قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ } رُوِيَ: أَنَّ قائلَ هذه المقالة هُو أَبُو سفيانَ بنِ حَرْبٍ، والَّلامُ من قوله: { لِّيَجْزِيَ } يَصِحُّ أَنْ تكونَ متعلقةً بقوله: { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } و { ٱلَّذِينَ } مَعْطُوفٌ عَلَى { ٱلَّذِينَ } الأولى، أي: ولِيَجْزَي الَّذِينَ سَعَوْا و { مُعَـٰجِزِينَ } معناه: مُحَاوِلِينَ تَعْجِيزَ قدرةِ اللّهِ فِيهمْ، ثُم أَخْبَرَ تَعَالَى بَأَنَّ الذِينَ أُوتُوا العِلمَ يَرَوْنَ الوَحْيَ المُنَزَّل عَلَى مُحَمَّدٍ عليه السلام حَقاً، وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ قِيلَ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ، ثُمَّ حَكَى اللّهُ تَعَالَى عَنْ الكُفَّارِ مَقَالَتَهُمْ الَّتِي قَالُوهَا عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ وَالهُزْءِ وَاسْتِبْعَادِ البَعْثِ، هل نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ؛ يَعْنُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم { يُنَبئُكُمْ إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } بِالبِلَى وَتَقَطُّعِ الأَوْصَالِ فِي القُبُورِ وَغَيْرِهَا و { جَدِيدٍ } بمعنى مُجَدَّدِ، وقولهم: { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } هُوَ أَيْضاً مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ قَوْلِهِمْ؛ فَقَالَ: { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ }: يُريدُ عَذَابَ الآخرةِ؛ لأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إلَيْه، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يريدَ عَذَابَ الدنيا أَيضاً، والضَّمِيرُ فِي قوله: { أَفَلَمْ يَرَوْاْ } لهؤلاء الذين لا يؤمِنُونَ بالآخرةِ وَقَفَهُمْ اللّه على قدرتِه، وخَوَّفَهُم من إحاطَتِهَا بهِمْ، والمعنى: أليسَ يَرونَ أمامَهم وَوَرَاءَهُم سَمَائِي وَأَرْضِي، وَبَاقِي الآيةِ بَيِّنٌ، ثم ذكَر اللّه تَعَالَى نعمتَه عَلى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ احتجَاجاً عَلى مَا مَنَحَ مُحَمَّداً، و{ أَوِّبِي } مَعنَاه: رَجِّعي معه، قال ابنُ عَبَّاسٍ وغيرُهُ: معناه: يا جبالُ سَبِّحِي مَعَه، أي: يُسَبِّحُ هُوَ وتُرَجِّع هِيَ معه التسبيحَ، أي: تُرَدِّدُهُ بالذكر.
وقال مؤرج: { أَوِّبِي } سَبِّحِي بِلُغَةِ الحَبَشةِ، وقَرَأَ عَاصِمُ: «والطيرُ» ـــ بالرفع عَطْفاً عَلى لفظِ قوله: «يا جبال» وَقَرَأَ نَافِعُ وَابْنُ كَثِيرٍ: «والطيرَ» بِالنَّصَبِ.
قَالَ سَيبَوَيْهِ: عَطَفَ عَلَى مَوْضِع قَوْلِهِ: «يا جبال» لأَنَّ مَوْضِعَ المنادَى المفردِ نصبٌ، وقيل: نَصْبُها بإضمار فِعْلٍ تقديرُه وسخَّرْنَا الطَّيْرَ، { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } مَعْنَاه: جَعَلْنَاهُ لَيِّناً، ورَوَى قَتَادَةُ وَغَيْرِه: أَنَّ الْحَدِيدَ كَانَ لَهُ كَالشَّمْعِ؛ لاَ يَحْتَاجُ فِي عَمَلِهِ إلَى نَارٍ، و«السابغات»: الدُّرُوعُ الكَاسِيَاتِ ذَوَاتُ الفُضُولِ.
وَقَوله تعالى: { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } قَالَ ابنُ زَيْدٍ: الذي أَمَرَ بهِ هُوَ فِي قدر الحَلْقَة، أي: لا تَعْمَلْهَا صَغِيرَةً فَتَضْعُفَ؛ فَلا يَقْوَى الدِّرْعُ عَلى الدِّفَاعِ، وَلاَ تَعْمَلْهَا كَبِيرَةً، فَيُنَالَ لاَبِسُهَا مِنَ خِلاَلِهَا.
وقال ابن عباس: التقديرُ: الَّذِي أَمَر بهِ هُو فِي المِسْمَارِ، وذَكَرَ البُخَارِيُّ فِي «صحيحهِ» ذَلِكَ؛ فَقَالَ: المَعْنَى: لاَ تَدِقَّ المِسْمَارَ فَيَتَسَلَّلَ وَلاَ تُغْلِظَهُ فَيَنْقَصِمَ بالقافِ وبالفاء أيضاً رواية.
* ت *: قال الهُرَوِيُّ: قوله تعالى: { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ } «السرد» مُتَابَعَةُ حَلَقِ الدِّرْعِ شَيْئاً بعد شيء حتى يتناسقَ، يقالُ: فُلاَنٌ يَسْرِدُ الحَدِيثَ سَرْداً، أي: يُتَابِعُه. انتهى.