خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٨٢
وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ
٨٣
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ
٨٤
فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٥
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ
٨٦
-المائدة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ... } الآية: اللامُ في قوله: { لَتَجِدَنَّ }: لام ابتداءٍ، وقال الزَّجَّاج: هي لامُ قَسَمٍ، وهذا خبر مُطْلَقٌ منسحبٌ على الزمان كلِّه، وهكذا هو الأمر حتَّى الآن، وذلك أن اليهودَ مَرَنُوا على تكذيبِ الأنبياء وقَتْلِهِمْ، ومَرَدُوا على ٱستشعارِ اللعْنَةِ، وضَرْبِ الذِّلَّة والمَسْكنة، فهم قد لَجَّتْ عداوتهم، وكَثُر حَسَدهم، فهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين؛ وكذلك المشركون عبدةُ الأوثانِ والنِّيران، وأما النصارَىٰ، فإنهم يعظمون من أهْلِ الإسلام مَنِ استشعروا مِنه صِحَّة دِينٍ، ويستهينُونَ مَنْ فهموا منه الفِسْقَ، فهم إنْ حاربوا، فإنما حَرْبهم أَنَفَةٌ، لا أنَّ شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فَسِلْمُهم صافٍ، واليهودُ (لعنهم اللَّه) ليسوا علَىٰ شيء من هذه الخِلالِ، بل شأنهم الخُبْث، واللَّيُّ بالألسنة، والمَكْر، والغَدْر، ولم يصفِ اللَّه تعالَى النَّصارَىٰ بأنهم أهْلُ وُدٍّ، وإنما وصفهم بأنهم أقرَبُ من اليهود والمشركين، وفي قوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰ }: إشارةٌ إلى معاصري نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم من النصارَىٰ؛ بأنهم ليسوا على حقيقيَّة النصرانيَّة، وإنما هو قولٌ منهم، وزَعْم.

وقوله تعالى: { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً... } الآية: معناه: ذلك بأن منهم أهْلَ خشْيَةٍ وٱنقطاعٍ إلى اللَّه تعالَىٰ، وعبادةٍ، وإنْ لم يكونوا على هُدًى، فهم يَميلُونَ إلَىٰ أهل العبادةِ والخَشْيَةِ، وليس عند اليهود ولا كان قَطُّ ـــ أهْلُ دياراتٍ وصوامِعَ وانقطاعٍ عن الدنيا، بل هم معظِّمون لها، متطاولُون في البنيان، وأمورِ الدنيا؛ حتَّىٰ كأنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ فلذلك لا يُرَىٰ فيهم زاهد، قال الفَخْر: القُسُّ والْقِسِّيسُ: اسمُ رئيس النصارَىٰ، والجمْعُ: قِسِّيسُونَ، وقال قُطْرُب: القُسُّ والقِسِّيس: العَالِمُ؛ بلغة الرُّوم، وهذا مما وقع الوِفَاقُ فيه بَيْن اللغتَيْنِ. انتهى.

ووصف اللَّه سبحانه النصارَىٰ، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجودٌ فيهم حتى الآن، واليهوديُّ متى وجد عِزًّا، طغَىٰ وتكبَّر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ... } الآية: قال النوويُّ: ينبغي للقارىء أن يكون شأنُهُ الخشوعَ والتدبُّر والخضوعَ؛ فهذا هو المقصود المطلوبُ، وبه تنشرح الصدورُ، وتستنيرُ القُلُوب، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً، ليلةً كاملةً، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن، وقراءتِهِ، وماتَ جماعاتٌ منهم، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء؛ فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: { { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [الإسراء:109] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك. انتهى من «الحلية» للنوويِّ.

وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ومجاهد؛ أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيُّ إلَىٰ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لِيَرَوْهُ ويَعْرِفُوا حالَهُ، فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم القُرآن، فَبَكَوْا وآمَنُوا، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ، فآمن، ولم يَزَلْ مؤمناً حتَّىٰ ماتَ، فصلَّىٰ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ ـــ عليه السلام ـــ؛ فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ؛ وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليومِ الذي صَلَّىٰ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه، قال أبو صالح: كانوا سبعةً وستين رجلاً، وقال ابن جُبَيْرٍ: كانوا سبعين، عليهم ثيابُ الصُّوف، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة؛ ٱختارهم النجاشيُّ.

وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ }، وجاء الضمير عامًّا؛ إذ قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم، وفي هذا ٱستدعاءٌ للنصارَىٰ، ولُطْفٌ من اللَّه بهم؛ ليؤمنوا.

قال * ص *: { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ }: «مِن» الأُولىٰ لابتداءِ الغاية.

قال أبو البقاء: ومعناها: مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا، و «من» الثانية لبيانِ «ما» الموصولة. انتهى.

قال العراقيُّ: { تَفِيضُ }، أي: تسيل منها العَبْرَةُ، وفي الحديثِ: "ٱقْرِءُوا القُرْآنَ، وَٱبْكُوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا" ، خرَّجه البزِّار. انتهى من «الكوكب الدري»، وفيه عن البزَّار أيضاً؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حَتَّىٰ يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ" . انتهى.

وقولهم: { مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ }، يعني: نبيِّنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم، وأمته؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال الطبريُّ: لو قال قائلٌ: معنى ذلك: «مع الشاهِدينَ بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ»، لكان صواباً، وهو كلامٌ صحيحٌ؛ وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد؛ لقول اللَّه سبحانه: { { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطاً... } [البقرة:143]، وقولهم: { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ ٱلْحَقِّ }: توقيفٌ لأنفسهم أو مُحَاجَّةٌ لِمَنْ عارضهم من الكفار، والقومُ الصالِحُون: محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ قاله ابن زيد وغيره من المفسِّرين، ثم ذكر تعالَىٰ ما أثابهم به مِنَ النعيم علَىٰ إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حَالَ الكَافرين المكذِّبين، وأنهم قرناء الجحيمِ.