القراءات: { أو أنزل } بالواو مثل { أونبئكم } [الآية: 15] في آل عمران { عذابي }
و{ عقابي } بالياء في الحالين: يعقوب والسرندي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل
{ أيكة } مذكور في "الشعراء" { من فواق } بضم الفاء: حمزة وعلي وخلف. الباقون:
بالفتح { ولي نعجة } بفتح الياء: حفص والأعشى والبرجمي { فتناه } بتخفيف النون على أنه
مثنى والضمير للخصمين: عباس { لتدبروا } بحذف إحدى التاءين على أنه خطاب: يزيد
والأعشى والبرجمي. الباقون: على الغيبة وإدغام تاء التفعل في الدال { إني أحببت } بفتح
الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو من بعدي بالفتح ابو جعفر ونافع وأبو عمرو
{ والرياح } مجموعة: يزيد.
الوقوف: { ذي الذكر } ط { وشقاق } ه { مناص } ه { منهم } ز لتصريح ذكر الكافرين
مع إمكان الاكتفاء بالضمير وقد اتفقت الجملتان { كذاب } ج للاستفهام واتحاد العامل
{ واحداً } ج لمثل ما مر { عجاب } ه { آلهتكم } ج لما مر { يراد } ج ه لذلك { الآخرة }
ج لذلك { اختلاق } ه ج لما قلنا { من بيننا } ط { من ذكري } ه لعطف الجملتين
المختلفتين والابتداء بالتهديد { عذاب } ه لأن "أم" بمعنى ألف استفهام إنكار { الوهاب }
ه ج "أم" تصلح ابتداء إنكار { الأسباب } ه { الأحزاب } ه { الأوتاد } ه لا { الأيكة }
ط { الأحزاب } ه { عقاب } ه { فواق } ه { الحساب } ه { الأيد } ج للابتداء بإِن
ولاحتمال التعليل { أوّاب } ه { والإشراق } ه { أوّاب } ه { الخطاب } ه { الخصم } م لأن
"إذ" ليس بظرف للإتيان ولتناهي الاستفهام إلى الأمر أي اذكر إذ تسوّروا { المحراب } ه لا
لأن "إذ" بدل من الأولى { لا تخف } ج لحق الحذف أي نحن خصمان مع اتحاد المقول
{ الصراط } ه { في الخطاب } ه { نعاجه } ج { ما هم } ط { وأناب } ه { ذلك }
ط { مآب } ه { عن سبيل الله } الأولى ط { الحساب } ه { باطلاً } ط { كفروا } ج للابتداء
بالتهديد مع فاء التعقيب { النار } ه ج لأن "أم" لاستفهام إنكار. { كالفجار } ه { الألباب } ه
{ سليمان } ط { العبد } ط { أوّاب } ه لا والأصح الوقف والتقدير: اذكر إذ فإِن أوْبَهُ غير مقيد
بل مطلق الجياد ه لا للعطف { ربي } ج لاحتمال أن "حتى" للابتداء وأن تكون لانتهاء الحب
أي آثرت حب الخير حتى توارت { بالحجاب } 5 لحق الحذف تقديره: قال ردّوها عليّ
فطفق. { والأعناق } ه { أناب } ه { بعدي } لا لاحتمال أن يكون التقدير فإنك { الوهاب }
ه { اصاب } ه { وغوّاص } ه { الأصفاد } ه { حساب } ه { مآب } ه.
التفسير:عن ابن عباس أن { ص } بحر عليه عرش الرحمن. وعن سعيد بن جبير:
بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقيل: صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به عن الله.
وقيل: صدّ الكفار عن قبول هذا الدين. وقيل: صدّ محمد صلى الله عليه وسلم قلوب العباد. وقيل: هو من
المصاداة المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الجبال يؤيده قراءة من قرأ
{ ص } بالكسر، معناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوارمه وانته عن نواهيه. والذكر الشرف
والشهرة أو الموعظة، وجواب القسم محذوف كأنه قيل: إنه المعجز وإن إلهكم لواحد.
ويجوز إن كان { ص } اسم السورة أن يراد هذه ص، والقرآن يعني هذه السورة هي التي
أعجزت العرب بحق القرآن كما تخبر عن هذا حاتم والله، تريد هذا هو المشهور بالسخاء
والله. ثم بين أن الكفار في استكبار عن الإذعان للحق وفي مخالفة الله ورسوله. ومعنى
"بل" ترك كلام والأخذ في كلام آخر. ولئن سلم أنه للمغايرة الكلية فالكلام الأول هو كون
محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً في تبليغ الرسالة، أو كون القرآن، أو هذه السورة معجزاً، والحكم
المذكور بد "بل" هو المعازة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب. ثم خوف الكفار
بقوله { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات } أي رفعوا اصواتهم بالدعاء والاستغاثة
لأن نداء من نزل به العذاب لا يكون إلا كذلك. وعن الحسن: فنادوا بالتوبة كقوله { فلما
رأوا بأسنا قالوا آمنا } ولهذا قال { ولات حين مناص } أي لم يكن ذلك الوقت وقت فرار من
العذاب أو حين نداء ينجي. قال سيبويه والخليل: التاء في "لات" زائدة مثلها في "ربت"
و"ثمت" وهي المشبهة بليس، وقد تغير حكمها بزيادة التاء حيث لا تدخل إلا على الأحيان
ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وتقدير الآية: ليس الحين حين مناص. ولو رفع لكان تقديره
وليس حين مناص حاصلاً لهم. وقال الأخفش: إنها "لا" النافية للجنس زيدت عليها التاء
وخصت بنفي الأحيان كأنه قيل: اصل "لات" ليس قلبت الياء ألفاً والسين تاء. وقيل: التاء
قد تلحق بحين كقوله:
العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم
وإلى هذا ذهب أبو عبيدة. وتأكد هذا الرأي عنده حين رأى التاء في المصحف متصلاً
بحين. وضعف بعد تسليم أنه في الإمام كذلك بأن خط المصحف غير مقيس عليه. أما
الوقف على { لات } فعند الكوفيين بالهاء قياساً على الأسماء، وعند البصريين بالتاء قياساً
على الأفعال. والمناص مصدر ناص ينوص إذا هرب ونجا أو فات. قال ابن عباس: لما
نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فأنزل الله { ولات حين
مناص }. ثم حكى شر صنيعهم وسوء مقالتهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً { وعجبوا أن جاءهم
منذر منهم } أي من جنس البشر. ثم سجل عليهم بالكفر بوضع الظاهر موضع المضمر قائلاً
{ وقال الكافرون هذا ساحر } في إظهار خوارق العادات { كذاب } على الله. وإنما قيل في
سورة ق { { فقال الكافرون } [الآية: 2] بالفاء لأن القول هناك شيء عجيب وهو نتيجة العجب
فاتصل الكلامان لفظاً ومعنى: وأما ههنا فلم يتصل إلا معنى { أجعل الآلهة } أي صيرها
وحكم عليها بالوحدة { إن هذا لشيء عجاب } بليغ في العجب. يروى أنه لما أسلم عمر بن
الخطاب شق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم
الأشراف والرؤساء: امشوا إلى أبي طالب فأتوه وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما
فعل هؤلاء السفهاء، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فدعا أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال
له: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألون السواء فلا تمل كل الميل على قومك. فقال: ماذا
يسألونني؟ فقالوا: ارفضنا وارفض آلهتنا وندعك وإلهك. فقال صلى الله عليه وسلم: أتعطونني كلمة واحدة
تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال له أبو جهل: والله لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله. فنفروا من ذلك وقالوا: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } كيف
يسع الخلق كلهم إله واحد فأنزل الله هذه الآيات. يعني من أول السورة إلى قوله { كذبت
قبلهم } { وانطلق الملأ منهم } أي نهضوا من ذلك المجلس و{ أن } مفسرة أي { امشوا } من
غير أن يتلفظوا به { واصبروا على } عبادة { آلهتكم }.
قال النحويون: الانطلاق ههنا مضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول
لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم. وقيل: وانطلق الملأ منهم وقالوا
لغيرهم امشوا. وقيل: انطلقوا بأن امشوا أي بهذا القول. وليس المراد بالمشي السير إنما
المراد المضيّ على الأمر. وقيل: امشوا واتركوا محمداً صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي من مشت الماشية
إذا كثر نسلها مشاء ومنه الماشية للتفاؤل. وفي تهذيب اللغة عن الأزهري: مشى الرجل إذا
استغنى فيكون هذا دعاء لهم بالبركة { إن هذا } الأمر وهو استعلاء محمد صلى الله عليه وسلم { لشيء يراد }
أي حكم الله به فلا حيلة في دفعه ولا ينفع إلا الصبر أو إنه لشيء من نوائب الدهر اريد بنا
فلا انفكاك لنا منه، أو إن دينكم لشيء يراد أن يؤخذ منكم. وقيل: إن عبادة الأصنام لشيء
نريده ونحتاج إليه. وقيل: إن هذا الاستعلاء والترفع لشيء يريده كل أحد وكل ذي همة
وقريب منه قول القفال: إن هذه كلمة تذكر للتحذير والتخويف معناها إنه ليس غرض
محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القول تقرير الدين ولكن غرضه أن يستولي علينا ويحكم في أموالنا
وأولادنا بما يريد. { ما سمعنا بهذا } أي بقول محمد صلى الله عليه وسلم { في الملة الآخرة } فيما أدركنا
عليه آباءنا أو في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأن النصارى مثلثة غير موحدة. قال جار
الله: يجوز أن يكون التقدير ما سمعنا بهذا كائناً في الملة الآخرة فيكون الظرف حالاً من هذا
لا متعلقاً بـ { سمعنا } والمعنى أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة
الآخرة توحيد الله. { إن هذا إلا اختلاق } كذب اختلقه من عنده. ثم أظهروا الحسد وما
كان يغلي به صدورهم قائلين { أأنزل عليه الذكر من بيننا } وذلك أنهم ظنوا أن الشرف
بالمال والجاه فقط نظيره في القمر { { أألقي الذكر عليه من بيننا } [القمر: 25] إلا أنه
استعمل هناك الإلقاء لأن أذكارهم كانت صحفاً مكتوبة وألواحاً مسطورة. وقدم الظرف ههنا
لشدّة العناية ولزيادة غيظهم وحمقهم فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { بل هم في شك
من ذكري } اي من دلائلي التي لو نظروا فيها لزال الشك عنهم، فالقاطع لا يساوي
المشكوك. وقيل: أراد أنهم لا يكذبونك ولكنهم جحدوا آياتي. ثم قال { بل لما يذوقوا
عذاب } أي لو ذاقوا لأقبلوا على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات. وقيل: أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوّفهم بالعذاب لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا ولم ينزل عليهم
العذاب فصار ذلك سبباً لشكهم في صدقه صلى الله عليه وسلم فلا جرم لا يزول ذلك الشك إلا بنزول
العذاب. ثم أجاب عن شبهتهم بوجه آخر وهو قوله { أم عندهم خزائن رحمة ربك } والمراد
أن النبوة من جملة النعمة المخزونة عنده يعطيها من يشاء من عباده. ثم خصص بعد التعميم
قائلاً { أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } ولا ريب أن هذه الأشياء بعض خزائن الله
وإذا كانوا عاجزين عن البعض فعن الكل أولى. ثم تهكم بهم بقوله { فليرتقوا } اي فإن
كانوا يصلحون لتدبير الخلائق وقسمة الرحمة فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوسل بها
إلى المقصود. وقيل: أسباب السموات أبوابها والمعنى إن ادّعوا ملك السموات وأنهم
يعلمون ما يجري فيها فليرتقوا إليها. قال بعض حكماء الإسلام: في الأسباب إشارة إلى أن
الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب حوادث العالم السفلي. ثم
حقر أمرهم بقوله { جند مّا } وهو خبر مبتدأ محذوف و"ما" مزيدة للاستعظام جارية مجرى
الصفة أي هم جند من الجنود. ثم خصص الوصف بقوله { من الأحزاب } أي ما هم إلا
جند من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بهم. قال قتادة
{ هنالك } إشارة إلى يوم بدر. وقيل: يوم الخندق. وقيل: فتح مكة فإن مكة هي الموضع
الذي ذكروا فيه هذه الكلمات. وقال أهل البيان: هي إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم
من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كقولك لمن ينتدب لأمر "ليس من أهله"لست
هنالك". ثم مثل حالهم بحال من قبلهم من الأمم المكذبة وقصصهم مذكورة مراراً. والذي
يختص بالمقام هو أنه وصف فرعون بذي الأوتاد فعن قتادة أنه كانت له أوتاد وأرسان
وملاعب يلعب بها عنده. وقال المبرد: بنى أبنية طويلة صارت كالأوتاد لبقائها. وقيل: هي
أوتاد أربعة كان يعذب الناس بها على الأرض أو على رؤوس أخشاب أربعة. وقيل: اراد
كثرة أوتاد خيام معسكره. وقيل: أراد ذو جموع كثيرة فبالجمعية يشتد الملك كما يشتد
البناء بالأوتاد وهذا قريب. وقول أهل البيان إن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب
بأوتاد، ثم استعير لثبات العز والملك والمقصود على الوجود كلها. وصف فرعون بالشدة
والقوة ونفاذ الأمر ليعلم أنه تتعالى أهلك من كان هذه صفته فكيف بمن هو دونه.
قال أبو البقاء: قوله { أولئك الأحزاب } مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون خبراً والمبتدأ
من قوله وعاد أو من ثمود أو من قوم لوط، قلت: ويحتمل أن يكون { الأحزاب } صفة
{ أولئك } و { أولئك } بدلاً من مجموع المعطوفات والمعطوف عليه. قال جار الله: قصد
بهذه الإشارة الإعلام بأن هذه الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم وآباؤهم الذين
وجد منهم التكذيب. لقد ذكر تكذيبهم أوّلاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء
بالجملة الاستثنائية أعني قوله { إن كل إلا كذب الرسل } فبين أن كل واحد من الأحزاب
كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم { فحق } أي ثبت أو
وجب لذلك عقابى إياهم في الدنيا ثم في الآخرة وذلك قوله { وما ينظر هؤلاء }
المذكورون. وقيل: أهل مكة: { إلا صيحة واحدة } وهي النفخة الأولى { ما لها من }
توقف مقدار { فواق } وهو بالفتح والضم زمان ما بين حلبتي الحالب. عن النبي صلى الله عليه وسلم "العيادة
قدر فواق الناقة" ومعنى الآية إذا جاء وقتها لم يمهل هذا القدر. وقيل: الفواق بالفتح الإفاقة
أي ما لها من رجوع وترداد لأن الواحدة تكفي أمرهم وما لها رجوع إلى الحالة الأولى بل
تبقى ممتدة إلى أن يهلك كلهم واعلم أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث وقعت لهم:
أولاها في الإلهيات وهو قولهم { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } والثانية في النبوات وهي قولهم
{ أأنزل عليه الذكر من بيننا } والثالثة تتعلق بالمعاد وهي قولهم { ربنا عجل لنا قطناً } وهو
القطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطة إذا قطعه. والقط أيضاً صحيفة الجائزة ونحوها لأنها
قطعة من القرطاس استعجلوا نصيبهم من العذاب الموعود، أو من اللذات العاجلة، أو من
صحيفة الأعمال، كل ذلك استهزاء منهم فلذلك أمره بالصبر على ما يقولون. قال جار الله:
أراد اصبر على أذاهم وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مخابراتهم. { واذكر } أخاك
{ داود } كيف زل تلك الزلة اليسيرة فعوتب عليها ونسب إلى البغي، أو اصبر وعظم أثر أمر
معصية الله في أعينهمم بذكر قصة داود وما أورثته زلته من البكاء الدائم والحزن الواصب.
وقال غيره: اصبر على اذى قومك فإنك مبتلى بذلك كما صبر سائر الأنبياء على ما ابتلاهم
به. ثم عدّهم وبدأ بداود وذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه
أنهم وجدوها بالصبر على البلايا فسأل الابتلاء. ثم إن الدنيا لا تنفك من الهموم والأحزان
واستحقاق الدرجات بقدر الصبر على البليات. ثم إن مجامع ما ذكر الله تعالى في قصة داود
ثلاثة أنواع من الكلام: الأول: تفصيل ما آتاه الله تعالى من الفضائل. الثاني: شرح الواقعة
التي وقعت له. والثالث: استخلاف الله تعالى إياه بعد ذلك. والأول عشرة أصناف: أحدها
ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم إياه ليقتدي به في الصبر وسائر اصول الأخلاق. وثانيها تسميته بالعبد مضافاً
إلى صيغة جمع التكلم للتعظيم والعبودية الصحيحة الجامعة لكمالات الممكنات كما سبق
مراراً. ويمكن أن يكون التلفظ بذكر اسمه العلم أيضاً تشريفاً له. وثالثها قوله { ذا الأيد } ذا
القوة في الحروب وعلى الطاعات وعن المعاصي وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشد
الصوم ويقوم نصف الليل. ويحتمل أن يكون الياء محذوفاً اكتفاء بالكسر فيكون جميع اليد
بمعنى النعمة لأن الله تعالى أنعم عليه ما لم ينعم على غيره. رابعها قوله { إنه أوّاب } أي
رجاع ي الأمور كلها إلى طاعة الله ومرضاته من آب يؤب. خامسها تسبيح الجبال معه
وقوله { يسبحن } حال والإشراق وقت إضاءة الشمس وهو بعد شروقها عند الضحى. يقال
شرقت الشمس ولما تشرق. واستدل به ابن عباس على وجود صلاة الضحى في القرآن لما
روى عن أم هانئ: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى
وقال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق. قال ابن عباس: وكانت صلاة يصليها داود عليه
السلام ويحتمل أن يكون معنى الإشراق الدخول في وقت الشروق فيراد وقت صلاة الفجر
لانتهائه بالشروق قاله جار الله. سادسها قوله { والطير محشورة } أي وسخرنا الطير مجموعة
من كل ناحية. قال ابن عباس: كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير
فسبحت فذلك حشرها وقد مر ذكر هذه المعجزة في "الأنبياء" وفي "سبأ". قال أهل البيان:
قوله { محشورة } في مقابلة قوله { يسبحن } ولكنه اختير الفعل في أحد الموضعين والاسم
في الآخر لأنه أريد في الأول الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً
بعد حال حتى كأن السامع يتصوّرها بتلك الحالة، وأما الحاشر فهو الله وحشر الطيور جملة
واحدة أدل على القدرة له تعالى. سابعها قوله { كلّ له أوّاب } أي كل واحد من الجبال
والطير لأجل تسبيح داود مسبح مرجع للتسبيح. وقيل: الضمير لله أي كل من داود والجبال
والطير لله مسبح رجاع إلى فعله مرة بعد مرة، وهذا الوصف كالتأكيد للوصف الذي يتقدّمه
وهذا أخص لأنه أدل على الواقعة. ثامنها قوله { وشددنا ملكه } أي قوّيناه بالجنود والأعوان
وبسائر الأسباب فكان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف حرس، وزاد بعضهم فقال
أربعون الفاً. وقيل: نصرناه بالهيبة، وسببه أن غلاماً ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى
عليه ولطم الغلام لطمة فسأل داود من الغلام البينة فعجز فرأى داود في المنام أن الله تعالى
يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقرة إلى الغلام. فقال داود: هذا منام فـأتاه الوحي
بذلك في اليقظة فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا: أتقتل رجلاً بلطمة؟ فقال داود:
هذا أمر الله فسكتوا. ثم أحضر الرجل وأخبره إن الله أمره بقتله فقال الرجل: صدقت يا نبيّ
الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة، فقتله داود وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا: إنه
يقضي بالوحي من السماء. تاسعها قوله { وآتيناه الحكمة } وقد مر معناها مراراً وأنها
منحصرة في قسمين: الأول العلم بالتصوّرات الحقيقية والتصديقات اليقينية بمقتضى الطاقة
البشرية، والثاني العمل بالأخلاق الفاضلة المفضية إلى السعادة الباقية. وخصصها بعضهم
بالعلم بالنبوّة والفهم أو بالزبور والشرائع. عاشرها فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط
المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملاً مكملاً فهماً مفهماً.
قال جار الله: الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام الملخص الذي لا
يلتبس ولا يختلك بغيره. قلت: ومن ذلك أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل كما
تذكره في الوقوف. وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: البينة على المدّعي واليمين على من
أنكر. فالفصل بمعنى الفاصل كالصوم والصحب ويندرج فيه جميع كلامه في الأقضية
والحكومات وتدابير الملك والمشورات. يروى أنه سبحانه علق لأجله سلسلة من السماء
وأمره أن يقضي بها بين الناس، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة، ومن كان على الباطل
لا يقدر على أخذها. ثم إن رجلاً غصب من آخر لؤلؤه وجعلها في جوف عصاً له ثم
خاصمه المدّعي إلى داود فقال المدعي: إن هذا أخذ مني لؤلؤة ولم يردّها عليّ وإني صادق
في مقالتي، فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبينة
واليمين وهو فصل الخطب. وقيل: هو قوله "أما بعد" وهو أوّل من تكلم به. وقيل: هو أنه
إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه. ثم
إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلاً { وهل أتاك } يا محمد { نبأ
الخصم } أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن. وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة
المستفهم عنها ليكون أدعى إلى الإصغاء لها. وللناس في هذه الواقعة ثلاثة آقوال أقواها تقريرها على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله، وثانيها التقرير على وجه يدل على
صدور الصغيرة عن نبيّ الله، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه،
وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة. ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف
بعض المذاهب فلنفسر كلاً منها على حدة. وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة.
القول الأوّل: يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود - وكان له
يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه - فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي
تصعدوا غرفته من سوره. وفي قوله { إذ دخلوا عليه } إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا
عليه. قال الفراء: قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك "ضربتك إذ دخلت
عليّ إذ اجترأت عليّ" مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحداً. وحين رآهما قد
دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر. { ففزع منهم قالوا لا تخف
خصمان } أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلاً نظراً إلى
أصله، وثناه ثانياً بتأويل شخصان أو فريقان خصمان، وجمع المائر في قوله { إذ تسوّروا }
{ إذ دخلوا } { ففزع منهم } { قالوا لا تخف } بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو على أن
صحب كل منهما من جملتهما. والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق { بغى بعضنا
على بعض } أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة. ثم قرروا مقصودهم بثلاث
عبارات متلازمة إحداها { فاحكم بيننا بالحق } أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا. والثانية
{ ولا تشطط } وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد. شط وأشط لغتان، أرادوا لا
تجر فالجور البعد عن الحق. والثالثة { واهدنا إلى سواء الصراط } أي وسطه وهو مثل
لمحض الحق وصدقه. وحين اخبروا عن وقوع الخصومة مجملاً شرعوا في التفصيل فقال
أحدهما مشيراً إلى الآخر { إن هذا } وقوله { أخي } أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر
أو بدل والخبر { له تسع وتسعون نعجة } وهي أنثى من الضأن { ولي نعجة واحدة فقال
أكفلنيها } أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي { وعزني في الخطاب } أي غلبني في
المخاطبة فكان تكلمه أبين وبطشه اشدّ { قال } داود { لقد ظلمك بسؤال نعجتك } أضاف
المصدر إلى المفعول الثاني وحذف الفاعل والمفعول الأوّل أي بسؤاله إياك نعجتك. وليس
السؤال ههنا سؤال خضوع وتفضل وإنما هو سؤال مطالبة ومعازة. و{ إلى } متعلقة بفعل دل
عليه السؤال تقديره بسؤال أي ليضمها إلى نعاجه، أو ضمن السؤال معنى الإضافة كأنه قيل:
بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب { وإن كثيراً من الخلطاء } الشركاء الذين خلطوا
أموالهم واطلع بسبب ذلك بعضهم على أحوال البعض { ليبغي بعضهم على بعض } وقد
تغلب الخلطة في الماشية. والشافعي يعتبرها في باب الزكاة إذا ااتحد الفحل والراعي
والمراح والمسقى وموضع الحلب، فإن كانت للخليطين أرعبون شاة فعليهما شاة. وعند أبي
حنيفة لا شي عليهما وإن كانت لأحدهما واحدة وللآخر تسع وتسعون فعلى الأوّل أداء جزء
من مائة جزء من شاة واحدة وعلى الآخر الباقي. هذا عند الشافعي، وعند أبي حنيفة لا
شيء على ذي النعجة. ثم بين أن أكثر الخلطاء موسوم بسمة الظلم إلا المؤمنين وإنهم
لقليل. "وما" في قوله { وقليل ما هم } مزيدة للإبهام، وفيه تعجيب من قلتهم. وقال ابن
عيسى: هي موصولة أي وقليل الذين هم كذلك. قصد نبيّ الله بذكر حال الخطاء في هذا
المقام الموعظة الحسنة والترغيب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لا التي عليها أكثرهم من
الظلم والاعتداء، وفيه تسلية للمظلوم عما جرى عليه من خليطه وإن له في أكثر الخلطاء
اسوة { وظن داود إنما فتناه } اي ابتليناه وذلك أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه
كان سلطاناً شديد القوّة وقد فزع منهم. ثم إنه مع ذلك عفا عنهم دخل قلبه شيء من العجب
فحمله على الابتلاء { فاستغفر ربه } من تلك الحالة { وأناب } إلى الله واعترف بأن إقدامه
على تلك الخلة لم يكن إلا بتوفيق الله. { فغفرنا له ذلك } الخاطر أو لعله هم بإيذاء القوم.
ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم، ثم استغفر من تلك الهمة. أو لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم فاستغفر لأجلهم متضرعاً
إلى الله فغفر ذنبهم بسبب شفاعته ودعائه. { و } معنى { خرّ راكعاً } سقط ساجداً. قال
الحسن: لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع، أو المراد أن خرّ للسجود مصلياً لأن الركوع قد
يعبر به عن الصلاة. ومذهب الشافعي أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة لأنه توبة نبيّ
فلا توجب على غيره سجدة التلاوة ولا تستحب أيضاً. ومذهب أبي حنيفة بخلافه. وجوز
مع ذلك أن يكون الركوع بدل السجود هذا تمام تقرير القول الأوّل. ولا يرد عليه إلا أن داود
كان أرفع منزلة من أن يتسور عليه بعض آحاد الرعية في حال تعبده أو يتجاسر عليه بقوله
{ لا تخف } { ولا تشطط } وأنه كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين على ظلم الآخر قبل
استماع كلامه والأول استبعاد محض؟ وأجيب عن الثاني بأنه ما قال ذلك إلا بعد اعتراف
صاحبه لكنه لم يذكر في القرآن، ومما يؤيد هذا القول ختم ذكر الواقعة بقوله: { وإن له
عندنا لزلفى وحسن مآب } والزلفى القربة، والمآب الحسن الجنة. قال مالك بن دينار: إذا
كان يوم القيامة يؤتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة يقال: يا داود مجدني بذلك الصوت
الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا - وحاصل التفسير على هذا القول إن
الخصمين كانا من الإنس وكانت الخصومة بينهما على الحقيقة، وكانا خليطين في الغنم، أو
كان الخلطة خلطة الصدقة، أو الجوار وكان أحدهما موسراً وله نسوان كثيرة من الحرائر
والسرائر. والعرب تشبه المرأة بالنعجة والظبية، والثاني معسراً ما له إلا امرأة واحدة
واستنزله عنها، وكانت الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك كما كانوا يقاسمونهم أموالهم
ومنازلهم وما كان ذنب داود إلا خطرة أو همة.
القول الثاني: إن أهل زمان داود كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته
فيتزوجها إذا أعجبته فاتفق أن نظر داود وقع على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله
النزول عنها فاستحيا ففعل فتزوجها وهي أم سليمان. فقيل له: إن مع عظم منزلتك وارتفاع
مرتبتك وكثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلاً ليس له امرأة واحدة النزول لك، كان
الواجب عليك مغالبة هواك والصبر على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود
فآثره أهلها وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه، وعلى هذا يجوز أن
يكون الخطاب في قوله { وعزني في الخطاب } من الخطبة أي غالبني في خطبتها حيث
زوّجها دوني. وعلى هذا القول يجوز أن يكون الخصمان من الإنس كما مر. وحين وافق
حالهما حال داود تنبه فاستغفر. وأن يكونا ملكين بعثهما الله ليتنبه على خطئه فيتداركه
بالاستغفار ويرد على هذا أن الملكين لو قالا نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فكذب
والملائكة لا يكذبون ولا يأمرهم الله بالكذب. والجواب أن التقدير ما تقول خصمان قالا
بغى بعضنا على بعض. أو أرادوا: ارأيت لو كنا خصمين بغى بعضنا على بعض ألست
تحكم بيننا، ثم صوروا المسألة ومثلوا قصته بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع
وتسعون فأراد صاحبه تتمة المائة وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده. وعن
الحسن: لم يكن لداود تسع وتسعون امرأة وإنما هذا مثل.
القول الثالث: وهو المشهور عند الجمهور أن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة
أجزاء: يوماً للعبادة، ويوماً للاشتغال بخواص أموره، ويوماً يجمع بني إسرائيل للوعظ
والتذكير فجاءه الشيطان يوم العبادة والباب مغلق في صورة حمامة من ذهب فمد يده
ليأخذها لابن صغير له فطارت إلى قريب منه، وهكذا مرة ثانية وثالثة إلى أن وقعت في كوة
فتبعها فوقع بصره على امرأة جميلة تغتسل فنقضت شعرها فغطى جسدها فوقع في نفسه منها
ما شغله عن الصلاة، فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها، فخرج داود
حتى عرف بيتها وسألها من أنت؟ فأخبرته فقال لها: هل لك زوج؟ فقالت: نعم. قال: أين
هو؟ قالت: في جند كذا فرجع وكتب إلى أمير جيشه إذا جاءك كتابي هذا فقدم فلاناً في أول
التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد
ففتح الله على يده وسلم. فأمر برده مرة ثانية وثالثة حتى قتل، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما
كان يحزن على الشهداء، وتزوّج امرأته فبعث الله إليه ملكين في صورة إنسانين فطلبا أن
يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته ومنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب فلم يشعر إلا
وهما بين يديه جالسان ففزع منهما، وحين وجد قصتهما مطابقة لحاله علم أنه مبتلى من
الله. يروى أنهما قالا حينئذ حكم على نفسه. وقيل: ضحكا وغابا فعلم أن الله ابتلاه بذنبه.
ولا يخفى أن ذنبه بهذا التفسير والتقرير كبيرة لأنه يدل على الإفراط في العشق وعلى السعي
في قتل النفس المسلمة بغير حق. فيروى أنه سجد أربعين ليلة لم يرفع رأسه إلا للصلاة
المكتوبة ولم يذق طعاماً ولا شراباً حتى أوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك.
ويروى أن جبرائيل قال له اذهب إلى أوريا وهو زوج المرأة واستحل منه فإنك تسمع صوته
موضع كذا، فأتاه، واستحل منه فقال: أنت في حل. قال: فلما رجع قال له جبرائيل: هل
أخبرته بجرمك؟ فقال: لا قال: فإنك لم تعمل شيئاً فارجع وأخبره بالذي صنعت. فرجع
داود فأخبره بذلك فقال: أنا خصمك يوم القيامة فرجع مغتماً وبكى أربعين يوماً. فأتاه
جبريل وقال: إن الله تعالى يقول: أنا أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك
أفضل الجزاء فسرى عنه وكان حزيناً في عمره باكياً على خطيئته. وروي أنه نقش خطيئته
على كفه حتى لا ينساها. والمحققون كعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وغيرهم
ينكرون القصة على هذا الوجه. روى سعيد بن المسيب والحرث بن الأعور أن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة
وستين وهو حد الفرية على الأنبياء. قلت: لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى
طائل، بل يحتمل أن يعود إلى قائله لوم عاجل وعقاب آجل.
ومن الدلائل القوية التي اعتمد عليها فخر الدين الرازي في ضعف هذه الرواية قوله
سبحانه عقيب ذكر الواقعة { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } فمن البعيد جداً أن
يوصف الرجل بكونه ساعياً في سفك دم أخيه المسلم بغير حق وبانتزاع زوجته منه ثم يقال:
إنا فوضنا الخلافة إليه. وعندي أن ذلك عليه لا له لقوله تعالى { فاحكم بين الناس بالحق
ولا تتبع الهوى } الخ فكأنه قيل له: إنا جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى
الله وفي سياسة المدن، أو تخلفنا كما يقال "السلطان ظل الله في الأرض" فاللائق بهذا
المنصب السعي لإصلاح حال المسلمين وحفظ فروجهم ودمائهم وأموالهم لا السعي في
تحصيل هوى النفس بأي وجه يمكن، فإن صاحبه المصر عليه ضال معرض عن إعداد الزاد
ليوم المعاد. يحكى عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو الزهري: هل
سمعت ما بلغنا؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه
معصية. فقال: يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ثم تلا هذه الآية. وحين تمم
واقعة داود ونصحه وما فرض عليه في شأن الاستخلاف أشار إلى أن الأمور الدنيوية التابعة
للحركات السماوية ليست واقعة على الجزاف، وبمقتضى الطبائع، ولكن لها غاية صحيحة
فأجمل هذا المعنى أوّلاً بقوله { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك } الذي ذكر
من خلق هذه الأشياء بلا غاية { ظن الذين كفروا } لأنهم بإنكارهم البعث جحدوا الجزاء
الذي هو غاية التكليف { فويل للذين كفروا من النار } لأنهم بهذه العقيدة وقعوا في نار البعد
والقطيعة فلم يستدلوا بالآفاق والأنفس على الصانع نظيره ما مر في آخر "آل عمران" { ربنا
ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } [الآية: 191] ثم صرح بالغاية قائلاً
{ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية. "وأم" منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار
والمراد أنه لم بطل الجزاء كما زعموا لاستوت حال الطائفتين المتقي المصلح للأرض
بتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية على وفق العقل والشرع، والفاجر المفسد
في الأرض بهدم النواميس وتتبع الشهوات وهتك الحرمات، ومن سوى بينهم كان إلى السفه
أقرب منه إلى الحكمة، ولا ينافي هذا إمكان التسوية من حيث المالكية. وحين ذكر هذه
المعاني اللطيفة والقواعد الشريفة منّ على رسوله بقوله { كتاب } اي هذا كتاب { أنزلناه
إليك مبارك } كثير المنافع والفوائد { ليدّبروا آياته } ليتأملوا فيها ويستنبطوا الأسرار والحقائق
منها فمن حفظ حروفه وضيع حدوده كان مثله كمثل معلق اللؤلؤ والجواهر على الخنازير.
قال الإمام فخر الدين الرازيرحمه الله : يقال في وجه النظم إن العقلاء قالوا: من ابتلى
بخصم جاهل مصر متعصب وجب عليه أن يقطع الكلام معه ويخوض في كلام آخر أجنبي
حتى إذا اشتغل خاطره بالكلام الأجنبي أدرج في أثنائه مقدمة مناسبة للمطلوب الأول، فإن
ذلك المتعصب قد يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب
الأول فيصير الخصم ساكتاً مفحماً. وإذ قد عرفت هذا فنقول: إن الكفار قد بلغوا في إنكار
الحشر إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء { ربنا عجل لنا قطعنا قبل يوم الحساب } فقال
تعالى: يا محمد { اصبر على ما يقولون } واقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في
كلام آخر أجنبي في الظاهر وهو قصة داود إلى قوله { إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم
بين الناس بالحق } فكل من سمع هذا قال: نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق كأنه قال:
أيها المكلف إني لا آمرك مع أني رب العالمين إلا بالحق فههنا الخصم يقول: نعم ما فعل
حيث لم يقض إلا بالحق، فعند هذا يلتزم صحة القول بالحشر وإلاّ لزم التسوية بين من
أصلح واتقى ومن افسد وفجر وذلك ضدّ الحكمة. وحين ذكر هذه الطريقة الدقيقة في إلزام
المنكرين وإفحامهم وصف القرآن بالبركة والإفادة والإرشاد، لأن هذه اللطائف لا تستفاد إلا
منه.
وبعد تتميم قصة داود شرع في قصة ابنه سليمان ومدحه بقوله { نعم العبد } أي هو
فحذف المخصوص للعلم به. وفي قوله { إنه أوّاب } كما مر في قصة داود إشارة إلى أنه
كان شبيهاً بالأب في الفضيلة والكمال فلذلك استويا في جهة المدح. وفي القصة واقعتان
يمكن تقرير كل منهما كما في واقعة أبيه على وجه لا يقدح في الصعمة وهو المختار عند
المحققين، وعلى وجه دون ذلك وهو الأشهر فلنفسر كلاً منهما بالوجهين بتوفيق الله تعالى.
أما الأوّل من الواقعة الأولى فقوله { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات } وهي جمع صافن
وهو الذي يقوم على ثلاث قوائم وعلى طرف الرابعة وهو نعت جيد للخيل. قيل: الصافن
الذي يجمع بين يديه. وفي الحديث "من سرّه أن يقوم الناس له صفوفاً فليتبوّأ مقعده من
النار" أي واقفين مثل خدم الجبابرة. و{ الجياد } جمع جواد وهو جيد الجري يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة من مواقفها على أحسن الأشكال. وإذا أجريت كانت سراعاً في جريها،
فإذا طلبت لحقت، وإذا طلبت لم تلحق. يروى أن رباط الخيل كان مندوباً في شرعهم كما
في شرعنا. ثم إن سليمان سلام الله عليه احتاج إلى الغزو فجلس بعد صلاة الظهر على
كرسيه وأمر بإحضار الخيل، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أحبها لأمر
الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله { إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } سمى
الخيل خيراً لتعلق الخير بها كما جاء في الحديث "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم
القيامة" أي آثرت حب الخير ولزمته لأن ربي أمرني بارتباطها ولم يصدر حب هذه المحبة
الشديدة إلا عن ذكر الله وأمره. والضمير في قوله { حتى توارت } للخيل أي ما زالت تعرض
عليه ويأمر بإعدائها وسيرها إلى أن غابت عن بصره، ثم قال { ردّوها عليّ } أي أمر
الرائضين بان يردوا الخيل عليه، فلما عادت عليه طفق يمسح مسحاً بوسقها وأعناقها تشريفاً
لها وإظهاراً لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ، أو لأنه كان أعلم بأحوال الخيل
وأمراضها وعيوبها، أو أراد إظهار أنه بلغ في اختبار أمور المملكة إلى حيث يباشر أكثر
الأمور بنفسه. وقيل: مسح الغبار عن أعناقها وسوقها بيده. وقيل: وسم أعناقهن وارجلهن
فجعلهن في سبيل الله.
وأما الوجه الآخر في هذه الواقعة فما روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين
فأصاب ألف فرس. وقيل: ورثها من ابيه وكان أبوه اصابها من العمالقة. وقيل: أخرجها
الشياطين من مرج من المروج أو من البحر وكانت ذوات أجنحة. فقعد يوماً بعد الظهر
واستعرضها فلم يزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وذلك قوله { حتى توارت } أي
الشمس بدليل ذكر العشي { بالحجاب } حجاب الأفق. وقيل: حتى توارت الخيل بحجاب
الليل وغفل عن العصر، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي فقال { إني أحببت حب
الخير } وهو متضمن معنى فعل يتعدى بعن أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي وجعلت حبها
مغنياً عن ذكر ربي فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقرباً لله وذلك قوله { فطفق مسحاً } قال
جار الله: أي يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقلب لأمن الإلباس كقولهم "عرضت الناقة
على الحوض" قال الراوي: قربها إلا مائة فما في ايدي الناس من الجياد فمن نسلها، وحين
عقرها أبدله الله خيراً منها وهي الريح تجري بأمره. وقيل: الضمير في { ردّوها } للشمس
والخطاب للملائكة تضرع إلى الله فرد الله عليه الشمس فصلى العصر. ومحل القدح في هذه
الرواية هو نسبة سليمان إلى حب الدنيا حتى غفل عن الصلاة وضم بعضهم إلى ذلك أن
قطع أعناق الخيل وعرقبة أرجلها منهي عنه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبح
الحيوان إلا لمأكله. وأجيب بأنه فعل ذلك لأنها منعته عن الصلاة أو لأنه ذبحها للفقراء
والمساكين، قال الزجاج: لم يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له وما أباح الله فليس بمنهي. قال
الإمام فخر الدين الرازي: إن الكفار لما بلغوا في الإيذاء والسفاهة إلى حيث قالوا { ربنا
عجل لنا قطنا } قال لنبيه: اصبر يا محمد على ما يقولون وذاكر عبدنا داود. ثم ذكر عقيبه
قصة سليمان، وهذا الكلام إنما يكون لائقاً لو قلنا إن سليمان أتى في هذه القصة بالأعمال
الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله وأعرض عن الشهوات، فأما لو كان
المقصود أنه أقدم على الكبيرة لم يكن ذكره مناسباً. هذا تمام الكلام في الواقعة الأولى.
وأما الثانية وإليها الإشارة بقوله. { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً }
فالمحققون يروونه على وجوه: أحدها: أن سليمان ولد له ابن بعد أن ملك عشرين سنة
فقالت الشياطين: إن عاش لم نتخلص من البلاء والتسخير فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم
بذلك سليمان فأمر السحاب أن يحفظه ويغذوه خوفاً من مضرة الشياطين، فما راعه إلا أن
ألقي على كرسيه ميتاً فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه فاستغفر ربه وأناب.
وثانيها روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن سليمان قال ذات ليلة: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. وفي
رواية على مائة وفي رواية على ألف- كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل:
إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده
لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعين فذلك قوله { ولقد فتنا
سليمان" . وثالثها قال أبو مسلم: مرض سليمان مرضاً شديداً امتحنه الله به حتى صار
جسداً على كرسيه ملقي كما جاء في الحديث "لحم على وضم وجسد بلا روح" لأن الجسد
يطلق في الأكثر على ما لا روح له. { ثم أناب } أي رجع إلى حالة الصحة. والمشهور عند
الجمهور أن الجسد الملقى على كرسيه كان شيطاناً جلس على سرير ملكه اربعين يوماً،
وذلك أن ملكه كان في خاتمة فأخذ شيطاناً يقال له آصف وقال: كيف تفتنون الناس؟ قال:
أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فذهب ملكه وقعد آصف على
كرسيه. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: بينما سليمان جالس على شاطئ البحر وهو يعبث
بخاتمه إذ سقط في البحر. وقيل: إنه وطئ امرأة في الحيض فذلك ذنبه. وقال في
الكشاف: وغيره حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر وأن بها
ملكاً عظيم الشأن. فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها جنوده من الجن والإنس فقتل
ملكها وأصاب بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهاً، فاصطفاها لنفسه وأسلمت
وأحبها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها. فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة ابيها فكستها
مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتهن في ملكه، فأخبر
آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو
لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، فوضعه عندها يوماً فأتاها الشيطان صاحب البحر وهو
الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس. واسمه صخر - على صورة
سليمان فقال: يا أمينة أعطيني خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه
الطير والجن والإنس. وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته
فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال: أنا سليمان. حثوا
عليه التراب وسبوه فمكث على ذلك أربعين يوماً عدد ما عبد الوثن في بيته. وكان ذلك
الشيطان يقضي بين الناس ويتمكن من جميع ملكه إلا نساءه. وقيل: من جميع ملكه ونسائه
وما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة، فلما أراد الله أن يرد الملك إليه أنكر علماء بني
إسرائيل قضية قضاها الشيطان فأحضروا التوراة، فلما قرؤها فرّ الشيطان وألقى الخاتم في
البحر فابتلعته سمكة فصادها صائد ووهبها لسليمان وأعطاها على أجره عمله يوماً فأخرج
من بطنها الخاتم { ثم أناب } أي رجع على ملكه أو ثاب ووقع ساجداً. ثم إن سليمان ظفر
بالشيطان فجعله في تابوت وسده بالنحاس وألقاه في البحر. والعلماء المتقنون أبوا قبول
هذه الرواية وقالوا: إنها من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل
وإلا ارتفع الأمان عن الشرائع والأديان، وكيف يسلطهم الله على آحاد عباده فضلاً عن أنبيائه
حتى يغيروا أحكامهم ويفجروا بنسائهم. وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع
والسجود للصورة إذا كان بغير إذنه فلا عتب عليه.
وحكى الثعلبي هذه القصة بوجه أقرب إلى القبول وهو أن سليمان لما افتتن بأخذ
التمثال في بيته سقط الخاتم من يده فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط، فلما رآه لا يثبت
في اليد أيقن بالفتنة فقال له آصف: إنك لمفتون فتب إلى الله واشتغل بالعبادة وأنا أقوم
مقامك إلى أن يتوب الله عليك. فقام آصف في ملكه أربعة عشر يوماً وهو الجسد الذي ألقي
على كرسيه، فردّ الله إليه ملكه وأثبت الخاتم في يده. وعن سعيد بن المسيب أن سليمان
احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه: يا سليمان احتجبت عن عبادي وما أنصفت
مظلوماً عن ظالم، ثم ذكر القصة وأخذ الشيطان الخاتم ورجوعه إليه. ثم حكى الله تعالى أن
سليمان قال { رب اغفر لي وهب لي ملكاً } قدم المغفرة على طلب الملك كما هو دأب
الصالحين تقديماً لأمر الدين على أمر الدنيا، ولأن الاستغفار يجر الرزق فإن الإنسان قلما ينفك عن ترك الأولى فإذا زال عنه شؤم ذلك ببركة الاستغفار انفتح عليه أبواب الخيرات.
والذين حملوا الفتنة على صدور الذنب عنه فوجوب الاستغفار عندهم واضح وحملوا قوله
{ لا ينبغي لأحد من بعدي } على أنه سأل ملكاً لا يقدر الشيطان على أن تقوم مقامه.
والأوّلون ذهبوا إلى أنه لم يقل ذلك حسداً وإنما قصد به أن يكون معجزة له، ومن شرط
المعجز أن لا يقدر غيره على معارضته ولا سيما أمته الذين بعث إليهم ولهذا قال بعضهم:
أراد غيري ممن بعثت إليهم ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة. وحقيقة لا ينبغي لا ينفعل من
بغيت الشيء طلبته أي لا يصير مطلوباً لأنه سماوي فوق طوق البشر، أو قصد أن الاحتراز
عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق فإذا كان ملكه آية كان ثوابه على الصبر عنه غاية
ونهاية، أو أراد أن يظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى، وأن ملك
سليمان إذا كان عرضة للفناء فالأولى بالعاقل أن يشتغل بالعبودية ولا يلتفت إلى الدنيا وما
فيها. وقيل: إنه لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا زائلة منتقلة إلى الغير
بإرث ونحوه فطلب ملكاً لا يتصور انتقاله إلى الغير وهو ملك الدين والحكمة. وقال أهل
البيان: لم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان: ما ليس لأحد من الفضل
والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك. والأقوى هو الأوّل بدليل قوله عقيبه { فسخرنا له
الريح } { والشياطين }. ولا ريب أن هذا معجزة وملك عجيب دال على نبوّته ويؤيده ما جاء
في الحديث "أردت أن أربطه - يعني الشيطان - على سارية من سواري المسجد إلا أني
تذكرت دعوة أخي سليمان" والضمير في { بأمره } لسليمان. وقيل: لله. والرخاء الرخوة
اللينة ولا ينافي هذا وصفها بالعصوف في الأنبياء فلعلها تختلف باختلاف الأحوال
والأوقات، أو هي طيبة في نفسها ولكنها عاصفة بالإضافة إلى الرياح المعهودة. ومعنى
أصاب قصد واراد من إصابة السهم. وقوله { والشياطين } معطوف على { الريح } وقوله
{ كل بناء وغواص } بدل الكل من الشياطين. كانوا يبنون لأجله الأبنية الرفيعة ويستخرجون
اللؤلؤ من البحر وهو أوّل من استخراج الدر من البحر { وآخرين } عطف على الشياطين أو
على كل داخل في حكم البدل، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود
والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. والصفد القيد والعطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه
قول عليّ رضي الله عنه:
من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك
وقيل: حقيقته التفويض على الخير والشر. قال الجبائي: إن الشيطان كان كثيف
الجسم في زمن سليمان ويشاهده الناس. ثم إنه لما توفي سليمان أمات الله ذلك الجنس
وخلق نوعاً آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة. قلت: هذا
إخبار بالغيب إلا أن تكون رواية صحيحة. ولم لا يجوز أن تكون أجسامهم لطيفة بمعنى
عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التمزق والتفرق. { هذا عطاؤنا } أي قلنا
لسيلمان هذا الملك عطاؤنا والإضافة للتعظيم. وقوله: { بغير حساب } يتعلق بالعطاء يعني
أنه جم كثير لا يدخل تحت الضبط والحصر فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوّضاً إليك زمام
التصرف فيه. ويجوز أن يتعلق بالأمرين أي ليس عليك في ذلك حرج ولا تحاسب على ما
تعطي وتمنع يوم القيامة. عن الحسن: أن الله لم يعط أحداً عطية إلا جعل عليه فيها حساباً
سوى سليمان فإنه أعطاه عطية هنيئة إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. ويحتمل
أن يراد هذا التسخير تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم الإطلاق، أو
أمسك منشئت منهم بالوثاق، فأنت في سعة من ذلك لا تحاسب في إطلاق من أطلقت
وحبس من حبست وحين فرغ من تعداد النعم الدنيوية أردفه بما أنعم به عليه في الآخرة
قائلاً: { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } كما في قصة داود وفيه أن ثوابه كفء ثواب أبيه
كما أن سيرته سيرة أبيه.
التأويل بصاد صمديته في الأزل وصانعيته في الوسط وصبوريته إلى الأبد. أقسم
بالقرآن ذي الذكر لأن القرآن قانون معالجات القلوب وأعظم مرض القلب من نسيان الله
فأعظم علاجه ذكر الله. ثم أشار غلى انحراف مزاج الكفار بمرض نسيان الله من اللين
والسلامة إلىالغلظ والقساوة، ومن التواضع إلى التكبر، ومن الوفاق إلى الخلاف، ومن
التصديق إلى التكذيب، ومن التوحيد غلى تكثير الآلهة. وفي قوله { واصبروا على آلهتكم }
إشارة إلى أن الكفار إذا تواصوا فيما بينهم بالصير والثبات فالمؤمنون أولى بالثبات على قدم
الصدق في طلب المحبوب الحقيقي { إن هذا لشيء يراد } في الأزل من المقبول والمردود.
{ بل لما يذوقوا عذاب } لأنهم في النوم فإذا ماتوا انتبهوا وأحسوا بالألم فعاينوا الأمر حين
لا ينفع العيان، ويزول الشك في يوم لا يجدي البرهان. { عجل لنا قطنا } النفوس الخبيثة تميل
بطبعها إلى السفليات العاجلة كما أن النفوس الكريمة تميل بطبعها إلى العلويات الباقية،
ولكل من الصنفين جذبة بالخاصية إلى شكله كجذب المغناطيس الحديد. { له تسع وتسعون
نعجة } هن آثار فيوض الصفات الربانية بحسب الأسماء التسعة والتسعين، فلكل منها مظهر
في عالم الملك والخلق { ولي نعجة واحدة } هو ذات الله وحده { فقال أكفلنيها } أي صيرني
أجمع بين الله وبين ما سواه. ثم ههنا أسار كثيرة تفهمها إن شاء الله. { وظن داود أنما
فتناه } امتحناه بالجمع بين الدين والدنيا { فاستغفر } للحق { ربه } { راكعاً وأناب } إلى الله
معرضاً عما سواه. وهذا التأويل مما خطر ببالي أرجو أن يكون مضاهياً للحق: { إنا جعلناك
خليفة } فيه أن الخلافة عطاء من الله وأنها مخصوصة بالإنسان خلق مستعدّاً لها بالقوة، وفيه
أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق
بعالم الصورة. { { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } [الأنعام:
1] { فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً } [فاطر: 1] ووجه الخلافة هو أن
الروح الإنساني أوّل فيض بذاته وصفاته فذاته من ذات الله بلا واسطة، وصفاته من صفاته بلا واسطة فخلق لخليفة منزلاً صالحاً وهو قالبه، وأعد له عرشاً هو القلب ليكون محل
استوائه، ونصب له خادماً وهو النفس، فلو بقي الإنسان على فطرة الله لكان روحه مستفيضاً
من الله تعالى فائضاً لخلافة الحق على عرش القلب، والقلب فائض لخلافة الروح على
خادمه النفس، والنفس فائضه لخلافة القلب على القالب، والقالب فائض لخلافة النفس
على الدنيا، وهي أرض الله فلا يجري شيء من الأمور إلا على نهج الحق. { ووهبنا لداود }
الروح { سليمان } اقلب { إذ عرض عليه بالعشي } وهو بعد زوال شمس التجلي { الصافنات
الجياد } وهي مركب الصفات البشرية. وفي قوله { فطفق مسحاً } إشارة إلى أن كل محبوب
سوى الله إذا حجبك عنه لحظة يلزمك أن تقتله بسيف "لا إله إلا الله" وإليه الإشارة بقوله ثانياً
{ ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه } صدره شيئاً من الشهوات الجسدانية فافتتن به فتاب
ورجع إلى الحضرة. فإن قيل: قوله { لا ينبغي لأحد من بعدي } هل يتناول نبينا صلى الله عليه وسلم؟ قلنا:
يتناوله بالصورة لا بالمعنى: فإن الذي كان مطلوب سليمان من تزكية النفس عن محبة الدنيا
مع القدرة عليها، ومن تحلية القلوب بعلوّ الهمة وبذل المال والجاه وإفشاء العدل والنصفة
وغير ذلك كان حاصلاً للنبي صلى الله عليه وسلم من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتنان به عزة ودلالاً
ولهذا قال في حديث تسلطه على الشيطان "ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته" وكان
يعرض عليه مقاليد الخزائن فيقول: "الفقر فخري" على أن صورة الملك أيضاً مما سيحصل
لبعض أمته كما قال "وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها" .