خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
١٥
فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ
١٦
ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ
١٧
-سبأ

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقولُه تَعَالَى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ... } الآية، هذا مَثَلٌ لقريشٍ بِقَوْمٍ أنْعَمَ اللّه عَليهمْ فَلَمْ يَشْكُروا؛ فَانْتَقَمَ مِنْهُم، أي: فأنتم أيُّها القَوْمُ مِثْلُهم، و«سبأ» هُنا يراد بهِ القَبِيلُ، واخْتُلِفَ: لِمَ سُمِّي القَبِيلُ بِذلك فَقَالَت فِرْقَةٌ: هُو اسْمُ امْرَأةٍ.

وقِيلَ: اسْمُ مَوْضِعٍ سُمِّيَ بِهِ القَبِيلُ، وقَالَ الجُمْهُورُ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ، هُو أَبُو القَبِيلُ، كُلِّه، وفِيهِ حَدِيثُ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ المتقدّمُ في «سُورة النَّمْلِ»؛ خَرَّجَهُ التِّرْمِذيُّ، و { ءَايَةٌ }: معناه: عِبْرَةٌ وَعَلاَمَةٌ عَلَى فَضْلِ اللّهِ وقُدْرَتِه، و{ جَنَّتَانِ }: مبتدَأٌ وَخَبَرُه: { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ }، أو خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيره: هي جنتان، وقيل: { جَنَّتَانِ } بَدَلٌ مِن { ءَايَةٌ } وَضُعِّفَ، ورُوِي فِي قُصَصِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي نَاحِيَةِ اليَمَنِ وَادٍ عَظِيمٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وَكَانَتْ جَنَبَتَا الوادِي فَوَاكِهَ وزُرُوعاً، وكان قد بُنِيَ فِي رَأْسِ الوادِي عِنْدَ أَوَّلِ الجَبَلَينِ؛ جِسْرٌ عَظِيمٌ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ الجَبَلِ إلَى الجَبَلِ، فَاحْتَبَسَ الماءُ فِيهِ، وصَارَ بُحَيْرَةً عَظِيمَةً، وَأُخِذَ المَاءُ من جَنَبَتَيْهَا فَمَشَى مُرْتَفِعاً يَسْقِى جَنَّاتٍ كَثِيرَةٍ جَنَبتَي الوادِي، قِيلَ: بَنَتْهُ بلقيس، وَقِيلَ بَنَاهُ حِمْيَرُ أَبُو القَبَائِلِ اليَمَانِيَّةِ كُلِّهَا، وكانُوا بهذهِ الحالِ فِي أرْغَدِ عَيْشِ، وَكَانَتْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ قُرٍى ظَاهِرَةٌ مُتَّصِلَة من اليَمَنِ إلَى الشَّامِ، وَكَانُو أَرْبَابَ تِلْكَ البِلاَدِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.

* ت *: وَقَوْلُ * ع *: «وَكَانَ قَدْ بُنِيَ فِي رَأْسِ الوَادِي عِنْدَ أَوَّلِ الجبلين» صوابُه: وَكَانَ قَدْ بُنِيَ فِي أَسْفَلِ الوَادِي عِنْدَ آخِرِ الجَبَلَينِ، و { كُلُوا }: فيه حذفٌ مَعْنَاهُ: قيل لَهُم: كُلُوا، و { طَيِّبَةٌ } معناه: كريمةُ التُّربةِ حَسَنةُ الهَواءِ، ورُوِيَ أَنَّ هذهِ المقَالة؛ مِن الأَمْرِ بالأَكْلِ وَالشُّكْرِ وَالتَّوْقِيفِ عَلى طِيبِ البَلْدَةِ وغُفْرَانِ الرَّبِّ مَعَ الإيمَانِ بِهِ؛ هي من قول الأَنْبِياء لَهُمْ، وبُعِثَ إليهم فِيمَا رُوِيَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ نَبِيّاً فَكَفَرُوا بِهِم وأَعْرَضُوا؛ فَبَعَثَ اللّهُ عَلى ذَلِكَ السَّدِّ جُرْذاً أَعْمَى؛ تَوالَدَ فِيه؛ وَخَرَقَهُ شَيْئاً بَعْدَ شَيْءٍ؛ فَانْخَرَقَ السَّدُّ وَفَاضَ المَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَجَنَّاتِهم فَغَرَّقَها؛ وَأَهْلَكَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الفِرَارُ، واخْتُلِفَ فِي { ٱلْعَرِمِ }. فَقَالَ المُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ وَأَبُو مَيْسَرَةَ: هُوَ كُلُّ مَا بُنِي أَوْ سُنِّمَ لِيُمْسِك المَاءَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيره: { ٱلعَرِم }: اسْمُ وَادِي ذَلِكَ المَاءِ بِعَيْنِهِ الَّذِي كَانَ السَّدُّ بُنِي لَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضاً { ٱلْعَرِم } الشَّدِيدُ.

قَالَ * ع *: فَكَأَنَّهُ صِفَةٌ لِلسَّيْلِ مِنْ العَرَامَةِ، وَالإضَافَةُ إلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةٌ؛ وَهِي كثيرةٌ فِي كَلام العَرَبِ، وقِيل: { ٱلعَرِم }: صِفَةٌ للمَطَرِ الشديدِ الذي كانَ عَنْه ذَلِكَ السَّيْلُ.

وقوله تعالى: { وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } فيه تَجُوُّزٌ وَٱسْتِعَارَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ البَدَلُ - مِنَ الخَمْطِ والأَثْلِ - لَمْ يَكُنْ جَنَّاتٍ؛ لَكِنَّ هَذا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ جَرَّدَ ثَوْباً جَيِّداً وَضَرَبَ ظَهْرَه: هَذا الضَّرْبُ ثَوْبٌ صَالِحُ لَكَ؛ ونحو هذا، و«الخَمْطِ»: شَجَرُ الأَرَاكِ، قَالَه ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُه، وقِيلَ: «الخَمْطُ»: كُلُّ شَجَرِ لَهُ شَوْكٌ وَثَمْرَتَهُ كَرِيهَةُ الطَّعْمِ بِمَرَارَةٍ أَو حُمُوضَةٍ أو نَحْوِه، وَمِنْه تَخَمَّطَ اللَّبَنُ إذَا تَغَيَّرَ طُعْمُه و«الأَثْلُ»: ضَرْبٌ من الطَّرْفَاءِ، هذا هو الصَّحِيحُ، و«السدر»: معروفٌ وهُو لَه نَبْقٌ شَبَهُ العُنَّابِ لكنَّه دُونَه في الطَّعْمِ بِكَثِير، وللخَمْطِ ثَمرٌ غَثُّ هُوَ البَرِيرُ، وللأَثْلِ ثَمْرٌ قَلِيلُ الغَنَاءِ غَيْرُ حَسَنِ الطَّعْمِ، وقرأ نافع وابن كثير: «أُكلٌ»: ـــ بِضَمِّ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الكَافِ ـــ، والبَاقُونَ: ـــ بِضَمِّهِمَا ـــ وهُمَا بمعنى الجَنَى والثَّمْرَةِ، ومِنْه: { { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [سورة إبراهيم:25].

أي: جناها، وقرأ أبو عمرو: «أُكُلِ خُمْطٍ» بإضافةِ «أُكُل» إلى «خمط».

وقولُه تعالى: { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما أجْرَاهُ عَلَيْهِم.

وقولُه: «وهل يجازى»، أي: يناقَشُ ويُقَارَضُ بمثلِ فعلهِ قَدْراً بقَدْرٍ، لأَنَّ جَزَاءَ المُؤْمِنِ إنَّما هُو بِتَفَضُّلٍ وَتَضْعِيفٍ ثَوَابٍ، وَأَمَّا الَّذِي لاَ يُزَادِ وَلاَ يَنْقَضُ فَهُوَ الكَافِرُ، وقَرَأْ حمزةُ والكسائي: «وهل نُجَازِي» ـــ بالنونِ وكَسْرِ الزَّايْ ـــ «الكفور» ـــ بالنصْبِ ـــ.