خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
١٢٨
وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى
١٢٩
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ
١٣٠
وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٣١
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ
١٣٢
وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٣٣
-طه

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونِ } المعنى: أفلم يبين لهم.

وقرأت فرقةٌ: «نَهْدِ» بالنون، والمراد بالقرونِ المهلَكِين: عَادٌ، وثَمُودٌ، والطَّوائِفُ التي كانت قريشٌ تجوزُ على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره، ثم أعلم سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن العذابَ كان يصير لهم لِزَاماً لولا كلمة «سبقَتْ من اللّه تعالى في تَأْخيره عنهم إلى أجلٍ مُسَمًّى عنده، فتقدير الكلام. ولولاَ كلمةٌ سبقت في التَّأْخِير، وأجلٍ مسمى، لكَانَ العذابُ لِزَاماً؛ كما تقولُ لَكَانَ حَتْماً، أو واقعاً، لكنّه قدم وأَخّر؛ لتشابه رُؤُوس الآي.

واختُلِف في الأجل المسمى: هل هو يوم القيامة، أو موت كل واحد منهم، أو يوم بدْرٍ؟ وفي «صحيح البخاري»: أن يوم بَدْرٍ هو: اللزام، وهو: البَطْشَةُ الكُبْرىٰ، يعني: وقع في البخاري من تفسير ٱبْنِ مَسْعُودٍ، وليس هو من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.

قال * ص *: و { لِزَاماً }: إمَّا مصدرٌ، وإمَّا بمعنى ملزم، وأجاز أبو البقاء: أنْ يكون جمع لاَزِم، كَقَائِمٍ وقيام. انتهى.

ثم أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصّبْر على أقوالهم: إنه ساحرٌ، إنه كاهن، إنه كاذب إلَى غير ذلك.

وقوله سبحانه: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ... } الآية، قال أكثرُ المفسرين: هذه إشارةٌ إلى الصلوات الخمس؛ فقبل طلوع الشمس صلاةُ الصبح، وقبل غُرُوْبَها صَلاةُ العَصْر، ومن آناءِ الليل العِشَاءُ، وأطرافُ النهار المغرِبُ والظهر.

قال ٱبنُ العربي: والصحيحُ أنَّ المغربَ من طَرَفِ الليل، لاَ مِنْ طرف النَّهَارِ. انتهى من «الأحكام».

وقالت فرقةٌ: آناء الليل: المغرب والعشاء، وأطراف النهار: الظهر وحدها، ويحتمل اللفظ أن يراد به قول: سبحان اللّه وبحمده.

وقالت فرقةٌ: في الآية: إشارةٌ إلى نوافل، فمنها آناء الليل، ومنها قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر.

* ت *: ويتعذر على هذا التأويل قولُه: { وقَبْلَ غُرُوبِهَا }؛ إذْ لَيْس ذلك الوقْتُ وقْتَ نفل، على ما علم إلاَّ أنَّ يتأول ما قبل الغروب بما قبل صلاة العصر وفيه بعد.

قال * ص *: { بِحَمْدِ رَبِّكَ } في موضع الحال، أي: وأنت حامدٌ. انتهى.

وقرأ الجمهور: { لَعْلَّكَ تَرْضَىٰ } بِفَتْح التاء، أي: لعلك تُثَابُ على هذه الأعمال بما ترضى به.

قال ابنُ العربي في «أحكامه»: وهذه الآية تُماثِلُ قولَهُ تعالى: { { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى:5].

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ؛ فإنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَلاَّ تُغْلَبُوا عَلَىٰ صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَعْنِي: الصُّبْحَ، وقَبْلَ غُرُوبَهِا؛ فَٱفْعَلُوا" .

وفي الحديث الصحيح أيضاً: "منْ صَلَّى البَرْدَيْنِ، دَخَلَ الجَنَّةَ" . انتهى.

وقرأَ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُرْضَىٰ» أي: لعلك تُعْطى ما يرضيك، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: بالاحتقار لشأن الكفرة، والإعراض عن أموالهم، وما في أيْديهم من الدنيا؛ إذ ذلك مُنْحَسِرٌ عنهم صائر إلى خِزْي، والأزواج: الأنواع، فكأنه قال: إلَى ما متعنا به أقواماً منهم، وأَصنافاً.

وقوله: { زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } شبَّه سبحانه نِعَم هؤلاء الكفار بالزهر، وهو ما ٱصْفَرَّ من النّوْر، وقيل: الزهر: النورُ جملةً؛ لأن الزهر له منظر، ثم يضمحل عن قرب، فكذلك مآلُ هؤلاء، ثم أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: أن ذلك إنما هو ليختبرهم به، ويجعله فِتْنةً لهم وأمراً يجازون عليه أسوأ الجزَاءِ؛ لفساد تقلبهم فيه.

* ص *: و { زَهْرَةً }: منصوبٌ على الذمِّ، أو مفعولٌ ثانٍ لـ: { مَتَّعْنَا } مضمن معنى أعطينا. اهـــ.

ورزق اللّه تعالى الذي أحله للمتقين من عباده، خير وأبقى، أيْ: رزق الدنيا خيرٌ ورزق الآخرة أبقى، وبين أنه خير من رزق الدنيا، ثم أمره سبحانه وتعالى بأن يأمر أهله بالصلاة، ويمتثلها معهم ويَصْطَبِر عليها ويلازمها، وتكفَّل هو تعالى برزْقِهِ لا إلٰهَ إلاَّ هو، وأخبره أن العَاقِبَةَ للمتقِينَ بنصره في الدنيا، ورحمته في الآخرة، وهذا الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عُمُوْمِهِ: جميعُ أمته.

ورُوِيَ: أنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي اللّه عنه كان إذا رأى شيئاً من أخبار السلاطين وأحوالهم، بادر إلَى منزله، فدخله وهو يقول: { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ... } الآية إلى قوله { وأَبْقَىٰ } ثم يُنَادِي: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ رَحِمَكُمُ اللّهُ، ويصلي.

وكان عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ رضي اللّه عنه يوقِظُ أَهْلَ دَارِهِ لِصَلاَةِ اللَّيْلِ ويصلِّي هو ويتمثَّلُ بالآية.

قال الداوودي: وعن عَبْدِ اللّهُ بْنِ سَلاَمٍ، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضِيقٌ أوْ شِدَّةٌ أمرهم بالصَّلاَةِ، ثم قرأَ: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ } إلى قوله { لِلتَّقْوَىٰ }. انتهى.

قال ٱبن عطاء اللَّه في «التنوير» وٱعلم. أنَّ هذه الآية علمت أهل الفَهْم عن اللَّه تعالى كَيْفَ يطلبون رزقَهُم، فإذَا توقفت عليهم أسباب المعيشة، أكثروا من الخِدْمة والموافقة، وقَرَعُوا بابَ الرِّزْقِ بمعاملة الرزَّاق - جل وعلا - ثم قال: وسمعتُ شَيْخَنَا أَبَا العَبَّاس المُرْسِي رضي اللَّه عنه يقول: واللَّه مَا رَأَيْتَ العزَّ إلاَّ في رفع الهِمّة عن الخلق، وٱذْكُرْ رحمك اللَّه هنا: { { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون:8].

ففي العز الذي أَعزّ اللَّه به المؤمن رفْعُ همته إلى مولاه، وثقتُه به دُونَ مَنْ سِوَاهُ، واستحي من اللَّه بعد أن كساك حُلّة الإيمان، وزينك بزينة العِرْفان؛ أن تستولي عليك الغفلة والنسيان؛ حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره تعالى وجود إحسان، ثم قال: ورفع الهِمَّة عن الخلْقِ: هو ميزانُ ذوي الكمال ومِسْبار الرجال، كما توزن الذَّواتُ كذلك توزن الأحوالُ والصِّفَاتُ. انتهى.

ومن كتاب «صفوة التصوف» لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ حَدِيثٌ بسنده عن ٱبنِ عُمَرَ قال: أتَىَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدَّثْنِي حَدِيثاً، وٱجْعَلْهُ مُوجَزاً، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "صَلَّ صَلاَةَ مُوَدِّع، كَأَنَكَ تَرَاهُ، فَإنْ كُنْتَ لاَ تَرَاهُ، فَإنَّهُ يُرَاكَ، وَايَأَس مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، تَعْشِ غَنِيّاً، وإِيَّاكَ وَمَا يُعَتَذَّرُ مِنْهُ" ورواه أبو أيوب الأنصاري بمثله عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

{ وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا } محمدٌ { بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي: بعلامة مما ٱقترحناها عليه، ثم وبخهم سبحانه بقوله: { أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } أَيْ: ما في التوراة، وغيرها، ففيها أعظم شاهد، وأكبر، آية له سبحانه.