خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
٩٨
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ٱلنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّٰتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٩٩
-الأنعام

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { وَهُوَ ٱلَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ }، يريد: آدم ـــ عليه السلام ـــ، { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ }، ٱختَلَفَ المتأوِّلون في معنى هذا الاستقرارِ والاِستيداعِ.

فقال الجمهور: مستقَرٌّ في الرحِمِ، ومستودَعٌ في ظهور الآباءِ حتى يَقْضِيَ اللَّه بخروجهم، قال ابنُ عَوْن: مشَيْتُ إلى منزل إبراهيمَ النَّخَعيِّ وهو مريضٌ، فقالوا: قد تُوُفِّيَ، فأخبرني بعضهم أنَّ عبد الرحمن بْنَ الأسود سأله عن: { مُّسْتَقِرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ }، فقال: مستقرٌّ في الرحِمِ، ومستودع في الصُّلْبِ، وقال ابن عباس: المستقرُّ: الأرض، والمستودَعُ: عند الرحمن، وقال ابن جُبَيْر: المستودَعُ: في الصلب، والمستقَرُّ في الآخرة، قال الفَخْر: والمنقول عن ابن عباس في أكثر الرواياتِ أن المستقرَّ هو الأرحام، والمستودَعُ الأصلاب، ثم قرأ: { { ونُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ } [الحج:5] ومما يدلُّ علَىٰ قوة هذا القولِ؛ أنَّ النطفة لا تبقَىٰ في صُلْب الأب زماناً طويلاً، والجنينُ في رَحِمِ الأم يبقى زماناً طويلاً، ولما كان المُكْث في الرحمِ أكثر مما في صُلْب الأب، كان حمل الاستقرارِ على المُكْث في الرحمِ أولَى. انتهى.

قال * ع *: والذي يقتضيه النظر أنَّ ابن آدم هو مستودَعٌ في ظهر أبيه، وليس بمستقِرٍّ فيه ٱستقراراً مطلقاً؛ لأنه يتنقَّل لا محالة، ثم ينتقلُ إلى الرحِمِ، ثم ينتقل إلى الدنيا، ثم ينتقلُ إلى القبر، ثم ينتقلُ إلى المَحْشَر، ثم ينتقلُ إلى الجَنَّة أو النار، فيستقرُّ في أحدهما ٱستقراراً مطلقاً، وليس فيها مستودَعٌ؛ لأنه لا نُقْلَة له بَعْدُ، وهو في كلِّ رتبة متوسِّطة بين هذين الطرفَيْن مُسْتَقِرٌّ بالإضافة إلى التي قبلها، ومستودَعٌ بالإضافة إلى التي بعدها؛ لأن لفظ الوديعةِ يقتضي فيها نُقْلة، ولا بُدَّ.

وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ }، { ٱلسَّمَاء }؛ في هذا الموضع: السحابُ، وكلُّ ما أظلَّك فَهُو سماءٌ، وقوله: { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ }، قيل: معناه: ممَّا ينبتُ، وقال الطبريُّ: المراد بـ { كُلِّ شَيْءٍ }: كلُّ ما ينمو مِنْ جميع الحيوان والنباتِ والمعادِنِ، وغير ذلك؛ لأن ذلك كله يتعذَّىٰ وينمو بنزولِ الماء من السماءِ، والضمير في { مِنْهُ } يعود على النباتِ، وفي الثانِي يعود على الخَضِر، و { خُضِراً }: بمعنى: أَخْضَر؛ ومنه قوله ـــ عليه السلام ـــ: "الدُّنْيَا خَضِرَةً حُلْوَةٌ" ، بمعنى: خضراء؛ وكأن خَضِراً إنما يأتي أبداً لمعنى النَّضَارة، وليس لِلَّوْن فيه مدخلٌ، وأخضر إنما تمكُّنه في اللون، وهو في النَّضَارة تجوّز، و { حَبّاً مُّتَرَاكِباً }: يعم جميع السنابلِ وما شاكَلَها؛ كالصَّنَوْبر، والرُّمَّان، وغيرِ ذلك.

وقوله: { وَمِنَ ٱلنَّخْلِ }، تقديره: ونُخْرِجُ مِنَ النخلِ والطَّلْعِ أولَ ما يخرج من النَّخْل، في أكمامه، و { قِنْوٰنٌ }: جمع قِنْو، وهو العِذْق ـــ بكسر العين ـــ، وهي الكِبَاسَةُ، والعُرْجُونُ: عوده الذي فيه ينتظمُ التمر، و { دَانِيَةٌ }: معناه: قريبةٌ من التناول؛ قاله ابن عباس وغيره.

وقرأ الجمهور: «وجَنَّاتٍ» ـــ بالنصب ـــ؛ عطفاً على قوله: «نَبَاتَ»، وروي عن عاصم: «وجَنَّاتٌ» ـــ بالرفع ـــ؛ على تقدير: ولكُمْ جناتٌ أو نحو هذا، { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ } ـــ بالنصب إجماعاً ـــ؛ عطفاً علَىٰ قوله: «حَبًّا»، و { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ }، قال قتادة: معناه يتشابه في الوَرَقِ ويتبايَنُ في الثَّمَرِ، وقال الطبريُّ: جائز أن يتشابه في الثَّمَر ويتبايَنُ في الطَّعْم، ويحتمل أن يريد يتشابه في الطَّعْمِ ويتباين في المَنْظَرِ، وهذه الأحوال موجودةٌ بالاعتبارِ في أنواع الثمرات.

وقوله سبحانه: { ٱنْظُرُواْ }، وهو نظرُ بَصَرٍ تتركَّب عليه فكرةُ قَلْبٍ، «والثمر»؛ في اللغة: جَنَى الشجر وما يطلع، وإن سمي الشجر: ثماراً، فبتجوُّز، وقرأ جمهور الناس: { وَيَنْعِهِ } ـــ بفتح الياء ـــ، وهو مصدر يَنَعَ يَيْنَعُ؛ إذا نَضِجَ، وبالنُّضْج فسره ابن عباس، وقد يستعمل «يَنَعَ» بمعنى ٱستقَلَّ وٱخضرَّ ناضراً، قال الفخر: وقدَّم سبحانه الزَّرع؛ لأنه غذاء، والثِّمار فواكهٌ وإنما قدَّم النخل على الفواكِهِ؛ لأن التمر يجرِي مجرى الغذاءِ بالنسبة إلى العرب. انتهى.