خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
١١
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَو ٱمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
١٢
تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٣
وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٤
وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي ٱلْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً
١٥
وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
١٦
إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١٧
وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٨
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
١٩
وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
٢٠
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً
٢١
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
٢٢
-النساء

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { واحدة } بالرفع: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالنصب. { فلأمه } وما بعده / بكسر الهمزة لأجل كسرة ما قبلها: حمزة وعلي. الباقون بالضم { يوصي } وما بعد مبنياً للمفعول: ابن كثير وابن عامر ويحيى وحماد والمفضل وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية. الباقون: مبنياً للفاعل. { ندخله } بالنون في الحرفين: نافع وابن عامر وأبو جعفر. الباقون بالياء. وكذلك في سورة الفتح والتغابن والطلاق. { واللذان } بتشديد النون: ابن كثير، وكذلك قوله: { هذان } [طه:63] و{ هاتان } و { أرنا اللذين } [فصلت:29] وأشباه ذلك. وأما قوله { فذانك } فابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وعباس مخير. الباقون: بالتخفيف { كرهاً } بالضم وكذلك في التوبة، حمزة وعلي وخلف. الباقون بالفتح { مبينة } { مبينات } بفتح الياء: ابن كثير وأبو بكر وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب { مبينة } بالكسر { مبينات } بالفتح. الباقون كلها بالكسر.
الوقوف: { الأنثيين } ج { ما ترك } ج { فلها النصف } ط لانتهاء حكم الأولاد { إن كان له ولد } ج { فلأمه الثلث } ج { أو دين } ط { وأبناؤكم } ج لتقديرهم أبناؤكم، ولاحتمال كون آباؤكم مبتدأ وخبره. { لا تدرون } { نفعاً } ج { من الله } ط { حكيماً } ه { لم يكن لهن ولد } ج { دين } ط { منهما السدس } ج { دين } ط لأن غير حال عامله { يوصى } { مضار } ج لاحتمال نصب وصية به كما يجيء { من الله } ط { حليم } ه ط لأن { تلك } مبتدأ { حدود الله } ط { خالدين فيها } ط لأن ما بعده اعتراض مقرر للجزاء. { العظيم } ه { خالداً فيها } ص لأن ما بعده من تتمة الجزاء. { مهين } ه { أربعة منكم } ج لابتداء الشرط مع الفاء. { سبيلاً } ه { فآذوهما } ج { عنهما } ط { رحيماً } ه { عليهم } ط { حكيماً } ه { السيئات } ط لأن حتى إذا تصلح للابتداء وجوابه
{ قال إني تبت } [النساء: 18] وتصلح انتهاء لعمل السيئات { وهم كفار } ط { أليماً } ه { كرهاً } ط للعدول عن الإخبار إلى النهي { مبينة } ج للعارض بين المتفقين { بالمعروف } ج { كثيراً } ه { شيئاً } ط { مبيناً } ه { غليظاً } ط { ومقتاً } ط { سبيلاً } ه.
التفسير: إنه تعالى لما بين حكم مال الأيتام وما على الأولياء فيه، بيَّن أن اليتيم كيف يملك المال إرثاً ولم يكن ذلك إلا بيان جملة أحكام الميراث. أو نقول: أجمل حكم الميراث في قوله: { للرجال نصيب } و{ للنساء نصيب } ثم فصل ذلك بقوله { يوصيكم الله } أي يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم. واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: النسب والعهد. أما النسب فكانوا يورثون الكبار به ولا يورثون الصغار والإناث كما مر، وأما العهد فالحلف أو التبني كما سيجيء في تفسير قوله:
{ والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [النساء:33] وكان التوريث بالعهد مقرر في أول الإسلام مع زيادة سببين آخرين: أحدهما الهجرة. فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبياً عنه إذا كان بينهما مزيد مخالطة ومخالصة، ولا يرثه غيره وإن كان من أقاربه. والثاني المؤاخاة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم فيكون سبباً للتوارث. والذي تقرر عليه الأمر في الإسلام إن أسباب التوريث ثلاثة: قرابة ونكاح وولاء. والمراد من الولاء أن المعتق يرث بالعصوبة من المعتق. روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث بنت حمزة من مولى لها" . ووراء هذه الأسباب سبب عام وهو الإسلام، فمن مات ولم يخلف من يرثه بالأسباب الثلاثة فماله لبيت المال يرثه المسلمون بالعصوبة كما يحملون عنه الدية. قال صلى الله عليه وسلم: " أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه " وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يوضع ماله في بيت المال على سبيل المصلحة لا إرثاً، لأنه لا يخلو عن ابن عم وإن بعد فألحق بالمال الضائع الذي لا يرجى ظهور مالكه. وإنما بدأ سبحانه بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ثم للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع أبوي الميت. أما حال الانفراد فثلاث ذكور وإناث معاً، أو إناث فقط، أو ذكور فقط. أما الحالة الأولى فبيانها قوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } أي للذكر منهم، فحذف الراجع للعلم به وفيه أحكام ثلاثة: أحدها: خلف ذكراً واحداً وأنثى واحدة فله سهمان ولها واحد. وثانيها: خلف ذكوراً وإناثاً لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم. وثالثها: خلف مع الأولاد جمعاً آخرين كالزوجين، فهم يأخذون سهامهم والباقي بين الأولاد لكل ذكر مثل نصيب أنثيين. وإنما لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر إشعاراً بفضيلته كما ضوعف حظه لذلك، ولأن الابتداء بما ينبىء عن فضل أحد أدخل في الأدب من الابتداء بما ينبىء عن النقص، ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث فكأنه قيل لهم: كفى الذكور تضعيف من النصيب، فيقطعوا الطمع عن الزيادة. وأما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب النساء من المال أقل من نصيب الرجال، فلنقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الحديث، ولأن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن، أو لكثرة الشهوة فيهن فقد يصير المال سبباً لزيادة فجورهن كما قيل:

إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده.

فيكف حال المرأة؟ وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ورفعتها إلى آدم. فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل. وأما الحالة الثانية فهن أكثر من اثنتين أو اثنتان أو واحدة. وحكم / القسم الأول مبين في قوله: { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } وحكم القسم الثالث في قوله: { وإن كانت واحدة فلها النصف } فمن قرأ بالرفع على "كان" التامة فظاهر، ومن قرأ بالنصب فالضمير في كانت إما أن يعود إلى النساء وجاز لعدم الإلباس بدليل واحدة، وإما أن يعود إلى غائب حكمي أي إن كانت البنت أو المولودة. وقراءة النصب أوفق لقوله: { فإن كن نساء } وقراءة الرفع أيضاً حسنة لئلا يحتاج إلى التكلف في عود الضمير. وجوّز صاحب الكشاف أن يكون الضمير في { كن } و { كانت } مبهمة وتكون { نساء } و { واحدة } تفسيراً لهما على أن "كان" تامة. وأما القسم الثاني وهو حكم البنتين فغير مذكور في الآية صريحاً فلهذا اختلف العلماء فيه. فعن ابن عباس أن فرضهما النصف كما في الواحدة، لأن الثلثين فرض البنات بشرط كونهن فوق اثنتين، فإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وعورض بأن النصف أيضاً مشروط بالوحدة. أقول: ولعله نظر إلى أن الاثنتين أقرب إلى الواحد من الأعداد غير المحصورة التي فوق الإثنتين سوى الثلاثة، والحمل على الأقرب أولى. وقال الأكثرون من الصحابة وغيرهم: إن فرضهما الثلثان لأن من مات وخلف ابناً وبنتاً فللبنت الثلث بالآية، فيلزم أن يكون للبنتين الثلثان. وأيضاً نصيب البنت مع الولد الذكر الثلث، فلأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث أولى لأن الذكر أقوى من الأنثى. وعلى هذا فكان قوله: { للذكر مثل حظ الأنثيين } دالاً على أنثيين، فذكر بعد ذلك أنهن وإن بلغن ما بلغن من العدد لم يتجاوز الثلثين. وقيل: إن البنتين أمس رحماً بالميت من الأختين، لكنه تعالى يقول في آخر السورة { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان } فالبنتان أولى وهذا قياس جلي، ومما يؤيده أنه تعالى لم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ليقاس ميراثهن على ميراث البنات الكثيرة كما يقاس ميراث البنتين على الأختين. وقيل: لفظ { فوق } وهو صفة نساء أو خبر بعد خبر للتأكيد، أو ليخرج أقل الجمع وهو اثنان زائد كقوله: { فاضربوا فوق الأعناق } [الأنفال:12] وقيل: فيه تقديم وتأخير والمراد: فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما. وعن جابر بن عبد الله قال: "جاءت امرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس، أو قالت: سعد بن الربيع، قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما. فقال: يقضي الله في ذلك ونزلت هذه الآية. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع لي المرأة وصاحبها. فقال لعمهما: أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك" .
وأما الحالة الثالثة وهو ما إذا كان الأولاد ذكوراً فقط فلم يذكر في الآية، لأنه لما علم أن للذكر مثل حظ الأنثيين وقد تبين أن للبنت الواحدة النصف، علم منه أن للابن الواحد الكل، وإذا كان للواحد الكل، فإذا كانوا أكثر من واحد لم يحسن حرمان بعضهم ولا / ترجيح بعضهم فيكون المال مشتركاً بينهم بالسوية. وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: " وما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر" ولا نزاع في أن الابن عصبة ذكر، فإذا لم يكن معه صاحب فرض فله كل المال لا محالة. والنص: سألت عن ولد الولد فقيل: اسم الولد يقع على ولد الابن أيضاً لقوله تعالى: { يا بني آدم } [الأعراف:31] { يا بني إسرائيل } [البقرة:40، 47، 122 وغيرها من الآيات]. وقيل: قيس ولد الولد على الولد لما أنه كولد الصلب في الإرث والتعصيب، ولكنه لا يستحق شيئاً مع أولاد الصلب على وجه الشركة، وإنما يستحق إذا لم يوجد ولد الصلب رأساً، أو لا يأخذ كما في مسألة بنت واحدة وبنت ابن فإنهما يأخذان الثلثين. واعلم أن عموم قوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } مخصوص بصور منها: أن العبد والحر لا يتوارثان. ومنها أن القاتل لا يرث. ومنها أن لا يتوارث أهل ملتين والمرتد ماله فيء لبيت المال سوءا اكتسب في الإسلام أو في الردة. وعند أبي حنيفة: ما اكتسب في الإسلام يرثه أقاربه المسلمون. ومنها أن الأنبياء لا يورثون خلافاً للشيعة. روي أن فاطمة رضي الله عنها لما طلبت الميراث احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" واحتجت بقوله تعالى حكاية عن زكريا { يرثني ويرث من آل يعقوب } [مريم:6] وبقوله: { وورث سليمان داود } [النمل:16]، والأصل في التوريث للمال، ووراثة العلم أو الدين مجاز. وبعموم قوله: { يوصيكم الله في أولادكم } ولأن المحتاج إلى هذه المسألة ما كان إلا علياً وفاطمة والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء في الدين. وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان يخطر بباله أنه يرث الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة؟ وأيضاً يحتمل أن يكون قوله: "ما تركناه صدقة" صلة لقوله: "لا نورث" والمراد أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث ولعل فائدة تخصيص الأنبياء بذلك أنهم إذا عزموا على التصدق بشيء فمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم فلا يرثه وارثهم عنهم. أجابوا بأن فاطمة رضي الله عنها رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الإجماع على ما ذهب إليه أبو بكر. واعلم أن جميع ما ذكرنا إنما هو في حالة انفراد الأولاد، أما حالة اجتماعهم بالأبوين فذلك قوله: { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } والمراد بالأبوين الأب والأم. فغلب جانب الأب لشرفه، ومثله من التغليب في التثنية "القمران" و"العمران" و "الخافقان". / والضمير في { أبويه } يعود إلى الميت المعلوم من سياق الكلام في الميراث و { لكل واحد منهما } بدل من { لأبويه } بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس لأوهم اشتراكهما فيه. ولو قيل: ولأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما بالتساوي أو بالتفاوت. ولو قيل: ولكل واحد من أبويه السدس لفاتت فائدة الإجمال والتفصيل والإبهام والتفسير. فقوله: { السدس } مبتدأ وخبره { لأبويه } وقد توسط البدل بينهما للبيان. واعلم أن للأبوين ثلاث أحوال: الأولى أن يحصل معهما ولد ولا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر وعلى الأنثى فههنا ثلاثة أوجه: أحدها أن يحصل معهما ولد ذكر واحد أو أكثر فللأبوين لكل واحد منهما السدس. والباقي للأولاد بالسوية. وثانيها أن يحصل معهما بنتان أو أكثر، فالحكم كما ذكر. وثالثها أن يكون معهما بنت واحدة فههنا للبنت النصف وللأم السدس وللأب السدس بحكم الآية، والباقي للأب بحكم التعصيب. فإن قيل: إن حق الوالدين على الولد مما لا يخفى فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل؟ فالجواب - والله أعلم - أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل غالباً، أما الأولاد فهم في زمان الصبا فاحتياجهم إلى المال أكثر وأيضاً كأنهما قالا بلسان الحال للأطفال: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً. وأيضاً ولد الولد ولد، وترفيه حال الولد أهم عند الوالدين من ترفيه حالهما. الحالة الثانية أن لا يكون معهما أحد من الأولاد ولا وارث سواهما وهو المراد بقوله: { فإن لم يكن له ولد وروثه أبواه } أي فقط { فلأمه الثلث } ويعلم منه أن الباقي يكون للأب فيكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحصل للاب السدس بالفرضية، والنصف بالعصوبة، ولأنه تعالى قيد فرضية الثلث للأم بأن يكون الوارث منحصراُ في الأبوين اختلف العلماء في أنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فكيف يكون فرض الأم؟ فقال ابن عباس: يدفع إلى الزوج نصيبه أو إلى الزوجة نصيبها، وللأم الثلث بحالة والباقي للأب. وذهب الأكثرون إلى أن الزوج أو الزوجة لهما نصيبهما، ثم يدفع ثلث ما بقي إلى الأم والباقي للأب ليكون للذكر مثل حظ الأنثيين كما هو قاعدة الميراث عند اجتماع الذكر والأنثى، فيكون الأبوان كشريكين بينهما مال، فإذا صار شيء منه مستحقاً بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأوّل. وأيضاً الزوج إنما يأخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة فأشبه الوصية في قسمة الباقي. وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين. فإنا إذا دفعنا الربع إلى الزوجة، والثلث إلى الأم بقي للأب الثلث ونصف السدس أكثر ما للأم، وخالفه في الزوج والأبوين لأنه إذا دفع إلى الزوج النصف وإلى الأم الثلث يبقى للأب السدس فيكون للأنثى مثل حظ الذكرين. هذا عكس قوله تعالى: { للذكر مثل حظ الأنثيين } الحالة الثالثة أن يوجد معها الإخوة والأخوات وذلك قوله: { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } واتفقوا على أن واحداً من الإخوة أو الأخوات لا يحجب الأم من الثلث إلى السدس، واتفقوا على أن ثلاثة منهم يحجبون لكن الاثنين مختلف فيهما. فالأكثرون من الصحابة ذهبوا إلى إثبات الحجب بهما كما في الثلاثة بناء على أن الاثنين جمع لوجود التعدد في التثنية فما فوقها، فصح أن يتناول الأخوة للأخوين واستقراء باب الميراث يؤيد ذلك، فإنه جعل نصيب البنتين الثلثين مثل نصيب البنات وكذلك للأختين والأخوات. وذكر الشيخ الكامل محيي الدين بن العربي في الفتوحات أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن خلاف الأئمة في أن أقل الجمع اثناء أو ثلاثة، فعلمه أن أقل الجمع في الشفع اثنان وفي الوتر ثلاثة. وقال صلى الله عليه وسلم: " الاثنان فما فوقهما جماعة " وقد احتج ابن عباس بذلك على عثمان فقال: كيف تردّها إلى السدس بالأخوين وليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع رد شيء كان قبلي ومضى في البلدان. فأشار إلى إجماعهم قبل أن يظهر ابن عباس الخلاف. ثم إن الاثنين أو الثلاثة إذا حجبوا الأم عن السدس، فذلك السدس يكون لهم حتى يبقى للأب الثلثان، أو لا يكون لهم شيء من الميراث ويكون خمسة الأسداس للأب. ذهب ابن عباس إلى الأوّل، وذهب الجمهور إلى الثاني إذ لا يلزم من كون الشخص حاجباً كونه واراثاً ولم يرد لهم ذكرإلا بالحجب فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين. ثم ذكر أن هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء من بعد وصية يوصى بها أو دين. حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق. وإذا لم يكن أو كان لكنه قضى وفضل بعده شيء. فإن أوصى الميت وصية أخرجت من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله تعالى. عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية" . والمراد أنه لا عبرة بالتقديم في الذكر لأن كلمة أو لا تفيد الترتيب ألبتة، وإنما استفيد الترتيب من السنة عكس الترتيب في اللفظ. وفائدة هذا العكس أن الوصية تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فكان أدواؤها مظنة التفريط بخلاف الدين، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فكان في تقديمها ترغيب لهم في أدائها، ولهذا جيء بكلمة أو دلالة على التسوية بينهما في الوجوب، ولأن كل مال ليس يحصل فيه الأمران فجيء بأو الفاصلة ليدل على أنه إن كان أحدهما فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما فالوصية تشبه الدين من جهة أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد كل منهما. ولكنها تفارق الدين من جهة / أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية كما في الإرث بخلاف الدين فإنه يبقى بحاله.
ثم قال: { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } قال أبو البقاء { أيهم } مبتدأ و{ أقرب } خبره، والجملة في موضع نصب بـ { تدرون } وهي معلقة عن العمل لفظاً لأنها من أفعال القلوب. وأقول: من الجائز أن لا تكون من أفعال القلوب بل تكون بمعنى المعرفة، وكان { أيهم } مفعولة مبنياً لحذف صدر الصلة نحو
{ لننزعن من كل شيعة أيهم أشد } [مريم:69] قال المفسرون: هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم، وبين قوله: { فريضة من الله } ومن حق الاعتراض أن يناسب ما اعترض بينه ويؤكده. فقيل: هذا من تمام الوصية أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، من أوصى منهم أم من لم يوص. يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً وأحضر جدوى ممن ترك الوصية عليكم عرض الدنيا وجعل الثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة إلا أنه فانٍ فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: عن ابن عباس أن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع, وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه سأل أن يرفع ابنه إليه. فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعة في الجنة بهذا اكثر أم بذلك. وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عند حكمة، والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات. فلو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع فوضعتم أنتم الأموال في غير موضعها. وقيل: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة الإنفاق والذب عنه، فلا يدري أن الابن سيحتاج إلى أن ينفق الأب عليه أو الأب سيفتقر إلى الابن. وقيل: المقصود جواز أن يموت هذا قبل: ذلك فيرثه وبالضد، والقول هو الأوّل. { فريضة من الله } نصبت على أنها صفة تقوم مقام المصدر المؤكد أي فرض الله ذلك فرضاً { إن الله كان عليماً } بكل المعلومات فيكون عالماً بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد { حكيماً } لا يأمر إلا بما هو الأحسن الأصلح. قال الخليل: "كان" ههنا منخلع عن اعتبار الاقتران بالزمان، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ولكنه من الأزل إلى الأبد عليم حكيم. وقال سيبويه: إن القوم لما شاهدوا علماً وحكمة تعجبوا فقيل لهم: إن الله كان كذلك أي لم يزل موصوفاً بهذه الصفات. هذا واعلم أن الوارث إما أن يكون متصلاً يالميت بغير واسطة أو بواسطة. وعلى الأول فسبب الاتصال / إما أن يكون هو النسب أو الزوجية. فهذه ثلاثة أقسام: الأوّل قرابة التوالد الفروع والأصول وهو أشرف الاتصالات لعدم الواسطة ولكثرة المخالطة ولغاية الألفة والشفقة، ولهذا قدّم في الذكر. ويتلوه في الشرف القسم الثاني لمثل ما قلنا ولهذا أردفه بالقسم الأول وذلك قوله: { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } إلى قوله { توصون بها أو دين } ثم بيَّن أحوال القسم الثالث وهو الكلالة في قوله: { وإن كان رجل يورث كلالة } فما أحسن هذا النسق. ولما جعل في الموجب النسبيّ حظ الرجل مثل حظ الأنثيين، فكذلك جعل في الموجب السببي وهو الزوجية حظ الزوج ضعف حظ الزوجة. وقد نبه في الآية على فضل الرجال حيث ذكرهم على سبيل المخاطبة ثمان مرات، وذكرهن على الغيبة أقل من ذلك. ثم الواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن، ولا فرق في الولد بين الذكر والأنثى، ولا بين الابن وابن الابن، ولا بين البنت وبنت الابن، ويخرج منه ولد البنت لأنه لا يرث. وههنا مسألة. قال الشافعي: يجوز للزوج غسل زوجته لأنها بعد الموت زوجته بدليل قوله تعالى: { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنها ليست زوجته، ولو كانت زوجته لحل له وطؤها لقوله: { إلا على أزواجكم } [المؤمون: 6] وأجيب بأنه لو كانت زوجته له لكان قوله { ما ترك أزواجكم } مجازاً. ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل له وطؤها لزم التخصيص وإذا تعارض المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى كما بين في أصول الفقه. وكيف لا وقد علم في صور كثيرة حصول الزوجية مع حرمة الوطء كزمان الحيض والنفاس ونهار رمضان وعند اشتغالها بالصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدّة عن الوطء بالشبهة. وأيضاً حل الوطء ثابت على خلاف الأصل لما فيه من المصالح، وعند الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة، أما حل الغسل ففيه مصالح فوجب القول ببقائه. واختلفوا في تفسير الكلالة فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيه برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه. الكلالة ما خلا الوالد والولد. وعن عمر رضي الله عنه: الكلالة من لا ولد له فقط. وعنه في رواية أخرى التوقف. وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بينهم الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة والخلافة والربا. وقيل: الكلالة القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة كما تقول: ما صمت عن عيّ. قال الفرزدق:

ورثتم قناة الملك لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

والمختار الصحيح من الأقوال قول أبي بكر لأن الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى:

فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمداً

فاستعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لأنها بالإضافة إلى قرابة الأصول والفروع كلالة ضعيفة. ويحتمل أن يقال: هي من الإكليل لأنهم يحيطون بالإنسان إحاطة الإكليل بالرأس بخلاف قرابة الولادة فإنها تذهب على الاستقامة كما قال:

نسب تتابع كابراً عن كابر كالرمح أنبوباً على أنبوب

وأيضاً فإنه تعالى قال في آخر السورة { قل الله يفتيكم في الكلالة إنْ امرؤا هلك ليس له ولد } [الآية:176] فاحتج عمر بذلك. والجواب أنه تعالى حكم في تلك الآية بتوريث الإخوة والإخوات حال كون الميت كلالة. ولا شك أن الإخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فيلزم أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين. وأيضاً إنه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة، ثم أتبعها ذكر الكلالة. وهذا الترتيب يقتضي أن يكون الكلالة من عدا الوالدين والولد، ثم الكلالة قد يجعل وصفاً للمورث. والمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد، ويمكن أن يحمل عليه بيت الفرزدق أي ما ورثتم الملك عن الأعمام بل عن الآباء، فسمىالعم كلالة وهو ههنا مورث لا وارث. وقد يجعل وصفاً للوارث ومنه قول جابر: "مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة" وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد. ويقال: رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والجلالة، وإذا جعلت صفة للوارث أو المورث كانت بمعنى ذي كلالة كما يقال: فلان من قرابتي أي من ذوي قرابتي. ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة يقال: رجل هجاجة وفقاقة كلاهما بالتخفيف أي أحمق. وقوله تعالى: { وإن كان رجل يورث } فيه احتمالان: الأول وهو قول عطاء والضحاك: أن يكون مأخوذاً من ورث الرجل يرث فيكون الرجل هو الموروث منه، وينتصب كلالة على الحال أو على أنه خبر "كان" و { يورث } صفة رجل. ويجوز أن يكون مفعولاً له أي يورث لأجل كونه كلالة. والثاني وهو قول سعيد بن جبير أن يكون مبنياً للمفعول من أورث فالرجل حينئذٍ هو الوارث، وينتصب كلالة على الوجوه المذكورة. قيل: ما السبب في أنه قال: { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة } ثم قال: { وله أخ } فكنى عن الرجل ولم يكن عن المرأة؟ والجواب أنه إذا جاء حرفان في معنى واحد جاز إسناد التفسير / إلى أيهما أريد، وجاز إسناد إليهما أيضاً. تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله أو فليصلها. والترجيح بالتذكير للشرف معارض بالتأنيث للقرب. وإن قلت: فليصلهما جاز أيضاً. ولعل التوحيد والتذكير في الآية أولى إما لأن الرجال في الأحكام أصل والنساء تبع لهم، وإما بتأويل أحد المذكورين. ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد من الأخ والأخت ههنا الأخ والأخت من الأم، ويدل عليه ما نسب إلى أبيّ وسعد بن أبي وقاص: { وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما } أي من الأخ والأخت { السدس } من غير مفاضلة الذكر على الأنثى. هذا على الاحتمال الأوّل وهو أن الرجل مورث منه. وأما على الاحتمال الثاني وهو أن الرجل وارث فالضمير عائد إلى الرجل وإلى واحد من أخيه أو أخته. والمعنى مثل الأوّل، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. ثم قال { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } فبيّن أن نصيبهم كيفما كانوا لا يزداد على الثلث. وقد يسند الإجماع إلى هذا بيانه أنه قال في آخر السورة { قل الله يفتيكم في الكلالة } [النساء:176] وأثبت للأختين الثلثين وللإخوة كل المال، وههنا أثبت للإخوة، والأخوات السدس عند الانفراد، والثلث عند الاجتماع، فعلم أن المراد من الإخوة والأخوات ههنا غير المراد من الإخوة والأخوات في تلك الآية. فالمراد ههنا الإخوة والأخوات من الأم وهم الأخياف، وهناك الإخوة والأخوات من الأب والأم وهم الأعيان، أو من الأب وهم أولاد العلات. فالكلالة وإن كانت عامة لمن عدا الوالد والولد إلا أنها في الآية خاصة كما بيَّنا { غير مضار } حال أي يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته. ومن قرأ { يوصى } مبنياً للمفعول فعامل الحال محذوف يدل عليه المذكور أي يوصى إذا علم أن ثمة موصياً والضمير فيه وهو ذو الحال يعود إلى رجل على تقدير أنه المورث، أو إلى الميت الدال عليه سياق الكلام أي إن كان الرجل وارثاً وضرار الورثة بأن يوصي بأزيد من الثلث أو بالثلث فما دونه ونيته مضارة الورثة ومغاضبتهم وقطع الميراث عنهم لا وجه الله. وقد يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه، أو يبيع شيئاً بثمن بخس، أو يشتري شيئاً بثمن غال، كل ذلك لئلا يصل المال إلى الورثة. قال العلماء: الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان في المال قلة وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان بالعكس أوصى على قانون العدالة, وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس: أن الإضرار في الوصية من الكبائر، ويروى مرفوعاً وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل / ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة" وعنه " من قطع ميراثاً فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة " { وصية من الله } نصب على المصدر المؤكد أو على أنه مفعول { مضار } أي لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث، أو وصية من الله بالأولاد لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية { والله عليم } بمن جار في وصيته أو عدل { حليم } عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة، وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
ثم أكد الوعيد بالترغيب والترهيب فقال: { تلك حدود الله } وهو إشارة إلى جميع ما ذكر في السورة من أحكام اليتامى والوصايا والمواريث وغيرها، وهي الشرائع التي لا يجوز للمكلف أن يتجاوزها ويتخطاها إلى ما ليس له بحق. وقوله: { ومن يطع الله } { ومن يعص الله } عام في هذه التكاليف وفي غيرها، كما أن الوالد يقبل على ولده ويؤدبه في أمر مخصوص، ثم يقول احذر مخالفتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور. وإنما قيل: { يدخله } و { خالدين } حملاً على لفظ "من" ومعناه. وانتصب { خالدين } و{ خالداً } على الحال. ولا يجوز أن يكونا صفتين لـ { جنات } و { ناراً } لأنهم جريا على غير من هماله، فكان يلزم حينئذٍ أن يقال: خالدين هم فيها وخالداً هو فيها. قالت المعتزلة: الآية تدل على القطع بوعيد الفساق وخلودهم وذلك أن التعدي في جميع حدود الله محال، لأن من حدوده ترك اليهودية والنصرانية والمجوسية، والتعدي فيها هو الإتيان بجميعها وذلك محال. فإن المراد تعدّي أي حدّ كان، ولأن الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكون المراد التعدي في هذه الحدود، وأجيب بما مر من أن ذلك مشروط عندكم بعدم التوبة، فأي مانع لنا من أن نزيد فيه شرطاً آخر وهو عدم العفو. وبأن الآية لعلها مخصوصة بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ أي: ومن يعص الله في كذا وفي كذا. وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر. نعم يخرج منه ما يخصصه دليل عقلي كما ذكرتم من استحالة الجمع بين اليهودية والنصرانية، ومما يؤكد كون الآية مخصوصة بالكافر أن قوله: { ومن يعص الله ورسوله } يفيد كونه فاعلاً للمعاصي. فلو كان المراد من قوله: { ويتعد حدوده } أيضاً ذلك لزم التكرار فوجب حمله على الكفر. وإن سلم أن المراد هو التعدي في حدود المواريث فلعل المراد من التعدي هو اعتقاد كونها لا على وجه الحكمة والصواب ويلزم منه الكفر والله أعلم بمراده. قوله عم طوله: { واللاتي يأتين / الفاحشة } الآية. وجه النظم فيه أن التغيلظ عليهم في باب الفاحشة من جملة الإحسان إليهن المأمور به في الآيات المتقدمة. وفيه أن مدار الشرع على العدل والإنصاف والاحتراز في كل باب من طرفي التفريط والإفراط،، فلا ينبغي أن يصير الإحسان إليهن سبباً لترك إقامة الحدود عليهن. واللاتي جمع التي وفيه لغات: اللائي بالهمزة، واللواتي واللواتي فكأنهما جمعا الجمع. وقد تحذف الياآت من الأربعة، وقد تسهل همزة اللائي بين الهمزة والياء لكونها مكسورة لقراءة ورش
{ واللائي يئسن من المحيض } [الطلاق:4] وقد يقال: اللاي بياء ساكنة بعد الألف من غير همز، وقد يقال: اللوا بحذف التاء والياء معاً. وقد يقال: اللاآت كاللامات. قال ابن الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان التي، ومن الحيوان اللاتي كقوله: { أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } [النساء: 5] وقال في هذه الآية { واللاتي } لأن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد بخلاف جمع الحيوان فإن كل واحد منهما متميز عن غيره بخواص وصفات. ومن العرب من يلغي هذا الفرق. والفاحشة الفعلة المتزايدة في القبح مصدر كالعافية. وأجمعوا على أنها الزنا ههنا. قال المحققون: خصص هذا العمل بالفاحشة لأن القوى البدنية نطقية وغضبية وشهوية، وفساد الأولى الكفر والبدعة وأمثالها، وفساد الثانية القتل بغير حق ونحوه، وفساد الثالثة الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وهذه أخص الجميع. ومعنى { من نسائكم } من زوجاتكم أو من الحرائر أو من نسائكم المؤمنات والثيبات أقوال. { فاستشهدوا عليهم أربعة منكم } احتياطاَ لأمر الزنا. والمراد بقوله: { منكم } أي من رجالكم. قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود فإن شهدوا مفصلاً مفسراً كقولهم: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أو كالرشاء في البئر. ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم لا بمعنى عرضي كالحيض، ولا مع تحليل عالم كالمتعة، ولا بشبهة { فأمسكوهن في البيوت } خلدوهن محبوسات في بيوتكم { حتى يتوفاهن الموت } أي ملائكة الموت أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن { أو يجعل الله لهن سبيلاً } بالنكاح أو بالحد. { واللذان يأتيانها منكم } يعني الزاني والزانية أو اللائط والملوط { فآذوهما } فوبخوهما وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله أما لكما في النكاح مندوحة عن هذه؟ { فإن تابا وأصلحا } وغيرا الحال { فأعرضوا عنهما } فاقطعوا التوبيخ والذم، أو خوطب الشهود الذين عثروا على سرهما أن يهددوهما بالرفع إلى الإمام والحد فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عن العرض على الإمام. واعلم أن للعلماء خلافاً في الآيتين. فعن الحسن أن الثانية مقدمة في النزول. أمروا بإيذاء الزانيين أولاً ثم أمروا بإمساك النساء في / البيوت إلى أن يتبين أحوالهن. وقال السدي: المراد بهذه الآية البكر من الرجال والنساء، وبالآية الأولى الثيب. وعن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات وحدّها الحبس إلى الموت إلا أن يخلصهن الله، والثاني في اللائطين وحدّهما الأذى بالقول والفعل. والدليل على ذلك تذكير اللذان ولفظ منكم أي من رجالكم كما في قوله: { أربعة منكم } وأما الزنا من الرجل والمرأة فذلك في سورة النور وحدّه في البكر الجلد وفي المحصن الرجم، وعلى هذا لايلزم نسخ شيء من الآيات ولا تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين. وزيف قول أبي مسلم بأنه قول لم يقل به أحد، وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواطة ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية. وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم دليل على أن الآية ليست في اللواطة. وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد - وهو من أكابر المفسرين - على أنه بيّن في الأصول أن استنباط تأويل جديد جائز، وأيضاً كان مطلوب الصحابة معرفة حدّ اللوطيّ وكمية ذلك وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح للحد. وجمهور المفسرين على أن الآيتين في الزنا وأنهما منسوختان لما روى مسلم في كتابه عن عبادة بن الصامت "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد له وجهه فأنزل عليه ذات يوم فلقي كذلك، فلما سري عنه قال: خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" . ثم استقر الأمر آخراً على أن البكر يجلد ويغرّب والثيب يرجم فقط. وقيل: إن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد. وعن أصحاب أبي حنيفة أن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد نسخت بدلائل الرجم. وقال في الكشاف: من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوماً بالكتاب والسنة ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال. وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث. وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلاً. ثم إن ذلك السبيل كان مجملاً، فلما قال صلى الله عليه وسلم: خذوا عني الثيب يرجم والبكر يجلد وينفى. صار في هذا الحديث بياناً لتلك الآية لا ناسخاً لها، وصار أيضاً مخصصاً لعموم آية الجلد والله تعالى عليم. ثم أخبر عن المستحقين لقبول التوبة وعن المستحقين لعدم القبول فقال: { إنما التوبة على الله } واجبة وجوب الوعد والكرم لا وجوباً يستحق بتركه الدم { للذين يعملون السوء بجهالة } قال أكثر المفسرين: كل من عصى فهو جاهل وفعله جهالة. ولهذا قال موسى: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [البقرة:67] لأنه حيث لم / يستعمل ما معه من العلم بالعقاب والثواب فكأنه لا علم له. وبهذا التفسير تكون المعصية مع العلم بأنها معصية جهالة. وقيل: المراد أنه جاهل بعقاب المعصية. وقيل: المراد أن يكون جاهلاً بكونها معصية لكنه يكون متمكناً من تحصيل العلم بكونها معصية، ولهذا أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية لأنه متمكن من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنباً ومعصية، وأن النائم أو الساهي لا يستحق العقاب لأنه أتى بالقبيح غير متمكن من العلم بكونه قبيحاً. أما المتعمد فإنه لا يكون داخلاً تحت الآية وإنما يعرف حاله بطريق القياس، وإنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة فلأن تكون واجبة على العامد أولى لأنه عالم بقبح تلك المعصية. أما قوله: { ثم يتوبون من قريب } فقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب قبل حضور زمان الموت ونزول سلطانه ومعاينة أهواله. وإنما كان ذلك الزمان قريباً لأن الأجل آتٍ وكل ما هو آتٍ قريب، ولأن مدة عمر اإنسان وإن طالت إذا قيست إلى طرفي الأزل والأبد كانت كالعدم، ولأن الإنسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب. و"من" في { من قريب } إما لابتداء الغاية أي يجعل مبتدأ توبته من زمان قريب من المعصية، أو للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زماناً قريباً لما قلنا ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد ألا ترى إلى قوله: { حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراء ذلك في حكم القرب. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " والفائدة في قوله: { فأولئك يتوب الله عليهم } بعد قوله: { إنما التوبة على الله } أن الأوّل إعلام بأنه يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان, والثاني إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو المراد بالأوّل توفيق التوبة والإعانة عليها، وبالثاني قبولها { وكان الله عليماً } بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه { حكيماً } يجب في كرمه قبول توبتة العبد إذا تاب من قريب. قال المحققون: قرب الموت وهو وقوعه في الشدائد بحيث يغلب على ظنه نزول الموت كما في القولنج، وفي حالة الطلق، وعند تلاطم الأمواج مع انكسار السفينة لا يمنع من قبول التوبة، بل التوبة حينئذٍ أولى بالقبول لقوله: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } [النمل:62] وإنما المانع من قبوله معاينة سلطان الموت ومشاهدة أحواله وأهواله بحيث تصير معرفته بالله ضرورية كما لأهل الآخرة، وحينئذٍ يسقط التكليف عنه إذ لم يبق في يده زمام الاختيار، وأفضى الأمر إلى حد الإلجاء والإجبار. وههنا بحث للأشاعرة وهو أن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتاً، ويشاهدون أيضاً أهوال القيامة فيستدلون بها على وجود الفاعل، فكيف يكون ذلك العلم ضرورياً؟ وبتقدير كونه ضرورياً فلم يمنع ذلك صحة التكليف؟ وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الإله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم وأنه لا تنفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه وأيضا العلم النظري هو الذي لا يكون معه تجويز نقيضه، وعلى هذا فلا فرق بينه وبين الضروري ألبتة، وعلى هذا فكيف يصير النظري موجباً للتكليف، والضروري مانعاً من التكليف؟ فثبت ضعف هذا الفرق، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهو بفضله وعد وقبل التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردوداً والمردود مقبولاً { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } [الأنبياء:23] وأقول: التحقيق فيه أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وقوله صدق وأمره حق، وقد عين لعبيده حالين: دنيا وعقبى. وقد أخبر أنه جعل الدنيا دار العمل، والعقبة دار الجزاء، وليس لأحد عليه اعتراض أنه لم يعكس الأمر. ثم إن لليقين مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وليس ببعيد أن لا يكون عليم اليقين منافياً للتكليف، ويكون عين اليقين منافياً له. ثم عطف قوله: { ولا الذين يموتون } على { للذين يعملون السيئات } تسوية بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم لأن حضرة الموت أوّل أحوال الآخرة، فكما إن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل منهما الحد المضروب للتوبة. أو المعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القريب من الموت، أو المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم. { أولئك أعتدنا لهم } أي أعددنا الوعيد نظير قوله: { فأولئك يتوب الله عليهم } في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. قالت الوعيدية: المعطوف مغاير للمعطوف عليه. لكن الطائفة الثانية كفار فالأوّلون فساق لكنهما مشتركان في العذاب الأليم، فثبت أن حكمهما واحد. وأجيب بأن { أولئك } إشارة إلى أقرب المذكورين، ويعضده أن الكفار أشنع قولاً من الفساق، أو الطائفة الأولى هم الذين عاشوا على الكفر ثم تابوا في حضرة الموت كفرعون، والثانية هم الذين عاشوا على الكفر وماتوا عليه كنمرود مثلاً. /
قوله سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } من ههنا شروع في النهي عما كانوا عليه في الجاهلية من إيذاء النساء بصنوف من العذاب وضروب من البلاء وذلك أنواع: الأول قوله: { لا يحل لكم أن ترثوا } وفيه قولان: أحدهما الوراثة تعود إلى المال أي لا يحل لكم أن تمسكوهن حتى ترثون أموالهن وهن كارهات لإمساككم، وثانيهما أنها ترجع إلى أعيانهن. وكانوا إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه عليها وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله. فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلا الصداق الأوّل الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئاً فنزلت. النوع الثاني: { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } قال أكثر المفسرين: كان الرجل منهم يكره زوجته ويريد مفارقتها فيسيء العشرة معها ويضيق الأمر عليها حتى تفتدي منه بمالها وتختلع فنهوا عن ذلك. وقيل: إنه خطاب للوراث بأن يترك منعها من التزوّج بمن شاءت وأرادت لتبذل امرأة الميت ما أخذت من الميراث كما كان يفعله أهل الجاهلية. وقيل: إنه نهي للأولياء عن عضل المرأة، أو للأزواج كما مر في سورة البقرة. قال في الكشاف: إعراب { تعضلوهن } النصب عطفاً على { أن ترثوا } ولا لتأكيد النفي. قلت: الظاهر أنه النهي لعطف الأمر وهو قوله: { وعاشروهن } عليه وصاحب الكشاف نظر إلى ما قبله وذهل عما بعده { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } من قرأ بالفتح فلأن الفاحشة لا فعل لها في الحقيقة وإنما الله تعالى هو الذي بينها، أو الشهود الأربعة هم بينوها. ومن قرأ بالكسر فلأنها إذا تبينت وظهرت صارت أسباباً للبيان كقوله:
{ إنهن أضللن كثيراً من الناس } [إبراهيم:36] لما صرن أسباباً للضلال. ثم إنه استثناء مماذا؟ قيل: من أخذ المال أي لا يحل له أن يحبسها ضراراً لتفتدي إلا إذا زنت فحينئذٍ حل لزوجها أن يسألها الخلع. وكان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وقيل: استثناء من العضل نهوا عن حبسهن في بيوت الأولياء والأزواج إلا بعد وجود الفاحشة. ومن هؤلاء القائلين من زعم أن هذا الحكم منسوخ بآية الجلد. وقيل: الفاحشة هي النشوز وشكاسة الخلق أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فإنهم معذورون حينئذٍ في طلب الخلع. النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء { وعاشروهن بالمعروف } وهو الإجمال في القول والإنصاف في المبيت والنفقة { فإن كرهتموهن } ورغبتم في فراقهن { فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } فههنا قد يميل طبعكم إلى المفارقة ويكون الخير في الاستمرار على المواصلة، منه الثناء في الدنيا بحسن الوفاء وكرم الخلق، ومنه الثواب في العقبى بالصبر على خلاف الهوى، ومنه حصول / ولد نجيب ومال كثير لليمن في صحبتها، قال صلى الله عليه وسلم: " الشؤم في المرأة والفرس والدار" وقيل: المعنى إن رغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله تعالى في تلك المفارقة لهن خيراً كثيراً بأن تتخلص من زوج سيىء العشرة وتجد زوجاً آخر أوفق منه. النوع الرابع من التكليف { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } وذلك أنه لما أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة بين تحريم الضرار في غير حالة الفاحشة. يروى أن الرجل منهم كان إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجته الأولى بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج المرأة روي يريدها فنهوا عنه. والقنطار المال العظيم, وفيه دليل على جواز المغالاة في المهر. روي أن عمر قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم. فقامت امرأة وقالت: يا ابن الخطاب، الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية. فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن ذلك. ويحتمل أن يقال: ذكر إيتاء القنطار وارد على سبيل المبالغة والفرض لا الرخصة. وهو في موضع الحال أي وقد آتيتم. ومعنى الإيتاء الالتزام ووقوع العقد عليه سواء أدّى المال إليها أم لا. واعلم أن النشوز إن كان من قبل الزوجة حل أخذ مال الخلع، وإن كان من قبل الزوج لم يحل إلا أنه يفيد الملك لو خالع، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك. { أتأخذونه } استفهام بطريق الإنكار { بهتاناً } وهو أن يستقبل الرجل بأمر قبيح يقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير. وفي الحديث " "إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته " وهو مصدر في موضع الحال أي باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له مثل: قعدت جبناً. وقيل: بنزع الخافض أي ببهتان. وقيل: بمضمر أي تصيبون بهتاناً. وسبب تسيمة هذا الأخذ بهتاناً أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استردّه فكأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتاناً، أو أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها وأن لا يأخذه منها فإذا أخذه منها صار القول الأوّل بهتاناً أي باطلاً، أو كان من عادتهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تفتدي، فلما كان هذا الأمر واقعاً على هذا الوجه في الأغلب سيق الكلام على ذلك. وبالحقيقة أن أخذ هذا المال طعن في ذاتها من حيث إنه مشعر بأنها قد أتت بفاحشة وقبض على مالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر. وقيل: المراد عقاب البهتان والإثم كقوله: { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } } [النساء:10] ثم عجب من الأخذ مستفهماً فقال: { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } عن ابن عباس ومجاهد والسدي واختاره الزجاج وابن قتيبة وإليه ذهب الشافعي أن المراد بالإفضاء الجماع إذ الفضاء الساحة ويقال: أفضيت إذا خرجت إلى الفضاء. وهذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع. وقيل: الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها وهو قول الكلبي واختاره الفراء، ويوافقه مذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر. ورجح مذهب الشافعي بأن الكلام ورد في معرض التعجب وهو إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قريباً في حصول الألفة والمودّة وذلك هو الجماع لا مجرد الخلوة، وأيضاً الإفضاء لا بد أن يكون مفسراً بفعل ينتهي منه إليها لأن كلمة "إلى" لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك إذا لم يحصل فعل من أفعال أحدهما إلى الآخر. فإن قيل: على هذا يجب أن يكون التلامس والاضطجاع في لحاف واحد كافياً في تحقيق الإفضاء، وأنتم لا تقولون به؟ فالجواب أنه باطل بالإجماع إذ القائل قائلان: قائل بتفسير الإفضاء بالجماع، وقائل بتفسيره بمجرد الخلوة. وأيضاً الشرع قد علق تقرر المهر بتحقيق الإفضاء، وقد اشتبه معناه أنه الخلوة أو الجماع فوجب الرجوع إلى ما قبل زمان الخلوة. ومقتضى ذلك عدم تقرر المهر. ثم أكد المنع من استرداد المهر بقوله: { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولكم زوّجتك هذه المرأة على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فقد سرحها بالإساءة. وقال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وإليها أشار في الحديث: " "واستحللتم فروجهن بكلمة الله " وقال آخرون: أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقاً غليظاً وصفه بالغلظ لقوّته قد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ النوع الخامس من التكاليف المتعلقة بأمور النساء قوله: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك. وههنا مسألة خلافية قال أبو حنيفة: يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه، وقال الشافعي: لا يحرم. حجة أبي حنيفة أن النكاح عبارة عن الوطء لقوله: { حتى تنكح زوجاً غيره } [البقرة:230] وبالاتفاق / لا يحصل التحليل بمجرد العقد. ولقوله: { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } [النساء: 6] اي الوطء لأن أهلية العقد حاصلة أبداً. ولقوله: { الزاني لا ينكح إلا زانية } [النور:3] ولقوله صلى الله عليه وسلم: " "ناكح اليد ملعون " فيدخل في الآية المزنية لأنها منكوحة أي موطوأة. وعورض بالآيات الدالة على أن النكاح هو العقد كقوله: { وأنكحوا الأيامى منكم } [النور:32] { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [النساء:3] وبقوله صلى الله عليه وسلم: " النكاح سنتي" ولا شك أن الوطء من حيث إنه وطء ليس سنة له. وبقوله: " "ولدت من نكاح لا من سفاح " وبأن من حلف في أولاد الزنا إنهم ليسوا من أولاد النكاح لم يحنث. سلمنا أن الوطء سمي بالنكاح لكن العقد أيضاً مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكره أولى من حملها على ما ذكرنا مع إجماع المفسرين على أن سبب نزول الآية هو العقد لا الوطء؟ قالوا: حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه في اللغة الضم، وهذا المعنى حاصل في الوطء لا في العقد. وإنما أطلق النكاح على العقد إطلاقاً لاسم المسبب على السبب، والحمل على الحقيقة أولى أو مشترك بينهما. ويجوز استعماله في مفهوميه معاً، فتكون الآية نهياً عن الوطء وعن العقد معاً، أو لا يجوز استعماله في المفهومين فيكون نهياً عن القدر المشترك بينهما وهو الضم. والنهي عن المشترك يكون نهياً عن القسمين، فإن النهي عن التلوين يكون نهياً عن التسويد والتبييض لا محالة، وأجيب بأنه خلاف إجماع المفسرين، وبأن استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه غير جائز، وبأن معنى الضم لا يتصوّر في العقد. سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن ما في قوله: { ما نكح } لا نسلم أنها موصولة لأنها حقيقة في غير العقلاء وإنما هي مصدرية والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي وشهود وكانت مرفية ومهرية فنهوا عن مثل هذه الأنكحة. قال محمد بن جرير الطبري. سلمنا أن المراد لا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكنا لا نسلم أن "من" تفيد العموم وإذا لم تفد العموم لم تتناول محل النزاع. لكن لم قلتم إن النهي للتحريم لا للتنزيه؟ سلمنا أن النهي للتحريم لكن لا نسلم أنه غير صحيح لأن النهي عندكم لا يدل على الفاسد كما في البيع الفاسد وفي صوم يوم النحر. وإذا كان منعقداً صحيحاً. ثم إنا نستدل على جواز نكاح مزنية الأب بقوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [البقرة:221] نهى عن نكاحهن إلى غاية نفي إيمانهن، وهذا يقتضي جواز نكاحهن بعد تلك الغاية على الإطلاق مزنية كانت أو غيرها، إلا ماأخرجه الدليل، وهكذا سائر العمومات كقوله: { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [النساء: 24] وكقوله صلى الله عليه وسلم " إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه" " وقوله: " زوّجوا أبناءكم / الأكفاء" وبقوله صلى الله عليه وسلم: " الحرام لا يحرّم الحلال" ودخول التخصيص فيه بما لو وقع قطرة من الخمر في إناء من الماء فتحرمه لا يمنع من الاستدلال به في غيره، وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي وطء حدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان؟ أما قوله تعالى: { إلا ما قد سلف } فللمفسرين فيه وجوه: أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل العقد أنه على طريق المعنى. فإن النهي يدل على المؤاخذة بارتكاب المنهي عنه فكأنه قيل: انتم مؤاخذون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه معفوّ عنه. وقال في الكشاف: هذا كما استثنى "غير أن سيوفهم" من قوله: "ولا عيب فيهم" يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه كقوله: { حتى يلج الجمل في سم الخياط } [الأعراف:40] وقولهم: حتى يبيض القار. وقيل: استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل. والمعنى لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه. وقيل: "إلا" بمعنى"بعد" كقوله: { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } [الدخان: 56] أي بعد موتتهم الأولى. وقيل: إلا ما قد سلف فإنكم مقرّون عليه. قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون صرفهم عن هذه العادة على سبيل التدريج. وزيف بعضهم هذا القول وقال ما أقرّ أحداً على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية. وروي "أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرّس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله" إنه أي إن هذا النكاح كان قبل النهي فاحشة، أعلم الله تعالى أن هذا الفعل كان أبداً ممقوتاً عند العرب، وهذا النكاح بعد النهي فاحشة في الإسلام لأنه كان في علم الله وحكمه موصوفاً بهذا الوصف، والمقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار. حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله تعالى في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. قال بعضهم: مراتب القبح ثلاث: في العقول وفي الشرع وفي العادة. فالفاحشة إشارة إلى القبح العقلي لأن زوجة الأب تشبه الأم، والمقت إشارة إلى القبح الشرعي. { وساء سبيلاً } إشارة إلى القبح العادي وساء فعل ذم وفاعله ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده والله تعالى أعلم.
التأويل: الوراثة الدينية أيضاً سبب ونسب. فالسبب هو الإرادة بلبس خرقة المشايخ والتشبه بهم، والنسب هو الصحبة معهم بالتسليم لتصرفات ولا يتهم ظاهراً وباطناً مستسلماً لأحكام التسليل والتربية ليتولد السالك بالنشأة الثانية من صلب ولايتهم. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: /
" الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد " وإنما يتوارث أهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية والذكورة والأنوثة في الجدّ والاجتهاد وحسن الاستعداد وبتوارثهم العلوم الدينية واللدنية كقوله صلى الله عليه وسلم: " العلماء ورثة الأنبياء " وقول موسى للخضر { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً } [الكهف:66] { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } هي النفوس الأمارات بالسوء { فاستشهدوا عليهم أربعة منكم } أي من خواص العناصر الأربعة التي أنتم منها مركبون وهي التراب ومن خواصه الخسة والذلة، والماء ومن خواصه اللين والأنوثة والشرة، والهواء ومن خواصه الحرص والحسد والبخل والشهوة، والنار ومن خواصها الكبر والغضب وحب الرياسة { فإن شهدوا } بأن يظهر بعض هذه الصفات من النفوس { فأمسكوهن في البيوت } في سجن الدينا وأغلقوا عليهم أبواب الحواس الخمس حتى تموت النفس بالانقطاع عن حظوظها دون حقوقها { أو يجعل الله لهن سبيلاً } بانفتاح روزنة القلوب إلى عالم الغيب { واللذان يأتيانها } أي النفس والقالب يأتيان من الفواحش ظاهراً في الأعمال وباطناً في الأحوال والأخلاق { فأذوهما } ظاهراً بالحدود وباطناً بالرياضات وترك الحظوظ { فأعرضوا عنهما } باللطف بعد العنف، وباليسر بعد العسر { بجهالة } أي بصفة الجهولية وهي داخلة في الظلومية لأن لا ظلومية تقتضي المعصية والإصرار عليها، والجهولية تقتضي المعصية فحسب. فالعمل السوء إذا كان مصدره الجهولية فحسب يكون على عقيبة التوبة كما قال: { ثم يتوبون من قريب } أي عقيب المعصية. قال عليه السلام: " أتبع السيئة السنة تمحها" " والحسنة التوبة. ويحتمل أن يقال: من قريب أي قبل أن يموت القلب بالإصرار فإن الله لا يقبل التوبة من قلب ميت لأنها تكون اضطرارية باللسان لا اختيارية بالجنان { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } فيه إشارة إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرفة فيها آباؤكم العلوية { إلا ما قد سلف } من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة اكتساب الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق والله أعلم.