خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ
٦١
ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ
٦٢
قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٣
قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
٦٤
قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
٦٥
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
٦٦
لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٦٧
وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَٰنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ
٦٨
وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٦٩
وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٧٠
قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٧١
وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلاةَ وَٱتَّقُوهُ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٧٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٧٣
-الأنعام

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { توفته } و { استهوته } ممالة: حمزة الباقون: بتاء التأنيث { قل من ينجيكم } من الإنجاء: سهل ويعقوب وعباس. الباقون: بالتشديد { وخفية } بالكسر حيث كان: أبو بكر وحماد. الباقون: بالضم { أنجانا } ممالة: حمزة وعلي وخلف { أنجانا } بدون الإمالة: عاصم. الباقون { أنجيتنا } { قل الله ينجيكم } بالتشديد: يزيد وحمزة وخلف وعاصم وهشام. الباقون: بالتخفيف { بعضٍ انظر } وأشباه ذلك بكسر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن شنبوذ عن أهل مكة، وابن ذكوان { ينسينك } بالتشديد: ابن عامر.
الوقوف: { حفظة } ط { لا يفرطون } ه { الحق } ط { الحاسبين } ه { وخفية } ط لاحتمال الإضمار أي يقولون لئن أنجيتنا، وتعلق "لئن" بمعنى القول في { تدعونه } أصح { الشاكرين } ه { تشركون } ه { بأس بعض } ط { يفقهون } ه { وهو الحق } ط { بوكيل } ه { مستقر } ط للإبتداء بــ"سوف" على التهديد مع شدة اتصال المعنى { يعلمون } ه { غيره } ج { الظالمين } ه { يتقون } ه { ولا شفيع } ط للشرط مع العطف { بما كسبوا } لا لانقطاع النظم مع اتصال المعنى، أو لاحتمال أن يكون { الذين } صفة { أولئك } وقوله { لهم شراب } خبر { الهدى ائتنا } ج { هو الهدى } ط { العالمين } لا لأن التقدير وأمرنا بأن أقيموا الصلاة { واتقوه } ط { تحشرون } ه { بالحق } ط { فيكون } ط { في الصور } ط { والشهادة } ط { الخبير } ه.
التفسير: من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله { وهو القاهر فوق عباده } والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس، ويتصرف فيها كيف يشاء، علويات كن أو سفليات، ذوات أو صفات، نفوساً أو أبداناً، أخلاطاً وأركاناً. ومن جملة قهره إرسال الحفظة - وهي جمع حافظ - على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله
{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ق: 18] وعلى أفعالهم بقوله { يعلمون ما تفعلون } [الانفطار: 12] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها. وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه. قالت العلماء: من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجراً له عن القبائح. ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن. ومنها التعبد فعلى الملكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك. وقال بعض الحكماء: الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها المتضادة على امتزاجها. وقال بعض القدماء: منهم النفوس البشرية والأرواح السفلية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها، فبعضها خيرة وبعضها شريرة، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة، وعلى سبيل الإلهامات أخرى. فالأرواح الخيرة لها مبادٍ من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادىء في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير. وقيل: إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها { حتى إذا جاء أحدكم الموت } أي وقته أو أماراته { توفته رسلنا } أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله { يتوفى الأنفس حين موتها } [الزمر: 42]. وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله { يتوفاكم ملك الموت } [السجدة: 11] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان: أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون. وعن مجاهد: جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين. { وهم لا يفرطون } لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة { ثم ردوا إلى الله } أي إلى حكمه وجزائه { مولاهم الحق } صفتان والضمير في { ردوا } إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق. وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتاً والإنسان مردود إليه تعالى. وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجوداً قبل البدن وقد تعلق به زماناً ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة { ارجعي إلى ربك } [الفجر: 28] { ألا له الحكم } كقوله: { إن الحكم إلا لله } [الأنعام: 57] { وهو أسرع الحاسبين } حساباً قيل: إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله كلام عن كلام. وقيل: يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله { ولا يكلمهم الله } [البقرة: 174] وقال الحكيم: معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق، قليلة كانت أو كثيرة، حميدة أو ذميمة، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده. وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال. قال الجبائي - ههنا: لو كان كلامه قديماً لوجب أن يكون متكلماً بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم. وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالماً بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالماً بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم. ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } مجازاً عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة: يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة. وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء. { تدعونه } في موضع الحال { تضرعاً وخفية } مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص. والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور: أحدها الدعاء. الثاني التضرع. والثالث: الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله { وخفية } ورابعها: التزام الشكر هو المراد من قوله { لئن أنجيتنا من هذه } الظلم والشدة { لنكونن من الشاكرين } فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى. وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا. ثم ذكر نوعاً آخر من دلائل التوحيد مقروناً بنوع من التخويف فقال { قل هو القادر } واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر، وهو الكامل القدرة { على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل { أو من تحت أرجلكم } كما أغرق فرعون وخسف بقارون. وقيل: من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات { أو يلبسكم شيعاً } هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف" قالت الأشاعرة: في قوله { أو يلبسكم شيعاً } دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله { ويذيق بعضكم بأس بعض } إشارة إلى أن أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة: الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة { انظر كيف نصرف الآيات } نقرر الدلائل الواضحات. وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير: انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها { لعلهم يفقهون } { وكذب به } أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة { قومك } يعني قريشاً ومن دان بدينهم { وهو الحق } أي لا بد أن ينزل بهم. وقيل: أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله. وقيل: أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات. { قل لست عليكم بوكيل } أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر. { لكل نبأ لكل } خبره يخبره الله تعالى { مستقر } أي استقرار أو موضع استقرار. والمراد بالنبأ المنبأ به لأن النبأ قد حصل، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتاً ومكاناً يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير { وسوف تعلمون } فيه من التهديد ما فيه.
ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال { وإذا رأيت } أيها السامع { الذين يخوضون في آياتنا } والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث، ويقرب منه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك { فأعرض عنهم } بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك { فلا تقعد بعد الذكرى } وقيل: المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه، هذا عند عدم الخوف، أما مع الخوف فهذا الفرض ساقط والتقية واجبة. نعم كل ما أوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم فعله وجب عليه، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها { وإما ينسينك الشيطان } أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم { فلا تقعد بعد الذكرى } بعد أن تذكر النهي { مع القوم الظالمين } أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم. قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة. وقال الفراء: هي الذكر. قال في الكشاف بناء على مذهبه: يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم. قال الجبائي: إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، وهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق لا يقع، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لم يكن الكافر قادراً على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان. قال ابن عباس: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله { وما على الذين يتقون } أي الشرك والكبائر والفواحش { من حسابهم } من ذنوبهم التي يحاسبون عليها { من شيء ولكن ذكرى } أي ولكن يذكرونهم تذكيراً، أو ولكن عليهم أن يذكروهم، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل { من شيء } كقول القائل: ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله { من حسابهم } يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين. ثم أكد الإعراض عنهم بقوله { وذر الذين } والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله
{ فأعرض عنهم وعظهم } [النساء: 63] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم { اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } وفيه وجوه: اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به واستهزؤا، أو أتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها ديناً لهم، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعباً ولهواً لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى. قال ابن عباس: أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه. ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله { وغرتهم الحياة الدنيا } كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا { وذكر به } أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة { أن تبسل نفس } قال الحسن ومجاهد: أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه. وقال قتادة: تحبس في جهنم. وعن ابن عباس: تفتضح { ليس لها } أي النفس { من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل } إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله { لا يؤخذ منها } قال في الكشاف: فاعل { يؤخذ } قوله { منها } لا ضمير العدل لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله { ولا يؤخذ منها عدل } فبمعنى المفدى به فصح إسناده. قلت: إن فسر الأخذ بالقبول كما في قوله { ويأخذ الصدقات } [التوبة: 104] ارتفع الفرق. { أولئك } المتخذون { هم الذين أبسلوا بما كسبوا } ثم بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله { لهم شراب من حميم } ثم رد على عبدة الأصنام بقوله { قل أندعوا من دون الله } النافع الضار { ما لا ينفعنا ولا يضرنا } أي لا يقدر على النفع والضر { ونرد } داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام، فإن الردة عود إلى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } [النحل: 78] { كالذي استهوته } محله النصب على الحال من الضمير في { نرد } أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة كقوله: { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } [الحج: 31] وقيل: اشتقاقه من اتباع الهوى و{ حيران } حال أخرى لكن من الضمير في { استهوته } وكذا الجملة بعده. ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه. ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. { له } أي لهذا المستهوي { أصحاب } رفقة { يدعونه إلى الهدى } أي إن يهدوه الطريق المستوي فيكون مصدراً. وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له { ائتنا } أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن غير ملتفت اليهم. وقيل: إن لذلك الكافر أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى. وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان { قل إن هدى الله } وهو الإسلام { هو } الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال { وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا } قال الزجاج: لا بد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير: وأمرنا لنسلم ولنقيم، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا: قيل: والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر. وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك. والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله { لنسلم } ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله { وأن أقيموا } ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله { واتقوه } ثم قال { وهو الذي إليه تحشرون } ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر.
ثم دل على وجود الحاشر بقوله { وهو الذي خلق السموات والأرض } قائما أو ملتبساً { بالحق } بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثاراً تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق { يوم يقول كن فيكون قوله الحق } فقوله فاعل { يكون } و { يوم } مفعول { خلق } والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق "كن فيكون" وعلى هذا يجوز أن يكون قوله { الحق } مبتدأ وخبراً مستأنفاً، أو قوله { الحق } مبتدأ و { يوم يقول } ظرف دال على الخبر مثل "يوم الجمعة القتال" أي القتال واقع يوم الجمعة. والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خالٍ عن الجور والعبث { ويوم ينفخ } ظرف لقوله { وله الملك } كقوله
{ لمن الملك اليوم } [غافر: 16] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع. والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن { ونفخ في الصور فصعق } [الزمر: 68] ففزع { فإذا نقر في الناقور } [المدثر: 8] وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة. وخطأه الأئمة فقالوا: كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإنسان على صور بالفتح كقوله { فأحسن صوركم } [غافر: 64] ومن أسكن فقد أخطأ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال { ونفخت فيه من روحي } [ص: 72] { فنفخنا فيها من روحنا } [الأنبياء: 91] { ثم أنشأناه خلقاً آخر } } [المؤمنون: 14] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله { عالم الغيب والشهادة } أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات { وهو الحكيم } المصيب في أقواله وأفعاله { الخبير } النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق.
التأويل: { وهو القاهر } بوصف الجلال للأولياء، قهار بوصف الجبروت للأعداء. { ويرسل عليكم حفظة } من صفات قهره حتى لو أرادت نفسه الخروج عن قيد مجاهدتها قهرتها سطوات العتاب فردتها إلى بذل الجهد، وإن أراد قلبه فرجة عن مطالبات العزة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة، ولو أراد روحه استرواحاً من الحرقات قهرته بوارق التجلي فردته إلى بذل المهجة { حتى إذا جاء أحدكم الموت } يعني الفناء عن أوصاف الوجود { توفته } رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف { ثم ردوا } إلى البقاء بالله { قل الله ينجيكم من ظلمات } بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية. { تدعونه تضرعا } بالجسم { وخفية } بالروح { ومن كل كرب } آفة وفتنة { ثم أنتم تشركون } حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته، فبعضكم يقول: أنا الحق وبعضكم يقول: سبحاني ما أعظم شأني { عذاباً من فوقكم } بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم { أو من تحت أرجلكم } حجاباً من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم { أو يلبسكم شيعاً } بجعل الخلق فيكم فرقاً. فمن قائل هم الصديقون، ومن قائل هم الزنديقون { ويذيق بعضكم بأس بعض } بالقتل والصلب وقطع الأطراف { انظر كيف نصرف } آيات المصارف للسائرين إلى الله { لعلهم يفقهون } لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن كلية الوجود بالبقاء بشهود المعبود { وكذب } بهذا المقام { قومك } المنكرون { وهو الحق قل لست عليكم بوكيل } لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال { لكل نبأ مستقر } أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد { وإذا رأيت الذين يخوضون } في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها { فأعرض عنهم } ولا تجالسهم { حتى يخوضوا في حديث } غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح. { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } لأن همهم من لبس الخرقة والتزيي بزي الطالبين إنما هو الدنيا وقبول الحق { أن تبسل نفس } أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية { بما كانوا يكفرون } بمقامات الرجال من الوصول والوصال { قل أندعوا من دون الله } أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار. والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه. { ونرد على أعقابنا } إلى مقام الإثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى { حيران } من إغوائهم. { وأمرنا لنسلم } بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلماً لصولجان القضاء { وأن أقيموا الصلاة } بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه لا إلى الجنة أو النار كما قال: ألا من طلبني وجدني. { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } أي لإظهار صفاته، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبداً من عباده تلك الصفات يقول له: كن رائياً فيكون، ولن يصير رائياً بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائياً هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية، ينفخ الإراءة في صور القلب { وهو الحكيم } فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات { الخبير } بمن يخصه من بين الناس بالإراءة.