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله { إنا خلقناهم من طين لازب } أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس: هو الملتصق من الطين الحر. وقال مجاهد والضحاك: هو المنتن. ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلاً للحياة لم يقبلها من أول الأمر، وإذا قبلها أوّلاً فلا يبقى ريب في قبولها ثانياً، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها. وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة. ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال { بل عجبت } من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث { و } هم { يسخرون } من تعجبك، أو عجبت من القرآن حين أعطيته ويسخر أهل الكفر منه. ومن قرأ بالضم فأورد عليه أن التعجب على الله غير جائز لأنه روعة تعتري الشخص عند استعظام الشيء. وقيل: هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء. وأجيب بأن معناه: قل يا محمد بل عجبت. سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر. سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والاستهزاء والمعنى: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية { وإن تعجب فعجب قولهم } [الرعد: 5]. عند من يرى أن العجب من الله. وقد جاء في الحديث "يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة" . وقال أيضاً: "عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته" . والألّ التضرع. ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون.
{ وإذا رأوا آية } بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات { يستسخرون } يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر. فالحاصل أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث. قوله { أو آباؤنا } من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم "أن"، ومن قرأ بفتحها فعليه، أو على الضمير في { مبعوثون } وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى: أيبعث أيضاً آباؤنا؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد. وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله { قل نعم } تبعثون { وأنتم داخرون } صاغرون أذلاء. وإذا كان كذلك { فإنما هي } أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره { زجرة } واحدة يعني صيحة النفخة الثانية { فإذا هم ينظرون } أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم. { وقالوا يا ويلنا } الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله { تكذبون } يقوله الكفرة فيما بينهم. وقيل: إن كلامهم يتم عند قوله { يا ويلنا } ثم قال الله أو الملائكة { هذا يوم الدين } الجزاء والحساب { هذا يوم الفصل } القضاء والفرق بين المحسن والمسيء { احشروا الذين ظلموا } بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم. وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث اي اجمعوهم { وأزواجهم } أي أشكالهم الذي على دينهم وسيرتهم؛ الزاني مع الزاني، والسارق مع السارق، والشارب مع الشارب. وقيل: قرناءهم من الشياطين. وقيل: نساءهم اللاتي على ملتهم. { وما كانوا يعبدون من دون الله } من الأصنام { فاهدوهم } ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم { إلى صراط الجحيم } وسطها أو طريقها لأنه قال بعد ذلك { وقفوهم } اي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكماً وتوبيخاً بالعجز عن التناصر { ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون } قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله. وحقيقته طلب كل منهم سلامة نفسه فقال المفسرون: إن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة. ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم { قالوا } لرؤسائهم { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } وفيه وجوه، الأول: أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعاً وعرفاً. كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيآت، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء بالضد، وما جعلت يمنى إلا للتيمن بها ولذلك تيمنوا بالسانح وتطيروا بالبارح. فقيل: أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه وأضله. قال جار الله: من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير. ثم صار قولك "أتاه عن اليمين" مجازاً في المعنى المذكور. الثاني: أن يقال: فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا: إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم. الثالث: اليمين الحلف، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم. الرابع: أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالباً أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال. وكما أن الضمير في { قالوا } الأول كان عائداً إلى الأتباع بقرينة الخطاب، فالضمير في { قالوا } الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة. والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا. { وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً } مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس
{ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم } [إبراهيم: 22] { فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون } قال مقاتل: أراد قوله: { { لأملأن جهنم } [الأعراف: 18] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقاً فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب. قال جار الله: لو حكى الوعيد كما هو لقال "إنكم لذائقون" ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع { فأغويناكم إنا كنا غاوين } أي أقدمنا على أغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب أغوائنا فغوايتنا إن كانت بسب إغواء غاوٍ آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضاً من الله كما مر في قوله { فحق علينا قول ربنا } هذا تفسير أهل السنة. وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا: { بل لم تكونوا مؤمنين } أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق علينا وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة { فأغويناكم } فدعوناكم إلى الغي لأنا كنا غاوين فاردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا. وحين حكى كلام الأتباع والمتبوعين أنتج من ذلك قوله { فإنهم } جميعاً { يومئذ } أي يوم القيامة { في العذاب مشتركون } كما كانوا مشتركين في الغواية. ولعل للمتبوعين عذاباً زائداً للإغواء ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء { إنا كذلك } أي مثل ذلك الفعل { نفعل } بكل مجرم أي كافر بدليل قوله { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } يأبون من قبوله، والجملة الشرطية خبر "كان" وهو مع الاسم والخبر خبر "إن" وإن ألغيت "كان" فالخبر { يستكبرون } و"إذا" ظرفه.
{ ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } عنوا محمداً صلى الله عليه وسلم بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعاً فردّ عليهم بقوله { بل جاء } متلبساً { بالحق وصدّق المرسلين } وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم { فحق علينا قول ربنا } ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلاً { إنكم لذائقوا العذاب الأليم } ثم كان لقائل أن يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال { وما تجوزون إلا ما كنتم تعملون } فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة، والنهي عن القبيح والمعصية، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صوناً للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة اشبه. والسنيّ يقول: لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل. قال جار الله { إلا عباد الله } استثناء منقطع أي لكن عباد الله { المخلصين أولئك لهم رزق } قلت: يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً والمعنى: وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة إلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله { إنكم } للمكلفين جميعاً فيصح الاستثناء المتصل مطلقاً أي تذوقون العذاب الأليم. قوله { معلوم } قيل: أي معلوم الوقت كقوله
{ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [مريم: 62] وقيل: معلوم الصفة لكونه مخصوصاً بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل: معلوم القدر على حسب استحقاقهم. وقيل: أراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع. ثم فسر ذلك الرزق بأنه { فواكه } فقيل: إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فلذلك سمي رزقهم فاكهة. وقيل: أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان الطعام أولى بالحضور. وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال { وهم مكرمون } إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال { في جنات النعيم على سرر متقابلين } وقد مر في "الحجر". ثم وصف مشروبهم. قال أهل اللغة: لا يسمى الإناء كاساً إلا إذا كان فيها خمر، وقد تسمى الخمر نفسها كأساً. عن الأخفش:

كل كأس في القرآن فهي الخمر

وكذا في تفسير ابن عباس: والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء. وقد يقال: عان الماء يعين إذا ظهر جارياً قاله ثعلب. وقيل: "فعيل" من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه. واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء. وبيضاء صفة للكأس: قال الحسن: خمر الجنة أشدّ بياضاً من اللبن. { ولذة } إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة، أوصي تأنيث. اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول. يقال: غاله يغوله غولاً إذا أهلكه وافسده، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله { ولا هم عنها ينزفون } أي يسكرون. وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر. يقال: نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله. والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء. وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف. وعن بعضهم أن معنى قوله { ولا هم عنها ينزفون } هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار. والأوّلون حملوه على المبالغة. ثم وصف منكوحهم بقوله { وعندهم قاصرات الطرف } أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله { { عرباً } [الواقعة: 37] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين. ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها، وذلك لأن فيها بياضاً يشوبه قليل من الصفرة، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. ثم عطف على قوله { يطاف } قوله قوله { فأقبل } وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار. ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار. والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة. قال بعضهم:

وما بقيت من اللذات إلا أحاديث الكرام على المدام

وقد حكى من جملة مكالماتهم تذكرهم أنه كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالنعيم المقيم وهذا ابتداء الحكاية { قال قائل منهم } أي من أهل الجنة { إني كان لي قرين } جليس أو شريك في الدنيا { يقول أئنك لمن المصدقين } أي بيوم الدين { أئنا لمدينون } لمجزيون من دان يدين إذا جزى. وقيل: لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث "الكيس من دان نفسه" وعن بعضهم: أراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله { واضرب لهم مثلاً رجلين } } [الآية: 32] { قال } يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة { هل أنتم مطلعون } إلى النار اي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم منها. عن ابن عباس: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار { فاطلع } على أهل النار فرأى قرينه { في سواء الجحيم } وسطها { قال } لقرينه { تالله إن كدت لتردين } "إن" مخففة واللام فارقة. والإرداء الإِهلاك، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا إلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي. والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم، نظيره ما مر في قصة صالح { فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم } } [الأعراف: 79] إلى آخر الآية والله أعلم. ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } في النار مثلك أطلق إطلاقاً لأن الإِحضار يستعمل في الشر غالباً ولا سيما في اصطلاح القرآن. وحين تمم كلامه مع الرجل الذي كان قريناً له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلاً { أفما نحن بميتين } وفيه قولان أحدهما: إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم، أو يسألون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون والتقدير: نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب. وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله سبحانه واغتباطاً بحاله، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول. أفيدوم هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه. وايضاً إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخاً له وليحكيه الله فيكون لنا لطفاً وزجراً. احتج نفاة عذاب القبر بقوله { إلا موتتنا الأولى } فإنه يدل على أن الإنسان لا يموت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلاً مرتين. وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا. وقوله { إن هذا لهو الفوز العظيم } يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعاً له وتوبيخاً وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه أو هو قول الله تصديقاً لهم، وكذا قوله { لمثل هذا فليعمل العاملون } ولا خلاف أن قول ذلك خير من كلام الله عز وجل كأنه لما تمم قصة المؤمن رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فاستفهم للتقرير أن ذلك الزرق { خير نزلاً أم شجرة الزقوم } قال جار الله: أصل النزل الفضل والريع في الطعام يقال: طعام كثير النزل. فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور، وحاصل تلك الشجرة الألم والغم. ويمكن أن يقال: النزل ما يقدّم للضيف، ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ولكنهم وبخوا على ذلك. وظاهر القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم والرائحة مؤلمة التناول صعبة الابتلاع إلا أن المفسرين اختلفوا في ماهيتها، فذكر قطرب أنها شجرة مرة تكون بتهامة. وقال غيره: إنها ليس لها في الدنيا وجود بدليل قوله { إنا جعلناها فتنة للظالمين } وذلك أنها خلاف المألوف والمعتاد فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله تعالى وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن ويزيد في شبهته كقوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } } [التوبة: 125] وقيل: إنما كانت فتنة لهم لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فهو كقوله { يوم هم على النار يفتنون } [الذاريات: 13] وذكر المفسرون أن ابن الزبعري قال لصناديد قريش إن محمداً يخوّفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وإفريقية الزبد والتمر. وذكروا أيضاً أن أبا جهل أدخلهم بيته وقال: يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال: تزقموا فهذا الذي يوعدكم محمد به فأنزل الله صفة الزقوم.
وذكر بقية أوصاف الشجرة منها { إنها تخرج في أصل الجحيم } اي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وفيه تكذيب للطاعنين فيه كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر. ومنها { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } قال جار الله: الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية وذلك أن يكون وجه الاستعارة مجرد الطلوع أي الظهور، أو معنوية وذلك إذا كان يشبه الطلع شكلاً ولوناً. وفي تشبيه ثمرتها برؤوس الشياطين أقوال أحدها وهو الأقوى: إنه تمثيل وتخييل وذلك أن الشيطان مثل في القبح ونفرة الطباع عنه كما أن الملك مثل في الحسن وميل النفوس إليه، وإذا كان الشيطان كله مستقبحاً فرأسه كذلك، وتشبيه الثمرة برأسه أولى للاستدارة وللتوسط في الجحيم. الثاني أن الشيطان ههنا نوع من الحيات تعرفها العرب، خفاف لها أعراف ورؤوس قباح. الثالث أنه شجر معروف عند العرب قبيح الأعالي يسمى الأستن وثمره يسمى رؤوس الشياطين. الرابع قال مقاتل: رؤوس الشياطين حجارة سود تكون حول مكة. ولعل هذا بل الثالث والثاني أيضاً يعود إلى الأول إلا أنه بعد التسمية كأنه صار أصلاً يشبه به. ثم علل جعل الشجرة فتنة للظالمين بقوله { فإنهم لآكلون منها } أي من طلعها { فمالؤن منها البطون } أي بطونهم إما لأن شدّة الجوع تحملهم على تناول ذلك الشيء الكريه، وإما لأن الزبانية يقسرونهم على أكلها ليكون باباً من العذاب، فإذا شبعوا غلبهم العطش أو أخذتهم الغصة فيسقون من حميم وهو الماء الشديد الحرارة، وقد وصفه الله سبحانه في قوله
{ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه } [الكهف: 29] والشوب المزج كما قال في صفة شراب أهل الجنة { ومزاجه من تسنيم } [المطففين: 27] وهو تسمية بالمصدر والمراد أن الطعام مزج بالحميم أو يسقون صديداً أو شراباً حاراً ممزوجاً بما هو أحر وهو الحميم. ومعنى "ثم" التراخي في الزمان كأنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة تكميلاً للتعذيب، أو التراخي بالرتبة لأن الشراب أبشع من الطعام بكثير. قال مقاتل: معنى "ثم" في قوله { ثم إن مرجعهم } أنهم يخرجون من الجحيم ودركاتها إلى موضع فيه الزقوم والحميم، وبعد الأكل والشرب يردّون إلى موضعهم أي من الجحيم فكأنهم في وقت الأكل والشرب لا يعذبون بالنار. وقيل: هو كقولهم "فلان يرجع إلى مال ونعمة" أي هو فيها. وقيل: "ثم" لتراخي الأخبار أي فقد صح أن مرجع الكفار إلى النار. وقيل: "ثم" مع الجملة قد تدل على التقديم أي قبل ذلك كان مرجعهم إلى الجحيم. ثم بين أن سبب وقوعهم في أصناف العذاب المذكور هو التقليد. والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يساقون سوقاً ولو لم يوجد في ذم التقليد إلا هذه الآية لكفى. ثم اراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً بقوله { ولقد ضل قبلهم } أي قبل قومك { أكثر الأوّلين } ثم استثنى من قوله { ولقد ضل } أو { من المنذرين } المهلكين عباده المخلصين فإن عاقبتهم كانت حميدة. ثم سلاه بوقائع الأمم الخالية تفصيلاً, وقدّم قصة نوح عليه السلام لكونه أباً ثانياً ونداؤه في قوله { رب انصرني بما كذبون } [المؤمنون: 26] أو قوله { { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [نوح: 26] واللام الداخلة على { نعم } جواب قسم محذوف أو للابتداء، والمخصوص بالمدح وهو نحن محذوف، والجمع لتصوير العظمة والكبرياء، وفيه وفي فاء التعقيب في { فلنعم } دليل على أن نداء العظيم الكبير حقيق بأن يكون مقروناً بإجابة. والكرب العظيم ما هو فيه من مخاوف الطوفان أو من إيذاء قومه مع الياس من إيمانهم وهذا أقرب. وفي قوله { هم الباقين } بصيغة الحصر دلالة على أن كل ما سواه وسوى ذريته فقد فنوا. روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ذرّيته وهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان شرقاً وغرباً، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في المتأخرين من الأمم هذه الكلمة وهي { سلام على نوح } ومعنى { في العالمين } أن هذه التحية ثبتها الله فيهم فيسلم الثقلان عليه إلى يوم القيامة. ثم بين أن سبب هذه التشريفات هو كونه محسناً وهذا جزاء كل محسن. ثم بين أن إحسانه كان مسبوقاً بإيمانه فعلى كل مؤمن أن يجتهد حتى يصير محسناً. وحين تمم ما آل إليه أمر نوح وذريته ذكر عاقبة سائر قومه فقال { ثم أغرقنا الآخرين } أعاذنا الله من الإغراق والإِحراق وجعل فلكنا فلك نوح وسفرنا متضمناً للنصر والفتوح.
التأويل: { والصافات } إشارة إلى ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد في أربعة صفوف: الأول للأنبياء، والثاني للأولياء، والثالث للمؤمنين، والرابع لأهل الكفر { فالزاجرات } هي الإلهامات الربانية للعوام عن المناهي، وللخواص عن رؤية الأعمال، وللأخص عن الالتفات إلى غير الله { فالتاليات ذكراً } هم الذين يذكرون الله في الخلوات بخلوص النيات. رب سموات القلوب وأرض النفوس وما بينهما من صفاتهما ورب مشارق القلوب يطلع منها شموس الشواهد واقمار الطوالع ونجوم اللوامع. السماء الدنيا هي الرأس، وكواكبها الحواس، والشهب هي الخواطر الرحمانية تدفع بها الوساوس الشيطانية { طين لازب } أي لاصق بكل ما يصادفه فقوم لصقوا بالدنيا وقوم لصقوا بالآخرة وقوم لصقوا بنفحات ألطاف الحق، فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه عنه: { وقفوهم إنهم مسؤولون } للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام. فقوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك، والأوّلون أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف. والآخرون قسمان: قوم لهم أعمال يسترها الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة كما قال "أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري" وقوم لهم ذنوب لا يطلع عليها إلا االله فيسترها عليهم كما جاء ذكره في الحديث
"إن الله يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كتفه يستره من الناس فيقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم اي رب. ثم يقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا! وكذا!؟ فيقول: نعم. ثم يقول: اي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته" { إلا موتتنا الأولى } وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية وبعد ذلك لا موت، بل ينتقل من دار إلى دار. { لمثل هذا فليعمل العاملون } بل لمثل هذه الأمور تبذل الأرواح وتفدى الأشباح كما قيل: (شعر)

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه وإن بات من ليلى على اليأس والصدّ

ثم أخبر بعد قصة الأولياء عن قصة الأعداء بقوله { أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم } وفي قوله { كأنه رؤوس الشياطين } دليل على أن أفعالهم كانت في قبح صفات الشياطين فكانت مكافأتهم من جنس صورة الشياطين { سلام على نوح في العالمين } أنه تعالى سلم على نوح الروح لأنه يحتاج إلى سلام الله ليعبر على الصراط المستقيم الذي هو أدقَ من الشعر وأحدّ من السيف، ولهذا يكون دعوة الرسل حينئذ رب "سلم سلم". وإنما اختصوا بالصراط والعبور عليه ليؤدّوا الأمانة التي حملوها إلى أهلها وهو الله سبحانه وتعالى.