خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٩٦
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ
٩٧
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ
٩٨
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ
٩٩
-هود

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } القصة.
قيل: المراد بـ "الآيات" التَّوارة مع ما فيها من الشَّرائعِ والأحكام، ومن السُّلطان المبين المعجزات الباهرةِ.
وقيل:المرادُ بـ "الآيات" المعجزات، وبالسُّلطانِ الحجَّة كقوله:
{ { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَآ } [يونس:68] وقوله: و { { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [يوسف:40] وقيل: المرادُ بالسلطان المبين: العصا؛ لأنَّها أبهرُ الآيات، وذلك أنَّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات، وهي: العصا، واليدُ البيضاءُ، والطُّوفان، والجرادُ والقُمَّلُ، والضَّفادعُ، والدمُ ونقصٌ من الثمرات والأنفس، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبلِ وفلق البحر واختلفوا في تسمية الحُجَّة بالسلطان، فقيل: لأنَّ صاحب الحُجَّة يقهر من لا حجَّة له عند النَّظر كما يقهر السُّلطان غيره.
وقال الزَّجَّاج: السُّلطان هو الحُجَّةُ، وسُمِّي السلطان سلطاناً؛ لأنه حُجَّة الله في أرضه، واشتقاقه من السَّليط الذي يُستضاء به، ومنه قيل للزَّيت السَّليط. وقيل: مشتقٌّ من التَّسليط، والعلماءُ سلاطين بسبب كمالهم في القُوَّةِ العلميَّةِ، والملوك سلاطين بسبب قدرتهم ومكنتهم، إلاَّ أنَّ سلطنة العلماءِ أكمل، وأبقى من سلطنة الملوك؛ لأنَّ سلطنة العلماءِ لا تقبل النَّسخ والعَزْل، وسلطنة الملوك تقبلهما، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنةِ، وسلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء.
فإن قيل: إذا حملتم الآيات على المعجزات والسُّلطان على الدَّلائل، والمُبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهور، فما الفرقُ بين هذه المراتبِ الثَّلاثِ؟.
فالجوابُ: أنَّ الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظَّن، وبين الدَّلائل التي تفيد اليقينَ، وأمَّا السُّلطانُ فهو اسمٌ لما يُفيد القطع واليقين.
وكانت معجزةُ موسى هكذا، فلا جرم وصفها الله تعالى بأنَّها سلطانٌ مبين.
ثم قال: { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي: جماعته. { فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } قيل: أمره إياهم بالكفر بموسى، وقيل: الأمر الطريق.
ثم قال: { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي: بمُرشدٍ إلى خيرٍ.
وقيل: ذو رشد؛ لأنَّهُ كان دهريًّا نافياً للصَّانع وللمعاد، فلهذا كان خالياً عن الرشد بالكليَّةِ.
ثم وصفه فقال: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } يقالُ: قدمَ فلانٌ فلاناً بمعنى تقدَّمهُ، ومنه قادمة الرَّجُلِ كما يقالُ: قدَّمهُ بمعنى تقدَّمهُ، ومنه: مقدَّمة الجيش.
والمعنى: أنَّ فرعون كان قُدوةً لقومه في الضَّلال حال ما كانوا في الدنيا، وكذلك مقدمهم إلى النَّار، وهم يتبعونه ويجُوزُ أن يكون معنى قوله: { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي: وما أمره بصالحٍ حميد العاقبةِ، ويكون قوله: "يَقْدمُ قومهُ" تبييناً لذلك وإيضاحاً، أي: كيف يكون أمره رشيداً مع أنَّ عاقبته هكذا؟.
قوله: "فَأَوْرَدَهُمُ" يجوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب الإعمال، وذلك أنَّ "يقدمُ" يصلح أن يتسلَّط على "النَّارِ" بحرف الجر، أي: يقدمُ قومه إلى النَّار، وكذا: "أوْرَدهُم" يصحُّ تسلُّطه عليها أيضاً، ويكون قد أعمل الثاني للحذفِ من الأوَّل، ولو أعمل الأوّل لتعدَّى بـ "إلى" ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ لـ "أوْرَدَ" لاستئنافه، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ لأنَّهُ عطف على هو نص في الاستقبال.
والهمزةُ في "أوْرَدَ" للتعدية؛ لأنَّه قبلها يتعدَّى لواحدٍ، قال تعالى:
{ { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [القصص:23].
وقيل: أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه. وقيل: بل هو ماضٍ على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنَّه أوردهم في الدُّنيا النَّار. قال تعالى:
{ { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } [غافر:46] وقيل: أوردهم موجبها وأسبابها، وفيه بعدٌ لأجْلِ العطف بالفاءِ.
والوِرْد: يكون مصدراً بمعنى الوُرُود، ويكون بمعنى الشيء المُورَد كالطِّحن والرِّعي.
ويُطلق أيضاً على الواردِ، وعلى هذا إنْ جعلت الورد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ من حذفِ مضاف تقديرهُ: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النَّارُ، وإنَّما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأنَّ تَصَادُقَ فاعل "نِعْمَ" و"بِئْسَ" ومخصوصهما شرطٌ، لا يقال: نِعْمَ الرَّجُلُ الفرس. وقيل: بل المورود صفة للوردِ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ تقديره: بئس الوردُ المورود النَّارُ، جوَّز ذلك أبُو البقاءِ، وابنُ عطيَّة، وهو ظاهر كلام الزمخشري.
وقيل: التقديرُ: بئس القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا "الورد" المرادُ به الجمعُ الواردُون، قال تعالى:
{ { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } [مريم:86] والمورود صفةٌ لهم، والمخصوصُ بالذَّمِّ الضميرُ المحذوف وهو "هم"، فيكونُ ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قالهُ أبو حيَّان وفيه نظرٌ من حيث إِنَّه: كيف يراد بالورد الجمع الواردُون، ثم يقولُ: والمورودُ صفةٌ لهم؟.
وفي وصف مخصوص "نِعمَ" و"بِئْسَ" خلافٌ بين النَّحويين منعه ابن السَّراج وأبو علي.
قال الواحديُّ: لفظ "النار" مؤنث، فكان ينبغي أن يقال: وبئست الورد المورود، إلاَّ أنَّ لفظ "الورد" مذكر؛ فكان التَّذكيرُ والتَّأنيثُ جائزين، كما تقولُ: نعم المنزلُ دارك، ونعمت المنزل دارك، فمن ذكَّر عن المنزل ومن أنَّث عن الدَّار.
فصل
والمعنى: أدخلهم النَّار وبئس المدخلُ المدخولُ؛ وذلك لأنَّ الورد إنَّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنَّار ضدُّه.
ثم قال: { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً } أي: أنَّ اللَّعن من الله، والملائكةِ، والأنبياء ملتصقٌ بهم في الدُّنيا والآخرة لا يزولُ عنهم، كقوله:
{ { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ } [القصص:42].
ثم قال: { بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ } والكلامُ فيه كالذي قبله. وقوله: { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } عطفٌ على موضع "في هَذِه" والمعنى: أنَّهُم ألحِقُوا لعنةً في الدُّنيا وفي الآخرة، ويكونُ الوقف على هذا تامًّا، ويبتدأ بقوله "بِئْس".
وزعم جماعةٌ أنَّ التَّقسيم: هو أنَّ لهم في الدُّنيا لعنةً، ويوم القيامةِ بِئْس ما يرفدُون به، فهي لعنةٌ واحدةٌ أولاً، وقبح إرفاد آخراً. وهذا لايصحُّ؛ لأنه يُؤدّي إلى إعمال "بِئْسَ" فيما تقدَّم عليها، وذلك لا يجُوزُ لعدم تصرُّفها؛ أمَّا لو تأخَّر لجاز؛ كقوله: [الكامل]

3014- ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنتَ إذَا دُعِيَتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ

وأصلُ الرِّفْدِ كما قال الليثُ: العطاءُ والمعونةُ، ومنه رفادة قريش، رَفَدْتُه أرْفِدهُ رِفْداً بكسر الرَّاء وفتحها: أعْطَيته وأعنته. وقيل بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، كأنَّهُ نحو: الرِّعْي والذِّبْح ويقال: رفَدْت الحائِطَ، أي: دَعَمْتُه، وهو من معنى الإعانةِ.