خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٢٤
وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢٥
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

قوله - تعالى - { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } الآية.
لمَّا قال - تعالى -:
{ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [يونس:23] ضرب هذا المثل لمن اغترَّ بالحياةِ الدُّنيا، واشتد تمسُّكه بها، وأعرض عن التأهُّبِ للآخرة، فقال: { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وهذه الجملةُ سيقتْ؛ لتشبيه الدُّنْيَا بنباتِ الأرض، وقد شرح الله وجه الشَّبه بما ذكر.
قال الزمخشري: "هذا من التَّشبيه المُركَّب، شُبِّهتْ حال الدُّنيا، في سرعةِ تقضِّيهَا، وانقراضِ نعيمها بعد الإقبالِ، بحالِ نباتِ الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعدما التفَّ، وتكاثف، وزيَّن الأرض بخُضْرته، ورونقه"، التَّشبيهُ المركبُ في اصطلاح البيانيِّين: إمَّا أن يكون طرفاهُ مركَّبين، أي: تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ؛ كقول بشَّار بن بُردٍ: [الطويل]

2885- كَأن مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا وأسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كواكِبُه

وذلك أنَّه يُشبِّه الهيئة الحاصلة، من هُوِيِّ أجرام مشرقة، مستطيلة متناسبةِ المقدارِ، متفرقةٍ في جوانب شيءٍ مُظْلم، بليلٍ سقطتْ كواكبُه، وإمَّا أن يكون طرفاهُ مُخْتلفين بالإفرادِ والتَّركيب، وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع.
قوله: "كَمَآءٍ": هو خبرُ المبتدأ، و "أَنزَلْنَاهُ": صفة لـ "مَاءٍ"، و "مِنَ السَّمَاءِ": متعلِّقٌ بـ "أنزَلنَاهُ"، ويضعفُ جعله حالاً من الضَّمير المنصوب، وقوله: "فَٱخْتَلَطَ بِهِ" في هذه الباءِ وجهان:
أحدهما: أنها سببيَّةٌ، قال الزمخشري: "فاشْتبكَ بسببهِ، حتى خالط بعضه بعضاً".
قال ابن عطيَّة: "وصَلَتْ فِرْقَةٌ "النَّبات"، بقوله: "فاخْتَلَطَ"، أي: اختلط النَّبَاتُ بعضه ببعضٍ بسبب الماء".
والثاني: أنَّها للمُصاحبة، بمعنى: أنَّ الماء يجري مجرى الغذاء له، فهو مُصاحبه، وزعم بعضُهم: أنَّ الوقف على قوله: "فَٱخْتَلَطَ"، على أنَّ الفاعِلَ ضميرٌ عائدٌ على الماءِ، وتبتدىءُ "بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ" على الابتداء والخبر، والضمير في "بِهِ" على هذا، يجُوزُ عودُه على الماءِ، وأن يعُود على الاختلاط الذي تضمَّنَهُ الفعل، قاله ابن عطيَّة، وقال أبو حيَّان: "الوقْفُ على قوله: "فاخْتلَطَ" لا يجُوزُ، وخاصَّةً في القرآن؛ لأنَّه تفكيكٌ للكلام المتَّصل الصحيح، والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْزِ، والتَّعقيد".
قوله "مِمَّا يَأْكُلُ" فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ بـ "اخْتَلَطَ"، وبه قال الحُوفيُّ.
والثاني: أنَّه حالٌ من "النَّبات"، قاله أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المُستقرَّة، أي: كائناً أو مُسْتقرّاً ممَّا يأكل.
ولو قيل: إنَّ "مِنْ" لبيان الجنسِ، لجاز، وقوله: "حتَّى" غايةٌ فلا بُدَّ لها من شيءٍ مُغَيّاً، والفعلُ الذي قبلها - وهو "اخْتَلَطَ" - لا يصح أن يكون مُغَيّاً، لقصر زمنهِ، فقيل: ثمَّ فعل محذوفٌ، أي: لم يزلِ النباتُ ينمُو حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ وقيل: يجوز "فاخْتَلَطَ" بمعنى: فدام اختلاطه، حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ، و "إذَا" بعد "حتَّى" هذه تقدَّم التَّنبيه عليها، قوله: "وَٱزَّيَّنَتْ" بوصل الهمزة، وتشديد الزاي والياء، والأصلُ "وتزَيَّنَتْ" فلمَّا أريدَ إدغامُ التَّاء في الزَّاي بعدها، قُلبت زاياً، وسُكِّنَت فاجتُلِبَت همزة الوصْل؛ لتعذُّر الابتداء بالسَّاكن، فصار "ازَّيَّنت"، وتقدَّم تحريرُ هذا عند قوله - تعالى -:
{ { فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [البقرة:72].
وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله وزيد بن علي، والأعمش: "وتَزيَّنَتْ" على تفعَّلَتْ، وهو الأصلُ المُشَار إليه، وقرأ سعد بن أبي وقَّاص، والسُّلمي، وابنُ يعمُر، والحسن، والشَّعبي، وأبُو العالية، ونصر بن عاصم، وابنُ هرمز، وعيسى الثقفي: "وَأزْيَنَتْ" على وزن أفعَلَتْ، وأفعل هنا بمعنى: صار ذا كذا، كأحْصَدَ الزَّرعُ وأغدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حضرت زينتها وحانَتْ، وكان من حقِّ الياءِ على هذه القراءة، أن تُقْلبَ ألفاً، فيقال: أزَانَتْ، كأنَابَت فتُعَلُّ بنقلِ حركتها إلى السَّاكِن قبلها، فتتحرَّك حينئذٍ، وينفتح ما قبلها، فتقلب ألفاً كما تقدَّم في نحو: أقامَ وأنابَ، إلاَّ أنَّها صحَّتْ شذُوذاً؛ كقوله: "أغْيَمت السماء، وأغْيَلَت المرأة"، وقد ورد ذلك في القرآن، نحو:
{ ٱسْتَحْوَذَ } [المجادلة:19] وقياسه: اسْتَحَاذَ؛ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النَّهديُّ - وعزاه ابن عطيَّة لفرقةٍ غير مُعيَّنة -: "وازْيأنَّتْ" بهمزة وصل، بعدها زايٌ ساكنةٌ، بعدها ياءٌ مفتوحةٌ خفيفةٌ، بعدها همزةٌ مفتوحةٌ، بعدها نونٌ مشددةٌ، قالوا: وأصلها: "وازْيَانَّتْ" بوزن "احْمَارَّتْ" بألف صريحة، ولكنَّهُم كرهُوا الجمع بين السَّاكنين، فقُلبتَ الألفُ همزة، كقراءة { ٱلضَّأَلِّينَ } [الفاتحة:7]، و { الجَأَنٌّ } [الرحمن:39]، وعليه قولهم: "احْمأرَّت" بالهمز، وأنشد: [الطويل]

2886-........................ إذَا مَا احْمَأرَّتْ بالعَبيطِ العَوامِلُ

وقد تقدَّم هذا مُشْبَعاً في آخر الفاتحة.
وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة: "وَازْيَأنَّت" بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن عطيَّة لأبي عثمان النَّهْدي، وقرىء: "وازَّايَنَتْ"، والأصلُ: تزاينت، فأدغم.
وقوله: "أهْلُهَا" أي: أهل نباتها. و "أتَاهَا": هو جوابُ "إذَا"، فهو العاملُ فيها.
وقيل: الضَّميرُ عائدٌ على الزِّينة.
وقيل: على الغَلَّةِ، أي: القُوت فلا حذفَ حينئذٍ، و "لَيْلاً ونَهَاراً" ظرفان؛ للإتيان، أو للأمر، والجعل هنا تصْييرٌ، وحصيد: فَعِيل بمعنى: مفعول، ولذلك لم يؤنث بالتاء، وإن كان عبارة عن مُؤنَّث، كقوله: أمْرَأة جريحٌ. قوله: "كَأَن لَّمْ تَغْنَ" هذه الجملة يجُوزُ أن تكون حالاً من مفعول "جَعَلْنَاها" الأوَّل، وأن تكون مستأنفةٌ جواباً لسُؤالٍ مقدَّرٍ، وقرأ هارون بن الحكم "تتغَنَّ"، بتاءين بزنة تتفعَّل؛ كقول الأعشى: [المتقارب]

2887-........................ طَويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنْ

وهو بمعنى: الإقامة، وقد تقدَّم في الأعراف، وقرأ الحسن، وقتادة: "كأنْ لم يَغْنَ" بياء الغيبة، وفي هذا الضمير ثلاثة أوجه:
أجودها: أن يعود على الحصيد؛ لأنَّه أقرب مذكور.
وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزُّخْرُف.
وقيل: يعودُ على النَّبات أو الزَّرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونَبَاتُهَا.
و "بالأمْسِ": المرادُ به: الزَّمن الماضي، لا اليوم الذي قبل يومك؛ كقول زهير: [الطويل]

2888- وأعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمْسِ قبلهُ ولكنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما فِي غَدٍ عَمِ

لمْ يقْصِدْ بها حقائقها، والفرقُ بين الأمسيْن: أنَّ الذي يُرَاد به قبل يومك مبنيٌّ؛ لتضمُّنه معنى الألف واللاَّم، وهذا مُعْرَبٌ تدخل عليه "ألْ" ويضافُ، وقوله: "كَذلِكَ نُفَصِّلُ" نعت مصدرٍ محذُوف، أي: مثل هذا التَّفصيل الذي فصَّلناه في الماضي، نُفَصِّل في المستقبل.
فصل
معنى الآية: { إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } في فنائها، وزوالها { كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ } أي: بالمطر { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } قال ابن عباسٍ: نبت بالماءِ من كل لون { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ }: من الحُبُوبِ والثِّمار، "وَٱلأَنْعَامُ" من الحشيش { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا }: حسنها، وبهجتها، وظهر الزهْرُ أخضرُ، وأحمرُ، وأصفرُ، وأبيضُ، "وَٱزَّيَّنَتْ" شبهها بالعروس، إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون { وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } على جذاذها وقطافها وحصادها، ردَّ الكناية إلى الأرض، والمراد: النبات إذ كان مفهوماً، وقيل: إلى الغلَّة، وقيل: إلى الزِّينَة "أَتَاهَآ أَمْرُنَا": قضاؤنا بالهلاك { لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } أي: محصودة مقطوعة، وقال أبو عبيدة: "الحصيد: المستأصل"، { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } من غني بالمكان: إذا أقام به.
قال الليث "يقال للشيء إذا فني: كأن لم يَغنَ بالأمْسِ، أي: كأنْ لمْ يَكُنْ".
فصل
اعلم: أن تشبيهَ الحياة الدنيا بالنبات يحتملُ وجوهاً، لخَّصها القاضي.
أحدها: أنَّ عاقبةَ هذه الحياة التي يُنفقُهَا المرء في هذه الدنيا، كعاقبة هذا النَّبات، الذي حين عظُم الرَّجَاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه؛ لأنَّ المُتَمسِّك بالدنيا، إذا عظمت رغبتُه فيها، يأتيه الموت، وهو معنى قوله:
{ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [الأنعام:44].
وثانيها: أنَّه - تعالى - بيَّن أنَّه كما لم يحصل لذلك الزَّرْع عاقبةٌ تُحْمد، فكذلك المُغترُّ بالدُّنْيَا المُحبُّ لها، لا يحصل له عاقبة تحمد.
وثالثها: أنَّ هذا التشبيه، كقوله - تعالى -:
{ { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان:23] أي: لمَّا صار سعي هذا الزَّرع باطلاً، بسببِ حدوث المهلك، فكذلك سعي المغترِّ بالدُّنْيَا.
ورابعها: أنَّ مالكَ هذا البستان لمَّا أتْعَبَ نفسه في عمارته، وكذلك الرُّوحَ، وعلَّق قلبه بالانتفاع به، فإذا حدث السببُ المهلكُ، صار العناءُ الشديد، الذي تحملُه في الماضي، سبباً لحصول الشقاء الشَّديد لهُ في المستقبل، وهو ما يحصُل في قلبه من الحشرات. فكذلك حالُ من أحبَّ الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاتهُ كلُّ ما نال، صار العناء الذي تحمَّله في تحصيل الدنيا، سبباً لحُصُول الشقاء العظيم له في الآخرة.
وخامسها: لعلَّه - تعالى - إنَّما ضرب هذا المثل لمنْ لا يُؤمن بالمعاد؛ لأنَّا نرى الزَّرْع الذي انتهى إلى الغايةِ في الحسن، ثمَّ إنَّ ذلك الحسنَ يزول بالكلِّيَّة، ثم تصير تلك الأرضُ موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى، فذكر - تعالى - هذا المثال؛ ليدلَّ على أنَّ مَنْ قَدَر على ذلك، كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة؛ ليُجَازيَهُم على أعمالهم.
قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ } الآية.
لمَّا نفر العقلاء عن الميل إلى الدُّنيا، رغَّبهُم في الآخِرة بهذه الآية، قال قتادة: "السَّلام هو الله، وداره الجنَّة".
وسمِّي الله - تعالى - بالسَّلام لوجوه:
أحدها: أنَّه لمَّا كان واجب الوُجُودِ لذاته، فقد سَلِمَ من الفناء والتَّغيير، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير، وهذه الصِّفةُ ليست إلاَّ له - سبحانه.
وثانيها: وصف بالسلام، أي: أنَّ الخَلْق سَلِمُوا من ظُلْمِهِ؛ ولأنَّ كل ما سواه فهو مُلْكُه ومِلْكُه، وتصرُّفُ المالك في ملك نفسه لا يكون ظُلْماً.
وثالثها: قال المُبرِّد: "وصف بالسلام، أي: لا يقدر على السَّلام إلاَّ هو، والسَّلام: عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات، وهو المنتصف للمظلُومين من الظالمين" وعلى هذا التقدير: السَّلام مصدر "سَلِمَ".
وقيل: سُمِّيت الجنَّة دارَ السلام؛ لأنَّ من دخلها سلم من الآفات، وقيل: المرادُ بالسَّلام: التَّحية؛ لأنَّه - تعالى - يُسَلِّم على أهلها، قال - تعالى -:
{ { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس:58]، والملائكةُ يُسلِّمُون عليهم أيضاً، قال - تعالى -: { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } [الرعد:23، 24]، وهم يُحيُّون بعضهم بعضاً بالسَّلام، قال - تعالى -: { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [يونس:10].
وروى جابرٌ، قال: "جاءت ملائكةُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو نائمٌ، فقالوا: إنَّ لصاحبكُم هذا مثلاً، مثله كمثل رجُل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعثَ داعياً فمنْ أجاب الدَّاعِي، دخل الدَّار، وأكل من المَأدبة، ومنْ لمْ يُجبِ الدَّاعي، لم يدخُل الدَّار، ولمْ يأكلْ من المأدُبةِ، فالدَّارُ الجنَّة، والدَّاعي محمَّدٌ، فمن أطاع محمداً، فقد أطاعَ اللهَ، ومنْ عَصَى مُحمداً، فقد عصى الله".
فصل
قال ابن عبَّاسٍ: "الجِنان سبعٌ: دار الجلال، ودار السَّلام، وجنَّة عدن، وجنَّةُ المأوى، وجنَّة الخُلْدِ، وجنَّة الفردوس، وجنَّة النَّعيم".
ثم قال تعالى: { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }: وهو الإسلام.
وروي عن عليِّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال: سمعت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصِّراط المستقيم: كتابُ الله.
وقال قتادة، ومجاهد: هو الحق.
وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر.
واحتجَّ أهلُ السُّنَّة: على أنَّ الكفر والإيمان بقضاء الله - تعالى -؛ لأنَّه - تعالى - بيَّن في هذه الآيةِ، أنَّه دعا جميع الخلق إلى دارالسَّلام، ثم بيَّن أنَّه ما هدى إلاَّ بعضهم، فهذه الهدايةُ الخاصَّةُ، يجبُ أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامَّة، ولا شكَّ أنَّ الإقدار، والتمكين، وإرسال الرُّسُل، وإنزال الكُتُب أمورٌ عامَّة، فوجب أن تكون الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه الأشياء، وما ذاك إلاَّ أنَّه - تعالى - خصَّه بالعلم والمعرفة، دُون غيره.
وأجاب القاضي بوجهين:
الأول: أن المراد: ويهدي الله من يشاء، إلى إجابة تلك الدَّعوة، أي: أنَّ من أجاب الدُّعاء، وأطاع واتَّقَى، فإنَّ الله يهديه إليها.
والثاني: أن المراد بهذه الهداية الألطافُ، وأجيب عن هذين الوجهين، بأنَّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية، وما يكون واجباً، لا يكون معلَّقاً بالمشيئةِ، فامتنع حمله على ما ذكرتم.