غرائب القرآن و رغائب الفرقان
القراءات: { طيف } بسكون الياء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي.
الباقون: { طائف } على وزن "فاعل" { يمدونهم } من الإمداد: أبو جعفر ونافع.
الآخرون: بفتح الياء وضم الميم من المد { العفو وأمر } مدغماً: أبو عمرو. وقرىء بغير
همز حيث كان: يزيد والشموني وحمزة في الوقف.
الوقوف: { الجاهلين } ه { بالله } ط { عليم } ه { مبصرون } ه ج لأن قوله
{ وإخوانهم } مبتدأ إلا أن المعنى يقتضي الوصل لبيان اختلاف حالي الفريقين { لا
يقصرون } ه { اجتبيتها } ط { من ربي } ج لاختلاف الجملتين بلا عطف مع اتحاد المقول
{ يؤمنون } ه { ترحمون } ه { من الغافلين } ه { يسجدون } ه.
التفسير: لما ذكر فساد طريقة عبدة الأصنام وبين النهج القويم والصراط المستقيم
أرشد إلى مكارم الأخلاق والعفو الفضل وكل ما أتى من غير كلفة. واعلم أن الحقوق التي
تستوفى من الناس إما أن يجوز إدخال المساهلة فيها وهو المراد بقوله { خذ العفو }
ويدخل فيه التخلق مع الناس بالخلق الحسن وترك الغلظة والفظاظة، ومن هذا الباب أن
يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف كما قال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم { فبما رحمة من الله
لنت لهم } [آل عمران: 159] وإما أن لا يجوز دخول المسامحة فيها وذلك قوله { وأمر
بالعرف } وهو والمعروف. والعارفة كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به ويكون وجوده
خيراً من عدمه، فلو اقتصر في هذا القسم على الأخذ بالعفو ولم يبذل في ذلك وسعه كان
راضياً بتغيير الدين وإبطال الحق. ثم أمر بالمعروف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه
فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا قال { وأعرض عن الجاهلين } قال
عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جبرائيل ما هذا؟ فقال: لا أدري حتى
أسأل ثم رجع فقال: يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو
عمن ظلمك" . قال أهل العلم: تفسير جبرائيل مطابق للفظ الآية فإنك إذا وصلت من قطعك
فقد عفوت عنه، وإذا أعطيت من حرمك فقد أمرت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد
أعرضت عن الجاهل. يروى عن جعفر الصادق رضي الله عنه: ليس في القرآن العزيز آية أجمع
لمكارم الأخلاق من هذه الآية ولبعض المفسرين في تفسير الآية طريق آخر قالوا { خذ العفو }
أي ما أتوك به عفواً فخذه ولا تسأل ما وراء ذلك فنسخت بآية الزكاة { وأمر بالعرف } أي
بإظهار الدين الحق وهذا غير منسوخ { وأعرض عن الجاهلين } أي المشركين وهذا منسوخة بآية
القتال. والحق أن تخصيص أخذ العفو بالمال تقييماً للمطلق من غير دليل، ولو سلم
فإيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة لا ينافي ذلك لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ
كرائم أموال الناس وأن لا يشدد الآمر على المزكي. وأيضاً لا يمتنع أن يؤمر النبي بأن لا
يقابل سفاهة المشركين بمثلها ولكن يقاتلهم، وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكناً فلا حاجة
إلى التزام النسخ. قال أبو زيد: لما نزل قوله { وأعرض عن الجاهلين } قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } أي غرز ونخس
جعل النزغ نازغاً كما قيل: جدّ جدّه. عن أبي زيد: نزغت ما بين القوم أي أفسدت ما
بينهم وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب. ونزغ الشيطان
وسوسته في القلب بما يسوّل للإنسان من المعاصي وعلاجه ودفعه إنما يكون بالاستعاذة
وهي الاستخلاص عن حول الإنسان وقوته إلى حول الرحمن وقوته والإعراض عن مقتضى
الطبع والإقبال على أوامر الشرع عن معاذ بن جبل قال: استبَّ رجلان عند النبي حتى
عرف الغضب في وجه أحدهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب غضبه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" . قال بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء: لو لم يجز على
النبي الإقبال على وسوسة الشيطان لم يأمر بالاستعاذة. والجواب أن كلمة "إن" لا تفيد
وقوع الشرط، ولو سلم فمن أين علم أنه صلى الله عليه وسلم قبل تلك الوسوسة منه؟ ولو سلم فمحمول
على ترك الأولى. ثم ختم الآية بقوله { إنه سميع عليم } ليعرف أن القول اللساني بدون
المعارف الحقيقية عديم الفائدة وكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع،
وأحضر معنى الاستعاذة في ضميرك فإني عليم. ثم بين أن حال المتقين قد تزيد على حال
النبي في باب وسوسة إبليس فإن النبي لا يكون له إلا النزع الذي هو كابتداء الوسوسة،
وأما المتقون فقد يمسهم الشيطان وذلك قوله { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف } قال
الفراء: الطائف كالخاطر وجوز بعضهم أن يكون مصدراً كالعاقبة ولكنه بلا تاء. والأصح
أنه اسم فاعل من طاف يطوف أو من طاف به الخيال يطيف طيفاً. ومن قرأ طيف فهو إما
مصدر أي لمسة من الشيطان، وإما مخفف طيف "فيعل" من طاف يطيف كلين، أو من
طاف يطوف كهين. قال في الكشاف: وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة
بالله عند نزغ الشيطان وأن المتقين هذه عادتهم إذا أصابهم نزغ من الشيطان وإلمام
بوسوسته. ومفعول { تذكروا } محذوف أي تذكروا ما أمر الله به ونهى عنه فأبصروا
السداد. واعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملاً من
الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادراً وفي المغضوب عليه كونه عاجزاً هذا إذا كان واقفاً
على ظلمات عالم الأجسام فيغتر بظواهر الأمور، أما إذا انكشف له نور من عالم العقل
عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية جازمة
وقد علم منه تلك الحالة في الأزل، ومتى كان كذلك فلا سبيل إلى تركها فحينئذ يفتر
غضبه كما قال صلى الله عليه وسلم: "من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب" وأيضاً إنه كم أساء
في العمل وقد تجاوز عنه وإن الله أقدر عليه وإنه إذا أمضى الغضب كان شريكاً للسباع المؤذية، وإذا اختار العفو كان مضاهياً للأنبياء والأولياء مستأهلاً للثواب الجزيل، وإنه
ربما انقلب الضعيف قوياً. وبالجملة فالمراد من قوله تعالى { إذا مسهم طائف من
الشيطان } ما ذكرنا من الاعتقادات، والمراد من قوله { تذكروا } الأمور تفيد ضعف تلك
الاعتقادات، أما قوله { وإخوانهم } فالضمير فيه يرجع إلى الشيطان، وجمع لأن المراد به
الجنس كقوله { أولياؤهم الطاغوت } [البقرة: 257] والضمير المرفوع في { يمدون } يرجع إلى
الأخوان لأن شياطين الإنس يعضدون شياطين الجن على الإغواء والإضلال، أو إلى الشياطين
فيكون الخبر جارياً على غير من هو له. والمعنى وإخوان الشياطين ليسوا بمتقين فإن الشياطين
يمدونهم أي يكونون مدداً لهم في الغي. وجوّز أن يراد بالإخوان الشياطين والضمير المجرور
يعود إلى الجاهلين فيكون الخبر جارياً على ما هو له. قال في الكشاف: والأوّل أوجه لأن
{ إخوانهم } في مقابلة { الذين اتقوا } قال الواحدي: عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد
ويستحب أمددت على "أفعلت" كقوله { إنما نمدهم به من مال } [المؤمنون: 55]
{ وأمددناهم بفاكهة } [الطور: 22] { أتمدونن بمال } [النمل: 36] وما كان بخلافه فإنه
يجيء على مددت قال { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } [البقرة: 15] فالوجه ههنا قراءة
العامة ووجه الضم الاستهزاء والتهكم نحو { فبشرهم بعذاب أليم } [آل عمران: 21] أما
قوله { ثم لا يقصرون } فالإقصار الكف عن الشيء. قال ابن عباس: أي لا يمسك الغاوي
عن الضلال والمغوي عن الإضلال، ومعنى "ثم" تبعيد عدم الإقصار عن المدد فإنه يجب
على العاقل إذا أقبل علي غي أن يمسك عنه سريعاً أن يتمادى فيه وينهمك ولهذا قيل:
الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل. ثم ذكر نوعاً واحداً من إغوائهم فقال
{ وإذا لم تأتهم } بآية وذلك أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل
التعنت كقولهم { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [الإسراء: 90] ثم
إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأتيهم بها فعند ذلك { قالوا لولا اجتبيتها } يقال اجتبى الشيء بمعنى جباه
لنفسه أي جمعه، وجبى إليه فاجتباه أي أخذه، والمعنى هلا افتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون إن هذا إلا إفك مفترى وكانوا ينسبونه إلى السحر. والمراد هلا أخذتها واقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقاً في أن الله يجيب دعاءك ويسعف
باقتراحك؟ وعند هذا أمر رسوله أن يذكر في الجواب { إنما أتبع ما يوحىٰ إليَّ من ربي }
ولست بمفتعل للآيات أو لست بمقترح لها. ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي
اقترحوها ألا يقدح في الغرض لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة قاهرة كافية
في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من التعنت فقال { هذا } يعني القرآن { بصائر } إطلاق
لاسم المسبب على السبب، وذلك أن فيه حججاً بينة تفيد القلوب بصيرة وكشفاً { هدى }
للمستدلين الواصلين بالنظر والاستدلال إلى درجة العرفان. فالبصائر لأصحاب عين
اليقين، والهدى لأرباب علم اليقين، والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين، والجميع
{ لقوم يؤمنون } ولما عظم شأن القرآن بتلك الأوصاف علم المكلفين أدباً حسناً في بابه
فقال { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } والإنصات السكوت للاستماع. قال
العلماء: ظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً وقت قراءة
القرآن في صلاة وغير صلاة وهو قول الحسن وأهل الظاهر. وعن أبي هريرة كانوا
يتكلمون في الصلاة فنزلت. وقال قتادة. كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم
صليتم وكم بقي وكانوا يتكلمون في الصلاة لحوائجهم فنزلت. ثم صار سنة في غير
الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل: نزلت في ترك الجهر
بالقراءة وراء الإمام لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ
أصحابه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء
وعمرو بن دينار وجماعة: نزلت في الإنصات عند الخطبة يوم الجمعة، وزيف بأن اللفظ عام
فكيف يجوز قصره على قراءة القرآن في الخطبة أو على الخطبة نفسها بناء على أنها
قد تسمى قرآناً لاشتمالها عليه. وأجيب بأن كلمة "إذا" لا تفيد العموم بدليل أنه إذا قال لزوجته
إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنها لا تطلق مرة ثانية بدخول الدار مرة أخرى، وبدليل أن
الشافعي أوجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، ورد بأن المأموم إنما يقرأ الفاتحة في حال سكتة
الإمام كما قال أبو سلمة: للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت يعني سكتة بين
التكبير إلى أن يقرأ، وأخرى بين القراءة إلى أن يركع. واعترض بأن سكوت الإمام
واجب أم لا. والأول باطل بالإجماع، وعلى الثاني يجوز أن لا يسكت وحينئذ يلزم أن
تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام فيفضي إلى ترك الاستماع. وأيضاً فهذا السكوت
ليس له حد محدود والمئمومون مختلفون ببطء القراءة وسرعتها، فربما لا يتمكن المأموم
من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام فيلزم المحذور المذكور. وأيضاً الإمام في
هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم وذلك غير جائز. قال الواحدي: الإنصات هو ترك
الجهر عند العرب وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحداً. وأورد عليه أن غاية توجيهه
هو أن الإنصات مع قراءة الإمام ممكن لكن إمكان حصول الاستماع مع قراءته ممنوع، فإن
الاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل، ولعل
الإنصاف أن الاستماع على تقدير الإنصات المفسر ممكن أي يحصل مع قراءة الإمام. هذا وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ إلا أنهم جوّزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد
وذلك ههنا قوله صلى الله عليه وآله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وذهب الإمام مالك
وهو القول القديم للشافعي: إنه لا يجوز للمأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية عملاً
بمقتضى هذا النص ويجب عليه القراءة في الصلاة السرية لأن الآية دلالة لها على هذه
الحالة. وفي الآية تفسير آخر وهو أن الخطاب في الآية مع الكفار وذلك أن كون القرآن
بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي إذا قرأ عليهم القرآن عند
نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على مبانيه ومعانيه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك على
طلب سائر المعجزات، ومما يؤكد هذا التفسر قوله في آخر الآية { لعلكم ترحمون }
والترجي إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزماً في قوله
{ ورحمة لقوم يؤمنون } ويمكن أن يجاب بأن الأطماع من الكريم واجب فلم يبق إلا
الفرق. وقيل: المراد باستماع القرآن العمل بما فيه.
ثم أمر نبيه وأمته تبعيته صلى الله عليه وسلم بالذكر العام - قرآناً كان أو غيره - على سبيل الدوام،
وذلك أن استماع القرآن كان الذكر الخفي فقال { واذكر ربك في نفسك } وفي الآية قيود:
الأوّل: تخصيصه اسم الرب دون الإله وغيره تنبيهاً على أن سبب الذكر هو التربية والإنعام
وليدل على الطمع والرجاء. والثاني: ذكر الرب في النفس ليكون أدخل في الإخلاص
وأبعد عن الرياء. قيل: ذكره في النفس هو أن يكون عارفاً بمعاني الأسماء التي يذكرها
بلسانه. قال بعض المتكلمين: الذكر النفساني هو الكلام النفسي الذي يثبته الأشاعرة.
الثالث والرابع: { تضرعاً وخيفة } أي متضرعاً وخائفاً، فالتضرع لإظهار ذلة العبودية.
والخوف إما خوف العقاب فهو مقام المذنبين، وإما خوف الجلال وهو مقام العارفين فإذا
كوشفوا بالجمال عاشوا وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا، وأما خوف الخاتمة بل خوف السابقة فإنها
علة الخاتمة. الخامس: قوله { ودون الجهر من القول } والمراد أن يقع ذلك الذكر
متوسطاً بين الجهر والإخفاء. قال ابن عباس: هو أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه وإنما
أخر هذا عن الذكر القلبي لأن الخيال يتأثر من الذكر القلبي فيوجب قوة في النفس ولا
يزال يتزايد في ذلك إلى أن يجري الذكر على لسانه بل يسري في جميع أعضائه وجوارحه
وأركانه سرياناً معتدلاً خالياً عن التكلف بريئاً من التعسف. السادس: قوله { بالغدو
والآصال } والغدوّ مصدر غدا يغدو والمراد وقت الغدو كما يقال دنا الصباح أي وقته.
وقيل: إنه جمع غدوة وأما الآصال فإنها جمع الأصيل وهو الوقت بعد العصر إلى المغرب. وقد يقال: اشتقاقه من الأصل واليوم بليلته. إنما يبتديء في الشرع من أول
الليل فسمي آخر النهار أصيلاً لكونه ملاصقاً لما هو الأصل لليوم الثاني. وخص هذان
الوقتان بالذكر لأن الغدو عندما ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي
هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة
وجودية، وفي الآصال الأمر بالضد وهدان النوعان من التغير العجيب دليلان قاهران باهران
على وجود صانع قدير وحكيم خبير فوجب أن يكون المكلف فيهما مشتغلاً بالذكر
والحضور، ويمكن أن يكون المراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان. السابع:
قوله { ولا تكن من الغافلين } وفيه إشارة إلى أن الذكر القلبي يجب أن يداوم عليه ولا يزال
الإنسان يستحضر جلال الله وكبرياءه بحسب الطاقة البشرية ليتنور جوهر النفس ويستعد
لقبول الإشراقات القدسية فيضاهي سكان حظائر الجبروت مدحهم الله بقوله { إن الذين عند
ربك } ومعنى عند دنو الشرف والقرب من عنايته وألطافه { لا يستكبرون عن عبادته }
فيداومون على ذلك { ويسبحونه } يبرئونه وينزهونه عن كل سوء وهذا يرجع إلى المعارف
والعلوم { وله يسجدون } بحضرته بغاية الخضوع والاستكانة، وهذا يعود إلى أعمال
الجوارح. وفي هذا الترتيب دليل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب
ويتفرع عليه أعمال الجوارح. والمقصود من الآية أن الملائكة مع غاية طهارتهم ونهاية
عصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والحسد والغضب ودواعي الحقد والحسد يواظبون
على العبودية والطاعة، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الطبيعة وكدورات الزلات
البشرية أولى بأن يداوم على ذكر معبوده، وينجذب ما أمكن إلى العالم العقلي ومقره
الأصلي ويصفي مرآة قلبه عن أصداء الهواجس وينتقش بالجلايا القدسية والمعارف الحقية
والله وليّ التوفيق.
التأويل: { وأمر بالعرف } وهو طلب الحق لأنه معروف العارفين { وأعرض عن
الجاهلين } الذين يطلبون غير الله { من الشيطان نزغ } في طلب غير الله { فاستعذ بالله } من
طلب غير الله { إن الذين اتقوا } هم أرباب القلوب فإن التقوى من شأن القلب كما
قال صلى الله عليه وسلم: "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره. { طائف من الشيطان } نزغ من العمل الشيطاني
يراه القلب بنور التقوى ويعرفه فيذكره أنه يفسده ويكدر صفاءه فيجتنبه { وإخوانهم } يعني
إخوان القلوب وهم النفوس الأمارة { وإذا لم تأتهم } أي لم تأت القلوب { بآية } من الله
لتعجز النفوس عن تكذيبها { قالوا } أي النفوس للقلب لولا اختلقتها من خاصية قلبيتك
لتزكية النفوس { قل إنما أتبع } إلهام الحق فلا أقدر على تزكية النفوس إلا بقوة الإلهام
الرباني. { فاستمعوا } بآذانكم الظاهرة { وأنصتوا } بألسنتكم الباطنة { لعلكم ترحمون }
بالاستماع بالسمع الحقيقي وذلك قوله: "كنت له سمعاً وبصراً فبي يسمع وبي يبصر"
فمن سمع القرآن من بارئه فقد سمع من قارئه وهذا سر الرحمن علم القرآن فهو المستعد
لخطاب { واذكر ربك في نفسك } بأن تبدل أخلاقها الله { تضرعاً } في البداية وهو من
باب التكلف { وخيفة } في الوسط { ودون الجهر من القول } في النهاية وهو مقام الفناء
فإن إفشاء سر الربوبية كفر في غدوّ الأزل وآصال الأبد، فإن الذاكر والذكر والمذكور هو
الله ولهذا قال في الأزل { فاذكروني أذكركم } [البقرة: 152] ومن هنا قال يوسف بن
الحسين الرازي: ما قال أحد الله إلا الله { ولا تكوننَّ من الغافلين } والذين لا يعلمون أن
الذاكر والذكر والمذكور هو الله { إن الذين عند ربك } وهم الذين بقوا ببقاء الله
{ لا يستكبرون عن عبادته } لأنهم أفنوا أخلاقهم في أخلاقه { يسبحونه } ينزهونه عن الحلول
والاتصال والاتحاد { وله يسجدون } في الوجود والعدم من الأزل إلى الأبد منه المبدأ وإليه
المنتهى.