خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
٩٤
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٩٥
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٩٦
أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَٰتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ
٩٧
أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ
٩٨
أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٩٩
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
١٠٠
تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ
١٠١
وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
١٠٢
-الأعراف

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { لفتحنا } بالتشديد: ابن عامر ويزيد { أو أمن } بسكون الواو: أو جعفر ونافع غير ورش، وابن عامر وابن كثير غير ابن فليح، وقرأ ورش بنقل حركتها إلى الساكن قبلها { أولم نهد } النون حيث كان: زيد عن يعقوب. الباقون: بالياء التحتانية { رسلهم } بسكون السين حيث كان: أبو عمرو.
الوقوف: { يضرعون } ه { لا يشعرون } ه { يكسبون } ه { نائمون } ه لمن قرأ { أو أمن } بفتح الواو على أن الهمز للاستفهام، ومن سكن الواو فلا وقف لأن "أو" للعطف { يلعبون } ه { مكر الله } ج للفصل بين الإخبار والاستخبار مع أن الفاء للتعقيب. { الخاسرون } ه { بذنوبهم } ج للفصل بين الماضي والمستقبل والتقدير: نحن نطبع مع اتحاد القصة. { لا يسمعون } ه { من أنبائها } ج لعطف المختلفتين { بالبينات } ط لأن ضمير { فما كانوا ليؤمنوا } لأهل مكة وضمير. { جاءهم } للأمم الماضية مع أن الفاء توجب الاتصال { من قبل } ط { الكافرين } ه { من عهد } ج لعطف الجملتين المختلفين { لفاسقين } ه.
التفسير: إنه سبحانه لما عرّفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وما جرى على أممهم ذكر ما يدل على أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وليس مقصوراً عليهم، وبيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل. والقرية مجتمع القوم فتشمل المدينة أيضاً وتقدير الكلام: وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء. قال الزجاج: البأساء الشدة في الأموال والضراء الأمراض في الأبدان. وقيل بالعكس { لعلهم يضرعون } أي يتضرعون فأدغم التاء في الضاد والمعنى: ليحطوا أردية التعزز والاستكبار ويتبعوا نبيهم. ثم بيّن أن تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد فقال { ثم بدلنا مكان السيئة } وهي كل ما يسوء صاحبه { الحسنة } وهي ما يستحسنه الطبع والعقل أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من الفقر والضر السعة والصحة { حتى عفوا } كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم عفا النبات والشحم والوبر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"وأعفوا اللحى" { وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } كما هو دأب الأشرين يقولون هذه عادة الدهر في أهله يوم محنة ويوم منحة. والمراد أنهم لم ينتفعوا بتدبير الله تعالى فيهم من رجاء بعد شدّة وأمن بعد خوف وراحة بعد عناء { فأخذناهم بغتة } آمن ما كانوا عليه ليكون ذلك أعظم من الحسرة { وهم لا يشعرون } بنزول العذاب. والحكمة في جميع هذه الحكايات اعتبار من سمعها ووعاها وتعريف أن العصيان سبب الحرمان عن الخيرات وسد لجميع أبواب السعادات ولهذا قال { ولو أن أهل القرى } أي جنسها أو القرى المذكورة في قوله وما أرسلنا في قرية { آمنوا } بما يجب به الإيمان في باب المبدأ والمعاد { واتقوا } كل ما نهى الله عنه { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } أي لأتيناهم بالخير من كل وجه أو أراد القطر والنبات. والمراد بفتح البركات عليهم تيسير أسباب النجاح كقولهم: فتحت على القارىء إذا يسرت القراءة عليه بالتلقين { ولكن كذبوا الرسل فأخذناهم } بالجذب والمحل وهو ضد البركة والخير { بما كانوا يكسبون } أي بشؤم كسبهم وهو الكفر والمعاصي. ثم خوف المكلفين نزول العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء في التشاغل باللذات والمهمات فقال { أفأمن } قال في الكشاف: الهمزة للإنكار والفاء للعطف على قوله { فأخذناهم بغتة } والآية بينهما اعتراض والتقدير: أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ فلهذا عطف الثانية بالواو. وأما قوله { أفأمنوا مكر الله } فتكرير لقوله { أفأمن أهل القرى } فلهذا رجع فعطف بالفاء. قلت: يجوز أن يقدّر المعطوف عليه بعد الهمزة والمعنى: أفعلوا ما فعلوا فأمن وأما من قرأ "أو" ساكنة فمعناه إما أحد الشيئين ويرجع المعنى إلى قولنا فأمنوا إحدى هذه العقوبات، وإما للإضراب كما تقول: أنا أخرج ثم تقول أو أقيم. على أن المراد هو الإضراب عن الخروج وإثبات للإقامة أي لا بل أقيم. ومعنى { بياتاً } قد تقدم في أوّل السورة. و { ضحى } نصب على الظرف قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهو حين تشرق الشمس مقصورة، وتذكر على أنه مفرد كصرد وتؤنث على أنها جمع ضحوة. ثم بعده الضحاء ممدوداً مذكراً وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. في قوله { وهم يلعبون } يحتمل التشاغل بما لا يجدي عليهم من أمور الدنيا فهي لهو ولعب، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه يضر ولا ينفع. ومكر الله كما تقدم في آل عمران عذاب بعد الاستدراج أو سمي جزاء المكر مكراً. وعن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت له: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات يعني المذكور في الآية. اللهم اجعلنا من الخائفين العاقلين لا من الآمنين الغافلين. ثم لما بيّن حال المهلكين مفصلاً ومحلاً ذكر أن الغرض من القصص حصول العبرة للباقين فقال { أولم يهد } من قرأ بالياء ففاعله { أن لو نشاء } والمعنى: أو لم يهد الذين يخلفون أولئك المتقدمين فيرثون أرضهم وديارهم هذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي بعقابها كما أصبنا من قبلهم. ومن قرأ بالنون فقوله { أن لو نشاء } منصوب والهداية بمعنى التبيين على القراءتين ولهذا عُدّي فعلها باللام، والمفعول على القراءة الأولى محذوف والتقدير: أولم يكشف لهم الحال والشأن المذكور. وأما قوله { ونطبع على قلوبهم } فإما أن يكون منقطعاً عما قبله بمعنى ونحن نطبع كما مر في الوقوف، وإما أن يكون متصلاً بما قبله. قال الكشاف: وذلك هو يرثون أو ما دلّ عليه معنى { أولم يهد } كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع. ثم قال: ولا يجوز أن يكون معطوفاً على { أصبناهم } و { طبعنا } لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم فيجري مجرى تحصيل الحاصل ولقائل أن يقول: لا يلزم من المذكور وهو كونهم مذنبين أن يكونوا مطبوعين، فاقتراف الذنوب غير الطبع لأن يذنب أوّلاً أو يكفر ثم يستمر على ذلك فيصير مطبوعاً على قلبه. وأيضاً جاز أن يراد لو شئنا لزدنا في طبعهم أو لأدمناه والله سبحانه أعلم بمراده. ثم أخبر عن الأقوام المذكورين تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال { تلك القرى } وهي مبتدأ وخبر. وقوله { يقص } حال والعامل معنى اسم الإشارة، أو خبر بعد خبر، أو { القرى } صفة لـ { تلك } و { نقص } خبر. وفائدة الإخبار على هذا التقدير ظاهرة. وأما على الأوّلين فترجع الفائدة إلى الحال أو الخبر الثاني كما ترجع إلى الصفة في قولك: هو الرجل الكريم. الحاصل أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك، وأيضاً خصصنا تلك القرى بقصص بعض أنبائها لأنهم اغتروا بطول الأمهال مع كثرة النعم وكانوا أقرب الأمم إلى العرب فذكرنا أحوالهم تنبيهاً على الاحتراز عن مثل أعمالهم. ثم عزى رسوله بقوله { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا } من قبل اللام لتأكيد النفي وأن الإيمان كان منافياً لحالهم. قال ابن عباس والسدي: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بسبب تكذيبهم يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم أقروا باللسان كرهاً وأضمروا التكذيب. وقال الزجاج: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به من قبل رؤية تلك المعجزات. وعن مجاهد: فما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد الإهلاك ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [الأنعام: 28] وقيل: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما كذبوا من قبل مجيئهم. وقيل: ما كانوا ليؤمنوا في الزمان المستقبل بما كذبوا به في الزمان الماضي أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إلى أن ماتوا مصرين لم ينجع فيهم تكرير المواعظ وتتابع الآيات { كذلك } أي مثل ذلك الطبع الشديد { يطبع الله على قلوب الكافرين } الذي كتب أن لا يؤمنوا أبداً. والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد كما سلف. وقال الجبائي: هو أن يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن صاحبها لا يؤمن. وقال الكعبي: إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى { فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } [نوح: 6] ثم شرح حال المكلفين فقال { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } والضمير للناس على الإطلاق. قال ابن عباس: يعني بالعهد قوله للذر { ألست بربكم } [الأعراف: 172] أقروا به ثم خالفوا. عن ابن مسعود هو الإيمان كقوله { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } [مريم: 87] يعني من قال لا إله إلا الله. وقيل: العهد عبارة عن الأدلة على التوحيد والنبوّة والمراد الوفاء بالعهد { وإن وجدنا } هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة في قوله { لفاسقين } وقد عملت في ضمير شأن مقدر والتقدير: وإن الشأن والحديث علمنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والآية اعتراض. ويحتمل أن يعود الضمير على الأمم المذكورين كانوا إذا عاهدوا الله في ضرر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن نكثوه بعد كشف الضر.
التأويل: { إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } الوفي يتضرع إليه عند البلاء ويتوكل عليه والعدوّ يذهل عن الحق ولا يرجع إليه { ولو أن أهل القرى } يعني صفات النفس { آمنوا } بما يرد إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق { واتقوا } مشتبهات النفس { لفتحنا عليهم } أسباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب { فأخذناهم } عاقبناهم بعذاب البعد { بما كسبوا } من مخالفات الحق وموافقات الطبع { بياتاً } في صور القهر { ضحى } في صورة اللطف بسطوات الجذبات { وهم يلعبون } يشتغلون بالدنيا. { إلا القوم الخاسرون } من أهل القهر هم الذين خسروا سعادة الدارين من أهل اللطف هم الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }.