خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ
٣١
نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ
٣٢
-فصلت

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } قال سفيان بن عبد اللَّه الثَّقَفِيُّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقِمْ».

* ت *: هذا الحديث خَرَّجه مسلم في «صحيحه»، قال صاحب «المُفْهِمِ»: جوابه ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ من جوامع الكَلِم، وكأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ من قول اللَّه تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ... } الآية، وتلخيصه: اعْتَدَلُوا على طاعته قولاً وفعلاً وعقداً، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً» لاِبْنِ الفَاكِهَانِيِّ، قال * ع *: واخْتَلَفَ النَّاسُ في مقتضَىٰ قوله: { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } فذهب الحَسَنُ وجماعةٌ إلَىٰ أَنَّ معناه: ٱسْتَقَامُوا بالطاعاتِ وٱجتنابِ المعاصِي، وتلا عُمَرُ ـــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـــ هذه الآيةُ على المِنْبَرِ، ثم قال: استقاموا ـــ واللَّهِ ـــ بطاعتهِ، ولم يروغوا روِغانَ الثَّعَالِبِ، قال * ع *: فذهب ـــ رحمه اللَّه ـــ إلى حَمْلِ الناس على الأَتَمِّ الأفْضَلِ، وإلاَّ فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أَلاَّ تتنزل الملائكةُ عِنْدَ الموت على غير مستقيمٍ على الطاعَةِ، وذهب أبو بكْرٍ ـــ رضي اللَّه عنه ـــ وجماعةٌ معه إلى أَنَّ المعنَىٰ: ثم: استقاموا علَىٰ قولهم: رَبُّنَا اللَّهُ، فلم يختلَّ توحيدُهُمْ، ولا ٱضطَرَبَ إيمانهم، قال * ع *: وفي الحديث الصحيح: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّه، دَخَلَ الجَنَّةَ" وهذا هو الْمُعْتَقَدُ إن شاء اللَّه، وذلك أَنَّ العصاة من أُمَّةِ محمَّد وغيرها فرقتان: فأَمَّا مَنْ غفر اللَّه له، وترك تعذيبه، فلا محالة أَنَّه مِمَّن تتنزَّل عليهم الملائكة بالبشارة، وهو إنَّما استقام على توحيده فَقَطْ، وأَمَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ بِتَعْذِيبِهِ مُدَّةً، ثم [يأمر] بإدخاله الجَنَّةَ، فلا محالة أَنَّه يلقَىٰ جميعَ ذلك عند مَوْتِهِ وَيَعْلَمُهُ، وليس يَصِحُّ أنْ تكون حاله كحالة الكافر واليائِسِ مِنْ رحمة اللَّه، وإذا كان هذا فقَدْ حَصَلَتْ له بشارة بأَلاَّ يخافَ الخُلُودَ، ولا يحزنَ منه، ويدخلَ فيمن يقال لهم: { وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } ومع هذا كله فلا يختلف في أَنَّ المُوَحِّدَ المستقيمَ عَلَى الطَّاعَةِ أَتَمُّ حالاً وأَكمل بشارةً، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر ـــ رضي اللَّه عنه ـــ، وبالجملة، فكُلَّما كان المرءُ أشَدَّ ٱستعداداً، كان أسْرَعَ فوزاً بفَضْلِ اللَّه تعالَىٰ؛ قال الثعلبيُّ: قوله تعالى: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } أي: عند الموت { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ } قال وَكِيعٌ: والبُشْرَىٰ في ثلاثة مَوَاطِنَ: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، وفي البخاريِّ: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } أي عند الموت، انتهى، قال ابن العربيِّ في "أحكامه": { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } قال المُفَسِّرُونَ: عند الموت، وأنا أقول: كُلَّ يَوْم، وأَوْكَدُ الأيام: يومُ الموت، وحينَ القَبْرِ، ويَوْمُ الفزع الأكبر، وفي ذلك آثار بَيَّنَّاها في موضعها، انتهى، قال * ع *: قوله تعالى { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ }: أَمَنَةٌ عامَّةٌ في كُلِّ هَمِّ مستأنفٍ، وتسليةٌ تَامَّةٌ عن كُلِّ فَائِتٍ مَاضٍ، وقال مجاهدٌ: المعنَىٰ: لا تخافُونَ ما تَقْدُمُونَ عليه، ولا تحزنوا عَلَىٰ ما خلًّفتم من دنياكم.

* ت *: وذكر أبو نُعَيْمٍ عن ثابتٍ البُنَانيِّ أَنَّه قرأ: حم السجدةِ حَتَّى بلغ: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ }، فوقف، وقال: بلغنا أنَّ العَبْدَ المؤمن حين يُبْعَثُ من قبره يتلقَّاه المَلَكَانِ اللَّذانِ كانا معه في الدنيا، فيقولانِ له: لاَ تَخَفْ، ولا تَحْزَنْ، وأبشر بالجنة التي كنت تُوْعَدُ، قال: فَأَمَّنَ اللَّه خوفَه، وأَقَرَّ عينه، الحديث. انتهى. قال ابن المبارك في "رقائقه": سمعتُ سفيانَ يَقُولُ في قوله تعالى: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ }: أي عند الموت { أَلاَّ تَخَافُواْ }: ما أمامكم { وَلاَ تَحْزَنُواْ }: على ما خلفتم من ضَيْعَاتِكُمْ { وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } قال: يُبَشَّرُ بثلاث بشاراتٍ: عند الموت، وإذا خرج من القبر، وإذا فَزِعَ، { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } قال: كانوا معهم، قال ابن المبارك: وأخبرنا رَجُلٌ عن منصورٍ، عن مجاهدٍ في قوله تعالَىٰ: { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } قال: قُرَنَاؤُهُمْ يلقونهم يوم القيامة، فيقولون: لا نفارقُكُمْ حتَّىٰ تدخلوا الجنة، اهـــ.

وقوله تعالى: { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلاْخِرَةِ } المتكلم بـ{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ } هم الملائكة القائلون: { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } أي: يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق: نحن كُنَّا أولياءَكُمْ في الدنيا، ونحن هُمْ أولياؤكم في الآخرة؛ قال السُّدِّيُّ: المعنى: نحن حَفَظَتُكُم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة، والضمير في قوله: { فِيهَا } عائدٌ على الآخرة، و{ تَدَّعُونَ } معناه: تَطْلُبُونَ؛ قال الفَخْرُ: ومعنى كونِهِمْ أولياءَ للمؤمنين، إشارةٌ إلى أَنَّ للملائكة تأثيراتٍ في الأرواحِ [البشريَّةِ، بالإلهاماتِ والمُكَاشَفَاتِ اليقينيَّةِ والمناجاتِ الخفيَّةِ؛ كما أَنَّ للشياطينِ تَأْثيراتٍ في الأرواحِ] بإلقاء الوسَاوِسِ، وبالجملة، فَكَوْنُ الملائكةِ أولياءَ للأرواح الطَّيِّبَةِ الطاهرةِ، حاصِلٌ من جهاتٍ كثيرةٍ معلومةٍ لأربابِ المكاشفاتِ والمشاهَدَاتِ، فَهُمْ يَقُولُونَ: كما أَنَّ تلك الولاياتِ حاصلةٌ في الدنيا، فهي تكونُ باقيةً في الآخرة؛ فإنَّ تلك العلائِقَ ذاتِيَّةٌ لازمة، غير مائلة إلى الزوال؛ بل تصير بعد الموت أَقْوَىٰ وأَبقَىٰ؛ وذلك لأَنَّ جوهر النفْسِ من جنس الملائكة، وهي كالشُّعْلَةِ بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر، وإنَّما التَّعَلُّقَاتُ الجَسَدَانِيَّةُ والتدبيراتُ البدنيَّةُ هي الحائلة بَيْنَهَا وبين الملائكة، فإذا زالَتْ تلك العلائِقُ، فقد زَالَ الْغِطَاءُ، واتَّصَلَ الأثر بالمؤثر، والقطرةُ بالبَحْرِ، والشعلةُ بالشمْسِ، انتهى.

* ت *: وقد نقل الثعلبيُّ من كلام أرباب المعاني هنا كلاماً كثيراً حَسَناً جِدًّا، موقظاً لأربابِ الهِمَمِ، فٱنْظُرْهُ إنْ شِئْتَ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ بأَنَّهُ قال: "إذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ المُؤْمِنِ، بَعَثَ اللَّهُ إلَىٰ نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: إنَّ هَذَا قَدْ كَانَ لَنَا أَخاً وَصَاحِباً، وَقَدْ حَانَ الْيَوْمَ مِنْهُ فِرَاقٌ، فَأْذَنُوا لَنَا، أَوْ قَالَ: دَعُونَا نُثْنِ عَلَىٰ أَخِينَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ، فَيَقُولاَنِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَغَفَرَ لَكَ، وأَدْخَلَكَ الجَنَّةَ؛ فَنِعْمَ الأَخُ كُنْتَ والصَّاحِبُ؛ مَا كَانَ أَيْسَرَ مُؤْنَتَكَ، وَأَحْسَنَ مَعُونَتَكَ عَلَىٰ نَفْسِكَ، مَا كَانَتْ خَطَايَاكَ تَمنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلَىٰ رَبِّنَا، فَنُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يَتَوَفَّىٰ نَفْسَهُ: ٱخْرُجْ أَيُّهَا الرُّوْحُ الطَّيِّبُ إلَىٰ خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَنِعْمَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، ٱخْرُجْ إلَى الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَرَبٍّ عَلًَيْكَ غَيْرِ غَضْبَانَ،، وَإذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، بَعَثَ اللَّهُ إلَىٰ نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا، فَيَقُولُ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ كَانَا يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ: إنَّ هَذَا قَدْ كَانَ لَنَا صَاحِباً، وَقَدْ حَانَ مِنْهُ فِرَاقٌ، فَأْذَنُوا لَنَا، وَدَعُونَا نُثْنِ عَلَىٰ صَاحِبِنَا، فَيُقَالُ: أَثْنِيَا عَلَيْهِ فَيَقُولاَن: لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ غَفَرَ لَهُ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ؛ مَا كَانَ أَشَدَّ مُؤْنَتَهُ، وَمَا كَانَ يُعِينُ عَلَىٰ نَفْسِهِ؛ إنْ كَانَتْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ لَتَمْنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلَىٰ رَبِّنَا فَنُسَبِّحَ لَهُ، وَنُقَدِّسَ لَهُ، وَنَسْجُدَ لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يَتَوَفَّىٰ نَفْسَهُ: ٱخْرُجْ أَيُّهَا الرُّوحُ الخَبِيثُ إلَىٰ شَرِّ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، فَبِئْسَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ، ٱخْرُجْ إلَى الحَمِيمِ وَتَصْلِيَةِ الجَحِيمِ وَرَبٍّ عَلَيْكَ غَضْبَانَ" ، انتهى.