قوله عزَّ وجل: { كۤهيعۤصۤ } قد تقدَّمَ الكلامُ في فواتح السوَرِ.
وقوله: { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ } مرتَفِعٌ بقولهِ: { كۤهيعۤصۤ } في قَوْلِ فرقَةٍ.
وقيل: إنَّهُ ارتفعَ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدأ محذوفٍ تَقْديرُهُ: هذا ذكر، وحكَى أبو عمرو الدَّانِي عن ابن يعمر أَنَّه قرأ: «ذَكِّر رَحْمَة رَبِّكَ»: بفتح الذَّالِ، وكسر الكافِ المشدَّدة، ونصبِ الرَّحمة.
وقوله { نَادَىٰ }: مَعناه بالدُّعَاءِ والرغبَةِ؛ قاله ابنُ العربيِّ في «أحكامه».
وقوله تعالى: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً }: يناسِبُ قَوْلَهْ:
{ { ٱدعوا ربَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [الأعراف:55]. وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قَال:
"خيرُ الذَّكْرِ الخفيُّ، وخيرُ الرِّزقِ ما يَكْفِي" وذلك؛ لأَنَّهُ أَبْعَدُ مِن الرياء، فأَمَّا دُعاءُ زكرياء عليه السلام فإنما كان خفيّاً لوجهين: أَحدُهُما: أَنَّهُ كان ليلاً.
والثاني: أَنَّهُ ذَكَرَ في دُعَائه أَحوالاً تفتقرُ إلى الإخفَاءِ؛ كَقَوْلِهِ: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَٰلِيَ مِن وَرَآئِي }. وهذا مما يُكْتَمُ. انتهى.
و { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ } معناه ضَعُفَ، { وَٱشْتَعَلَ } مُسْتَعَارٌ للشيْب منِ اشتعال النَّار.
وقولهُ: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } شُكْر للّه ـــ عز وجل ـــ على سالف أياديه عنده، معناه: قد أَحسنتَ إليَّ فيما سلَف، وسعدتُ بدعائي إيَّاك؛ فالإنعامُ يقتضي أَنْ يشفع أَوله آخره.
* ت *: وكذا فسَّر الدَّاوُودِيُّ، ولفظه: «ولم أَكنْ بدُعائِك رَبِّ شقيّاً»، يقولُ: كنْتَ تعرفني الإجابَة فيما مَضىٰ، وقاله قتادةُ: انتهى.
وقوله: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَٰلِيَ... } الآية، قيل: معناه خاف أَن يرثَ الموَالي مَالَهُ، والموالي: بنو العمّ، والقرابةُ.
وقولُه { مِن وَرَآئِي } أَيْ: من بعدي.
وقالت فرقةٌ: إنما كان مواليه مهمِلينَ للدِّين؛ فخاف بموته أَنْ يضَيع الدينُ؛ فطلب وليّاً يقومُ بالدين بعده؛ حَكَى هذا القولَ: الزَّجَّاجُ، وفيه: أَنه لا يجوزُ أَن يسأل زَكَرِيَّاءُ من يرث ماله؛ إذاِ الأَنبيَاءِ لا تُورَثُ.
قال * ع *: وهذا يُؤَيّده قولُه صلى الله عليه وسلم:
"إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا، فَهُو صَدَقَة" . والأَظهرُ الأَلْيق بزكرياء عليه السلام أَن يريدَ وِرَاثةَ العِلْم والدِّينِ، فتكون الوارثةُ مستعارةً، وقد بلغه اللّه أَمَلَهُ. قال ابنُ هِشَامٍ: و { مِنْ وَرآئِي } متعلّقٌ بـ { ٱلْمَوَٰلِيَ }، أو بمحذوفٍ هو حالٌ من الموالي، أو مُضَاف إليهم، أَيْ: كائِنِينَ مِنْ وَرَائي، أو فعَل الموالي مِنْ ورائي، ولا يصحّ تعلقه بـــ «خِفْتُ»؛ لفساد المعنى. انتهى. من «المغني».
و { خِفْتُ ٱلمَوَٰلِيَ }، هي قراءةُ الجمهور، وعليها هو هذا التفسير.
وقرأ عثمانُ بنُ عَفَّانَ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ، وجماعةٌ «خَفَّتِ» بفتح الخاء، وفتح الفاء، وشدِّها، وكَسْر التَّاء، والمعنى على هذا: قد انقَطَع أَوْلِيَائِي، وماتُوا، وعلى هذه القراءة، فإنما طلب وَليَّا يقوم بالدين.
قال ابنُ العربي في «أحكامه»: ولم يخف زكرياءُ وارثَ المالِ، وإنما أَراد إرْثَ النبوءة، وعليها خاف أَن تخرج عن عَقِبه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال:
" إنَّا ـــ معَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ ـــ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة" انتهى. وقرأ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ، وابنُ عباسٍ، وغيرُهما ـــ رضي اللّه عنهم ـــ «يرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ».
* ت *: وقوله: { فَهَبْ لِي } قال ابنُ مَالكٍ في «شرح الكافية» اللامُ هنا: هي لامُ التعدِيَة؛ وقاله ولدُه في «شرح الخلاصة».
قال ابنُ هشام: والأَوْلَىٰ عندي أن يمثل للتعدية بنحو: ما أكرم زيداً لعمرو، وما أحبه لبكر، انتهى.
وقولُه: { مِن ءَالِ يَعْقُوبَ } يريدُ يرث منهم الحِكْمة، وكذلك العاقرُ من الرجال.
وقوله: { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } معناه في اللغة: لم نجعل له مُشَارِكاً في هذا الاسم، أي: لم يسم به قبل يَحْيىٰ، وهذا قول ابن عباس وغيره.
وقال مجاهدُ: وغيره: { سَمِيّاً } معناه: مثيلاً، ونظيراً، وفي هذا بعدٌ: لأَنه لا يفضل على إبرَاهِيم ومُوسَىٰ عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص؛ كالسودد، والحصر.
والعتي، والعُسِيُّ: المبالغة في الكبر، أو يُبْس العود، أو شيْب الرأس، أو عقيدة ما، وزكرياء: هو من ذرية هارون - عليهما السلام - ومعنى قوله: { سَوِيّاً } فيما قال الجمهور، صحيحاً من غير عِلَّة، ولا خرس.
وقال ابن عباس: ذلك عائدٌ على الليالي، أراد: كاملات مستويات.
وقوله: { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ } قال قتادة، وغيره: كان ذلك بإشارة.
وقال مجاهد: بل بكتابة في التراب.
قال * ع *: وكِلاَ الوجهين وَحْي.
وقوله: { أَنْ سَبِّحُواْ } قال قتادة: معناه صلوا السُّبْحة، والسُّبحةْ: الصلاة، وقالت فرقة: بل أَمرهم بذكر اللّه، وقول: سُبْحان اللّه.