خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧٧
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
٧٨
-النساء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ... } الآية: ٱختلَفَ المتأوِّلون، فِيمَن المرادُ بقوله: { ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ }.

فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: كان جماعةٌ من المؤمنين قد أَنِفُوا من الذُّلِّ بمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرة، وسألوا رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبِيحَ لَهُمْ مقاتَلَةَ المُشْركين، فأمرهم عَنِ اللَّهِ تعالَىٰ بكَفِّ الأيْدِي، فلَمَّا كتب عليهم القتالُ بالمدينةِ، شَقَّ ذلك علَىٰ بعضهم، ولَحِقَهُمْ ما يلْحَقُ البَشَر من الخَوَرِ والكَعِّ عَنْ مقَارَعَةِ العدُوِّ، فنزلَتِ الآية فيهم.

وقال ابنُ عباس أيضاً ومجاهدٌ: إنما الآيةُ حكايةٌ عنْ حالِ اليَهُود؛ أنهم فعلوا ذلكَ مَعَ نبيِّهم في وَقْتِهِ، فمعنى الحكايةِ عنهم تقبيحُ فِعْلِهِمْ، ونَهْيُ المؤمنين عَنْ فِعْلِ مثله.

وقيل: المرادُ المنافقُونَ.

و «أَوْ»: تقدَّم شرحُها في «سورة البقرة»؛ في قوله تعالى: { { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة:74]؛ لأنَّ الموضعَيْنِ سواءٌ.

وقولهم: { لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ }: رَدٌّ في صَدْر أوامرِ اللَّهِ سبحانه، وقلَّةُ ٱستسلامٍ له، والأَجَلُ القريبُ: يعنُونَ به موتَهُمْ علَىٰ فُرُشِهِمْ؛ هكذا قال المفسِّرون.

قال * ع *: وهذا يحسُنُ؛ إذا كانتِ الآيةُ في اليَهُودِ أو في المنافِقِينَ، وأما إذا كانت في طَائِفَةٍ من الصحابةِ، فإنما طَلَبُوا التأخُّر إلى وَقْتِ ظُهُورِ الإسلامِ، وكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، ويُحَسِّنُ القولَ بأنها في المنافِقِينَ ٱطِّرَادُ ذِكْرِهِمْ فيما يأتِي بَعْدُ من الآيات.

وقوله سبحانه: { قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } المعنَىٰ: قل، يا محمَّد، لهؤلاءِ: متاعُ الدنيا، أي: الاِستمتاعُ بالحياةِ فيها الَّذي حَرَصْتُم علَيْهِ قليلٌ، وباقي الآيةِ بيِّن.

وهذا إخبارٌ منه سبحانه يتضمَّن تحقيرَ الدُّنْيا، قلْتُ: ولِمَا عَلِمَ اللَّهُ في الدنيا مِنَ الآفات، حَمَىٰ منها أولياءه، ففِي الترمذيِّ عن قتادة بن النُّعْمَان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: "إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً، حَمَاهُ الدُّنْيَا؛ كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ المَاءَ" ، قال أبو عيسَىٰ: وفي البابِ عَنْ صُهَيبٍ، وأُمِّ المُنْذِرِ، وهذا حديثٌ حسنٌ، وفي الترمذيِّ عن ابن مسعودٍ قال: "نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ ٱتَّخَذْنَا لَكَ فِرَاشاً؟! فَقَالَ: مَالِي ومَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إلاَّ كَرَاكِبٍ ٱسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا" ، وفي الباب عن ابنِ عُمَر، وابن عبَّاس، قال أبو عيسَىٰ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى.

وقوله سبحانه: { فِي بُرُوجٍ } الأكثرُ والأصحُّ الذي علَيْه الجمهورُ: أنه أراد بـــ «البُرُوج»: الحُصُونَ التي في الأرْضِ المبنيَّة؛ لأنها غايةُ البَشَر في التحصُّن والمَنَعة، فمَثَّل اللَّه لهم بها، قال قتادة: المعنَىٰ: في قصورٍ محصَّنة؛ وقاله ابنُ جُرَيْجٍ والجُمْهُور، وبَرَّجَ: معناه: ظَهَر؛ ومنه تبرُّج المرأة، و { مُّشَيَّدَةٍ }: قال الزَّجَّاج وغيره: معناه: مرفُوعَة مطوَّلة؛ ومنه أَشَادَ الرَّجُلُ ذِكْرَ الرَّجُل؛ إذا رفَعَهُ، وقالتْ طائفةٌ: { مُّشَيَّدَةٍ }: معناه: محسَّنة بالشِّيدِ، وهو الجَصُّ، وروى النسائيَّ عن أبي هُرَيْرَة؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" ، يعني: الموتَ، وخرَّجه ابنُ ماجة والترمذيُّ، وخرَّجه أبو نُعَيْمٍ الحافظُ بإسناده من حديثِ مالكِ بْنِ أنس، عن يَحْيَـى بْنِ سعيدٍ، عَنِ ابنِ المُسَيَّب، عن عمرَ بْنِ الخطَّاب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله، وروى ابنُ ماجة بسَنَده، عنِ ابن عُمَرَ؛ أنَّهُ قَالَ: "كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً، قَالَ: فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ ٱسْتِعْدَاداً أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ" ، وأخرجه مالك أيضاً. انتهى من «التذكرة».

وقوله تعالى: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ... } الآية: الضميرُ في { تُصِبْهُمْ } عائدٌ على { ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ }؛ وهذا يدلُّ على أنَّهم المنافقون؛ لأن المؤمنين لا تليقُ بهم هذه المقالةُ؛ ولأنَّ اليهودَ لم يكُونوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ أمْرٍ، فتصيبهم بِسَبَبِهِ أَسْوَاءٌ، والمعنَىٰ: إنْ تُصِبْ هؤلاءِ المنافقين حَسَنَةٌ من غنيمةٍ أو غيرِ ذلك، رَأَوْا أنَّ ذلك بالاتفاقِ مِنْ صُنْع اللَّه، لا ببَرَكَةِ ٱتِّبَاعِكَ والإيمانِ بِكَ، وإنْ تصبْهم سيِّئةٌ، أي: هزيمةٌ، أو شدَّةُ جُوعٍ، أو غيرُ ذلكَ، قالوا: هذه بسَبَبِكَ.

وقوله: { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ }: إعلامٌ من اللَّه سبحانه؛ أنَّ الخيْرَ والشرَّ، والحسنَةَ والسيِّئة خَلْقٌ له، ومِنْ عنده، لا رَبَّ غيره، ولا خَالِقَ ولا مُخْتَرِعَ سواه، والمعنَىٰ: قل، يا محمَّد، لهؤلاَءِ.

ثُمَّ وبَّخهم سبحانه بالاستفهامِ عن عِلَّةِ جهلهم، وقلَّةِ فهمهم، وتحصِيلِهِمْ لما يُخْبَرُونَ به من الحقائِقِ، والْفِقْهُ في اللغةِ: الفَهْمُ، وفي الشَّرْعِ: الفهمُ في أمورِ الدِّين، ثم غَلَبَ علَيْهِ الاستعمالُ في عِلْمِ المسائِلِ الأحكاميَّة.