خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
١٩١
رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
١٩٢
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً }: الَّذِينَ: في موضع خفضٍ صفَة لـ { أُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ }، وهذا وصف ظاهره استعمالُ التحميدِ والتَّهْليلِ والتَّكْبير ونَحْوه مِنْ ذكر اللَّه، وأنْ يحضر القلب اللسان؛ وذلك من أعْظَمِ وجوه العبادَاتِ، والأحاديثُ الصحيحةُ في ذلك كثيرةٌ، وابنُ آدم متنقِّلٌ في هذه الثلاثِ الهيئاتِ، لا يَخْلُو في غالب أمْرِه مِنْها فكأنها تحصرُ زمنه، وكذلك جَرَّتْ عائشةُ (رضي اللَّه عنها) إلى حصر الزَّمَن في قَوْلها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ أَحْيَانِهِ».

قلت: خرَّجه أبو داود، فدخَلَ في ذلك كونه على الخَلاَءِ وغيره.

وذهَبَ جماعةٌ إلى أنَّ قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ } إنما هو عبارةٌ عن الصَّلاة، أي: لا يضيِّعونها، ففي حال العُذْر يصلُّونها قعوداً، وعلى جُنُوبهم، ثم عَطَف علَىٰ هذه العبادةِ التي هِيَ ذكُرْ اللَّه باللسان، أو الصَّلاة فرضها وندبها بعبادة أخرَىٰ عظيمةٍ، وهي الفِكْرَةُ في قُدْرة اللَّه تعالَىٰ ومخلوقاتِهِ، والعِبَرُ التي بَثَّ. [المتقارب]

وَفِــي كُــلِّ شَــيْءٍ لَــهُ آيَــةٌتَــدُلُّ عَــلَــىٰ أَنَّــهُ وَاحِــدُ

قال الغَزَّالِيُّ: ونهايةُ ثمرة الدِّين في الدُّنيا تَحْصيلُ معرفة اللَّه، وتحصيلُ الأُنُس بذكْرِ اللَّهِ تعالَىٰ، والأنسُ يَحْصُلُ بدوامِ الذِّكْر، والمعرفَةُ تحصُلُ بدوامِ الفِكْرِ. انتهى من «الإحياء».

ومَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم علَىٰ قومٍ يتفكَّرون في اللَّه، فَقَالَ: "تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِي الخَالِقِ؛ فَإنَّكُمْ لاَ تَقْدُرُونَ قَدْرَهُ" .

قال * ع *: وهذا هو قَصْدُ الآية في قوله: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.

وقال بعض العلماء: المتفكِّر في ذاتِ اللَّهِ كَالنَّاظر في عَيْنِ الشمْسِ؛ لأنه سبحانه لَيْسَ كمثله شيء، وإنما التفكُّر وٱنبساطُ الذِّهْن في المخلوقاتِ، وفي أحوالِ الآخِرَةِ، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ" وقال ابن عبَّاس، وأبو الدَّرْدَاء: فكْرَةُ ساعَةٍ خيُرٌ من قيامِ لَيْلَةٍ، وقال سَرِيٌّ السَّقطِيُّ: فكرةُ ساعةٍ خَيْرٌ من عبادة سَنَةٍ، ما هو إلاَّ أنْ تحلَّ أطناب خَيْمَتِكَ، فَتَجْعَلها في الآخِرَةِ، وقال الحَسَنُ بْنُ أَبي الحَسَن: الفكْرةُ مِرآةُ المُؤْمنِ، ينظر فيها إلَىٰ حسنَاتهِ وسيِّئاته، وأخذ أبو سليمان الدَّارانِيُّ قَدَح الماء؛ ليتوضَّأ لصلاة الليلِ، وعنده ضيْفٌ، فرآه لما أدخَلَ أصبعه في أُذُنِ القَدَح، أقام كذلك مفكِّراً حتى طلع الفَجْر، فقال له: ما هذا يَا أبا سليمان؟ فَقَالَ: إني لما طَرَحْتُ أصبعي في أُذُنِ القَدَحِ، تذكَّرت قول اللَّه سُبْحَانه: { { إِذِ ٱلأَغْلَـٰلُ فِي أَعْنَـٰقِهِمْ وٱلسَّلَـٰسِلُ } [غافر:71]، فتفكَّرت في حالِي، وكيف أتلَقَّى الغُلَّ، إنْ طُرِحَ في عُنُقِي يوم القيامة، فما زلْتُ في ذلك حتى أُصْبِحَ.

قال * ع *: وهذه نهايةُ الخَوْف، وخَيْرُ الأمور أوساطها، وليس علماء الأمَّة الذين هم الحُجَّة علَىٰ هذا المنهاج، وقراءةُ علْمِ كتابِ اللَّه ومَعَانِي سُنَّة رسُوله لِمَنْ يفهم ويُرْجَىٰ نَفْعُه أفضَلُ من هذا، لكنْ يَحْسُنُ ألاَّ تخلُوَ البلاد مِنْ مثل هذا.

قال * ع *: وحدثني أبي (رحمه اللَّه)، عَنْ بعضِ علماءِ المَشْرق، قال: كنتُ بائتًا في مسجد الإقدامُ بـــ «مَصْرَ» فصلَّيْتُ العَتَمَةَ، فرأَيْتُ رجلاً قد ٱضْطَجَعَ في كساءٍ له، حتى أصبح، وصلَّينا نَحْنُ تلك اللَّيْلَة، وسَهِرْنَا، فلَمَّا أُقِيمَتْ صلاةُ الصُّبْح، قام ذلك الرجُلُ، فٱستقْبَلَ القبْلَةَ، وصلَّىٰ مع النَّاس، فٱستعظَمْتُ جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلَمَّا فرغَتِ الصلاةُ، خرَجَ، فتبعْتُهُ لأعظَهُ، فلَمَّا دنوْتُ منه، سَمِعْتُهُ، وهو يُنْشِدُ: [المنسرح]

مُنْسَجِنُ الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِرمُنْتَبِهُ القَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ
مُنْبَسِطٌ فِي الغُيُوبِ مُنْقَبُضكَذَاكَ مَنْ كَانَ عَارِفاً ناكِرْ
يَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَرفَهْوَ مَدَى اللَّيْلِ نَائِمٌ سَاهِرْ

قال: فعلمتُ أنه مِمَّن يعبدُ اللَّهَ بالفِكْرة، فٱنصرفْتُ عنه.

قال الفَخْر: ودلَّتِ الآية علَىٰ أنَّ أعلَىٰ مراتب الصِّدِّيقين التفكُّر. انتهى.

وفي «العتبية»: قال مالكٌ: قيلَ لأمِّ الدَّرْداء: ما كان أَكْثَر شأن أبي الدَّرْداء؟ قَالَتْ: كان أَكْثَرُ شَأْنِهِ التفكُّرَ. قال مالكٌ: وهو مِنَ الأعمال، وهو اليَقِينُ؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ }، قال ابنُ رُشْدٍ: والتفكُّر مِنَ الأعمال؛ كما قاله مالك (رحمه اللَّه)، وهو مِنْ أشرف الأعمال؛ لأنه مِنْ أعمال القُلُوب التي هي أشْرَفُ الجوارحِ؛ أَلاَ تَرَىٰ أنه لا يُثَابُ أحدٌ علَىٰ عملٍ مِنْ أعمال الجَوَارح مِنْ سائر الطَّاعات، إلاَّ مع مشارَكَةِ القُلُوبِ لها بإخلاص النِّيَّة للَّه (عَزَّ وجَلَّ) في فعلها. انتهى من «الَبَيانِ والتحصيل».

قال ابنُ بَطَّال: إن الإنسان إذا كَمُل إيمانه، وكَثُر تفكُّره، كان الغالِبُ علَيْه الإشفاقَ والخَوْف. انتهى.

قال ابنُ عطاءِ اللَّهِ: الفِكْرَةُ سَيْر القَلْب في ميادين الاعتبارِ، والفَكْرَةِ سِرَاجُ القَلْب، فإذا ذَهَبَتْ، فلا إضاءة له.

قُلْتُ: قال بعض المحقِّقين: وذلك أن الإنسان إذا تفكَّر، عَلِم، وإذا عَلِمَ، عَمِلَ.

قال ابنُ عَبَّاد: قال الإمام أبو القاسم القُشَيْريُّ (رحمه اللَّه): التفكُّر نعتُ كلِّ طالب، وثمرتُهُ الوصولُ بشرط العِلْمِ، ثم فِكْرُ الزاهدين: في فناءِ الدنيا، وقلَّةِ وفائها لطلاَّبها؛ فيزدادُونَ بالفِكْرِ زهْداً، وفِكْرُ العابدين: في جَميلِ الثوابِ، فيزدادُونَ نَشَاطاً ورغبةً فيه، وفِكْرُ العارفين: في الآلاء والنعماء؛ فيزدادُونَ محبَّةً للحَقِّ سبحانه. انتهى.

وقوله تعالى: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً }، أي: يقولُونَ: يا ربَّنا؛ على النداء، ما خلَقْتَ هذا باطلاً، يريد: لغير غايةٍ منصوبةٍ، بل خلقْتَهُ، وخلَقْتَ البشر؛ لينظروا فيه؛ فيوحِّدوك، ويعبدوك؛ فَمَنْ فعل ذلك نَعَّمْتَهُ، ومَنْ ضَلَّ عن ذلك، عَذَّبته، وقولهم: { سُبْحَـٰنَكَ }، أي: تنزيهاً لك عمَّا يقول المُبْطِلُون، وقولهم: { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ }، أي: فلا تفعلْ ذلك بِنَا، والخِزْيُ: الفضيحةُ المُخْجِلَةُ الهادِمَة لقَدْرِ المرء.

قال أنَسُ بنُ مالكٍ، والحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن، وابنُ جُرَيْج، وغيرهم: هذه إشارة إلَىٰ من يَخْلُدُ في النَّار، وأمَّا مَنْ يخرج منها بالشفاعةِ والأَمان، فليس بمُخْزًى، أي: وما أصابه من عذابِهَا، إنما هو تمحيصٌ لذنوبه.

وقوله سبحانه: { وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ }: هو من قول الدَّاعِينَ.