خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١١
ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٢
-التوبة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله عزَّ وجلَ: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ... } الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ في البَيْعة الثالثة، وهي بيعةُ العَقَبة الكُبْرَى، وهي التي أَنَافَ فيها رجالُ الأنصار على السبعين؛ وذلك أنهم اجتمعوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقالوا: ٱشْتَرِطْ لك، وَلَرَبِّكَ، والمتكلِّمُ بذلك عبدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَة فاشترط نبيُّ اللَّه حمايته ممَّا يحمُونَ منه أنفسهم، وَٱشترط لربِّهِ ٱلتزامَ الشريعةِ، وقِتَالَ الأَحمَرِ والأَسْوَدِ في الدَّفْع عن الحَوْزَة، فقالوا: مَا لَنَا عَلَى ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ: الجَنَّةُ، فَقَالُوا: نَعَمْ، رَبحَ البَيْعُ، لاَ تَقِيلُ وَلاَ تُقَالُ»، وفي بعض الرواياتِ: «وَلاَ نَسْتَقِيلُ» فنزلَتِ الآية في ذلك.

وهكذا نقله ابن العربيِّ في «أحكامه»، عن عبد اللَّه بن رَوَاحَة، ثم ذكر من طريق الشعبيِّ، عن أبي أمامة أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ نحو كلام ابنِ رَوَاحَةَ.

قال ابن العربيِّ: وهذا وإن كان سنده مقطوعاً، فإن معناه ثابتٌ مِنْ طرق. انتهى.

ثم الآية بَعْدَ ذلك عامَّة في كلِّ من جَاهَدَ في سبيلِ اللَّهِ مِنْ أمة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، قال بعضُ العلماء: مَا مِنْ مُسْلِم إلا وللَّه في عُنُقِهِ هذه البَيْعَةُ، وَفَىٰ بِهَا أو لم يَفِ، وفي الحديث: "إِنَّ فَوْقَ كُلِّ بِرٍّ بِرًّا حَتَّى يَبْذُلَ العَبْدُ دَمَهُ، فَإِذَا فَعَلَ، فَلاَ بِرَّ فَوْقَ ذَلِكَ" . وأسند الطبريُّ عن كثير من أهْلِ العِلْم؛ أنهم قالوا: ثَامَنَ اللَّه تَعَالَى في هذه الآية عِبَادَهُ، فَأَغْلَى لهم؛ وقاله ابن عباس وغيره، وهذا تأويلُ الجمهور.

وقال ابن عُيَيْنَة: معنى الآية: ٱشْتَرَى منهم أنفسهم ألاَّ يُعْمِلُوهَا إلا في طاعته، وأموالَهُمْ أَلاَّ يُنْفِقُوها إِلاَّ في سبيله، فالآية علَى هذا: أعمُّ من القَتْلِ في سبيل اللَّه.

وقوله: { يُقَـٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } على تأويل ابْنِ عُيَيْنة: مقطوعٌ، ومستأنفٌ، وأما على تأويل الجمهور مِنْ أَنَّ الشراء والبَيْع إِنما هو مع المجاهدين، فهو في موضع الحال.

وقوله سبحانه: { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ }: قال المفسِّرون: يظهر من قوله: { فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ } أن كلَّ أُمَّة أُمِرَتْ بالجهاد، ووُعِدَتْ عليه.

قال * ع *: ويحتملُ أَنَّ ميعاد أُمَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تقدَّم ذكره في هذهِ الكُتُب، واللَّه أعلم.

قال * ص *: وقوله: { فَٱسْتَبْشِرُواْ }: ليس للطلب، بل بمعنى: أَبْشِرُوا؛ كَٱسْتَوْقَدَ، قال أبو عُمَرَ بْنُ عبد البِرِّ في كتابه المسمَّى بـــ «بهجة المَجَالِسِ»: وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: "مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَاباً، فَهُوَ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَاباً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ" . وعن ابن عباس مثله. انتهى. وباقي الآية بَيِّن.

قال الفَخْر: وٱعْلَمْ أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على أنواع من التأكيدات.

فأولها: قوله سبحانه: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ }، فكون المشتَرِي هو اللَّه المقدَّس عن الكَذِبِ والحِيلَة مِنْ أَدَلِّ الدلائل على تأكيد هذا العَهْد.

والثاني: أنه عبر عن إِيصال هذا الثواب بالبَيْعِ والشراءِ، وذلك حَقٌّ مُؤَكَد.

وثالثها: قوله: { وَعْداً }، ووعد اللَّه حقٌّ.

ورابعها: قوله: { عَلَيْهِ }، وكلمةُ عَلى للوجوب.

وخامسها: قوله: { حَقّاً }، وهو تأكيد للتحقيق.

وسادسها: قوله: { فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ }، وذلك يجري مَجْرَى إِشهاد جميع الكُتُب الإِلهية، وجمِيعِ الأَنبياء والمُرْسلين عَلى هذه المبايعة.

وسابعها: قوله: { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ }، وهو غايةُ التأكيد.

وثامنها: قوله: { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ }، وهو أيضاً مبالغةٌ في التأكيد.

وتاسعها: قوله: { وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ }.

وعاشرها: قوله: { ٱلْعَظِيمِ }.

فثبت ٱشتمالُ هذه الآية على هذه الوجوهِ العَشَرةِ في التأكيدِ والتقريرِ والتحقيق. انتهى.

وقوله عزَّ وجلَّ: { ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ }، إلى قوله: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }، هذه الأوصافُ هي مِنْ صفات المؤمنين الذين ذكر اللَّه أنَّه ٱشْتَرَى منهم أنفُسَهُمْ وأموالهم، ومعنى الآية، على ما تقتضيه أقوالُ العلماء والشَّرْعُ: أنها أوصافُ الكَمَلَةِ من المؤمنين، ذكرها سبحانه، لِيَسْتَبِقَ إِليها أهْلُ التوحيد؛ حتى يكُونوا في أعْلَى رتبةٍ، والآية الأولى مستقلَّة بنفسها، يقع تَحْتَ تلك المبايعة كلُّ موحِّد قاتَلَ في سبيل اللَّهِ، لتكونَ كلمة اللَّه هي العليا، وإِنْ لم يتَّصفْ بهذه الصفات التي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها، وقالَتْ فرقةٌ: بل هذه الصفاتُ جاءت علَى جهة الشَّرْط، والآيتان مرتبطتان، فلا يَدْخُلُ في المبايعة إِلا المؤْمِنُونَ الذين هُمْ عَلى هذه الأوصاف، وهذا تحريجٌ وتضييقٌ، والأول أصوبُ، واللَّه أعلم.

والشهادة ماحيةٌ لكلِّ ذنب إلا لمظالِمِ العِبَادِ، وقد روي أن اللَّه عِزَّ وجلَّ يحمل على الشَّهِيدِ مَظَالِمَ العبادِ، ويجازِيهِمْ عنه، خَتَمَ اللَّهُ لَنَا بالحسنَى.

و{ ٱلسَّـٰئِحُونَ }: معناه: الصائمون، وروي عن عائشة، أَنها قالَتْ: سِيَاحَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ الصِّيَام؛ أسنده الطبريُّ، وروي أنه من كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الفَخْر: ولما كان أصل السياحة ٱلاستمرارَ على الذَّهاب في الأرض، سُمِّي الصائم سائحاً؛ لاستمراره على فِعْل الطاعة وترك المَنْهِيِّ عنه مِنْ المفطِّرات.

قال الفَخْر: عندي فيه وجْهٌ آخر، وهو أن الإِنسان إذا ٱمتنع مِنَ الأَكل والشُّرب والوِقاع، وسَدَّ عَلَى نفسه بَابَ الشهواتِ، ٱنفتحتْ له أبوابُ الحكمةُ وتجَلَّتْ له أنوار عالَمِ الجَلالِ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخْلَصَ للَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ فَيَصير من السائحين في عالَمِ جلالِ اللَّه المنتقلينِ مِنْ مقامٍ إلى مقام، ومن درجةٍ إلى درجةٍ" . انتهى.

قال * ع *: وقال بعضُ النَّاس، وهو في كتاب النَّقَّاش: { ٱلسَّـٰئِحُونَ }: هم الجائلون بأفكارهم في قُدْرة اللَّه ومَلَكُوتهُ وهذا قولٌ حَسَن، وهو من أفضل العباداتِ، و{ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ }: هم المصلُّون الصَّلوات؛ كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أنَّ من يكثر النَّوافلَ هو أَدْخَلُ في ٱلاسم، وأَعْرَقُ في ٱلاتصاف.

وقوله: { وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } لفظٌ عامٌّ تحته ٱلتزامُ الشريعة.

* ت *: قال البخاريُّ: قال ابن عباس: الحدود: الطاعة.

قال ابن العربيُّ في «أحكامه»، وقوله: { وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } خَاتمةُ البيان، وعمومُ ٱلاشتمال لكلِّ أمْر ونهْي. انتهى.

وقوله سبحانه: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }: قِيل: هو لفظ عامٌّ، أُمِرَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يبشِّر أمته جميعاً بالخير من اللَّه، وقيل: بل هذه الألفاظ خاصَّة لمن لم يَغْزُ، أي: لما تقدَّم في الآية وعْدُ المجاهدين وفَضْلُهم، أمر صلى الله عليه وسلم، أنْ يبشِّر سائر المؤمنين ممَّن لم يَغْزُ بأنَّ الإيمان مُخَلِّص من النَّار، والحمد للَّه رب العالمين.