وقوله سبحانه: { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ } الآية.
قال ابن جُرَيْجٍ، والضحاك: عَزَّىٰ اللَّه بهذه الآية نَبِيَّهُ ـــ عليه السلام ـــ ثم قَوَّى سبحانه رَجَاء نَبِيِّهِ فيما وَعَدَهُ من النصر، بقوله: { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ }، أي: لاَ رَادَّ لأَمْرِهِ، وكلماته السابقة بما يكون، فكأن المعنى: فاصبر كما صَبَرُوا، وانتظر ما يأتي، وَثِقْ بهذا الإخبار، فإنه لا مُبَدِّلَ له.
وقوله تعالى: { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ... } الآية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أنْ لاَ وَجْهَ إلا الصَّبر، والمعنى: إن كنت تعظم تكذيبهم، وكفرهم على نَفْسِكَ، وتلتزم الحُزْنَ، فإن كنت تقدر على دُخُولِ سَرَبٍ في أعماق الأرض، أو على ارْتِقَاءِ سُلَّمٍ في السماء، فافعل، أي: ولست بِقَادِرٍ على شيء من هذا، ولا بُدَّ لك من التزام الصَّبْرِ، واحتمال المشقة، { وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } في أن تَأْسَفَ وتحزن على أَمْرٍ أراده اللَّه، وأمضاه. وروى الدَّارَقُطْنِيُّ في «سننه» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال:
"إذا أَصَابَ أَحَدَكُمْ هَمٌّ أوْ حُزْنٌ فليقل سَبْعَ مَرَّاتٍ: اللَّه اللَّه رَبِّي لاَ أُشْرِكُ به شَيْئاً" انتهى من «الكوكب الدُّري». و { فَتَأْتِيَهُم بِـئَايَةٍ } أي: بعلامة.
وقال مَكّي، والمَهْدوي: الخِطَابُ بقوله: { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } للنبي صلى الله عليه وسلم والمُرَادُ أمته، وهذا ضَعِيفٌ لا يقتضيه اللفظ. قلت وما قاله * ع *: فيه عندي نَظَرٌ؛ لأن هذا شَأْنُ التأويل إخراج اللَّفْظِ عن ظاهره لموجب، عَلَى أن أَبَا محمد مَكِّيًّا ـــ رحمه اللَّه ـــ نَقَلَ هذا القول عن غيره نَقْلاً، ولفظه: { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } أي: ممن لا يعلم أن اللَّه لو شَاءَ لَجَمَعَ على الهُدَى جميع خَلْقِهِ.
وقيل: معنى الخطاب لأُمَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين، ومثله في القرآن كثير. انتهى من «الهِدَايَةِ».
وقوله سبحانه: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ } هذا من النَّمَطِ المُتَقَدِّمِ في التسلية، أي: لا تحفل بمن أعرض، فإنما يَسْتَجِيبُ لداعي الإيمان الذين يَفْهَمُونَ الآيات، ويتلقون البَرَاهِينَ بالقَبُولِ، فعبر عن ذلك كله بـــ { يَسْمَعُونَ } إذ هو طريق العلم، وهذه لفظة تستعملها الصُّوفِيَّةُ ـــ رضي اللَّه عنهم ــــ إذا بلغت المَوْعِظَةُ من أحد مبلغاً شافياً، قالوا: سمع.
ثم قال تعالى: { وَٱلْمَوْتَىٰ } يُرِيدُ الكفار أي: هم بمَثَابَةِ الموتى، فعبر عنهم بِضِدِّ ما عبر عن المؤمنين، وبالصفة التي تُشْبِهُ حالهم في العَمَىٰ عن نور اللَّه، والصَّمَمِ عن وَعْيِ كلماته. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة.
و { يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } يحتمل معنيين: قال الحسن: معناه يبعثهم بأن يُؤْمنوا حين يوفقهم، وقراءة الحسن «ثم إليه تُرْجَعُون» بالتاء من فوق، فَتَنَاسَبَت الآية.
وقال مجاهد، وقتادة: { وَٱلْمَوْتَىٰ } يريد الكفار { يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ }، أي: يَحْشرهم يوم القيامة، { ثُمَّ إِلَيْهِ }، أي: إلى سَطْوته، وعقابه يرجعون.