خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٦١
-النور

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ } إلى قوله { كَذَلِكَ يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ظاهر الآية: وأَمْرُ الشريعة أَنَّ الحَرَجَ عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم الإتيان به بالأكمل، ويقتضي العذر أَنْ يقعَ منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، وللناس أقوال في الآية وتخصيصاتٌ يطول ذكرها، وذكر اللّه تعالى بيوتَ القراباتِ، وسقط منها بيوت الأبناء؛ فقال المفسرون: ذلك لأَنَّها داخلة في قوله: { من بيوتكم } لأنَّ بيت ابن الرجل بيتُه.

وقوله تعالى: { أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ } يريد ما خزنتم وصار في قبضتكم، فمعظمه ما ملكه الرجلُ في بيته وتحت غلقه، وهو تأويل الضَّحِّاكِ ومجاهد، وعند جمهور المفسرين: يدخل في الآية الوكلاءُ والعبيدُ والأُجراءُ بالمعروف. وقرأ ابن جبير: «مَلَكْتُمْ مَفَاتِيحَهُ» مبنياً للمفعول وزيادة يا بين التاء والحاء، وقَرَنَ تعالى في هذه الآية الصديقَ بالقرابة المَحْضَةِ الوكيدة؛ لأَنَّ قُرْبَ المودة لصيق؛ قال معمر: قلت: لقتادَة: أَلاَ أشرب من هذا الجُبِّ؟ قال: أنت لي صديق، فما هذا الاستئذان؟ قال ابن عباس في كتاب «النقاش»: الصديق أوكد من القرابة؛ ألا ترى استغاثة الجهنميين: { { فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [الشعراء:100، 101].

وقوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً }: رَدٌّ لمذهب جماعة من العرب كانت لا تأكل أفذاذاً ألبتَّةَ، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وأَنَّ إحضار الأكيل لَحَسَنٌ ولكن بأَلاَّ يحرم الانفرادُ، قال البخاريُّ: أشتاتاً وشتى واحد، انتهى.

وقال بعض أهل العلم: هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" الحديث، وبقوله تعالى: { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ } الآية، وبقوله عليه السلام من حديث ابن عمر: «لاَ يَجْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِهِ» الحديث.

قلت: والحق أَنْ لا نسخَ في شيءٍ مِمَّا ذُكِرَ، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى.

وقوله سبحانه: { فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً }: قال النَّخَعِيُّ: أراد المساجد، والمعنى: سُلِّمُوا على مَنْ فيها، فإنْ لم يكن فيها أحد فالسلام أنْ يقول: السلامُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السلامُ علينا وعلى عبادِ اللّه الصالحين.

وقال ابن عباس وغيره: المراد البيوتُ المسكونة، أي: سلِّموا على مَنْ فيها، قالوا: ويدخل في ذلك غيرُ المسكونة، ويُسَلِّم المرءُ فيها على نفسه بأنْ يقول: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

قلت: وفي «سلاح المؤمن»، وعن ابن عباس في قوله عز وجل: { فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } قال: هو المسجدُ إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين رواه الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً، انتهى، وهذا هو الصحيح عن ابنِ عباس، وفَهِمَ النوويُّ أَنَّ الآية في البيوت المسكونة، قال: ففي الترمذيِّ عن أنس قال: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا بُنَيَّ، إذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ، فَسَلِّمْ، يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ" قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي أبي داودَ عن أبي أُمَامَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلاَثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ ـــ عز وجل ـــ: رَجلٌ خَرَجَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللّهِ عز وجل فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ تعالى حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرُدَّهُ بِما نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى المَسْجِدِ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ تعالى حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أَوْ يَرُدُّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ؛ وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلامٍ؛ فَهُو ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ تعالى" حديث حسن رواه أَبو داودَ بإسناد حسن، ورواه آخرون، والضمان: الرعاية للشيء، والمعنى: أَنَّه في رعاية اللّه عز وجل، انتهى. وقوله تعالى: { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةً } وصفها تعالى بالبركة؛ لأَنَّ فيها الدعاءَ واستجلابَ مودَّةِ المسلم عليه.

قلت: وقد ذكرنا في سورة النساءِ: ما ورد في المصافحة من رواية ابن السُّنِّيِّ قال النووي: وَرُوِّينَا في سنن أَبي داودَ والترمذيِّ وابن ماجه عن البَرَاءِ بن عازِبٍ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا" انتهى. والكاف من قوله: { كذلك }: كافُ تشبيهٍ؛ وذلك: إشارة إلى هذه السنن.

وقال أيضاً بعضُ الناس في هذه الآية: أَنَّها منسوخة بآية الاستئذان المتقدمة.

قال * ع *: والنسخ لا يُتَصَوَّرُ في شيءٍ من هذه الآيات، بل هي مُحْكَمَةٌ، أَمَّا قوله: { { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } [البقرة:188] ففي التعدي والخدع ونحوه، وأمَّا هذه الآية ففي إباحة طعام هذه الأصناف التي يسرها ـــ استباحَةُ طعامها على هذه الصفة، وأمَّا آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكَشَفَةِ، فإذا استأذن المرءُ ودخل المنزل بالوجه المباح صَحَّ له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة، وليس يكونُ في الآية نسخ فتأمله.