خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ... } الآية: القواعدُ: جمع قاعدةٍ، وهي الأساس.

* ص *: القواعدُ، قال الكسائيُّ والفَرَّاء: هي الجُدُر، وقال أبو عُبَيْدة: هي الأساس. انتهى.

واختلفوا في قصص البَيْت، فقيل: إِن آدم أمر بِبِنَائِهِ، ثم دثر، ودرس حتى دلَّ عليه إبراهيم، فرفع قواعده، وقيل: إِن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر اللَّه، وقيل غير هذا.

* ع *: والذي يصحُّ من هذا كلِّه أن اللَّه سبحانه أمر إبراهيمَ برَفْعِ قواعدِ البيتِ، وجَائِزٌ قِدَمُهُ، وجَائز أن يكون ذلك ابتداءً، ولا يرجح شيء من ذلك إِلا بسند يقطع العُذْر.

{ وَإِسْمَـٰعِيلُ }: عطْفٌ على { إِبْرَاهِيمُ }، والتقديرُ: يقولاَنِ: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }، أي: السميع لدعائنا، العليمُ بنيَّاتنا، وخصَّا هاتين الصفتين؛ لتناسبهما مع حالهما، وقولهما: { اجْعَلْنَا } بمعنى: صيِّرنا مُسْلِمَيْن، وكذلك كانا، وإنما أرادا التثبيتَ والدوامَ، والإِسلام في هذا الموضعِ. الإِيمانُ والأعمالُ جميعاً، «ومِنْ» في قوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَا } للتبعيض؛ لأن اللَّه تعالَىٰ قد كان أعلمه أنَّ منهم ظالمين، والأُمَّة: الجماعةُ، { وَأَرِنَا } قالتْ طائفةٌ: من رؤية البصَرِ، وقالت طائفةٌ: من رؤية القلبِ، وهذا لا يصحُّ، قال قتادة: المناسكُ معالم الحجِّ، واختلف في معنَىٰ طلبهم التوبةَ، وهم أنبياء معصومُونَ، فقالتْ طائفةٌ: طلبا التثْبيتَ والدوامَ، وقيل: أرادا من بعدهما مِنَ الذُّرِّيَّة، وقيل، وهو الأحسن؛ إِنهما لما عرفا المناسكَ، وبنيا البيتَ، أرادا أن يسنا للناس؛ أنَّ تلك المواطنَ مكانُ التنصُّل من الذنوبِ، وطلبِ التوبة.

وقال الطبريُّ: إِنه ليس أحد من خلق اللَّه إِلا بينه وبين اللَّه معانٍ يحب أنْ تكون أحسن ممَّا هي، وأجمعت الأمة على عصْمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن الصغائر الَّتي فيها رذيلةٌ، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومُونَ من الجميع، وأنَّ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأَتُوبُ فِي اليَوْمِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ سَبْعِينَ مَرَّةً" ، إِنَّما هُوَ رُجُوعُهُ مِنْ حَالَةٍ إِلَىٰ أَرْفَعَ مِنْهَا؛ لِتَزَيُّدِ علومه، وإطلاعه على أمر ربه، فهو يتوب من منزلة إلى أعْلَىٰ، والتوبةُ هنا لُغَوِيَّةٌ، وقوله: { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ.. } الآية: هذا هو الذي أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَىٰ عيسَىٰ" ، ومعنَىٰ { مِّنْهُمْ }، أي: يعرفُوهُ، ويتحقَّقوا فضلَه، ويشفق عليهم، ويحرص.

* ت *: وقد تواتَرَتْ أخبار نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وبعثته في الكتب السالفة، وعَلِمَ بذلك الأحْبارُ، وأخبروا به، وبتعيين الزَّمَن الذي يبعث فيه.

وقد روى البيهقيُّ أحمد بن الحُسَيْن وغيره عن طلحة بن عُبَيْد اللَّه - رضي اللَّه عنه - قَالَ: «حَضَرْتُ سُوقَ بصرى، فَإِذَا رَاهِبٌ في صومعة، يقول: سَلُوا أَهْلَ هَذَا المَوْسِمِ، أفيهِمْ مَنْ هو مِنْ هذا الحَرَمِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا، فما تَشَاءُ؟ قَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ؟ قُلْتُ: ومَنْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: أحمدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إِلَىٰ نَخْلٍ وَسِبَاخٍ، إِذَا كَانَ، فَلاَ تُسْبَقَنَّ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، وَأَسْرَعْتُ اللَّحَاق بِمَكَّةَ، فَسَأَلْتَ، هَلْ ظَهَرَ بَعْدِي أَمْرٌ؟ فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ الأُمِّيُّ قَدْ تَنَبَّأَ، وَتَبِعَهُ أبو بَكْرِ بْنُ أبِي قُحَافَةَ، فَمَشَيْتُ إِلَىٰ أَبِي بَكْرٍ، وَأَدْخَلَنِي إلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمْتُ»، وقد روى العُذْرِيُّ وغيره عن أبي بكر - رضي اللَّه عنه - أنَّه قَالَ: «لقيتُ شيخاً باليمن، فقال لي: أنْتَ حَرَمِيٌّ، فقلت: نعم، فقال: وأحسبكَ قُرَشِيًّا، قلت: نعم، قال: بَقِيَتْ لِي فيكَ واحدةٌ، ٱكْشِفْ لي عن بَطْنك، قُلْتُ: لا أفعل، أو تخبرني لِمَ ذلك، قال: أجدُ في العلْمِ الصحيحِ أن نبيًّا يبعثُ في الحرمين يقارنه علَىٰ أمره فتًى وكَهْل، أمَّا الفتَىٰ، فخوَّاض غمراتٍ، ودفَّاع مُعْضِلاَتٍ، وأما الكَهْل، فأبيضُ نحيفٌ علَىٰ بطنه شَامَةٌ، وعلى فَخِذِهِ اليسرَىٰ علامةٌ، وما عليك أنْ تريني ما سألتُكَ عَنْه، فقد تكامَلَتْ فيك الصِّفَةُ، إِلا ما خَفِيَ علَيَّ؟ قال أبو بكر: فكَشَفْتُ له عَنْ بطني، فرأَىٰ شامَةً سوداء فوق سُرَّتي، فقالَ: أَنْتَ هو وربِّ الكعبة، إِني متقدِّم إِليك في أمْرٍ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قال: إِيَّاكَ، والمَيْلَ عن الهُدَىٰ، وعليك بالتمسُّك بالطريقةِ الوسْطَىٰ، وخَفِ اللَّه فيما خَوَّلَكَ، وأَعْطَىٰ، قال أبو بكر: فلمَّا ودعتُهُ، قال: أَتَحْمِلُ عنِّي إِلى ذلك النبيِّ أبياتاً، قلت: نعم، فأنشأ الشيخ يَقُولُ: [الطويل]

أَلَمْ تَرَ أَنِّي قَدْ سَئِمْتُ مُعَاشِرِيوَنَفْسِي وَقَدْ أَصْبَحْتُ فِي الحَيِّ عَاهِنَا
حَيِيتُ وَفِي الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ عِبْرَةٌثَلاَثَ مِئينَ بَعْدَ تِسْعِيـــنَ آمِنَــا
وَقَدْ خَمَدَتْ مِنِّي شَرَارَةُ قُوَّتِيوَأُلْفِيتُ شَيْخاً لاَ أُطِيقُ الشِّوَاحِنَا
وَأَنْتَ وَرَبِّ الَبْيتِ تَأْتِي مُحَمَّداًلِعَامِكَ هَذَا قَدْ أَقَــامَ البَرَاهِنَـــا
فَحَيِّ رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي فَإِنَّنِـيعَلَىٰ دِينِهِ أَحْيَا وَإِنْ كُنْتُ قَاطِنَـا

قال أبو بكر: فحفظْتُ شعره، وقَدِمْتُ مكَّة، وقد بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فجاءني صناديد قُرَيْشٍ، وقالوا: يا أبا بكْرٍ، يتيمُ أَبِي طالِبٍ، يَزْعُم أنه نبيٌّ، قال: فجئْتُ إِلَىٰ منزلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقرعْتُ علَيْه، فخرَجَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، فُقِدْتَ مِنْ مَنَازِلِ قَوْمِكَ، وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَآمِنْ بِاللَّهِ، فَقُلْتُ؛ وَمَا دَلِيلُكَ؟ قَالَ: الشَّيْخُ الَّراهِبُ الَّذِي لَقِيتَهُ بِاليَمَنِ، قُلْتُ: وَكَمْ مِنْ شَيْخٍ لَقِيتُ! قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الشَّيْخَ الَّذِي أَفَادَكَ الأَبْيَاتَ، قُلْتُ: وَمَنْ أَخْبَرَكَ بِهَا؟ قَالَ: الرُّوحُ الأمِينُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي الأَنْبِيَاءَ قَبْلِي، قُلْتُ: مُدَّ يَمِينَكَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَٱنْصَرَفْتُ وَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أَشَدُّ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَرَحاً بِإِسْلاَمِي». انتهى من تأليف ابن القَطَّان في «الآياتِ والمعجزاتِ».

و { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـٰتِكَ }، أي: آيات القُرآن، و { ٱلْكِتَـٰبَ }: القرآن، قال قتادة: { وَٱلْحِكْــمَةَ } السنة، وروى ابن وهْب عن مالكٍ؛ أن { ٱلْحِكْمَةَ }: الفقْهُ في الدين، والفهم الذي هو سجيَّة ونور من اللَّه تعالى.

* ت *: ونقل عِيَاضٌ في «مداركه» عن مالك؛ أن { ٱلْحِكْمَةَ } نورٌ يقذفه اللَّه في قلب العبد، وقال أيضاً: يقع في قلبي؛ أنَّ { ٱلْحِكْمَةَ } الفقْهُ في دين اللَّه، وأمر يدخلُه اللَّه القلُوبَ من رحمته وفَضْله، وقال أيضاً: { ٱلْحِكْمَةَ } التفكُّر في أمر اللَّه، والاتِّباعُ له، والفقْه في الدِّين، والعمل به. انتهى.

وقد أشار * ع *: إلى هذا عند قوله تعالى: { { يُؤْتِي الْحِكْمَة مَن يَشَآءُ } [البقرة:269].

* ت *: والظاهر أن المراد بـــ { ٱلْحِكْمَةَ } هنا: ما قاله قتادة، فتأمَّله.

{ وَيُزَكِّيهِمْ }: معناه يطَهِّرهم، وينمِّيهم بالخَيْر، و { ٱلْعَزِيزُ }: الَّذي يغلب، ويتم مراده، و { ٱلْحَكِيمُ }: المصيبُ مواقعَ الفعْلِ، المُحْكِمُ لها.