خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٣
-الحجرات

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

قوله عز وجل: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ... } الآية: قال ابن زيد: معنى: { لاَ تُقَدِّمُواْ } لا تمشوا، وقرأ ابن عباس، والضَّحَّاكُ، ويعقوب: ـــ بفتح التاءِ والدال ـــ، على معنى: لا تَتَقَدَّمُوا، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد، والمعنى على ضم التاء: بين يدي قولِ اللَّه ورسوله، ورُوِيَ أَنَّ سَبَبَ هذه الآية أَنَّ وفد بني تميم لما قَدِمَ، قال أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي اللَّه عَنْهُ -: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ الْقَعْقَاعَ بنَ مَعْبَدٍ؟ وَقَالَ عُمَرُ: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ أَمِّرِ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إلا خِلافي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَتِ الآيةُ، وذهب بعض قَائِلِي هذه المَقَالَةِ إلَىٰ أَنَّ قوله: { لاَ تُقَدِّمُواْ }: أي: وُلاَةً، فهو من تقديم الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي: اجعلوه مبدأ في الأَقوال والأَفعال، وعبارة البخاريِّ: وقال مجاهد: «لا تقدموا»: لا تَفْتَاتُوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى يقضيَ اللَّه عز وجل على لسانه، انتهى.

وقوله سبحانه: { لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوٰتَكُمْ } الآية، هي أيضاً في هذا الفنِّ المتقدِّم؛ فرُويَ أَنَّ سببها ما تقدم عن أبي بكر وعمر ـــ رضي اللَّه عنهما ـــ والصحيح أَنَّها نزلت بسبب عادة الأَعراب من الجَفَاءِ وعُلُوِّ الصَّوْتِ، وكان ثابت بن قيس بن شماس ـــ رضي اللَّه عنه ـــ مِمَّنْ في صوته جهارة فلما نزلت هذه الآية اهْتَمَّ وخاف على نفسه، وجلس في بيته لم يخرج، وهو كئيب حزين حتى عَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خبره فبعث إليه، فآنسه، وقال له: "امْشِ في الأَرْضِ بَسْطاً؛ فإنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ" ، وَقَالَ لَهُ مَرَّةً: "أَمَا تَرْضَىٰ أَنْ تَعِيشَ حَمِيداً، وَتَمُوتَ شَهِيداً؟" فعاش كذلك، ثم قُتِلَ شَهِيداً بِاليَمَامَةِ يَوْمَ مُسَيْلَمَةَ.

* ت *: وحديث ثابت بن قيس وتبشيره بالجنة خَرَّجَهُ البخاريُّ، وكذلك حديث أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما خَرَّجه البخاريُّ أيضاً، انتهى.

وقوله: { كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي: كحال أحدكم في جفائه، فلا تنادوه باسمه: يا محمد، يا أحمد؛ قاله ابن عباس وغيره، فأمرهم اللَّه بتوقيره، وأنْ يدعوه بالنبوَّةِ والرسالة، والكلام اللَّيِّنِ، وكَرِهَ العلماءُ رفعَ الصوت عند قبرِ النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرة العَالِمِ وفي المساجد، وفي هذه كلها آثار؛ قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: وحُرْمَةُ النبي صلى الله عليه وسلم مَيِّتاً كحرمته حَيًّا، وكلامه المأثور بعد موته في الرِّفْعَةِ مِثْلُ كلامه المسموع من لفظه، فإذا قُرىءَ كلامُه وجب على كل حاضر أَلاَّ يرفعَ صوتَهُ عليه، ولا يُعْرِضَ عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تَلَفُّظِهِ بِه، وقد نَبَّهَ اللَّه تعالى على دوام الحُرْمَةِ المذكورة على مرور الأزمنة بقوله: { { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } [الأعراف:204] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هو من الوحي، وله من الحُرْمَةِ مِثْلُ ما للقرآن، انتهى.

وقوله تعالى: { أَن تَحْبَطَ } مفعول من أجله، أي: مخافةَ أَنْ تحبطَ، ثم مدح سبحانه الذين يَغُضّون أصواتهم عند رسول اللَّه، وغَضُّ الصوت خَفْضُهُ وكَسْرُهُ، وكذلك البصر، ورُوِيَ: أَنَّ أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يُكَلِّمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلاَّ كَأَخِي السِّرَارِ، وأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ؛ لأَنَّهُ كان لا يسمعه من إخفائه إيَّاه، و{ ٱمْتَحَنَ } معناه: اختبر وطَهَّرَ كما يُمْتَحَنُ الذهبُ بالنار، فَيَسَّرَهَا وهَيَّأها للتقوى، وقال عمر بن الخطاب: امتحنها للتقوى: أذهب عنها الشهوات.

قال * ع *: من غَلَبَ شهوتَه وغضبَه فذلك الذي امتحن اللَّه قلبه للتقوى، وبذلك تكونُ الاستقامة، وقال البخاريُّ: { ٱمْتَحَنَ }: أخلص، انتهى.