وقوله سبحانه: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ...} الآية: قال بعضُ المتأوِّلين: إِن اليهودَ المعاصرينَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: إِنَّ بني إِسرائيل لم يَكُنْ فيهم عصْيانٌ، ولا معاندةٌ لمَا أُمرُوا به، فنزلَتْ هذه الآيةُ موبِّخة لهم، فسؤالهم إِنَّما هو عَلىٰ جهة التوبيخِ، والقريةُ هنا: أَيْلَةُ، قاله ابن عباس وغيره، وقيل: مَدْيَن، و«حاضِرة البَحْر»، أي: البحر فيها حاضرٌ، ويحتملُ أنْ يريد معنى «الحاضرة»؛ على جهة التعظيم لها، أي: هي الحاضرةُ في مُدُن البَحْر، و{يَعْدُونَ}: معناه: يخالفون الشرْعَ؛ مِنْ عَدَا يَعْدُو، و{شُرَّعاً}، أي: مقبلة إِليهم مُصْطَفَّة، كما تقولُ: شُرِعَتِ الرماحُ إِذا مُدَّتْ مصطَفَّة، وعبارةُ البخاري {شُرَّعاً} أيْ: شوارِعَ انتهى.
والعامل في قوله: {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } قولُهُ: {لاَ تَأْتِيهِمْ}، وهو ظرفٌ مقدَّم، ومعنى قوله {كَذَٰلِكَ } الإشارةُ إلى أمر الحُوت، وفِتنَتِهِمْ به، هذا عَلَىٰ من وَقَفَ على {تَأْتِيهِمْ}، ومن وقف على {كَذَٰلِكَ }، فالإشارة إِلى كثرة الحيتانِ شُرَّعاً، أي: فما أتى منها يَوْمَ لا يسبتُونَ، فهو قليلٌ، و{نَبْلُوهُم}، أي: نمتحنهم بِفِسْقهم وعِصْيانهم، وقد تقدَّم في «البقرة» قصصهم.
وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا}.
قال جمهور المفسِّرين: إن بني إِسرائيل ٱفترقَتْ ثلاثَ فرقٍ: فرقةٌ عصَتْ، وفرقةٌ نهَتْ، وجاهَرَتْ وتكلَّمَت وٱعْتَزَلَتْ، وفرقةٌ ٱعتزلَتْ، ولم تَعْصِ ولم تَنْهِ، وأن هذه الفرقة لما رأتْ مجاهرة الناهية، وطُغيانَ العاصيةِ وعَتُوَّهَا، قالَتْ للناهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً }، يريدونّ: العاصيةَ {ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ}، فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إِلى اللَّه، أي: إِقامة عُذْر، ومعنَىٰ {مُهْلِكُهُمْ }، أيُّ: في الدنيا، {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ}، [أي]: في الآخرةِ، والضمير في قوله: {نَسُواْ} للمَنْهِيين، وهو تَرْكٌ سُمِّيَ نِسياناً مبالغةً، و«ما» في قوله: {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} بمعنى الَّذي، و{السُّوءِ} لفظ عامٌّ في جميع المعاصي إِلاَّ أنَّ الذي يختصُّ هنا بحَسَب قصص الآيةِ هو صَيْدُ الحوتِ، و{ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ }: هم العاصُونَ، وقوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } معناه: مؤلمٌ موجِعٌ شديدٌ، واختلف في الفرقة التي لم تَعْصِ ولم تَنْهَ، فقيل: نَجَتْ مع الناجين، وقيل: هلَكَتْ مع العاصين.
وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}، أي: لأجل ذلك، وعقوبةً عليه، والعُتُوُّ ٱلاستعصاء وقلَّة الطواعية.
وقوله سبحانه: {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ }، يحتمل أن يكون قولاً بلفظ مِنْ مَلَك أسْمَعَهم؛ فكَانَ أذْهَبَ في الإِعراب والهَوْلِ والإِصغارِ، ويحتمل أن يكون عبَارةً عن القُدْرة المكوِّنة لهم قردةً، و{خَـٰسِئِينَ}: معناه مبعَدِين فـــ«خاسئين» خبر بعد خبرٍ، فهذا ٱختيار أبي الفَتْح، وضعَّف الصفَة، فرُوِيَ أنَّ الشباب منهم مُسِخُوا قردةً، والرجالَ الكبارَ مُسِخَوا خنازير.