خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلاۤ إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
٦٦
هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٦٧
قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَا فِي ٱلأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَآ أَتقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦٨
قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ
٦٩
مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٧٠
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ } الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة:{ أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا في ٱلأَرْضِ } [يونس:55] دل على أنَّ كلَّ ما لا يعقلُ، فهو مُلْكٌ لله - تعالى -، ومِلْكٌ لهُ، وههنا أتى بكلمة "مِنْ" وهي مختصَّة بالعقلاء؛ فدلَّ على أنَّ كلَّ العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه، فدلَّ مجموعُ الآيتين على أنَّ الكُلَّ مُلْكُه ومِلْكُه. وقيل: المراد بـ "من في السَّمواتِ": العقلاء المُمَيَّزُون، وهم الملائكة والثقلان، وخصَّهم بالذِّكر؛ ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه، فالجمادات أولى بهذه العُبُوديَّة، فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شُركاء لله - تعالى -، فيكون ذلك من بابِ التنبيه بالأعلى على الأدنى، ويجوز أن يراد العموم، وغلب العاقل على غيره.
قوله: "وَمَا يَتَّبِعُ" يجوز في "ما" هذه أن تكون نافية، وهو الظاهر، و "شُرَكَاء" مفعولُ "يتَّبعُ" ومفعول "يَدْعُون" محذوفٌ لفهم المعنى، والتقدير: وما يتَّبعُ الذين يدعُون من دُون اللهِ آلهةً شُركَاءَ، فآلهة: مفعول "يَدْعُونَ" و "شركاء": مفعول "يتبع"، وهو قول الزَّمخشريِّ.
قال: "ومعنى وما يتَّبعون شركاء: وما يتَّبعون حقيقة الشُّركاء، وإن كانُوا يُسَمُّونها شركاء؛ لأنَّ شركة الله في الربوبية محال، إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهم أنهم شركاءُ ثم قال: "ويجوز أن تكون "ما" استفهاماً، يعني: وأيَّ شيءٍ يتَّبعون، و "شركاء" على هذا نصب بـ "يَدْعُونَ"، وعلى الأوَّل بـ "يتَّبع" وكان حقُّه: "وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء" فاقتصر على أحدهما للدلالة". وهذا الذي ذكرهُ الزمخشريُّ قد ردَّه مكِّي وأبو البقاء.
أما مكي، فقال: انتصب "شركاء" بـ "يَدْعُون" ومفعول "يتَّبع" قام مقامه { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } لأنَّهُ هو، ولا ينتصبُ الشُّركاء بـ "يتَّبع" لأنَّك تنفي عنهم ذلك، والله قد أخبر عنهم بذلك.
وقال أبو البقاء: "وشركاء مفعولُ "يَدْعُونَ" ولا يجوزُ أن يكون مفعُول "يتَّبعون" لأنَّ المعنى يصير إلى أنَّهم لم يتَّبعوا شركاء، وليس كذلك".
قال شهاب الدِّين: "معنى كلامهما: أنَّه يئول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاء، والواقع أنَّهُم قد اتَّبَعُوا الشركاء". وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى: أنهم وإن اتَّبعُوا شركاء، فليْسُوا بشركاءَ في الحقيقةِ، بل في تسميتهم هم لهم بذلك، فكأنَّهم لم يتَّخذوا شركاء، ولا اتبعوهم لسلب الصِّفة الحقيقيَّة عنهم، ومثله قولك: "ما رأيتُ رجلاً"، أي: مَنْ يستحقُّ أن يسمَّى رجلاً، وإن كنت قد رأيت الذَّكر من بني آدم، ويجوز أن تكون "ما" استفهاميَّة، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك.
وقال مكِّي: لو جعلت "ما" استفهاماً بمعنى: الإنكار والتَّوبيخ، كانت اسماً في موضع نصبٍ بـ "يتَّبع".
وقال أبو البقاء نحوه. ويجوز أن تكون "ما" موصولة بمعنى "الذي" نسقاً على "مَنْ" في قوله: { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَاوَات }.
قال الزمخشري: ويجوز أن تكون "ما" موصولة معطوفة على "مَنْ" كأنَّهُ قيل: ولله ما يتَّبعه الذين يدعُون من دون الله شركاء، أي: وله شركاؤهُم.
ويجوز أن تكون "ما" هذه الموصولة في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: والذي يتَّبعه المشركون باطلٌ، فهذه أربعة أوجهٍ.
وقرأ السلمي: "تَدعُون" بالخطاب، وعزاها الزمخشريُّ لعليّ بن أبي طالب.
قال ابنُ عطيَّة: وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة.
قال شهاب الدِّين: قد ذكر توجيهها الزمخشريُّ، فقال: ووجهه أن يحمل "وما يتَّبع" على الاستفهام، أي: وأيُّ شيء يتَّبع الذين تدعُونهُم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني: أنَّهم يتَّبعُون الله - تعالى - ويطيعُونه، فما لكم لا تفعلُون مثل فعلهم؛ كقوله:
{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء:57].
قوله: "إن يتَّبِعُون"إنْ" نافية، و "الظَّن" مفعولٌ به، فهو استثناءٌ مفرَّغ، ومفعولُ الظَّن محذوفٌ، تقديره: إن يتَّبعُون إلاَّ الظَّنَّ أنَّهُم شركاءُ، وعند الكوفيين: تكون "أل" عوضاً من الضمير، تقديره: إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهُم أنهم شركاءُ، والأحسنُ أن لا يقدر للظَّنِّ معمولٌ؛ إذ المعنى: إن يتبعون إلا الظن، لا اليقين.
وقوله: "إن يتَّبعُون" من قرأ "يَدْعُون" بياء الغيبة، فقد جاء بـ "يتَّبِعُونَ" مطابقاً له، ومن قرأ "تَدْعُونَ" بالخطاب، فيكون "يتَّبِعُون": التفاتاً؛ إذ هو خروجٌ من خطابٍ إلى غيبة، والمعنى: إن يتَّبِعُون إلاَّ ظنونهم الباطلة، { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }: يكذبون، وقد تقدَّم في الأنعام.
قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ } الآية.
لمَّا ذكر أنَّ العزة لله جميعاً، احتجَّ عليه بهذه الآية، وانظر إلى فصاحتها، حيث حذف من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى؛ وذلك أنَّه ذكر علَّة جعل الليل لنا، وهي قوله: "لِتَسْكُنُوا" وحذفها من جعل النهار، وذكر صفة النَّهار، وهي قوله: "مُبْصِراً" وحذفها من الليل، لدلالة المقابل عليه، والتقدير: هو الذي جعل لكم الليل مُظْلماً لتسْكُنُوا فيه، والنهار مُبْصِراً لتتحرَّكُوا فيه لمعاشكم، فحذف "مُظْلماً" لدلالة "مُبْصِراً" عليه، وحذف " لتتحرَّكُوا" لدلالة "لتسكنوا" وهذا أفصحُ كلامٍ.
وقوله: "مُبْصِراً" أسند الإبصارَ إلى الظَّرف مجازاً كقولهم: "نهارُهُ صائم، وليله قائم ونائم".
قال: [الطويل]

2911-............................ ونِمْتِ وما لَيْلُ المطِيِّ بِنَائِمِ

وقال قطرب: يقال: أظلم اللَّيْلُ: صار ذا ظلمة، وأضاء النَّهار: صار ذا ضياء؛ فيكون هذا من باب النسب؛ كقولهم: لابنُ وتامرٌ، وقوله - تعالى -: { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة:21]، إلاَّ أنَّ ذلك إنما جاء في الثلاثيِّ، وفي "فعَّال" بالتضعيف عند بعضهم في قوله - تعالى -: { { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت:46] في أحد الأوجه.
ثم قال: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي: يتدبَّرُون ما يسمعُون، ويعتَبِرُون.
فإن قيل: قوله: { جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } يدل على أنَّه - تعالى - ما جعلهُ إلا لهذا الوجه، وقوله { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ } يدلُّ على أنَّه - تعالى - أراد بتخليقِ الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل.
فالجواب: أن قوله - تعالى -: "لِتسكُنوا" لا يدلُّ على أنَّه لا حكمة فيه إلاَّ ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.
قوله تعالى: { قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ } الآية.
هذا نوع آخر من أباطيلهم التي حكاها الله عنهم، "قالوا" يعني المشركين: الملائكة بنات الله، وقيل: قولهم: الأوثان أولاد الله، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قومٌ من النصارى قالوا ذلك، ثم استنكر هذا القول، فقال بعده: { هُوَ ٱلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } فكونه - تعالى - غنيّاً مالكاً لكلِّ ما في السموات والأرض، يدلُّ على أنه سبحانه يستحيل أن يكون لهُ ولد، وبيانه من وجوه:
الأول: أنَّه لو كان محتاجاً، لافتقر إلى صانعٍ آخر، وهو محال، وكل من كان غنيّاً فلا بد أن يكون فرداً منزَّهاً عن الأعضاء والأبعاض، ومن كان كذلك يمتنع أن ينفصل عنه جزءٌ من أجزائه، والولد عبارةٌ عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولَّد من ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالاً، ثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً يمنع من ثُبُوت الولد لهُ.
الثاني: أن من كان غنيّاً، كان قديماً أزليّاً باقياً سرمديّاً، وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض، والولدُ إنما يحصل للشَّيءِ الذي ينقضي وينقرض، فيكون ولده قائماً مقامه؛ فثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
الثالث: أنَّ كلَّ من كان غنيّاً يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة، وإذا امتنع ذلك، امتنع أن يكون له صاحبةٌ وولد. وباقي الوجوه يطول ذكرها. ثم قال: { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } وهذا نظيرُ قوله:
{ إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [مريم:93] ولمَّا بيَّن بالدليل الواضح امتناع ما أضافُوا إليه، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ، فقال: { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ }: "إنْ" نافية و "عندكُم" يجوز أن يكون خبراً مقدَّماً، و "مِنْ سلطانٍ" مبتدأ مُؤخَّراً، ويجوز أن يكون "من سلطان" مرفوعاً بالفاعليَّة بالظرف قبله؛ لاعتماده على النفي، و "مِنْ" مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلق بـ "سُلْطان" لأنَّه بمعنى الحُجَّة والبرهان، وأن يتعلَّق بمحذوف صفة له؛ فيحكم على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفع على المحلِّ؛ لأنَّ موصوفه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلَّق بالاستقرار.
قال الزمخشريُّ: الباءُ حقُّها أن تتعلَّق بقوله: "إنْ عندكُم" على أن يجعل القولُ مكاناً للسُّلطان؛ كقوله "ما عندكم بأرضكم موزٌ" كأنه قيل: إن عندكم بما تقولون سلطانٌ وقال الحوفيُّ: بهذا متعلقٌ بمعنى الاستقرار. يعنى: الذي تعلَّق به الظرف.
ثم قال: { أَتقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقد تقدَّم أنَّ الآية يحتجُّ بها نُفاة القياس في إبطال التقليد.
قوله - تعالى -: { قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } الآية.
لمَّا بيَّن بالدليل القاطع أنَّ إثبات الولد لله قول باطلٌ، ثم بيَّن أنه ليس لهذا القائل دليلٌ على صحة قوله، ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله - تعالى -، فبيَّن أنَّ من هذا حاله، فإنَّه لا يفلحُ ألبتَّة، أي: لا ينجح في سعيه، ولا يفوز بمطلُوبه، بل خاب وخسر.
قوله: { مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا } يجوز رفع "متاع" من وجهين:
أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، فهي استئنافيةٌ، كأنَّ قائلاً قال: كيف لا يفلحُون، وهم في الدنيا مفلحون بأنواع ممَّا يتلذّذون به؟ فقيل: ذلك متاع.
والثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوفٌ تقديره: لهُم متاعٌ، و "فِي الدُّنيا" يجوز أن يتعلق بنفس "متاع" أي: تمتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه نعت لـ "متاع" فهو في محلِّ رفعٍ، ولم يقرأ بنصبه هنا، بخلاف قوله:
{ { مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ } [يونس:23] في أول السُّورة.
وقوله: { بِمَا كَانُواْ } الباءُ للسببية، و "ما" مصدريةٌ، أي: بسبب كونهم كافرين.