وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ... } الآية: هذه صفةُ المنافقينَ، و { يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ }: معناه: ينتظِرُونَ دَوْرَ الدوائرِ عليكم، فإن كان فَتْحٌ للمؤْمِنِينَ، ٱدَّعَوْا فيه النصيبَ بحُكْمِ ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافِرِينَ نَيْلٌ من المؤمنين، ٱدَّعَوْا فيه النَّصِيبَ بحُكْمِ ما يبطنونه من موالاةِ الكُفَّار، وهذا حالُ المنافقينَ، و { نَسْتَحْوِذْ }: معناه: نَغْلِبُ علَىٰ أمرِكِم ونَحُوطُكُمْ؛ ومنه:
{ ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } [المجادلة:19]، معناه: غَلَبَ على أمرهم، ثم سَلَّىٰ سبحانه المؤمنينَ، وأنَّسهم بما وَعَدَهُم به في قوله: { فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ }، أيْ: وبينهم، وينصفُكُم من جميعهم، وبقوله تعالى: { وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً }، أيْ: يوم القيامة؛ قاله عليٌّ (رضي اللَّه عنه)؛ وعليه جميعُ أهْل التَّأوِيلِ، والسَّبيلُ (هنا): الحُجَّة والغَلَبَةُ. قلت: إِلاَّ ابنَ العَرَبِيِّ لم يرتَض هذا التأويلَ، قال: وإنما معنى الآية أحَدُ ثلاثةِ وُجُوهٍ: الأول: لن يجعل اللَّه للكافِرِينَ عَلَى المؤمنينَ سَبيلاً يَمْحُو به دَوْلَةَ المؤمنين، ويستبيحُ بَيْضَتَهُمْ.
الثاني: لَنْ يجعل اللَّه للكافِرِينَ عَلَى المُؤْمنين سبيلاً إلاَّ أنْ يتواصَوْا بالباطِلِ، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَر، ويتباعدوا عن التَّوْبَةِ، فيكونُ تسليطُ العَدُوِّ مِنْ قِبَلِهِمْ، وهذا نَفِيسٌ جِدًّا.
الثالث: لن يجعلَ اللَّه للكافرينَ عَلَى المؤمنينَ سبيلاً بالشَّرْع، فإن وُجِدَ ذلك، فبخلاف الشرْعِ، ونَزَعَ بهذا علماؤُنا؛ بالاحْتجاجِ علَىٰ أنَّ الكافر لا يَمْلِكُ العَبْدَ المُسْلِمَ. انتهى.
ومخادعَةُ المنافقين: هي لأولياءِ اللَّهِ، ففِي الكلامِ حَذْفُ مضَافٍ؛ إذْ لا يقصد أحَدٌ من البشر مخادَعَةَ اللَّهِ سبحانه.
وقوله تعالى: { وَهُوَ خَادِعُهُمْ }: عبارةٌ عن عقوبَتِهِمْ، سمَّاها بٱسْمِ الذَّنْب، وقال ابنُ جْرَيْج، والحَسَن، والسُّدِّيُّ، وغيرهم من المفسِّرين: إنَّ هذا الخَدْعَ هو أنَّ اللَّه تعالى يُعْطِي لهذه الأُمَّة يوم القيامةِ نُوراً لكلِّ إنسانٍ مؤمن، أو منافقٍ، فيفرح المنافِقُونَ، ويظُنُّون؛ أنهم قد نَجَوْا، فإذا جاءوا إلى الصِّراطِ، طُفِىءَ نورُ كلِّ منافقٍ، ونهَضَ المؤمنُونَ، فَذَلكَ قولُ المنافِقِينَ:
{ { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [الحديد:13]، فذلك هو الخَدْع الذي يَجْرِي عَلَى المنافِقِينَ، ثم ذكر سبحانه كَسَلَهُمْ في الصلاةِ، وتلْكَ حالُ كُلِّ مَنْ يعمل كارهاً غيْرَ معتقِدٍ فيه الصَّواب، بل تقيَّةً أو مصانَعَةً. قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه»: قوله تعالى: { وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً }، روى الأئمَّة مالكٌ وغيره، عن أنسٍ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّىٰ إذَا ٱصْفَرَّتِ الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعاً لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً" قال ابن العربيِّ: وقد بيَّن تعالَىٰ صلاةَ المؤمنين بقوله: { { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ } [المؤمنون:1، 2] ومن خَشَعَ خَضَعَ، وٱسْتَمَرَّ، ولم ينقُرْ صلاتَهُ، ولم يستعْجِلْ. انتهى. و { مُّذَبْذَبِينَ }: معناه: مُضْطَرِبِينَ لا يَثْبُتُونَ علَىٰ حالٍ، والتَّذَبْذُب: الاِضطرابُ، فهؤلاءِ المنافقُونَ متردِّدون بَيْنَ الكفَّار والمؤمنين، لا إلَىٰ هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:
"مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ" ، والإشارةُ بذلك إلَىٰ حالَتَيِ الكفرِ والإيمان.