خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
-محمد

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ... } الآية: قال أَكْثَرُ العلماءِ: إنَّ هذه الآية وآيةَ السَّيْفِ، وهي قوله تعالى: { { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة:5] مُحْكَمَتَانِ، فقوله هنا: { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } بمثابة قوله هنالك: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }، وصرَّح هنا بذكر المَنِّ والفداء، ولم يُصَرِّحْ به هنالك، فهذه مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ، وهذا هو القولُ القويُّ، وقوله: { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } مصدر بمعنى الفِعْل، أي: فاضربوا رقابهم وعَيَّنَ مِنْ أنواع القَتْلِ أَشْهَرَهُ، والمراد: ٱقتُلُوهُمْ بأَيِّ وجه أَمكَنَ؛ وفي صحيح مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلهُ في النَّارِ أَبَداً" . وفي «صحيح البخاري» عنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَتَمَسَّهُ النَّارُ" انتهى.

والإثخان في القوم أنْ يكثر فيهم القتلَىٰ والجرحَىٰ، ومعنى: { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } أي: بمن لم يُقْتَلْ، ولم يترتَّب فيه إلاَّ الأسْرُ، ومَنًّا وفِدَاءً: مصدران منصوبانِ بفعلَيْن مُضْمَرَيْنِ.

وقوله: { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } معناه: حتى تذهبَ الحربُ وتزولَ أثقالُهَا، والأوزار: الأثقال؛ ومنه قول عَمْرِو بنِ مَعْدِ يكرِبَ: [من المتقارب]

وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَارِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورَا

واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحربُ أوزارها، فقال قتادة: حتى يُسَلِّمَ الجميعُ، وقال حُذَّاقُ أهل النظر: حتى تغلبوهم وتَقْتُلُوهُمْ، وقال مجاهد: حتى ينزلَ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ، قال * ع*: وظاهر اللفظ أَنَّهُ استعارةٌ يُرَادُ بها التزامُ الأمْرِ أبداً؛ وذلك أَنَّ الحربَ بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا وكذا إلَىٰ يَوْمِ القيامةِ، وإنَّما تريد أَنَّك تفعله دائماً.

{ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي: بعذابٍ مِنْ عنده، ولكن أراد سبحانه ٱختبارَ المؤمنين، وأنْ يَبْلُوَ بعضَ الناس ببعضٍ، وقرأ الجمهور: { قَاتَلُواْ } وقرأ عاصم بخلاف عنه: { قَـٰتَلُواْ } ـــ بفتح القاف والتاء ـــ، وقرأ أبو عمرو وحَفْصٌ: { قُـٰتِلُواْ } ـــ بضم القاف وكسر التاء ـــ، قال قتادة: نزلَتْ هذه الآيةُ فيمَنْ قُتِلَ يوم أُحُدٍ من المؤمنين.

وقوله سبحانه: { سَيَهْدِيهِمْ } أي: إلى طريقِ الجَنَّةِ.

* ت *: ذكر الشيخ أبو نُعَيْمٍ الحافظُ أنَّ مَيْسَرَةَ الخادمَ قال: غزونا في بعض الغَزَوَاتِ، فإذا فتًى إلى جانِبي، وإذا هو مُقَنَّعٌ بالحديد، فَحَمَلَ على المَيْمَنَةِ، فَثَنَاها، ثُمَّ على المَيْسَرَةِ حتى ثَنَاهَا، وحَمَلَ عَلَى القَلْبِ حتى ثناه، ثم أنشأ يقول[الرجز]

أَحْسِنْ بِمَوْلاَكَ سَعِيدُ ظَنَّاهَذا الَّذِي كُنْتَ لَهُ تَمَنَّىٰ
تَنَحِّ يَا حُورَ الْجِنَانِ عَنَّامَالَكِ قَاتَلْنَا وَلاَ قُتِلْنَا
لَكِنْ إلَىٰ سَيِّدِكُنَّ ٱشْتَقْنَاقَدْ عَلِمَ السِّرَّ وَمَا أَعْلَنَّا

قال: فحمل، فقاتل، فَقَتَلَ منهم عدداً، ثم رَجَعَ إلى مَصَافِّهِ، فتكالَبَ عليه العَدُوُّ، فإذا هو ـــ رضي اللَّه تعالى عنه ـــ قد حمل على الناس، وأنشأ يقول: [الرجز]

قَدْ كُنْتُ أَرْجُو وَرَجَائِي لَمْ يَخِبْأَلاَّ يَضِيعَ الْيَوْمَ كَدِّي وَالطَّلَبْ
يَا مَنْ مَلاَ تِلْكَ الْقُصُورَ باللُّعَبْلَوْلاَكَ مَا طَابَتْ وَلا طَابَ الطَّرَبْ

ثم حَمَلَ ـــ رضي اللَّه عنه ـــ فقاتل، فَقَتَلَ منهم عَدَداً، ثم رجع إلى مَصَافِّه، فتكالَبَ عليه العَدُوُّ فحَمَلَ ـــ رضي اللَّه عنه ـــ في المرة الثالثة، وأنشأ يقول: [الرجز]

يَا لُعْبَةَ الخُلْدِ قِفِي ثُمَّ ٱسْمَعِيمَالَكِ قَاتَلْنَا فَكُفِّي وَٱرْجِعِي
ثُمَّ ٱرْجِعِي إلَى الْجِنَانِ وَٱسْرِعِيلاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي

فقاتل ـــ رضي اللَّه عنه ـــ حتَّىٰ قُتِلَ،، انتهى من ابن عَبَّاد شارح «الحِكَم».

وقوله تعالى: { عَرَّفَهَا لَهُمْ } قال أبو سعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وقتادة، ومجاهد: معناه: بَيَّنَهَا لهم، أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّة أَعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ في الدّنْيَا" قال القرطبيُّ في «التذكرة»: وعلَىٰ هذا القولِ أكثرُ المفسِّرين قال: وقيل: إنَّ هذا التعريفَ إلى المنازِلِ هو بالدليلِ، وهو المَلَكُ المُوَكَّلُ بِعَمَلِ العَبْدِ، يمشي بين يَدَيْهِ،، انتهى، وقالت فرقة: معناه: سَمَّاها لهم، ورَسَمَهَا كُلُّ منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف، وقالت فرقة: معناه شَرَّفَهَا لهم ورفعها وعلاَّها، وهذا من الأَعْرَافِ التي هي الجبال، ومنه أعرافُ الخَيْلِ، وقال مُؤَرِّجٌ وغيره: معناه: طَيَّبَهَا؛ مأخوذٌ من العَرْفِ، ومنه طَعَامٌ مُعَرَّفٌ، أي: مُطَيَّبٌ، وعَرَّفْتُ القِدْرَ: طَيَّبْتُها بالمِلْحِ والتَّابِلِ، قال أبو حيَّان: «وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ» البال: الفِكْرُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، انتهى.

وقوله سبحانه: { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ } أي: دينَ اللَّه { يَنصُرْكُمْ } بخلق القوَّةِ لكم وغَيْرِ ذلك من المعاون، { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } أي: في مواطن الحَرْبِ، وقيل: على الصراط في القيامة.

وقوله: { فَتَعْساً لَّهُمْ } معناه: عِثَاراً وهَلاَكاً لهم، وهي لفظة تقالُ للعَاثِرِ، إذا أُرِيدَ به الشَّرُّ؛ قال ابن السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أنْ يَخِرَّ على وجهه.

وقوله تعالى: { كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ } يريد: القرآن { فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ } قال * ع *: ولا خلافَ أَنَّ الكافر له حَفَظَةٌ يكتبون سَيِّئاتِهِ، واختلف الناسُ في حَسَنَاتِهِمْ، فقالت فرقة: هي مُلْغَاةٌ يثابُونَ عليها بِنِعَمِ الدنيا فقَطْ، وقالت فرقة: هي مُحْصَاةٌ من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أَنَّهُ قد يُسْلِمُ فينضافُ ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحدُ التأويلَيْنِ في قوله صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: "أَسْلَمْتَ عَلَىٰ مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ " .